الفصل التاسع عشر
فخ لا مهرب منه
:- تبا ...
توقف ثروت مجفلا عندما سمع تلك الشتيمة المضطربة تصدر بصوت أنثوي على بعد ممر جانبي عن طريقه بين أروقة الجزء الإداري من المصنع والذي كان يسير فيه .. عندما انحرف نحو مصدر الصوت .. كان آخر ما توقع أن يراه جمان الطويل وهي تنحني على الأرض مرتكزة على إحدى ركبتيها .. تجمع أوراقا متناثرة على الأرض كانت كما يبدو قد انزلقت من بين يديها .. بينما كانت ترفع يدها بين الحين والآخر لتمسح شيئا عن عينيها بظاهر كفها .. وشهقات مكتومة متقطعة تفلت من بين شفتيها ..
لم يفكر قبل أن يتجه إليها تلقائيا ... رؤيتها على الأرض بهذه الطريقة ذكرته بمشهد قديم كان قد ظن بأنه نسيه بعد مرور ما يقارب العشرين عاما على حدوثه ... مشهد أطفال صغار بأعمار مختلفة ... ينكمشون في زاوية مظلمة .. ملتصقين بالجدار من خلفهم .. ينحني كل منهم على الآخر التماسا للدفء وشيء من الوجود البشري .. أعينهم الواسعة تفيض بدموع الخوف والرهبة ...
لم يعرف لم بدت له جمان الطويل في تلك اللحظة أقرب إلى أولائك الأولاد ... وجد نفسه يخاطبها قبل أن يصل إليها :- هل من مشكلة ؟؟؟
رفعت عينيها السوداوين والواسعتين إليه ... ترتسم فيهما تلك الرهبة التي يرمقها بها كل من يعرف بمركزه كيد لقمان الطويل اليمنى ... كل من عرف كيف يستحيل ثروت بدون أي تردد إلى سلاح في يد رئيسه لتحقيق ما يريد .. مهما كانت الوسيلة صعبة ... هم لاحظوا ... ظنا منهم أن تفانيه هذا ولاء مأجور ... دون أن يعرفوا بأن ولاء ثروت للقمان يتجاوز بكثير العائد المادي الذي يناله منه ...
ارتبكت جمان الطويل عند رؤيتها إياه .. وارتباكها هذا جعل الأوراق التي كانت تلملمها تعود لتنزلق من بين أصابعها من جديد .. فلم يتردد قبل أن ينحني إلى جانبها وهو يلملمها معها أمام عينيها المجفلتين ... حتى سلمها إليها فتناولتها هامسة :- شـ ... شكرا لك ..
قال بهدوء ... بينما ما يزال جاثيا إلى جوارها على الأرض :- أهلا وسهلا بك دائما ... والآن .... هلا أخبرتني عن سبب بكائك ...
بذعر ... عادت يدها تلامس وجنتيها وكأنها قد تذكرت فجأة دموعها .. وجهها احمر بحرج وارتباك وهي تهمس :- أنا ... لم أكن أبكي ..
عبوسه ... أظهر لها بأنه لم يصدقها على الإطلاق وهو يقول :- ماذا حدث ؟؟
نهض ببطء .. وهو يمد يده تلقائيا ليمسك بمرفقها مساعدا إياها على النهوض .. مجتذبا اتساعا غير عادي من عينيها وهي تنظر إليه بوجل .. وهي تقول من بين أنفاسها :- لا شيء ... أنا فقط ... حسنا .. السيد هاشم يقول بأنني مبتدئة .. وأنني من المفترض بي أن أتعلم بسرعة ... إلا أنه لا يبدو راضيا مهما فعلت ..
انحنى فمها وهو يرتجف .. مما أظهر مقاومتها لإظهار ابتئاسها ... هذه فتاة لم تعتد إظهار حزنها واستيائها .. فتاة تنتمي لعائلة كبيرة كعائلة الطويل ... فتاة هي فعليا الفرد الأصغر من عائلة مهمة وغير عادية ... الشقيقة الأصغر للقمان الطويل دون غيره ... من الواضح أنها رغم ما تسببه قسوة السيد جاسم ... الذي وضع ثروت الفتاة تحت إمرته .. تجد بأنها لا تستحق معاملة أفضل ...
حسنا ... ثروت نفسه من طلب من السيد جاسم حرفيا ألا يسمح لمكانة الفتاة كأخت للرئيس أن تؤثر على تعامله معها .. وهو لا يشعر بأي تأنيب ضمير على فعلته هذه ... هو فقط .... حسنا ...
فقط لو أنه ومنذ استسلمت لاضطهاده في يومها الأول في العمل بدون المقاومة الوقحة التي توقعها والتي لاقاها من شقيقها الآخر ... لا يرى فيها استسلام أولائك الأطفال لاضطهاد من حولهم ... خاصة وقد كان هو نفسه واحدا منهم ...
قال بهدوء :- هو محق في كلامه ... سرعان ما ستعتادين على العمل .. وتتوقفين عن إضاعة وقتك في الممرات كما تفعلين الآن ...
شحب وجهها .. قبل أن تتسلل حمرة الحرج والقهر إلى وجنتيها وهي تلتقط شفتها السفلى بين أسنانها قائلة :- أنا آسفة ... أنا فقط ..
تنهدت .... وهي تقول باستياء :- السيد جاسم يرسلني في مهمات لا أعرف مكانها في المقام الأول .. وعندما أطرح عليه أي سؤال يوبخني قائلا بأن أي موظف صغير قادر على أن يجد طريقه بسهولة بين مكاتب لا تحتل مساحة كبيرة ...
أحنى رأسه ... دون أن يظهر أي انفعال يظهر للفتاة أي تعاطف معها ... فقالت وهي تنظر حولها :- وأنا لا أستطيع أن أسأل أي أحد ... الجميع هنا يعاملني وكأنني ... وكأنني أرتدي قبعة ضخمة مبهرجة الألوان ... وكأنني ... و كأنني مصابة بمرض معدي أو ما شابه ...
بالطبع ... إذ أنها شقيقة الحكيم .. من تراه يجرؤ على الاقتراب منها ... ؟
انتابه شعور بأن ما تعانيه جمان الطويل خلال وجودها هنا ... يماثل بالضبط ما تعانيه في الخارج ... اضطهاد الناس لها لقرابتها للقمان الطويل ... ربما هذا أحد أهم أسباب ارتباطها الوثيق كما سبق وأخبره لقمان ... بشقيقها التافه ... الذي لن يجرها أبدا إلا إلى المشاكل ..
تنهد بعمق ... وهو يكافح ميله لأن يوبخها على تململها وافتراضها اهتمامه بما تعانيه بين زملائها .. مدركا بأنه بطريقة ما .... يهتم .... كما يهتم أي شخص محسن بقط صغير وجده عالقا فوق شجرة شاهقة الارتفاع .. قال أخيرا مستسلما :- ما المهمة التي أرسلك بها السيد جاسم بالضبط ... ربما أستطيع مساعدتك فأختصر الكثير من وقت الشركة الثمين الذي تضيعينه بالتسكع هنا وهناك ...
رغم التهكم المتعمد في لهجته .... اتسعت عيناها من جديد بذلك العجب وكأنها لم تتوقع حقا أن يساعدها ... ثم ارتسمت البهجة فوق صفحة وجهها الصغير الأسمر وهي تقول :- آه ... شكرا لك يا سيد ثروت .... شكرا لك ...
تبا ... ما عاد يستطيع الآن التراجع عن عرضه ... صحيح ؟؟؟
أنت تقرأ
عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الأول من سلسلة في الغرام قصاصا حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me