الفصل الثاني والعشرين

1.2K 43 6
                                    

الفصل الثاني والعشرين
انهيار
دخلت غرفة الأولاد وأغلقت الباب خلفها واستدارت لتسند رأسها عليه ثم انهارت في البكاء وهي تدرك أن ما فعلته لن يمر بسلام وأنها خسرت كل ما وصلت إليه بالأيام السابقة، لماذا؟ لماذا فعلت بها الأقدار ذلك وحكمت ان تضعها بهذا الموقف وتخيريها بين أن تكون أم لابن عاشت من أجله وبين حبيب تمنته وعاشت ليالي طويلة تحلم به؟ لماذا؟ هل عليها أن تعيش عمرها تدفع ثمن خطأ لم ترتكبه، لقد تعبت، نعم تعبت من كثرة ما عانت وتحملت ولم يعد باستطاعتها أن تكمل ليس بعد الآن لأنه لن يتركها فهو يعلم شيء واحد أنها زوجته وحقه فكيف ترفضه وهي التي سعت مؤخرا إلى قلبه تحت تأثير جميلة وكلامها؟
استدارت واستندت بظهرها إلى الباب وهتفت بألم "يا رب أنا تعبت ولم أعد أعلم ماذا أفعل، يا رب لأول مرة أطلب لطفك بي، سامحني يا رب ولكني تعبت لم أعتد أن أعترض على مشيئتك ولكني أطلب رحمتك ربما أخطأت ولكن هل أستحق كل هذا العقاب، ألا أستحق أن أعيش ككل فتاة تحب وتتمني أن تُحب؟ يا رب أنا ليس لي سواك فلا تتركني، ساعدني يا رب ودلني على الصواب يا رب دلني على الصواب فأنا أشعر بالضياع .."
وزاد بكائها وخارت قواها فسقطت على الأرض وما زالت تبكي بقوة إلى أن سمعت سيارته تنطلق خارجة من الفيلا فأغلقت عيونها بحزن أكثر وقد أدركت أنها أبعدت المسافات بينهم مرة أخرى
تردد بين أن يذهب خلفها ليعرف سبب نفورها منه وتحرك إلى الباب ولكنه تراجع والغضب يتملكه فارتدى ملابسه واندفع خارجا، وانطلق  بالسيارة بغضب كبير بعد أن تجاوب مع مشاعره تجاهها وأبعد الماضي بقوة، ترفضه؟ هي التي ترفضه وهي فتاة من الشارع نال شرفها بسهولة فكيف تتمنع عليه الآن؟ هتف بقوة وغضب
“ اللعنة عليك يا امرأة ماذا فعلتِ بي؟"
أوقف السيارة أمام البحر واستند برأسه على عجلة القيادة وأغمض عيونه، كان يشعر أنها تهرب منه وترفض لمساته وترتجف منها ومن قربه ولكنه لم يرد أن يصدق شكوكه ولكن اليوم تأكد أنها لا تريده، بالتأكيد بحياتها رجل آخر لا يمكن أن ترفضه إلا إذا كان بحياتها سواه فأمثالها لابد وأن تكون مرت بالكثير..
رفع رأسه وشعر بألم بقلبه لم يعرف سببه غير ألم جرح جانبه ولكنه لم يهتم لأن ألم قلبه كان أقوى، تراجع بمقعده ورفع يديه الاثنان ومررهم داخل شعره وأغمض عيونه مرة أخرى، لا، لا يمكن أن تكون خائنة فقد أمضت معه شهور كثيرة لم يرى منها إلا كل ما يجذبه إليها خاصة الأيام الأخيرة كانت لا تنام من أجله ولا ترتاح إلا بعد راحته، حتى استجابتها لقبلته تعني الكثير، فلماذا ؟ ما الذي تخفيه ما الذي يبعدها عنه ويمنعها منه؟
هدأت كثيرا خاصة بعدما دخل الأولاد للنوم فأدركت أن النهار كله مر وهي جالسة دون أن تشعر كما وأنه لم يعود، داعبت الأولاد قليلا قبل أن يناموا ولم تسأل عن أحد من سكان البيت وكأنها لا ترغب بمواجهة أحد ليس الآن فلا طاقة لها بهم..
نام الأولاد وعادت إلى غرفتهم وتحركت إلى النافذة وظلت ترقب عودته بقلق حتى انتصف الليل وقد ترددت في إخبار جميلة ولكنها رأته يدخل بالسيارة فتنفست براحة وهدأت قلبها ولكن سرعان ما دق قلبها مرة أخرى خوفاً من مواجهته
أسرعت إلى الفراش وشدت الغطاء عليها كي لا تواجهه وانتظرته ولكنه لم يصعد ومر الوقت دون أن يفعل فاعتدلت جالسة وأدركت أنه لن يأتي وزاد حزنها وخوفها من القادم
تسرب ضوء النهار يداعب جفنيها وقد نامت وهي جالسة بالفراش، فتحت عيونها فشعرت بصداع فظيع أمسكت رأسها ونظرت حولها وأدركت أنه لم يصعد فنهضت واطمأنت لوجود سيارته فاليوم لابد أن يذهب إلى المشفى لمتابعة الجرح وخشيت أن يذهب بدونها نهضت وأخذت حمام ليمنحها بعض القوة وارتدت ملابس خروج وما أن خرجت حتى رأته يدخل الغرفة وبدا الإجهاد والتعب على ملامحه
التقت نظراتهم ولم يبعد عيونه عنها وهو يتحرك إليها ليقف أمامها فتملكها الخوف مرة أخرى ولكن أضعاف ما كان وهو يواجه عيونها ويقول بحدة واضحة
“ سؤال وأريد إجابته الآن وأقسم لو اكتشفت بيوم أنكِ كنتِ كاذبة فلن أتردد بقتلك كما كدت أفعل بمريم"
تراجعت بفزع من كلماته ولكنه لم يهتم وهو يقول "هل بحياتك رجل آخر؟"
هزت رأسها نفيا والدموع تملأ عيونها مرة أخرى وقالت بضعف "لا، لم أعرف رجل سواك"
ظل يحدق بعينيها لحظة لعله يجد الكذب بها ولكنه لم يرى إلا الصدق والخوف فلم يعلم بماذا يجب أن يشعر ولكنه قال بصوت بث الرعب في أوصالها
"إذن لماذا؟ لا تكرهيني وليس بحياتك سواي إذن لماذا؟"
أخفضت وجهها ولم تستطع أن ترد فضرب الحائط الذي خلفها بيده بقوة وقال بغضب "لا معنى لصمتك هذا الآن أنا زوجك وأنتِ زوجتي ملكي لي وحدي فلماذا ترتجفين بين يدي، لماذا تنفرين من قربي؟"
قالت بضعف وكذب "أحتاج بعض الوقت"
التفت إليها وقال وهي لا تنظر إليه "وقت لماذا؟"
ابتعدت وقالت "لأعتاد على ذلك"
أمسكها من ذراعها ليواجهها وقال "على أساس انني لم أنام معكِ مرة من قبل ولم أمتلككِ وأنجب ابن منكِ، أريد رد يعيد إلي صوابي وإلا لا أعلم ماذا يمكنني أن أفعل بكِ"
لم ترد مما زاد جنونه وهو لا يدرك ماذا يفعل بها وهتف بقوة وهو يهزها بعنف واضح "لا تفعلي بي ذلك وأجيبي الآن ما الذي تخفيه وراء براءتك هذه تحدثي الآن بدلا من أن أقتلك"
نظرت إليه بدموع لا تنتهي وقالت بدون حدود لكلماتها "اقتلني فالموت أهون لي مما أنا به، اقتلني وسأكون شاكرة لك فعلتك فقد ترحمني مما أعانيه فقد تعبت والله تعبت ولم أعد أتحمل أقتلني وسأرحب بالموت هل تسمعني اقتلني الآن، لا أريد ان أعيش لا أريد"
وانهارت تصرخ بين البكاء دون أن تشعر بما تنطق أو تقول حتى شعرت به يصفعها على وجهها مما جعلها ترى الدنيا وكأنها تدور من حولها وجسدها ينهار من ثقل أحزانه وحيرته فاستسلمت إلى الظلام الذي تسرب لعقلها وخيم على عيونها
أدرك أنها انهارت ولم تعد تملك التحكم بنفسها فاضطر لأن يصفعها ليعيدها للصواب ولكنها ترنحت بين يديه وشحب وجهها أكثر ووجدها تسقط بين يديه دون وعي.
خرج أدهم من غرفتها يصحبه الطبيب الذي أحضره معه فأسرع تيم إليه وقال "ماذا حدث يا دكتور؟ ماذا بها؟"
قال الطبيب "إجهاد واضح ونقص تغذية ولكن الأهم أن عندها انهيار عصبي واضح فهي ترفض الحديث أو العلاج حتى الطعام ترفضه وهذا يعني أنها لا تريد الحياة"
حدق بالطبيب وتذكر كلماتها "اقتلني وسأرحب بالموت"
أبعد وجهه قبل أن يقول أدهم "دكتورة وفاء ستتولى حالتها يا دكتور منصور لا تقلق"
هز منصور رأسه وقال "بالطبع هذا أمر ضروري، كذلك لا تتركوها وحدها أخشى أن تفعل شيء بنفسها وهي لا تعي أي شيء الآن"
توالت الكلمات عليه تدفعه بقوة دون أن يدرك ما يحدث وأعاده صوت أدهم "أكيد يا دكتور اطمئن تفضل"
ربت أدهم على كتف تيم واصطحب منصور إلى الأسفل بينما تحرك هو بصعوبة إلى الداخل فنظرت إليه جميلة وقالت بصوت منخفض
"ماذا حدث يا تيم؟"
لم ينظر إلى عمته وهو يتأملها وهي نائمة وقد تحلقت عيناها واصفر وجهها بينما اتجهت زينة إليه وقالت
"تيم، ماذا حدث؟ ديمة منهارة تماما"
قال "لا شيء يا زينة من فضلك اتركيني الآن"
قالت زينة "لكن يا تيم.."
نظرت جميلة إليها وقالت "زينة كفى"
توقفت زينة بينما تحركت جميلة إليه وقالت "أنا أعلم أنها قوية ولكن يبدو أن الأمر كان فوق طاقتها"
لم يرد فنظرت جميلة إلى زينة نظرة ذات معنى فتحركت زينة إلى الخارج بينما وضعت جميلة يدها على كتفه وقالت
"ماذا حدث؟"
نظر إلى عمته وقال "إنها ترفضني وترفض الحياة تريد الموت عمتي"
تراجعت جميلة بدهشة ورددت "ترفضك؟ لا يمكن أن ترفضك لا أصدق"
ابتعد وقال "بلى هذا ما حدث"
قالت "لا يا تيم لا يمكن أن أصدق"
التفت إليها بغضب وقال "ولماذا لا تصدقين؟ أنا لا أكذب ولا أدعي عليها"
قالت بقوة "لأنها تحبك، ألم تدرك ذلك بعد؟"
صفعة قوية سقطت على وجهه أسقطته من السماء إلى الأرض لتهز كيانه بقوة وهو يردد "تحبني؟ ديمة تحبني؟ كيف؟ كيف وهي ترتجف بين يداي؟ كيف وهي ترفضني يا عمتي هل تفهمين كلماتي؟"
تصلبت ملامح جميلة وقالت "أفهم، ولكن لا أصدق أنا أثق بما أقوله لك تلك الفتاة تهواك وتحبك منذ أن عرفتك بتلك الليلة الملعونة ولكن هناك سر يجعلها تفعل ذلك سر هو سبب انهيارها بهذا الشكل، سر يجعلها ترفضك وهي تريدك، تبعدك وهي لا تريد سوى قربك وعليك أن تعرف ذلك السر يا تيم وإلا فقدتها إلى الأبد"
أوقفته كلمات عمته وردد "سر أي سر؟"
ولكن جائه الصمت فلا أحد يعرف السر سواها وحدها فنظر إليها واتجه إلى الفراش وركع بجوارها وقال "ديمة ارحميني من هذا العذاب وأخبريني هل أنتِ خائنة مثلها؟ هل هذا هو السر؟ أم ماذا؟ ماذا تخفين عني؟ لابد أن تجيبي قبل أن أصاب بالجنون"
ظلت أيام كثيرة لا تشعر بمن حولها والصمت هو رفيقها والموت أمنيتها ولم يتركها الموجودين وهو أولهم، ولكن دكتورة وفاء الدكتورة النفسية استطاعت أن تنفذ إلى عقلها الباطن وتعيدها إلى الواقع وتنحي الموت جانباً وبعد وقت ليس بقليل استطاعت ان تستعيدها وهي تقول
“ والآن لابد أن تعودي للحياة أبناءك بانتظارك"
نظرت إلى الدكتورة وقد كانت الشخص الوحيد الذي وثقت به ولكنها لم ترد
ابتسمت وفاء وقالت "أعلم أنكِ تسمعين وتدركين كلماتي، وأعلم أنك قوية فانهيارك هذا أكبر دليل على قوتك لأن عقلك سلك طريق الانهيار لإضعافك وسيلة منه لإيقاف القوة التي كنتِ تتحلين بها لذا أوقف وظائفك واختار الانهيار، ولكن عليكِ إعادته إلى طاعتك وتنفيذ أوامرك بدون تمرد"
أغمضت عيونها وهزت رأسها نفيا
ولكن وفاء قالت بحزم "وهل لديكِ حرية الاختيار؟ هل نسيتِ مسؤولياتك كأم وزوجة؟ هل نسيتِ حق نفسك عليكِ؟ وقبل كل ذلك هل فقدتِ إيمانك بالله ورحمته؟ أم نسيتِ قوله لا تقنطوا من روح الله؟"
ترقرقت العيون بعيونها ولم ترد أيضا، رغم أنها الآن تتألم أكثر وتشعر أنها وحيدة بعالم كبير لا تعرف معالمه
ربتت الدكتورة على يدها وقالت "أعلم أنكِ تسمعين وتدركين كلامي وأن الصمت سبيلك للتعبير عن الغضب الذي بداخلك وإذا فقدتِ إيمانك بلحظة فعليكِ بالاستغفار وإدراك أن الله لا يتركنا أبدا طالما نحن نذكره ونطيعه، عودي يا ديمة لنفسك وانزعي رداء الضعف والخوف هذا فهو لا يليق بك، واجهي مشاكلك وأحزانك فليس هناك ما يستحق أن نفقد حياتنا من أجله، بل هناك من يستحق أن نعود للحياة من أجلهم"
****
وصل إلى الفيلا ورأى الطبيبة تخرج فاتجه إليها وقال "أهلا دكتورة كيف حالها الآن؟"
ابتسمت وقالت "بخير ولم تعد بحاجة إلي، هي بحاجة إلى فترة نقاهة بأي مكان وكما أخبرتك من قبل لا تحاول أن تذكرها بسبب خلافكم لأنها ما زالت تحاول استرداد نفسها وهي أصعب مرحلة، لا تنسى أيضا أنها تتخذ الصمت سبيلها للهروب فلا تقلق منه لأنه مؤقت ولن يطول"
هز رأسه وقال "هل ستتقبل وجودي؟"
ابتسمت وقالت "هي لم ترفضك أصلا يا فندم بل بالعكس هي تحتاج وجودك أنت أكثر من أي أحد آخر، وإنما هي ترفض شيء آخر داخلها وتحتاج إلى وقت حتى يمكنها مواجهته ومواجهة العالم به فقط هي بحاجة للأمان خاصة منك"
ثم استأذنت ورحلت وهو يستجمع كلماتها، دخل الفيلا ليرى زينة أمامه فقال "أهلا زينة؟ ماذا بكِ"
ترددت وقالت "لا شيء عن إذنك"
بالطبع أدرك ما أرادت فأمسكها وأعادها أمامه بحنان وقال "سيتم الزفاف بموعده أنا أخبرت مصطفى أن يكمل ما بدأه"
لكنها قالت بصدق "وكيف هذا يا تيم وأنت وديمة ووجدي، لا تيم لابد ان نؤجل الأمر"
أحاط وجهها بيده وقال "أنا وديمة بخير وهي نفسها سترفض التأجيل أنا أثق بذلك أما وجدي فأنا وعمتك قمنا بتأمين الأمر جيدا فلا تقلقي وانسي أمر التأجيل هذا"
نظرت إليه بشك فابتسم بحنان وقال "حبيبتي كلنا بحاجة لشيء يعيد إلينا الابتسامة وزفافك سيدخل السعادة على الجميع، هيا اتصلي بمصطفى وأخبريه أنكِ لن تؤجلي وكفي عن التدلل عليه فهو يحبك"
ابتسمت فاحتضنها وهي سعيدة بحب وحنان أخيها الذي كانت تفتقده.
تركته وذهبت وكاد يذهب عندما وصلت عمته فنظر إليها فقالت "إلى أين؟"
قال "لا مكان هل من جديد؟"
قالت وهي تقف أمامه "لا ولكني أرسلت إلى العدوي، عدو عدوي صديقي"
هز رأسه وقال "نعم أعلم فكرة جيدة"
ابتعد فقالت "كيف حال ديمة اليوم؟"
أشعل سيجارة وقال "لم أراها بعد"
اقتربت منه وقالت "هي بحاجة إليك حبيبي"
هز رأسه بحزن وحيرة وقال "الدكتورة قالت إنها بحاجة إلى فترة نقاهة بمكان ما"
فكرت جميلة ثم قالت "يمكنك أن تأخذها إلى شاليه السخنة الجو هناك هادئ وجميل"
قال "ربما بعد زفاف زينة"
رفعت حاجبها وقالت "ما زال هناك وقت على الزفاف خذها واذهب فلا حاجة لكم هنا حاليا واترك الأولاد معنا فهي لن تقوى على خدمتهم ما زالت ضعيفة"
تردد ولكنها ربتت على كتفه وقالت "تيم ديمة بحاجة للحب والحنان والأمان فقد حرمت من كل ذلك ولم تجد من يمنحها أيا منهم فعليك أن تفعل ربما وقتها يبوح لسانها بما يخفي قلبها"
هز رأسه وهو يحفظ كلمات عمته ثم تركها وصعد إلى غرفتهم ودخل ليراها مستلقية على جانبها تحدق في النافذة فاتجه إليها وجلس على طرف الفراش بجانبها وأزاح شعرها بحنان وقال
“ كيف حالك اليوم؟"
كالعادة اختارت الصمت ولم ترد فقال "ما رأيك لو حصلنا على أجازه يومين بمكان ما وحدنا؟"
عاد إليها الخوف وهي تسمعه فلم ترد فعاد وقال "ديمة أنا، أنا لن اتخلى عنكِ طالما لا يوجد سواي بحياتك لكن انتظر إلى أن أفهم منكِ سبب كل ذلك"
بالصباح ساعدتها زينة على ارتداء ملابسها وكانت تشعر بدوار من كثرة الاستلقاء بالفراش وقلة الطعام وأخيرا دخل وأمسك بيدها فتحركت معه دون أن تتحدث وزينة تتبعها بحزن من أجلها
أسندت رأسها على مقعد السيارة وتنظر إلى الخارج وهي لا ترى أي شيء وسرعان ما ذهبت بالنوم من أثر المهدئات وتابعها بنظراته وهو لا يعلم أي مصير يمكن أن يواجهه معها بعد ما كان
أيقظها برفق وهو يقول "ديمة، لقد وصلنا"
اعتدلت بصعوبة وهي تتلفت حولها فنزل واتجه إليها، أخذ بيدها فلفحتها نسمات البحر المعبأة برائحة اليود وأطارت حرف طرحتها وتأملت الشاليه المتطرف عن الباقين وقد بدا جميلاً ورأت رجلان للأمن، أحدهما اتجه للسيارة لإحضار الحقائب والآخر اتجه لفتح الباب وما أن أدخلها حتى أسرعت امرأة متوسطة العمر إليهم وقالت
"حمد الله على السلامة أنا سيدة يا بيه احضرني عمار بيه"
هز رأسه وقال دون أن يترك زوجته "حسنا خذي منه الحقائب وضعيها بحجرتنا وجهزي الغداء"
أجابت المرأة "حاضر يا بيه"
تحرك بها إلى الفراندة وقال "ما رأيك نجلس هنا قليلا؟"
جلست بمساعدته، وجلس أمامها وهو يتابع ملامحها المرهقة من التعب والسفر فأشعل سيجارة وقال "هل تشعرين بالتعب أو البرد؟"
لم ترد كالعادة ولم تنظر إليه أبعد عيونه إلى البحر وهو لا يعلم إلى متى ستظل على هذه الحالة؟
غيرت ملابسها بضعف واستلقت بالفراش وهي تسترجع كل ما مر بحياتها حتى اليوم، ودارت الأسئلة برأسها إلى متي ستظل تهرب؟ بالنهاية لابد أن تعود فهو يحيطها بحنانه وصبره وكأنه يحمل نفسه مسؤولية ما حدث ولكن هل حقا هو السبب؟
تبعها إلى الغرفة وألقى بنفسه علي المقعد ونظر إليها وقال "الجو رائع ما رأيك بالصباح نسبح بالشاطئ لقد أحضرت لكِ ملابس مناسبة للبحر؟"
عندما لم ترد نهض واتجه إليها وجلس بجوارها وقال "تذكريني بأيام موت تميم هربت مثلك من الواقع وأحزانه إلى عالم اللاوعي ولكن بالنهاية لابد أن نعود للواقع يا ديمة"
طرفت عيونها بدمعة لم يراها فنهض مبتعدا وقال "الهروب يقتلنا أكثر يحبسنا بغرفة ضيقة تزداد ضيقاً وظلاماً كل يوم، ومهما هربنا بالنهاية لابد أن نعود لأن لا مفر من مواجهة أحزانا ووجودك بحياتي جعلني أواجه كل الماضي وأتجاوزه"
عاد إليها وقال "أنا من أحتاج إليكِ ديمة، أحتاج قوتك لتزيد من قوتي، أحتاج ماضيكِ كي ينتصر على ماضيّ فأهزمه وأخرجه من دنيتي، ديمة لابد أن تعودي إلي وإلى أولادنا لابد أن نعوض ما فات"
ثم مرر أصابعه على وجنتها ثم تركها وغير ملابسه واندس بالطرف الآخر للفراش ونام، بينما خزن عقلها كلماته وكاد يسخر منه ويدعي كذبه ولكن قلبها قاوم عقلها وصدق حبيبها وبات في صراع مع عقلها لاسترجاع نفسها من سجن عقلها لتعود لذلك الرجل الذي يعلن عن احتياجه لها.
بالصباح نهضت قبله واغتسلت وغيرت ملابسها وخرجت إلى الفراندة وجلست أمام البحر وكأنها تستنشق القوة منه شعرت بيده على كتفها فارتجفت فأبعد يده وقال بحزن حاول اخفاؤه
“صباح الخير، المكان جميل لماذا لم ترتدي ملابس السباحة؟"
لم تنظر إليه فانحنى تجاهها وقال "سنذهب للسباحة اليوم هيا اذهبي وغيري ملابسك من فضلك"
لأول مرة تحرك عيونها تجاهه فابتسم بسعادة وقال "هيا أنا أنتظرك وسيدة أعدت بعض الطعام لنا"
نهضت وقد اختارت أن تطيع قلبها ولكن دون ان تلغي عقلها
كان الماء رائع حقا وهي لم تسبح من قبل فتملكها الخوف ولكن يده أعادت إليها الأمان ولم يتركها وقد أدرك خوفها فأحاطها بذراعه وهو يمنحها تعليمات لتسبح ولكنها لم تستجب إلى أن قال
“ألم يعلمك جدك السباحة؟ علمكِ الأصعب وترك السهل؟"
أبعدت وجهها ولكنه أزاح خصلة هاربة من الطرحة وأعاد وجهها إليه وقال "أعلم أني السبب بكل ذلك ولكن غصب عني ديمة"
نظرت إليه فأكمل "الخيانة إحساس قاتل أفقدني الثقة بالجميع"
ضاقت عيونها ولم تفهم، فنظر إلى امتداد المياه الزرقاء والتقائها بالسماء ثم قال "لن تكوني مثلها أبداً، فأنتِ مختلفة بكل شيء، رقيقة وجميلة وبريئة، أما هي فكانت جريئة ومغرورة وأنا كنت أعلم ومع ذلك تزوجتها، أردت قوة والدها وسمعته كطريق للنجاح، ساعدني بالفعل ولكن لم أعلم وقتها أنه فعل ذلك لأني صنعت له معروف وتوليت أمر ابنته وأنا أجهل ما كانت تفعل، ظننت أن الزواج بالعقل سيكون أنجح من القلب وتحديت كلمات تميم من أن الحب حجر الأساس الأول بالزواج والبيت والأسرة الناجحة ولكني من دفع الثمن أنا وتميم ابني"
لم تبعد نظراتها وتمنت لو أكمل ولكن صوت رجل الأمن وهو يناديه من على الشاطئ أوقفه فأشار إليه وقال "آسف عزيزتي دعينا نذهب يبدو أن الأمر هام"
لم تمانع وساعدها على الخروج ثم أحاطها بالمنشفة وتحدث مع الرجل الذي قال "عمار بيه يخبر حضرتك أن عدوي بالمزرعة"
أحاط بها وتحرك إلى الشاليه  "أخبره أن يراقبه جيدا حتى أتصل به أو أذهب إليه"
نظرت إليه فانتبه لها وقال "لن نرحل سأذهب وأعود ولن أتأخر"
توقفت وقد امتلأت عيونها بالخوف فنظر إليها بدهشة وقال "لا أفهمك ديمة ماذا حدث؟"
ظلت تنظر إليه إلى أن أشاح بوجهه لحظة قبل أن يعود إليها وقال "حسنا لن أذهب ولكن بشرط أن تتناولي الغداء كله ثم نخرج للعشاء بمكان رائع ونرقص قليلا هل توافقين؟"
لم ترد وهي تتحرك مرة أخرى إلى الداخل فأشاح بيده وقال "مجنونة أنا تزوجت مجنونة انتظري يا مجنونة"
كان المطعم رائع حقا، ورغم أنه بمكان سياحي إلا أنه لم يقدم موسيقى صاخبة أو رقصات متموجة وإنما موسيقى عالمية تثير الراحة بالنفس
كانت تبدو جميلة ولوحت الشمس بشرتها البيضاء بالأحمر وبدا لون طرحتها الأزرق مثير مع لون عيونها الجذاب، نظر حوله وقال
"على فكرة لو ظللت كثيرا أحدث نفسي سيقولون أني مجنون لذا لابد أن تبادليني الكلام لا يمكن أن يصدق أحد أن امرأة بهذا الجمال وتلك الفتنة تخشى من بعض كلمات لن تضرها"
تسمرت عيونها عليه وقد أثارتها كلماته وغزله ولكن ليتها تستمتع بها خاصة أنها تمنت أن تسمعها منه، وهو فقط دون العالم كله.
أحضر الرجل العشاء، تناولوه بصمت ثم انتهوا فأشعل سيجارة نفخ دخانها بالفراغ وقال "كان هذا مكاني المفضل أنا وتميم وبعض الأصدقاء"
نظرت إليه فقال "كانت عمتي تسمح لنا بأن نقضي هنا أجازتنا مع الأصدقاء لم أكن أظن وقتها أن الموت سيفرقنا"
انتبه على صوت يقول "تيم؟ تيم المحمدي هنا"
نظر إلى صاحب الصوت وعرفه كان من الاصدقاء الذين كان يتحدث عنهم الآن فنهض واحتضن الرجل وهو يقول "يوسف؟ لا أصدق ما زلت هنا؟"
ابتعدا فقال يوسف "بابا مات وكان لابد أن يكمل أحد المسيرة فتزوجت وأتيت لأقيم هنا، وأنت متى عدت من الخارج وكيف أحوالك؟ وماذا تفعل هنا؟"
قال "أمضي أجازه مع زوجتي، ديمة، ديمة هذا يوسف صديق قديم"
حياها يوسف ولكنه ظل لحظة ينظر إليها وكأنه يعرفها فانتبه تيم وقال "ماذا بك يا رجل هل تغازل زوجتي؟"
ارتبك يوسف وقال "لا، بالطبع لا أهلا مدام"
ثم نظر إلى تيم وقال "أشعر أني رأيتها من قبل"
ضاقت عيون تيم وقال "رأيتها؟ أين؟ ومتى؟"
هز رأسه وكأنه ينشط ذاكرته ثم قال "لا أعلم، لا أذكر، العشاء عندي يا صديقي وغدا أدعوك لزيارتي بالبيت ما رأيك؟"
نظر إليها ثم قال "لا أظن أن بإمكاننا الحضور ربما مرة أخرى"
تفهم يوسف ثم استأذن وانصرف، عاد إليها ونظر بعينيها وقال "هل تعرفيه؟"
لم ترد وهي تحاول أن تتذكره فهي أيضا تظن أنها رأته من قبل ولكن لا تذكر، شعر بالضيق يتسرب إليه فقال
"هل نذهب؟"
لم ترد نهض فنهضت معه وتحرك بها إلى الخارج بطريق العودة والصمت يلفهما إلى أن وصلا الشاليه ولم يتحدثا
بالصباح تناولا الإفطار بصمت مرة أخرى وتركها وذهب ليرى يوسف أراد أن يعرف أين رآها؟ وهل يعرف عنها أي شيء؟
“ أهلا تيم مفاجأة سارة تفضل"
لم يدخل فخرج إليه يوسف وتحرك معه فقال "يوسف أخبرتني أمس أنك رأيت زوجتي من قبل ألم تتذكر أين؟"
نظر إليه يوسف وقال "بلى تذكرت"
توقف ونظر إليه وقال "أين؟"
قال "بتلك الليلة السابقة لموت تميم، ليلة رأس السنة كانت معك يا تيم"
يتبع..

رواية الليلة الملعونة    بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن