الفصل الثامن عشر

1.4K 44 1
                                    

الفصل الثامن عشر
مرض
كلامه أشعل الغضب داخلها ولم تعد لديها أي رغبة في تحمل إهاناته مرة أخرى مما جعلها تبتعد عنه تماما تجهز له الإفطار قبل أن يستيقظ وتعود إلى غرفة الأولاد حتى يذهب ثم تجهز علي لباص المدرسة ولم تتراجع عن الكورس الذي اشتركت به وعمل جميلة، وبالليل عندما يعود تعد له العشاء ولكنها لا تشارك معهم ولم تكن ترغب برؤيته
بالطبع أدرك موقفها وتجنبها لقائه مما جعل الأمر يتغير معه فقد افتقد رؤيتها وشعر بأنه تمادى معها ولأول مرة منذ تلك الشهور التي مضت يشعر أن وجودها يمنحه إحساس مختلف بالرضا والدفيء والاستقرار، منحته جو من الأسرة لم يعرفه حتى مع مريم، أما الآن فكأنه عاد لتلك الأيام مرة أخرى، أيام الوحدة والحيرة
على عطلة نهاية الاسبوع طالب علي بمكافأته فقال "حاضر حبيبي أعلم أنك تطالب بقضاء الغد على الشاطئ مع التمتع بالبحر واللعب على الرمال أليس كذلك؟ وأنا أوافق"
تهلل وجه علي وقال "رائع بابا سأخبر ماما"
انطلق علي إليها بغرفتها وأخبرها بالأمر فابتسمت وقالت "رائع ستقضون يوماً رائعا سويا فقط انتبه لأخيك جيدا"
جلس علي أمامها وقال "سأتركه معكِ يلعب على الرمال"
داعبت وجنته وقالت "لا حبيبي أنا لن آتِ معكم بابا سيفعل"
هب الطفل وقال "لا، ماما من فضلك لن يمكن أن نذهب وحدنا بدونك"
قالت" بلى يمكنكم أنا متعبة وأريد أن أرتاح"
تغيرت ملامح علي إلى الحزن ولكنها لم تغير موقفها لأنها لا ترغب بأن تمضي يوما مليئا بالألم والحزن وتشعر به إنها مجرد مربية أو ربما أقل بكثير
ما أن نام الأولاد حتى تحركت إلى غرفتها لإنهاء بعض الأعمال التي طلبتها جميلة ولكن ما أن فتحت اللاب حتى دق الباب وفتح لتراه أمامها وهو يقول
“ لم تنامي بعد؟"
أبعدت اللاب وقالت بهدوء يتعارض من اشتياقها إليه رغم كل شيء "لا"
دخل وأغلق الباب وقال "علي أخبرني أنكِ لا تريدين الذهاب معنا غداً"
نهضت مبتعدة من أمامه وقالت "نعم"
قال وما زال ينظر إليها وكأنه يشبع عيونه منها دون أن يشعر "لماذا؟"
لم تنظر إليه وقالت "أحتاج للراحة قليلا"
وصل إليها ووقف خلفها وقال "أنتِ مريضة؟"
التفتت لتراه خلفها مباشرة ونظراته تحدق بها وبخصلات شعرها التي تغطي جبهتها وتتشابك مع رموشها الطويلة فارتبكت من نظراته وتمنت لو أفسح لها مكان لتهرب من أمامه ولكنها أخفضت وجهها وقالت
“ لا ربما مجهدة فقط"
أدرك أفكارها وقال "إذن أنتِ بحاجة للراحة حتى من البيت ومن الأفضل حضورك من أجل الأولاد، علي طلب مني أن أقنعك بذلك"
لم تنظر إليه وقالت وهي تقاوم ضعف قلبها نتيجة قربه منها "علي يمكنه الاستمتاع معك ومع أخيه"
ظل صامت لحظة يتأملها وكأنه كان يفتقد ملامحها وابتسامتها للأولاد ومداعبتها لهم، انتبه لنفسه قبل أن يقول بنبرة حاسمة
"لا إهانات ولا تجريح، أعدي الأولاد مبكراً، وأنتِ معهم لن نذهب بدونك"
ثم تحرك خارجا بينما رفعت رأسها لتتابعه، ظلت بمكانها ثواني عديدة تنظر إلى مكانه الفارغ وتحاول أن تصدق أنه هو تيم من تحدث عن عدم الاهانة أو التجريح..
أعدت الأولاد وطعام للغداء وحلويات وملابس السباحة وكم كانت سعيدة بسعادة علي عندما عرف بأنها ستنضم إليهم
ركبت بجانبه والأولاد بالخلف ولأول مرة ترى المدينة وتشاهد الأماكن السياحية بها وتملكهم الصمت إلا من بعض كلمات علي إليه إلى أن وصلا إلى شاطئ جميل وبه كثير من المصطافين
وضعا أشياءهم على الرمال وكان الجو مشمس وجميل نظر إليها وقال "ألا تسبحين؟"
قالت "لا، لا يمكنني ارتداء مايوه مثلهم"
قال بلا مبالاة "يوجد مايوه للمحجبات ومسموح به هنا ذكريني أن اشتري لكِ واحدا"
ثم تركها وأخذ علي الذي كان متعجلاً لنزول الماء بينما شاركت تميم باللعب على الرمال إلى أن عاد الاثنان وتناولوا بعض الطعام ثم انضم علي للعب مع تميم بينما جلس هو بالقرب منها ثم قال وهو ينزع المنشفة عن جسده
“ أحب هذا المكان"
نظرت إليه وقد بدا جسده الرياضي مثير تحت ضوء الشمس وامتلأت عيونها بالإعجاب تجاهه ولكنها تحكمت بنفسها وقالت
"كنت تأتي إليه"
تأمل مياه البحر الزرقاء وقال "نعم تذكرني بأيام كثيرة كنت أقضيها مع تميم بمصر"
كان تائه بين أمواج البحر وذكرياته فقالت "كنت تشاركه بكل شيء؟"
نظر إليها وبدت عيونها أكثر جاذبية مع ضوء الشمس، أبعد عيونه وقال "أكثر مما تتخيلين تميم لم يكن توأمي فقط بل كان نصفي الآخر كنا نشعر بنفس الشيء بذات الوقت لم يكن لي صديق سواه، لم أشارك أحد أسراري غيره وهو بالمثل، بموته فقدت الحياة ومات معه كل جميل بالنسبة لي"
لم ترد فنظر إليها ثم قال "أنتِ أكثر شخص يذكرني به"
قالت بدهشة "أنا؟"
هز رأسه وقال "نعم منذ أن ظهرتِ بحياتي وأصبح يزوني كثيرا بالحلم وكأنه يريد أن يخبرني بشيء ولا أعلم ما هو ولكن منذ زواجنا لم يعد يفعل وكأنه أراد هذا الزواج وعندما وقع عاد وابتعد"
أخفضت وجهها وقالت "أو ربما غاضب منك لذا ابتعد مرة أخرى"
ضاقت عيونه وقال "ولماذا يغضب مني؟ لم أفعل شيء لأغضبه"
قالت بجرأة خافت أن تندم عليها “لم حدث مع عمتك"
أبعد عيونه عنها ثم نهض وقال "علي ما رأيك بجولة أخرى بالماء؟"
أسرع علي إليه بسعادة وحاول تميم أن يتعلق بهما ولكنه قال "بالمرة القادمة عندما تأتي ماما بالمايوه حبيبي"
تابعته وهو يلعب مع علي ويمتعه وقد كان يحاول أن يشغل عقله بعيدا عن موضوع جميلة الذي مازال معلقا دون أي حلول
وأخيرا وضعت الأولاد بالفراش وعادت إلى غرفة المعيشة لتجده وقد غير ملابسه وجالسا بالحديقة لا تعلم لماذا أرادت أن تذهب إليه اطمأنت على طرحتها وصنعت بعض القهوة واتجهت إليه
“ ظننت أنك ربما تفضل بعض القهوة"
نظر إليها وقال "نعم بالفعل كنت أريدها"
منحته كوبه وكادت تذهب لولا أن قال "ألن تجلسي؟ أم أنه موعد النوم"
عادت إليه بدهشة وقالت "أجلس معك؟"
أشعل سيجارة وهو يرتشف بعض القهوة وقال "كنا سويا طوال اليوم فما الجديد؟"
عادت وجلست أمامه فقال "هل شعرتِ باختلاف النت؟"
قالت" نعم وأردت أن أشكرك لاهتمامك"
قال "فرانك يقول أن الكورس الذي تدرسينه مرحلة متقدمة بالبرمجيات فهل سبق لكِ دراسة سواه؟"
قالت "نعم أنا أهوى ذلك المجال جدا وجنيت  منه بعض الأموال"
نظر إليها وقال "أنا اكتشفت أني لا أعرف عنكِ أي شيء أنا حتى لم أكلف رجالي بالبحث عن حياتك وماضيكِ"
قالت "من الأفضل أنك لم تفعل لأنهم لم يكونوا ليجدوا أي شيء هام"
قال "وكيف ذلك، أليس لك حياة كباقي البشر؟"
قالت "كانت لي حياة كباقي البشر مع جدي وأختي، وكنت أحيا بسعادة رغم أننا لم نكن أغنياء ولكن جدي كان يوفر لنا معيشة جيدة من عمله أما أختي الكبيرة فكانت كثيرة الطلبات وتريد كل شيء ولم يكن جدي ليرفض لها طلب كانت تكبرني بأربع سنوات تخرجت وأنا مازلت بالثانوية كنت أحبها جدا وأعتبرها أمي التي لم أحظى بها، وقتها كنت أظن أن الحياة جميلة وبسيطة ولا تحتاج لأي مجهود سوي المذاكرة وتحصيل أكبر قدر من المعلومات كما علمني جدي فقد كان مثقف جدا علمني الإنجليزية، وهو من شجعني على دراسة الحاسب الآلي وكان يتمنى أن أدخل كلية النظم والحاسب ولكن مات وأنا مازلت بالصف الاول الثانوي وتبدلت أحولنا من بعدها للسيء لأننا فقدنا مورد رزقنا الوحيد وكان علينا أن نعمل بجانب الدراسة وعشنا حياة صعبة ولكنها مرت"
صمتت فلم يكتفِ وقال "وماذا؟ أين أختك الآن وماذا حدث بعد ذلك؟"
نظرت إليه بدهشة وقالت "ألا تذكر أختي؟"
قال "بلى أذكرها أليست الشقراء التي كانت معكِ بتلك الليلة؟"
هزت رأسها وقالت "نعم، هذا فقط ما تذكره عنها؟"
ضاقت عيونه وقال "وهل لابد أن أذكر شيء آخر بخلافه، أنا كنت معكِ بتلك الليلة ولا أذكر إلا العد التنازلي"
ظلت تنظر إليه لحظة ثم أبعدت وجهها وقالت "ماتت أختي بعد تلك الليلة بعشر شهور تاركة إياي وحدي مع علي بمكان جديد اضطررنا للانتقال إليه بعد، بعد اكتشاف الحمل، ومنذ أن أصبحت وحدي حتى لاقيت مالا تتخيله"
قال وهو يتراجع بمقعده "مثل ماذا؟"
تأملت أصابعها وقالت "مثل غيرة البنات من نجاحي بأي عمل أحصل عليه فيكيدون لي وأطرد من العمل، أو طمع الرجال بأرملة أو مطلقة أو امرأة لا زوج لها ولا سند وذكي كان آخرهم"
قال "لقد انتهيت من أمر ذكي وتأكدي أنه لن يذكرك مرة أخرى، ولكني لم أدرك أن حياتك كانت صعبة هكذا وربما الآن أدركت من أين أتت قوتك وشجاعتك مع الرجال"
ابتسمت وقالت "ليست قوة وإنما الرغبة في البقاء والدفاع عن النفس"
رن هاتفه وكان رقم فأجاب وبالطبع كانت جاكي فنظر إليها ثم قال "أهلا جاكي"
نظرت إليه وهي تسمع اسم المرأة فنهضت وتحركت من جانبه ولكنه أمسك يدها فنظرت إليه وسمعته يقول "نعم بالبيت"
قالت جاكي "ألن تأتي الحفلة لقد دعوتك"
قال "أعلم لكن أنا أخبرتك أني لن آتِ"
أجابت بغيظ "تتعمد إغضابي تيم"
قال "بل أحاول وضعك على الطريق الصواب عزيزتي إلى اللقاء"
نهض ووقف أمامها وقال "إلى أين؟"
نظرت إليه وقالت "ظننت أنك تفضل البقاء بمفردك مع .."
ولم تكمل ولكنه قال وعيونه تواجه عيونها "مع امرأتي؟"
لم تبعد نظراتها عنه ولم تفهم كلمته أو نظرته فعاد يقول "هيا تأخر الوقت"
هزت رأسها ولم ترد وتبعها إلى الداخل وقبل أن تدخل غرفتها قال "ألا تظني أن حجابك هذا بالبيت وليس هناك أي رجال غريبة أمر غير طبيعي فإذا كنتِ تذكرين أنتِ ما زلتِ زوجتي"
ثم تركها ودخل غرفته وظلت هي تتأمل مكانه الفارغ وهي تفكر بكلماته دون أن تفهم أي شيء.
سمعت بكاء تميم بالليل فأسرعت إليه كانت حرارته مرتفعة جدا فقامت بما تفعله كل مرة ولكن لم تنخفض الحرارة ولم يهدء الطفل وقد بدأ يسعل بشدة والقيء يصيبه، فأسرعت إلي غرفته ودقت الباب عدة مرات حتى فتح وبدا أنه كان مستغرقاً بالنوم
فزع من منظرها وقال "ماذا حدث؟"
أحضر فرانك الطبيب وقام بإسعاف الطفل وقال "إنه ضعيف ولا يتحمل أي تغيرات جوية من الأفضل إبعاد أخيه عنه كي لا ينتقل إليه المرض فهو معدي"
انصرف الطبيب وظلت هي مع الطفل بينما عاد إليها وقال "سآخذ علي بغرفتي ويمكننا أن نتبادل السهر على تميم"
قالت "لا، يمكنني أن أفعل اطمأن"
نظر إليها فقالت "لا تقلق لو حدث شيء سأخبرك"
هز رأسه وحمل علي إلى غرفته واستقر بجانبه على الفراش ولكنه لم ينم وظلت نظراتها تطارده وصوتها الرقيق وهي تحكي حياتها، حنانها مع الأولاد، نهض من الفراش وابتعد إلى النافذة وهو يحاول أن يبعد صورتها عن ذهنه ولكنه لم يستطع وقد استولت عيونها على تفكيره طوال الأيام الماضية.
بالطبع كان مرض تميم شديد ومضى عدة أيام قبل أن يتحسن لم تكن تتركه وقد أدرك كم أنها صادقة مع ابنه وضحت براحتها من أجله
“ صباح الخير حبيبي تبدو بخير اليوم"
حمله من بين ذراعيها وقد شحب وجهها من عدم النوم وشعرت بألم بكل جسدها وصداع لا يذهب قالت "نعم إنه أفضل بكثير"
ابتعدت ببطء لتجهز الإفطار فقال وهو يضعه بمكانه على المائدة "إذن يمكنكِ النوم تبدين متعبة"
قالت "أنا بخير المهم أنه تحسن كثيرا"
قال "نعم هيا أنا لابد أن أذهب لدي اجتماع عاجل، على فكرة زينة تحاول الوصول إليكِ وهاتفكِ مغلق"
هزت رأسها بصعوبة وقالت "نعم لم أهتم به بالأيام السابقة"
لم يرد وهو يتحرك إلى الخارج مصطحبا علي معه إلى المدرسة بدلا من الباص"
بالمساء كانت قد فقدت كل قوتها وهي تجلس على طرف الفراش بعدما نام تميم فاتصلت بزينة واطمأنت عليها وعلى أحوالها إلى أن سمعت سيارته وقد تأخر .
نهضت بصعوبة إلى الخارج فقابلها فقالت "دقائق والعشاء يكون جاهز"
خلع جاكتته وقال "هل نام الأولاد؟"
هزت رأسها فشعرت بالصداع يزداد ودوار يتسلل إليها شعر بأنها ليست على ما يرام فاتجه إليها وقال "ديمة أنتِ بخير؟"
نظرت إليه وقالت "نعم"
ولكنه لاحظ ملامح الإجهاد عليها فقال "لا لستِ بخير هيا اذهبي لترتاحي لا أريد طعام"
ولكنها عادت إلى الأطباق وقالت "أنا بخير و.."
أمسك يدها ليوقفها ولكنه وجدها دافئة فوضع يده على وجهها وقال "حرارتك مرتفعة"
جادلته بضعف "لا أنا بخير فقط بعض الصداع و.."
عاد الدوار فأمسكت رأسها وترنحت قليلا فأحاطها بيده قبل أن تسقط  "ديمة ماذا بكِ؟"
قاومت الدوار وهي تستند على كتفيه وقالت "أشعر بدوار وصداع و.."
لم تكمل حيث تساقطت الجدران من حولها وهي تسقط معها وأصبح صوت تيم وهو يناديها حلم ولم تقو على الرد عليه لأنها ضاعت تماماً عن الوعي فتلقاها بين ذراعيه وقد شعر بحرارة جسدها المرتفعة فأسرع بها إلى غرفتها واتصل بالطبيب
عندما أفاقت كانت تشعر بأنها سارت أميال كثيرة والآن لا تقوى على الحركة حاولت أن تعتدل ولكنها لم تقو من الدوار ولكن حركتها جعلته ينتبه إليها وقد كان يقف أمام النافذة يتحدث بالهاتف فأنهى حديثه واتجه إليها وهو يقول
“ لا داعي للحركة مازلتِ ضعيفة"
بالفعل لم تقو على الحركة وقالت "ماذا حدث؟"
جلس أمامها وقال "انتقل الفيروس إليكِ من تميم وارتفعت حرارتك وذهبت في غيبوبة منذ أمس"
قالت بضعف "الأولاد؟"
قال وقد عرف أن وجودها بالبيت له معنى أكبر من مجرد مربية كما وأن قلقه عليها جعله يشعر باضطراب في تفكيره تجاهها
أجاب "بخير زوجة فرانك تعتني بهم"
قالت "أنا آسفة لما حدث"
أبعد خصلات شعرها عن وجهها وقال "تعتذرين عن المرض وهل أنتِ سببه؟"
أخفضت عيونها فأبعد يده وقال "لم أفكر يوما أن هناك امرأة ستصلح لأن تكون أم لابني"
نظرت إليه فقال "ولكنك جعلتني أتراجع وبقوة، تمنحينه كل الحب والحنان وكأنه ابنك رغم أني.."
لم يكمل ونهض مبتعدا فقالت "أنا اعتبرته ابني من أول يوم رأيته ولم أكن أعلم أنه ابنك، فلا فارق بالنسبة لي، لا ذنب له بما تكنه لي من كره"
التفت إليها بقوة من كلمة الكره ولم يرد، ودق الباب ودخلت امرأة أجنبية شقراء تحمل طعام وهي تقول "الطعام مستر تيم، مسز محمدي تبدين بخير؟"
نظرت للمرأة وقالت "نعم شكراً"
اقترب وقال "ميرا زوجة فرانك، شكراً ميرا يمكنكِ الذهاب سأساعدها أنا"
ابتسمت المرأة وخرجت بينما قال "هيا لابد من تناول الطعام"
اقترب منها ورفعها بيده وهو يضع الوسادات خلفها وما أن أعادها حتى أدرك كم هي قريبة منه ولم يبتعد ونظراته تجول ملامح وجهها شعرت بأن لمساته لها كجمرة نار تحرقها وتضعفها وحاولت ألا تبدي ما تشعر به ولكن ما أن أسندها على الوسادة حتى رفعت وجهها لتجده قريبا منها
رفع يده إلى وجهها ومرر أصابعه على بشرتها فارتجف جسدها وأبعدت وجهها فقال
"اعترف أنكِ جميلة حقا حتى وأنتِ مريضة"
عادت تنظر إليه ويده تتخلل شعرها ولا يعلم ماذا أصابه، تلك الجاذبية التي تكمن بعينيها تسحره، تفقده الوعي، الآن لم يعد يشعر بأي شيء ولا يتذكر إلا أن تلك الملامح الجميلة والبشرة الرقيقة والشفاه الرقيقة التي تبدو ناعمة كالحرير تشده بقوة، فانحنى على وجهها فأغمضت عينيها وقد تملكها الضعف من قربه ولمساته وهي تشعر بأنفاسه تختلط بأنفاسها وتلامست الشفاه لمسه رقيقة قبل أن يرن الهاتف الخاص به فيعيده إلى الواقع ليرتد بعيدا عنها وحركت هي يدها لتبعد شعرها بخجل مما كاد يحدث وهي لا تفهم كيف حدث ولامت نفسها على ضعفها
أخرج هاتفه وأجاب بعصبية لذهاب تلك اللحظة التي لم يعش مثلها من قبل "ماذا يا عمار؟"
أجاب عمار الذي عينه تيم بمصر لمتابعة أعماله المشتركة مع عمته "توجد أخبار غير جيدة من مصر مستر تيم"
تراجع وقال "أي أخبار؟ تحدث عمار"
فقال  "وجدي ظهر أخيراً ولكن مع رجل أعمال معروف بمصر ومشهور بأشياء غير قانونية"
حك جبهته وقال "وماذا عمار؟ هل تخطى الحدود؟"
رد عمار "أخشى أن يفعل مستر تيم لأن الصفقة التي تعاقدت عليها المجموعة الخاصة بمدام جميلة ليس لها مصدر ثابت وأعتقد أن وجدي يدبر شيء"
التفت إليها وهي تخفض وجهها التي تلون بالأحمر ولم تقو على النظر إليه فقال "ألم تخبرها؟"
قال عمار "تعلم أنها لا تسمع لذا اتصلت بك، لابد أن تعود مستر تيم فهي لا تنصت إلا لك ووجدي يدرك أنها وحدها ولن يتركها"
صمت قليلا ثم قال "تمام عمار تابع الأمر وكن على اتصال بي لا تجعله يغفل عن نظرك"
أنهى اتصاله ثم التفت إليها وقال "لابد أن نعود مصر"
انتبهت إليه وقالت "حقا؟ أقصد هل حدث شيء؟"
أدرك مدى رغبتها في العودة ولكنه أخفى ما وصل إليه وقال وهو يعيد الاتصال "إنه وجدي الكلب"
قالت "هل أصاب عمتي أي سوء؟"
اقترب من فراشها وقال "لا، ليس بعد ولكن وجدي ليس بخصم سهل وكنت أنتظر ظهوره وقد فعل"
قالت "متى سنعود؟"
تأمل عيونها وتذكر تلك القبلة التي لم تكمل وقد تمنى أن يفعل واندهش من نفسه فالتفت وقال "بمجرد أن تتحسن صحتك، هيا تناولي طعامك من أجل الدواء"
اضطر إلى تركها ليعد لعودته إلى مصر كما يعد لما يدبره وجدي ولكن هذا لم يمنعه من أن يمنحها بعض الاهتمام بمجرد عودته إلى البيت ولكن ما حدث بينهم بتلك الليلة لم يتكرر مرة أخرى ولم يشير أيهم إليه ولكنه غير داخله الكثير من المشاعر تجاهها وأصبح يريد رؤيتها والعودة إلى البيت ليكون معها ومع الأولاد، رغم انشغاله بأمر وجدي
وأخيرا استعادت نفسها وربما شعرت بالتغيير الذي أصابه معها وكثيراً ما كانت تتذكر لحظة القبلة فتشعر بأحاسيس لم تعرفها من قبل فقط السعادة هي التي تعرفها من بينهم ولكنها سرعان ما تبعد أفكارها لأنه خطر ولا يمكنها أن تكمل
أعدت العدة للعودة إلى مصر وهي سعيدة لذلك، وبالليل عاد متأخرا فانتظرته وما أن رآها حتى قال "هل أخبرتها بشيء؟"
قالت "لا فعلت كما أخبرتني"
قال "حسنا هل يمكنكِ تحمل السفر؟"
قالت "نعم أنا بخير، ماذا ستفعل معها أقصد خلافكم السابق؟"
ابتعد وقال "أنا عائد لإنقاذ المجموعة ولن يكن لي مجال معها ولن نعود إلى البيت"
تفاجأت من كلماته فتحركت إليه ووقفت أمامه وقالت "لا، أنت لست جاد؟"
نظر إليها وقال بجدية واضحة دون أي تراجع "بلى أنا جاد لقد انتهى ما بيني وبينها ولم يتبقى إلا العمل"
قالت بقوة تتناقض مع مواقفها السابقة معه من الضعف "ما الذي انتهى بينكم بالضبط؟ بنوتك لها أم أمومتها لك؟"
نظر إليها بقوة ثم ابتعد ولكنها قالت بجدية واضحة "لن تهرب مرة أخرى"
التفت إليها بغضب وقال "احذري بكلامك يا ديمة"
لم تتراجع وقالت "انتبه أنت إلى كلامك وما تريد أن تفعل يا تيم، إنها أمك التي ربتك وليس معنى أنها أرادت أن تنعم بما تبقى لها من العمر، أنها كفت عن حبها لكم أو أمومتها لأن الأمومة لا تنتهي ولا تتوقف إلا بالموت"
قال بنفس الغضب "هي التي اختارت فلتتحمل نتيجة اختيارها"
قالت بحزن واضح من أجل جميلة "ولكنها تراجعت يا تيم وضحت بسعادتها للمرة الثانية من أجلك وأجل أختك، لقد رفضت أدهم وضحت بحبه فماذا فعلت أنت؟ تعاقبها على شيء لم تفعله تعاقب أمك التي يجب أن تقبل يدها وتطلب منها السماح على جرحك لها وإهانتك وقسوتك معها"
ابتعد وقال "هي أيضا أهانتني يوم رفعت يدها علي"
عادت تقول "وماذا كنت تنتظر منها وأنت تهينها وتجرحها أن تبتسم وتقول هل من مزيد إنها الأم وكل أم لابد وأن توقف أولادها عند الخطأ وأنت أخطأت"
ألتفت إليها وقال بغضب "تدافعين عنها لأنها هي من منحتك كل هذا جعلتك تنالين ما كنتِ تخططين له بسهولة، كان اتفاق بينكم أن أتزوجك وأنتِ الآن تمهدين لها الطريق لأن تفعل ما تريد"
تراجعت وقالت "ألا تتوقف عن جنونك هذا أبداً؟ أي اتفاق هذا الذي تتحدث عنه أنا أدافع عنها لأني أعلم ما تعانيه وأشعر به، الوحدة إحساس مميت خاصة لامرأة تنتظر سن اليأس دون رفيق، ألا تعرف شيء عن الرأفة والرحمة خاصة بأمك"
حدق بعينيها لحظة قبل أن يبتعد دون أن يرد فعادت تقول "دكتور أدهم يحب عمتك منذ سنوات وهو رجل له مكانته العلمية والمادية والاجتماعية، وعمتك امرأة جميلة تملك كل مقومات الجمال وتثير إعجاب أي رجل فلم تحرمها من هذا الحق"
التفت إليها فأسرعت تقول "من فضلك فكر بقلبها والحب الذي يحتاجه والرفيق الذي يتمناه بعد ذهابك وذهاب أختك"
تاه بين كلماتها قبل أن يقول "ظننت أن حبنا لها كاف وأن لا أحد يمكن أن يأخذها منا"
ابتسمت وهي تدرك مشاعره المخفاه تحت قناع القسوة فقالت "لا تجعل غيرتك عليها تتحول إلى قسوة تقتل بها ما بينكم، حبها لكم باق إلى الأبد أما حبها لأي رجل آخر فهو مختلف ألا تدرك الفارق ألم تجربه يوم تزوجت زوجتك هل أفقدك حبك لها حبك لأمك"
ابتعد من أمامها وقال "أنا لا أعرف ذلك الحب زواجي من مريم كان زواج عقل كلا منا كان يريد الاستفادة من الآخر"
صمتت ولم ترد بينما التفت إليها وقال "هل أدركتِ أن لا وجود للحب الذي تتحدثين عنه وجدي تزوجها من أجل أموالها، مريم تزوجتني من أجل نفس الغرض وأنتِ تفعلين المثل وأدهم يسعى لذلك، لا وجود للحب وإنما كلها مصالح فقط"
لم تدرك كل ما بداخله إلا الآن وظلت تنظر إليه كما كان يفعل إلى أن قالت "هل عمتك أيضا تحبك من أجل مصلحة؟"
لم يبعد عينه عنها فأكملت "الحب موجود يا تيم مهما حاولت إنكاره ولسنا جميعا كما تحاول أن تصورنا لا أنا سعيت يوما لمصلحة من وراء حبي لعمتك، ولا يريد أدهم شيء من وراء زواجه من عمتك أما وجدي فهو واحد ولا تقاس القاعدة على واحد"
تحركت لتبتعد ثم توقفت وقالت "أرجو أن تتراجع عن فكرة النزول ببيت آخر غير بيتكم لا تفعل بها ذلك بالنهاية هي أمك وبمجرد أن تراها ستنسى كل ما كان وتهرع إلى أحضانها"
نظر إليها بقوة ولم يجد أي كلمات فابتعد وقال "سنرحل بالخامسة"
استسلمت إلى تغييره للموضوع وهزت رأسها ثم ابتعدت إلى غرفتها وهي تدرك أن ما بداخله وليد سنوات كثيرة من عدم الإيمان بالحب وأدركت أن حتى زواجه الأول لم يكن وليد الحب لذا لا يمكنها أن تطالبه بما لا يملكه..
لم يتحدث معها مرة أخرى وظلت كلماتها تتصارع مع أفكاره فاختار الصمت حتى يجد حلاً لحيرته التي تملكته، شيئا واحدا ما زال يسمعه بأذنه أنه بمجرد رؤيتها سينسى كل شيء ويهرع إلى أحضانها، فهل سيحدث ذلك أم؟
تحرك عمار بهم من المطار فقال "ما الجديد عمار؟"
قال "مدام جميلة عرفت بالأمر فرجالها كشبكة العنكبوت تمتد بكل مكان"
"أعلم وماذا؟"
قال عمار "وجدي اختفى وفادي انضم إلى مجموعة من الشباب الفاسدة ويظهر كثيرا بالملاهي الليلية معهم و مع فتيات من كل شكل والصفقة تكاد تكتمل والبضاعة على وصول"
هز رأسه ولم يرد وبدأت تراقب الطريق وابتسمت وهي ترى السيارة تدخل الشارع المؤدي لبيت جميلة نظرت إليه بمرآة السيارة فنظر إليها فابتسمت وكأنها تذكره أنه فعل الصواب
احتضنتها زينة بسعادة كما احتضنته هو الآخر وقالت "يا الهي لا أصدق أنكم هنا لماذا لم تخبروني؟"
نظر إلى أخته وقال "ظننت أن المفاجأة أفضل كيف حال مصطفى؟"
ضحكت وقالت "أوشك على الانتهاء من إعداد الشقة وكان يرغب في أن يحدد معك موعد الزفاف"
قال بدهشة "أنهى الشقة بثلاثة أشهر هل يتعجل الزواج إلى هذا الحد؟"
احمر وجه زينة وقالت "لا تنسى أنه يعيش وحيدا"
هز رأسه ونظر إلى ديمة وقال "لابد أن أذهب انتبهي للأولاد هل أنتِ بخير ؟"
قالت "نعم بخير ولا تقلق على الأولاد"
كاد يذهب عندما رأى جميلة تدخل من باب الفيلا وقد أخبرها رجالها بعودته فأسرعت إلى البيت وهي لا تصدق نفسها
تراجع عندما وجدها أمامه ووقفت هي دون أن تقو على التحرك لحظة، ولكنها بالنهاية تحركت إليه ببطء إلى أن وقفت أمامه وقالت
“اشتقت إليك كثيراً"
انهارت قوته المصطنعة أمام كلماتها ووجد نفسه يقول "وأنا أيضا"
وضعت يدها على وجهه حيث صفعته بحنان وقالت "هل أطلب السماح من ابني الذي لم أنجبه"
أمسك يدها وقبلها وقال "لا عمتي لا يجوز أن تفعلي أنا الذي أطلب السماح لم قلت وفعلت"
قالت بحنان "سامحك قلبي من قبل أن تقول أو أن تفعل فأنت ابني ولا يمكن أن أغضب منك أبداً"
ثم جذبته إليها فلم يقاوم فقد كان بحاجة إلى أحضانها التي افتقدها وأدرك أن تلك الفتاة كانت على حق، ترك رأسه تسقط على كتفها كما كان يفعل وهو صغير فشدت عليه وقالت
"وجودك أعاد الحياة لقلبي تيم"
ابتعد وقبل وجنتها وقال "ظننت أن قلبك لم يعد بحاجة إلي"
ابتسمت ووهي تفهم كلماته فتغاضت عنها وقالت "سيظل بحاجة إليك وإلى أختك لنهاية العمر حبيبي أين زوجتك وأولادك؟"
ابتعد فتقدمت ديمة منها بسعادة فنظرت إليها جميلة وقالت "ماذا بك؟ تبدين شاحبة ماذا فعل بكِ ابن أخي؟"
ابتسمت وقالت "لا شيء عمتي كنت مريضة، اشتقت إليكِ جدا"
جذبتها المرأة لأحضانها وهمست "ماذا فعلتِ معه؟"
أجابت بهمس "فشلت بدرجة امتياز"
ضحكت جميلة وأبعدتها وقالت "هذا خطأ، علي، تميم، اشتقت إليكم جداً"
انتهى اللقاء بود ومحبة واتجه إلى المكتب مع عمته بينما جلست هي مع زينة التي لم تتوقف عن الكلام وأخيرا قالت
"وأنتِ ديمة كيف كانت حياتك مع أخي؟"
أطرقت برأسها ثم قالت "لا جديد ما زال يظن أني انتهازية واستغللت عمتي لأحقق أهدافي"
قالت زينة "تيم عنيد ومن الصعب تغييره"
نظرت إليها وقالت "نعم وأنا لم أتوقع ذلك ولم أسعى لتغييره، أنا اكتفيت بوجودي مع ابني الذي يتمتع بوالده"
قالت زينة "لا أفهم، هل نفذتِ ما أراد من أن تكوني مجرد مربية لا زوجة؟"
نهضت مبتعدة وقالت "لم أفكر أن أكون زوجة لرجل مثله يرفضني يا زينة تيم يرفض أي معني للمرأة بحياته"
اتجهت إليها زينة وقالت "هل حاولتِ؟ أجيبي، هل حاولتِ أن تكوني امرأة بحياته انظري لنفسك أنتِ حتى لم تغيري من ملابسك أو شكلك كيف سيرى المرأة بكِ وأنتِ لا تبدين أنوثتك أمامه؟"
ابتعدت وهي تعلم أنها لم تفعل لأنها لا تريد أن تفعل ولا يمكنها أن تفعل رغم أنها تمنت أن تكون امرأته كما هو رجلها الأول والأخير ولكنها لم تقل ذلك وإنما قالت
"وكيف أفعل ذلك؟ هل بملابسي أم بماذا؟"
قالت زينة "بكل سلاح تملكه كل امرأة يا ديمة إنه زوجك ومن حقك أن تنالي حياة طبيعية كأي امرأة"
قالت بضيق "ولكني لست كأي امرأة"
قالت زينة "نعم لأنكِ لا تريدي أن تكوني امرأة، إذن لا داعِ لكلامي، ديمة تيم بحاجة إلى من يعيد إليه الحياة التي فقدها بموت تميم ولا أظن أن هناك من هو أفضل منكِ لذلك فقط اهتمي قليلا بنفسك ومظهرك وأظهري انوثتك التي أنستك الأيام إياها"
لم ترد وقد علقت كلماتها بذهنها ولم تعرف ما الصواب وهل عليها أن تتخلى عن مخاوفها وتسعي إلى حياة أخرى غير تلك التي تحبس نفسها بها هل يمكنها أن تجازف؟
بالمساء دق باب غرفة الأولاد وقد كانت معهم ولا تعرف أين ستنام هنا، نهضت وفتحت الباب فرأت جميلة أمامها فقالت
“ عمتي؟ هل حدث شيء؟"
ابتسمت المرأة وقالت "لا، تعالي أريد أن أتحدث معكِ قليلا"
تحركت معها إلى غرفتها، وأغلقت جميلة الباب فعصرت يداها وهي تنظر إلى المرأة التي قالت "والآن ما هذا الذى أراه أمامي؟"
احتارت وقالت "لا أفهم سؤالك"
قالت "بلى تفهمين ديمة، ماذا فعلتِ بنفسك بتلك الشهور السابقة؟ تبدين شاحبة وذبلت عيونك وارتسم الحزن والألم به بدلا من تلك القوة والعناد اللذان كنت أنبهر بهما، ماذا حدث لكِ؟ من أين اكتسبتِ هذا الضعف؟"
ابتعدت والحزن يزداد وقالت "من الواقع عمتي"
اتجهت جميلة إليها وقالت وهي تواجهها "أي واقع يا ديمة؟ ظننت أنكِ ستحاربين من أجل قلبك وسعادتك وستجعلين منه ذلك الرجل الذي كنت أعرفه لقد خيبتِ أملي بكِ"
رفعت وجهها إليها وقد امتلأت عيونها بالدموع وقالت بضعف "لم أستطع أن أفعل الخوف يملؤني"
قالت جميلة بنفس القوة "كيف أمكنك إخفاء حبك بهذا الشكل؟ ألم تخبريني أن الحب يقتل الخوف يا ديمة أليس هذا كلامك؟"
قالت بألم وحزن "كلام عمتي، كلام لم أملك تنفيذه"
قالت "بل لم تحاولي أصلا تنفيذه، أنتِ تريدين ذلك إذن، تريدين أن تظلي تلك المربية التي لا يراها ولا مكان لها بحياته وربما ترحبين بامرأة أخرى تنتزعه منكِ وتحل مكانك وربما تأخذ أولادك"
تراجعت وقالت "لا، أولادي لا"
زادت جميلة من الضغط وقالت "وقتها لن يهمه أنهم أولادك لأنه أخبركِ أن أولاده معه أين ما كان فسيلقي بكِ دون رحمة وأنتِ تستحقين لأنك تضحين بحبك وقلبك بشكل لا أعرف كيف أمكنكِ فعله"
صرخت من وسط دموعها "كفي، من فضلك كفى لا أحد يعلم ما بقلبي ولم أعتاد أن أشكو همي أو حزني ولكن هذا لا يعني أن الأمر سهل بالنسبة لي"
ولكن جميلة أكملت وقالت "إذن أنا لن أكف عن كلامي حتى تسمحي لحبك بأن يخرج إلى النور كفاكِ كل تلك السنوات، تيم بحاجة لحبك وقلبك تعلمين أن بإمكانك تغييره أنا واثقة أنكِ وراء عودته إلي، لذا عليك بفعل شيء لنفسك وإلا أنا من سأبحث له عن زوجة حقيقية تعيد إليه حياته هل تفهمين؟"
تراجعت من قسوة جميلة وسقطت على طرف الفراش وهي تنهار في البكاء فاقتربت منها جميلة وجلست أمامها وقالت بنبرة أخف
“ ديمة، اخلعى قناع الخوف عنكِ وانسي الماضي وخوضي التجربة بحلوها ومرها لا أن تتجرعي المرارة فقط بيدك، شبابك وقلبك يفرضون عليكِ ذلك فلا تتخلين عنهم مثلما فعلت بنفسي فخسرت كل شيء، أنت جميلة ورقيقة وذكية فقط لابد أن تتغيري كي يشعر بوجودك بحياته"
نظرت إليها من بين الدموع كيف يمكنها أن تشرح لهم سرها وأنها لا يمكنها أن تفعل كي لا تفقد ما عاشت تبنيه وتخفيه؟
ابتسمت جميلة "أنا واثقة أنكِ قادرة على ذلك وربما وجودك بيننا يمنحك القوة على ذلك"
هزت رأسها فمسحت جميلة دموعها وقالت "من الغد أريد أن أرى ديمة أخرى غير التي أعرفها شكلاً وموضوعاً أريد أن أراك بتلك الملابس التي تظهر أنوثتك وجمالك بدون خجل أو خوف، شعرك هذا يحتاج لأن يرى النور طالما هنا بيننا وجهك الشاحب هذا يحتاج إلى اهتمام، ابدئي حبيبتي وإذا احتجتِ أي شيء اطلبيه مني أنا، هل تفهمين؟"
هزت رأسها فابتسمت جميلة وقالت "حسنا هيا إلى غرفة زوجك أم سعد لا تعرف ما بينكم ولا يصح أن تنامي بغرفة منفصلة عنه هنا"
حدقت بها ولكنها لم ترد وهي تتحرك إلى الخارج ثم إلى غرفته وظلت واقفة لحظة قبل أن تفتح وتدخل لتجد الغرفة كما تركتها بتلك الليلة مرتبة ونظيفة وحقائبهم تفترش منتصفها ورائحة عطره تملأ الغرفة فوقفت دون أن تدرك ماذا ستفعل؟
بالطبع درس مع رجاله أمر وجدي والصفقة وربما اختفاء وجدي أعاد القلق إليه ولكنه لن يستسلم. تأخر الوقت وشعر بالإرهاق فقرر العودة ووجد الهدوء يعم الفيلا وأدرك نوم الجميع، تحرك إلى غرفته بهدوء وفتح ودخل وأضاء النور ليراها نائمة بطرف الفراش ظل واقفا قليلا ينظر إليها وتذكر أنه لا يمكن أن يقيما بغرف منفصلة هنا فأطفأ النور وأشعل ضوء خافت وخلع جاكتته وأخذ ملابس نومه واتجه إلى الحمام ليغيرها
تصلبت بمكانها عندما شعرت به يدخل الغرفة ولم تفتح عيونها وظلت مصطنعة النوم حتى خرج من الحمام واتجه إلى الطرف الآخر للفراش واستلقى عليه، لم تتحرك هي وهي تضع الغطاء عليها وهو يتحرك على الفراش ثم عاد ونهض وأشعل سيجارة وهو ينظر إليها واحتار بنفسه وقد تذكر كم كانت تعجبه بتلك الليلة وكيف ترك كل شيء من أجلها وأرادها بينما عندما قابلها بعد تلك السنوات لم يتقبل وجودها ويتعمد إيلامها وجرحها بدون سبب وهي التي تمنح ابنه حب لم يجده عند مريم نفسها فماذا يسمي ما يحدث هذا كيف أرادها بيوم والآن يرفضها ولا يريدها؟ ولكن لا لقد تغيرت مشاعره مؤخرا عندما أدرك قيمتها بحياته وحياة أولاده وتلك القبلة و..
أطفأ السيجارة وعاد إلى الفراش واستدار ونام مبعدا كل الأفكار عن ذهنه
استيقظت مبكراً وأخذت حمام يعيد إليها نشاطها بعد الليلة الطويلة التي لم تنال بها نوم هادئ وارتدت ملابسها ولكنها نظرت إلى نفسها بالمرآة وتذكرت كلمات زينة وجميلة فرفعت المنشفة من على شعرها وتركته ينساب على وجهها وكتفيها ورأت ملابسها البسيطة التي لا تليق بذلك الرجل فأدركت أن عليها أن تفعل الكثير كما أخبرتها جميلة وربما يمكنها أن تفعل ما تعجز عنه
خرجت من الحمام ومشطت شعرها أمام المرآة ونظرت إلى تيم بالمرآة كم هي جميلة ملامحه لم تنساه بأي يوم وقد حفرت تفاصيله بذاكرتها على مدار السنوات
فزعت عندما رن هاتفه فنهضت إليه لتغلقه ولكنه كان قد استدار ووصلت يده إلى الهاتف مع يدها لتتلامس الأيدي
سحبت يدها وهو يعتدل بالفراش وأبعدت شعرها المبلل عن وجهها وعيونها عن صدره البارز من ملابس نومه بينما أجاب هو
"أهلا فرانك"
عقدت شعرها من الخلف وكادت تذهب عندما أنهى هاتفه وقال وهو يشعل سيجارة "إلى أين؟"
قالت "أطمأن على الأولاد"
قال وهو ينهض "ما زال الوقت مبكراً"
اتجه إلى النافذة وفتح الستائر وقال "من صاحب فكرة وجودك هنا؟"
ارتجفت يداها وقالت "عمتي"
التفت إليها وإلى ملامحها البسيطة وقال "نعم كان لابد أن أعرف"
تغاضت عن كلماته وقالت "أريد أن أخرج اليوم"
ضاقت عيونه وقال "إلى أين؟"
قالت بارتباك "أريد شراء هدية لزينة عيد ميلادها كان بالأمس ولم أكن أعرف وربما اشتري بعض الأشياء للأولاد"
كان يتحرك باتجاهها ووقف أمامها وقال "لم تخبرني زينة بعيد ميلادها؟"
لم ترد فعاد يقول "والآن لا أجد إجابة ماذا؟ هل تعدين خطة للهرب مني؟"
رفعت وجهها إليه بدهشة فحدق بعينيها ليسقط بدوامة عيونها الجميلة وقال "تعلمين أن لا مفر مني فلا داعي للتهور"
قالت بغيظ "وهل لو أردت أن أفعل سأخبرك بأني سأفعل؟ أو استأذن منك للخروج"
تولاه الصمت ثم ابتعد وقال "حسنا يمكنني أن أصحبك لأي مكان قبل أن أذهب للشركة"
وقف أمام سوق تجاري معروف وقال "هل يناسبكِ المكان؟"
قالت "نعم"
كادت تذهب ولكنه أمسك معصمها كما اعتاد أن يفعل فنظرت إليه كما فعل وقال وهو يمد يده لها ببطاقة ائتمان وقال "ستحتاجين هذه لم أنس أنكِ زوجتي"
ترددت قبل أن تقول "لست بحاجة إليها لدي ما يكفيني"
لم يترك يدها وقال "أعلم ما لديكِ وهو يخصك، أما الآن فأنتِ مسؤولة مني هيا تحركي كي لا تتأخري على الأولاد"
تحركت ولكنه لم يفلتها فعادت تنظر إليه فأشار بالبطاقة فأخذتها فقال "الرقم السري...."
هزت رأسها ونزلت ولم تنظر إليه وهو يتابعها بنظراته ولم يدرك كيف يثق بها لدرجة أنه يمنحها بطاقته ولكنه كان لابد أن يفعل فهي زوجته رغم كل شيء
لم تشعر بالوقت وهي تتنقل من مكان لآخر، واشترت أشياء كثيرة لها وللأولاد وزينة والعمة وأعجبها سويت شيرت له وترددت فهو لا يرتدي تلك الملابس إلا قليلا ولكنها اشترته بالنهاية، ولم تنسى أن تدخل أحد مراكز التجميل وتقضي به بعض الوقت خرجت منه بوجه أجمل بكثير
عادت قبل الغداء ولم تجده بالطبع ولا أحد بالفيلا سوى الأولاد بالحديقة فانشغلت معهم
****
دق مكتبه ودخلت السكرتيرة وقالت "الاستاذ مصطفى يا فندم"
نظر إليها وقال "مصطفى؟"
قالت "خطيب الآنسة زينة"
فنهض وقال "نعم، نعم دعيه يتفضل"
دخل مصطفى فاتجه تيم إليه ورحب به بقوة وجلس الاثنان سويا فقال مصطفى "عرفت أنك وصلت بالأمس"
أجاب "نعم، ما أخبارك سمعت أنك انتهيت من الشقة؟"
ابتسم مصطفى وقال "نعم لذا أتيت بمجرد أن عرفت بوجودك"
ابتسم وقال "وما الأمر المهم؟"
قال مصطفي "الزواج يا تيم، أريد أن أستقر وتكون لي أسرة الوحدة أمر سيء يا أخي"
حدق به لحظة ثم قال "نعم معك حق، حسنا وماذا لديك؟"
قال "نتفق على موعد الزفاف أنا لا أحتاج أكثر من شهر ما رأيك بنهاية الشهر"
ابتسم وقال "ألا نأخذ رأي من ستدخل القفص معك؟"
ابتسم مصطفى وقال "وهل يمكنني أن أفعل ما أفعل قبل أن توافقني هي عليه؟ لا يمكنني أن أفكر بشيء دون أن تشاركني هي به إنها قلب الروح يا تيم بدونها أفقد الحياة"
أبعد عيونه وقال "شعر هذا أم ماذا؟"
قال "بل هو الحب يا أخي، أنا أحب أختك بجنون ولا أعرف للحياة معنى بدونها، الحب يمنحنا سبب للحياة"
تأمله ثم نهض مبتعدا وقال "أنا لا أصدق بوجود الحب وأظن أنه نوع من التعود"
تبعه مصطفى وقال "وكيف ذلك؟ هل تساوي تعودك على مدير مكتبك أو سكرتيرتك بحبك لزوجتك أو العكس؟"
لم يرد فزوجته لا يربطه بها أي حب وهو أصلا لا يعرفه ليس بعد ما فعلته به مريم، التفت إلى مصطفى وقال "آخر الشهر مناسب كي يمكنني حضور زفاف صغيرتي قبل أن أذهب"
انفرجت معالم مصطفى بسعادة  "شكرا تيم أنا حقاً سعيد جدا بموافقتك"
واستأذن بالذهاب وظل ينظر إلى دخان سيجارته وهو يفكر كم كان تميم يتحدث عن الحب وكم كان يتمنى فتاة يحبها وتحبه، دق الباب مرة أخرى، دخلت السكرتيرة وقالت
“ دكتور أدهم يا فندم"
التفت إليها بقوة وظل يحدق بها لحظة قبل أن يقول "حسنا فليتفضل"
عاد إلى مكتبه وجلس وقد تسلل الغضب إليه ولم ينظر إلى أدهم عندما دخل واتجه نحوه وإنما رحب به بأدب وقال "أهلا دكتور أدهم تفضل"
جلس الرجل وقال "أهلا بك استاذ تيم حمدا لله على السلامة"
أشعل سيجارة من الأولى وقال من وراء الدخان "شكرا ولكن من أين عرفت بوصولي؟"
ابتسم أدهم وقال "ابن أخي يعمل لديكم بالشركة محاسب"
هز رأسه وقال "ترى كيف يمكنني أن أخدمك؟"
قال أدهم "بأن تقبل طلبي وتساعدني على تحقيقه"
اقترب تيم من مكتبه وقال "الذي هو ماذا يا دكتور؟"
قال أدهم بإصرار "الذي هو زواجي من عمتك"
ظل تيم ينظر إليه لحظة قبل أن يقول "أظن أنه أمر يخصها ولا يمكنني أن أتدخل"
أبعد أدهم وجهه وقال "نعم، ولكني"
نهض تيم واتجه ليقف أمامه وقال يقاطعه "ولكنك ماذا يا دكتور؟ الزواج ليس بالإجبار"
نهض أدهم ونظر بعيون تيم وقال "ليس إجبار يا تيم وإنما رفض عمتك لم يكن بسبب أنها ترفضني، أنا متأكد من ذلك"
تحدى تيم نظراته وقال "من أجل ماذا إذن برأيك؟"
قال "من أجلكم بالتأكيد، أنا أظن أنها تخشى أن تترككم ولكني شرحت لها أن بإمكانها البقاء معكم حتى تتزوج زينة، وترحل أنت للخارج ووقتها نجتمع ببيتي، أنا انتظرتها سنوات كثيرة ويمكنني أن انتظر أكثر ولكن لم يعد بالعمر بقية"
ابتعد تيم وقال بقوة "وطالما أن لم يعد بالعمر بقية فكيف تفكرون بالزواج بمثل ذلك العمر؟"
اندهش أدهم وقال "وما الذي يمنع زواجنا بهذا ؟ لم يحدد الله نهاية للزواج يا تيم وجعله حق لكل بالغ عاقل وأنا وعمتك كذلك"
لم ينظر إليه وقال "ولكنها لم توافق وأظن أنها على حق فلها حياتها وأولادها وعملها"
أجاب أدهم بفهم "نعم ولكن ألا تظن أن هذا ظلم لها لأنها لم تعش حياتها وأولادها سيكون لكلا منهما حياته المستقلة، والعمل لا يغني عن الوحدة شيء فلا تجعلها تحكم على نفسها بذلك المصير وساعدني على أن نمنحها حياة تستحقها"
نظر تيم إليه وقال "لا يمكنني أن أفعل لأني مقتنع بقرارها ولا أريدها أن تغيره"
ظل أدهم ينظر إليه لحظة قبل أن يقول "وربما تكون أنت من أقنعها بالرفض أليس كذلك؟"
ابتعد تيم ولم يجيب فقال أدهم "إذن أنت تظلم عمتك وتحكم عليها بأن تحيا ما تبقى لها في وحدة وحزن بدلاً من أن تبحث لها عن من يحبها ويمنحها الأمان والاستقرار"
وتحرك إلى الباب ثم توقف وقال "أعلم أنها أمك التي ربتك ولم تبخل عليك بشيء من حبها وحنانها وعمرها وهي لم تكن ملزمة بذلك ولكن ماذا فعلت أنت من أجلها لترد لها بعض من أفعالها، حكمت عليها بالوحدة ما تبقى لها، أهنئك يا تيم"
ثم تركه وذهب تاركاً إياه بين كلماته وكلمات زوجته وقد أصاب الاثنان ولكن غيرته وأنانيته تمنعه أن يعترف بخطئه فأطفأ السيجارة بغضب ونفض الأفكار عنه وهو يعود الى مكتبه ليدفن نفسه بملاذه الوحيد، العمل.
يتبع...

رواية الليلة الملعونة    بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن