الفصل الثالث

4.7K 221 7
                                    

الفصل الثالث


"بما أنني سأقص عليكِ كل شئ ،، لنبدأ من البداية" قالت يافا وقد فتحت عينيها الآن ونظرت إلى البعيد: " أنا ابنة رجلٍ مرموق" هنا تأكدت أن وزير النفط الذي يقف معها في تلك الصور هو والدها ، أصغيت لها وهي تتابع " أمي امرأة هشة جداً ، تمتعت بجمال فائق ، سلبَ لبّ رجل من غير جنسيتها ، كان لا يزال شاعراً في أول عمره يدرس معها في جامعة بغداد، حصل هذا عندما كانت في الواحدة والعشرين من عمرها ، أحبها لسنتين بصمت ثم تجرأ أخيراً للحديث معها،، بادلته أمي الحب .. كان حباً عاصفاً .. مشبوباً ومجنوناً ومندفعاً ، عندما اكتشف جدي هذهِ العلاقة رفضها بشكل تام ورفض الشاب لأنه لم يكن بمستوى عائلة أمي مادياً واجتماعياً كما أنه كان من فلسطين وهي ليست أفضل حالاً من العراق ، جدي رفض أن يرمي أمي لمجاهل الخطر والفقر بعيداً عن ترف المعيشة التي وفرها لها" نظرت إلي وقالت "لم يدركْ أبداً أن الحب يقتلُ هذه الفوارق ويزيح المسافات ويحيلها إلى عدم، جدي كان تقليدياً جداً" أدارت رأسها نحو النافذة وهي تقول "وأمي كانت ضعيفة جداً في حبها لـ "أحمد" وهو اسم الرجل الذي هامت به" عندها توضح كل شئ ! أحمد لم يكن حبيبها ،، بل كان حبيب والدتها ، إذاً فالدفتر الأخضر ليس مفكرتها هي .. بل مفكرة والدتها! .. كنت أفكر بهذا بينما هي تتابع قولها "ورغم أنها لم تعصِ يوماً لجدي أمراً إلا أنها قررت أن لا شئ يمكنه أن يبعدها عن أحمد حتى لو اضطرها هذا للهرب معه ، وهكذا أخبرته بنيتها للهرب ورغم اعتراضاته إلا أنه وافق آخر الأمر ، لم يعترض لقلةِ حبٍ منه إنما خوفاً عليها ولأنه أرادها أن تخرج من بيت جدي بعرسٍ لائق وزواج ترفع رأسها به أمام الناس ، لكن أمي لم تكن تهتم حقاً .. ولحبها له وافق ... هكذا اتفقا على الهرب وأن ينتظرها ذات منتصف ليل في المقهى الذي يقع في نهاية الشارع الذي يقع فيه بيت جدي أو ربما من الأصح أن أسميه قصر جدي ، وهربت إليه فعلاً ،، ولكنها لم تجده في المقهى ، بحثت عنه بين الطاولات بعينيها ولم تجده وهنا تقدم منها النادل سائلاً إذا كانت هي الآنسة أمل وعندما أجابته بالإيجاب قدم لها مظروفاً وهو يخبرها بأن السيد أحمد طلب منه أن يسلمها إياه .. عندها أحست أمي أن أحمد يهجرها ، وأنه رحل تاركاً لها اعتذاراً أحمقاً وقد كان فعلاً ، فعندما فتحت المظروف وجدت رسالة منه تتضمن قصيدة شعرية وكلمة اعتذار يخبرها فيها أنه لم يستطِع أن يخذل كل من أحبوها وأن يأخذها هكذا عنوة ، لم يستطع أن يقلل من احترامها ولا إهدار كرامتها وكرامة والدها رغم كرهه له أمام المجتمع فقط ليحظى بأنانية بحبها" توقفت ونظرت إلي وقد لاحظت تركيزي الكبير على ما تقول وعقلي يستوعب أيضاً الكلمات التي كتبتها والدة يافا في آخر صفحة إلا أن جزءاً صغيراً يتعلق بـ "الطفلة" التي ذكرتها ظل غامضاً ،، كان هذا ما يجول في فكري وأنا أرى ابتسامتها وهي تواصل " أحمد كان رجلاً بحق ،، إلا أن أمي وقتها لم تشعر سوى بالخيانة وبالخذلان ، لذا عادت إلى البيت مصممة أن تقتل حبها لأحمد وأن ترمي نفسها في إحدى الزيجات الاجتماعية التي حاول جدي مراراً فرضها عليها، وهكذا تزوجت أمي من أبي ، إبراهيم، الرجل الذي ناسب تطلعات جدي، ذا نفوذ وسلطة وثروة ، كان فارق العمر بينهما خمسة عشر سنة،، في وقتها كان أبي رجل تجارة وسياسة ، رجل حازم وصارم ، قد يكون أحبها لكنه أبداً لم يظهر هذا ، لا أتذكر أنه يوماً ابتسم لها بحب أو رأيت نظرة حنان وعطف منه لا لها ولا لي" أخفضت يافا رأسها تتأمل أصابعها وهي تهمس بحزن "أنا وأمي افتقدنا حنانه ورعايته، كنا نهتم ببعضنا ونحب بعضنا حتى ذاك إليوم الذي سمعت أبي وأمي يتجادلان بصوتٍ عالٍ حول شئ ما ، لم أقصد استراق السمع لكن صوتهما كان من الصعب تجاهله ، في أثناء الجدال مر أبي على ذكر اسم أحمد، كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها اسمه بعدها سمعت بضع احتجاجات من أمي وصوت بكائها بينما خرجت كلمات غاضبة من فم أبي التقطت منها "عشيقك" ، "ما زلتِ على ذكراه" ، "خيانة" ... عندها جحظت عيناي لأن عقلي شكل صورة لنوع الاتهام الذي كان أبي يوجهه لأمي بينما كان صياحها قد توقف وسكتت كلماتها الغاضبة واكتفت بالنحيب .. عندها فتح أبي الباب غاضباً ليجدني أمامه مسمرة كان يمسك بدفتر أخضر استقرت عليه وردة زهرية ،، وعندما رآني اتسعت عيناه بذهول ونقل نظره بيني وبين الدفتر ثم احمرت عيناه غضباً وعاد إلى أمي الراكعة على الأرض تنتحب رمى الدفتر إلى جانبها وأمسك بها من ذراعها وهو يصرخ بها "يافا" ؟!!! لقد أسميتها يافا لأجله ،، لأجله أيتها الـ .. وبدأ يشتمها بشكل مقرف وأنا لا زلت أقف على ذهولي ولكن مظهر أمي المنكسر أوجعني في الصميم فركضت إليه أحاول إبعاده عنها لكنه دفعني فسقطت أرضاً بينما زحفت أمي نحوي تحتضنني ، نظر إلي أبي بقرف وهو يقول "يا إلهي سأرآه فيكِ دوماً" رمشت غير قادرة على الفهم عندها خرج بغضب عاصف يرغي ويزبد حتى سمعنا صوت باب البهو يغلق وعندها حل سكون مميت لا يقطعه سوى نحيب أمي التي احتضنتني وهي تقول "كل شئ سيكون على ما يرام حبيبتي" ... بعدها عندما هدأت جلسنا في غرفتي وأمسكت بيدي وهي تقول "أصبحتِ في الخامسة عشر وأنتِ لم تعودي طفلة .. ولا بد أنكِ تنتظرين توضيحاً لما جرى" وعندها بدأت تسرد لي حكاية حبها لأحمد وكيف أنهما اتفقا أن يطلقا على ابنتهما اسم (يافا)" .. هنا لمع التفسير لسؤإلي الصامت عن الطفلة التي تحدثت عنها والدة يافا ،، فهي لم تكن سوى طفلة صنعتها مخيلة عاشقين. وتابعت يافا "ومدت يدها إلى الدفتر وسلمته لي وهي تقول " لم أستطِع أن أتخلص من هذا الدفتر .. ففيه كل ذكرياتي عن أحمد وعن نفسي عندما كنت لا زلت قادرة على الحب ... حاولت أن أحب والدكِ يا يافا لكنه لم يسمح لي .. ولم يسمح لكِ أيضاً ،، وأنا لا أستطيع أن لا أتذكر .. الذاكرة مرض صعب العلاج يا بنيتي.. أنا لست أماً سيئة أو امرأة خائنة كما قال أبوكِ عني .. أنا لم أتصل به ولم أتحدث إليه منذ تلك الليلة التي استلمت فيها خطابه.. وعندها بدأت أمي تبكي وهي تقول "أنا لستُ سيئة يا يافا" لم أتحمل منظر أمي باكية مكسورة القلب احتضنتها وأنا أخبرها أنها أفضل أم في الدنيا وأنها لم تخطئ في شئ" مدت يافا يدها نحو كوب الماء الموضوع فوق المنضدة ارتشفت القليل منه وأنا لا زلت في حالة ذهول مما سمعت فيافا لم تعش حياةً مطمئنة في ظل والد صارم وأم لا تستطيع نسيان حبها الأول ، عندها نظرت إلي وأدركت نظرة التعاطف فقالت "لا تسيئي فهم أمي ، قلت لكِ كانت هشة وضعيفة وأظن أن أحمد أعطاها حنأنا ورعاية لم تجدهما في جدي ولا أبي .. لذا كان من المستحيل أن تنساه ، وقد تستغربين أنني أيضاً من خلال حديثها عنه أحببته ، وتمنيت لمئات المرات أن يكون هو أبي وتخيلت كيف سيكون شكل حياتنا أنا وأمي معه .. مع شاعر مرهف الإحساس ورجل عاشق لا يستحي من إظهار مشاعر الحب والاهتمام لعائلته .. لاحقت كتاباته التي كانت في الدفتر الاخضر" عندها أشارت إلى الدفتر الموضوع بين الأشياء على الطاولة قرب السرير وأكملت بابتسامة "حقاً أحمد شاعر ممتاز ،، وقد أحببت كل كلمة كتبها وعشت معه بها وأحسست فيه .. وكنت أرى أمي من خلال قصائده بطريقة لم يرها أحد من قبل ،، كان يحبها جهراً وعلانية.. هكذا ومقارنة بقسوة أبي وحنقه خصوصاً بعد أن حقد علي لاسمي وكره أن يناديني به ومع المجادلات المستمرة مع أمي والتسبب بدموعها في كل مرة يلتقي بها ، صرت أتعلق بهذا الـ أحمد ،، وأشعر برابط خفي بيني وبينه ،، رابط كرابط الدم ،، أو ربما هو رابط الحب .. فأنا كان من المفروض أن أكون ثمرة حبه لأمي ،، بدل أن أكون ثمرة لزواج اجتماعي فاشل كل الفشل ، أحببت أحمد ،، وكان هو والدي الحقيقي" عند هذا الحد نظرت إليّ وهي تبتسم " سارا أظن أنني أؤخرك عن جولتكِ الصباحية" عندها نظرت إلى ساعتي وأدركت أن خمساً وأربعون دقيقة قد مرت على دخولي إليها عندها قفزت متذكرة عملي وأنا أعدها "سآتي حالما أنتهي من الجولة" نظرت إليّ بلطف وقد بدت أشبه بالملاك وهي تقول "سأنتظركِ" خطوت نحو الباب وقبل أن أخرج همست لي "شكراً" التفت إليها وأنا أبتسم لا أعرف على ماذا تشكرني ولم أهتم أن أسأل فقد شعرت أن شيئاً ما الآن جعلها تكون ممتنة لي ... ربما لأنني دفعتها إلى التكلم بصوت عالٍ عما هو انعكاس لكل ما تفكر فيه .. لكل ما فكرت فيه خلال الخمسة أشهر الماضية ،،، ماضيها هو الشئ الوحيد الذي يبدو أن يافا تفكر فيه .. وتعيشه !
بعد ساعتين عدتُ إليها فوجدتها ممددة على سريرها ، وعندما رأتني أدخل عليها قالت باسمة "هل تريدين سماع باقي القصة" ضحكت بخجل لأن فضولي كان مفضوحاً إلى هذه الدرجة "أردتُ أن أطمئن عليكِ ، وأسمع أيضاً " ضحكت بنعومة "حسناً" جلست على كرسي قريب من سريرها كتلميذ مدرسة يجلس أمام أستاذته بانتظار تلقي معلومات مهمة ،، لم أعرف حقاً لماذا أهتم بسماع القصة لكنني عرفت أنني أهتم بيافا جداً ، كانت صغيرة وضئيلة وتبعث شعوراً بالعطف والرقة لدى أقسى القلوب تحجراً .. تخللت يافا شعرها الذي أصبح خفيفاً جداً وتذكرت شكله في صورها ، طويلاً وكثيفاً وبراقاً فشعرت بغصة ألم ،، نظرت إلى أصابعها بأسى وهي ترى عدة شعرات كستنائية قد فرت هاربة وتساقطت بين يديها نظرت إليّ وهي تقول بسخرية تخفي خلفها ألمها المعتاد "عليّ أن أبحث عن باروكة مناسبة في القريب العاجل" ابتسمت لا أعرف بماذا أجيب وأخبرتها "تبدين جميلة دائماً ،، قد تظنين أن القليل من الشحوب وبضع خصل متساقطة تفقدكِ جمالكِ لكنكِ مخطئة،، أنتِ جميلة بروحكِ التي تشع لتنير وجهك جمالاً أيضاً" ارتسم الإشراق على وجهها وابتسمت بامتنان " كلامكِ شاعري جداً ،، أكثري من هذا الكلام مع خطيبك وسيجن جنونه" ضحكت رغم معرفتي التامة بأنها حولت الموضوع عنها بلطف حتى لا تتهمني بالكذب .. فقد رأيت بجانب الإشراق الذي شع به وجهها .. تعبير عدم الاقتناع والتصديق ... قالت أخيراً "لنعد إلى قصتي ،، حقاً يا سارة أشعر بالارتياح لأنني أخيراً أتكلم" ألقت نحوي نظرة امتنان أخرى وتابعت "بعد سنة من المجادلات بين أبي وأمي لم تعد أمي تحتمل العيش مع أبي وهكذا تطلقا ،، ولأن أبي كان صاحب نفوذ فقد رفض أن تأخذني معها ، وهذا ما أدمى قلبي وقلبها لأني أعرف أن أبي لم يهتم بي مثقال ذرة لكنه استخدمني وسيلة لجرح والدتي وإيلامها ،، لكنني وقد شهدت عذاب أمي معه شجعتها على الطلاق بعدما كادت تتراجع لأجلي ،، وأخبرتها أنني في غضون سنتين سأكون راشدة ولن يتحكم بي وعندها سأعود إليها ... وعلى هذا الأمل انفصلت أمي عن أبي ،، مما زاد أبي صرامة وقسوة في معاملتي ،، بعد سنة جاءت أمي لزيارتي ،، لم يعلم أبي بالامر فقد جائتني للمدرسة وقد استأذنت من المديرة أخذي معها ، كان اللقاء مشوباً بدموع الفرح وصيحاته .. الرجوع إلى أحضان أمي كان كالجنة .. بعد أن مضت سنة باردة من المكالمات الهاتفية المسترقة لأن أبي منع أي اتصال لي بها.. كانت أمي تبدو سعيدة ، سعيدة للغاية ، ومشعة كالألماس وعندما كانت ترفع يدها اليمنى بفنجان القهوة إلى شفتها عندها فقط انتبهت إلى خاتم الزواج المعلق بأصبعها .. نظرت إليها بتعجب فقالت لي أن هذا ما جاءت من أجله ،، وعندها أخبرتني عن لقائها المفاجئ بأحمد حبيبها القديم عندما كانت تحضر إحدى الأمسيات الشعرية التي كان هو أحد روادها .. أخبرتني أن زوجة أحمد الفرنسية توفيت تاركة له ابناً في الخامسة والعشرين .. وهكذا عاد حبهما القديم للاشتعال بعد أن اعتذر أحمد لتركه إياها خوفاً عليها ،، وبعد أن أصبحا حرين من قيود زواجيهما وقيود جدي ... حقيقة لم أعرف كيف تلقيت الخبر .. كانت السعادة تتآكلني وأنا أشعر بشوق عظيم للقاء أحمد ،، باركت لأمي وحين رأت سعادتي ازدادت سعادتها وأشرق وجهها حتى تهيأ لي مضيئاً بأجمل نور .. نور الحب الصافي والفرح الخالص ،، أخبرتني أنها ستسافر ثانية مع أحمد إلى لندن حيث يقيم أحمد حالياً حالما يتزوجان خلال شهر .. الأخبار أنعشتني وفرحت لأمي ولكن دار سؤال في بالي ويبدو أن أمي قرأته على وجهي إذ أمسكت بيدي وهي تقول بإصرار "خطتنا ما زالت كما هي .. لم يبقَ سوى سنة تتخلصين بعدها من قيود والدكِ وتأتين للعيش معي أنا وأحمد ،، أحمد متلهف لرؤيتك .. يقول أنه يشعر أنكِ ابنته .. يافا" ... عندها لم تعرف أمي كم كنت أنا أشعر بأبوته لي ...
هكذا انتهى لقائي بوالدتي ، وبعد شهر اتصلت لتخبرني أنها تزوجت وأنها مسافرة معه في اليوم التالي ،، سعادتي كانت لا توصف تخللتها بعض دموع الاشتياق ، وصرت لا أقوى صبراً على انتهاء السنة القادمة ،، لأدخل الثامنة عشر وأترك سجن أبي نحو حرية أمي وأحمد" عندها وقفت أستأذن يافا لأن موعد الغداء قد حلّ ،، بعد قليل أحضرت لها صينية الغداء ،، وراقبتها تأكل ببطئ ،، الشوكة في يدها ترتجف نظراً لعدم ثبوت يدها ،، شفاهها بيضاء كالقطن .. وبشرتها التي كانت تبدو في الصور قمحية وصافية بدت باهتة جداً .. شعرها الطويل يصل الآن إلى ما تحت أذنها ، خفيفاً وخالياً من اللمعان .. جسدها الذي كان في السابق كاملاً كأنه منحوتاً بدقة صار هزيلاً .. والهالات تحت عينيها اشتدت سواداً مع الأيام ... غداً جلسة علاجها الكيماوي ،، وانقبض قلبي ،، فبعد كل جلسة كانت تنهار على سريرها ليومين غير قادرة على فعل شئ أو الإحساس بالعالم الخارجي ،، كان من المفروض أن أكون متعودة على هذه المناظر ،، ولكني أبداً لم أرَ من هو أضعف وأقوى من يافا ،، كانت ضعيفة الجسد لا تحتمل أي ألم لكنها قوية الإرادة ،، ترفض أن يرى أحداً ألمها ،، لم تسمح لنفسها بأن تصرخ ألماً أو حتى تتأوه في أقصى حالات عذابها وحربها مع المرض .. لكني كنت أسمعها ليلاً عندما يصادف أن مناوبتي تكون ليلية عبر بابها الموصد تئنُّ وتبكي كطفل متألم .. رغم أني كنت أتألم لألمها لكني لم أقتحم يوماً خلوتها ،، ذلك لأنني أعرف أنها تتألم أكثر عندما تضطر لتمثيل دور الـ "بخير" وتخفي ألمها ،، لذا كنت أتوقف عند باب غرفتها أستمع لشهقاتها التي تمزق أقسى القلوب ،، حتى يتأوه قلبي معها .. ثم وبعد فترة تهدأ وأسمعها تردد بضع آيات قصيرة ثم يحل السكون .. عندها أعلم أنها نامت .. فأتحرك من مكاني وأنا أدعو أن يخفف الله عنها ألمها،،
أنهت طعامها ولم تكد تمسه، لم أعلق لأنني أعرف أنها لن تخضع لي ... ولم أرد أن أحملها فوق طاقتها بالضغط عليها ،، ابتسمت لها "صحتين" فأجابتني "على قلبك" رفعت صينية الغداء فقالت لي " عندما تنتهين عودي ،، فهناك قصة لم تكتمل" وغمزت لي ... سألتها "يافا ، لماذا تتحدثين إليّ، تقصين لي هذه التفاصيل عن حياتكِ ؟ لماذا أنا ؟ " نظرت إليّ وفي عينيها ألطف تعبير رأيته في حياتي " سارا ، أنتِ الوحيدة التي تهتم لأمري هنا ،، أعرف أن الأطباء يهتمون لكنهم يرونني مجرد حالة أخرى ميؤوس منها .. مريضة لا أكثر ، بينما أنتِ تنظرين إليّ كأنني إنسانة ،، ترين ما هو خلف مرضي ،، وأعرف بقلبي أنكِ تهتمين ، وتريدين أن تعرفي ،، الحديث عن الماضي يعيدني بشكل ما إلى يافا التي كنتها . رغم كل الألم الذي عشته ،، لكنني ما زلت سعيدة أني حظيتُ بتلك الحياة ،، فقد مر فيها عام من السعادة ، يساوي كل أيام عمري الذاهبة .. ثم .. " أخفضت رأسها بتعبير بائس "أخاف أن أموت والجميع يجهلني ،، فأُصبح منسية ، كأنني لم أكن .. " رفعت نظرها إليّ "أريدك أن تعرفي ،، حتى تتذكريني .. أريد أن يتذكرني أحد" دمعت عيناي لمرآها فوضعت الصينية على الطاولة وأخذت يديها الباردة وقلت لها " سوف تعيشين يا يافا ، وهناك الكثير يذكركِ ،، أمكِ ، أحمد .. زوجكِ" عندما أتيت على ذكر زوجها هاجم وجهها تعبير مثقل بالألم لكنني لم أستطع أن أبتلع كلامي فأكملت " حتى موظف الأمن في المبنى سأل عنكِ وقد رأيتُ كم يهتم بكِ ... أنتِ لستِ بالشئ الذي ينسى . صدقيني" ضغطت أصابعها الضعيفة على يدي وهمست "شكراً لكِ ،، شكراً ،، أنتِ نجمة مضيئة في سمائي طيلة هذه المدة" ربتُّ على يدها واستقمت "قلتُ لكِ أن تخبري هذا الكلام لخطيبي" ضحكت وقد علمت أنني أحاول أن أبهجها "هاتيه .. سأجر أذنيه وأخبره بكل الكلام الجميل عنك .. وقد أستعين ببعض قصائد أحمد" ضحكتُ أنا الأخرى وانسحبت بعد وعد مني أن أعود ما أن أنتهي من عملي ...
عدت عند المساء إليها وبعد أن أعدتها إلى سريرها .. أمسكت الدفتر وقلبت فيه قليلاً ثم حدثتني "بعد عيد ميلادي الثامن عشر لم أنتظر شيئاً .. استخرجت جواز سفر دون علم أبي .. وحجزت طائرة إلى لندن ، أخبرته أنني ذاهبة في رحلة مع صديقاتي إلى الشمال ولم يعترض ، فبعد أن أصبح مركزه أكثر حساسية وأرفع مستوى ما عاد يهتم نهائياً حتى بالنظر إلي .. كان همه الوحيد أن يجني المال ،، المال ثم المال ثم المال ،، هكذا أخذت حقيبتي واتجهت إلى المطار بعد أن رفضت أي حراسة حتى لا أثير الشكوك أثناء رحلتي وقد وافق أبي لأنه رأى صواب فكرتي .. ما أن يرى الناس طاقم الحرس حتى يعرفوا أني ابنة شخص مهم وهذا ما سيزيد من المخاطر .. وهكذا استقليت الطائرة نحو لندن ، كنتُ أهربْ ، أهرب إلى أحمد أكثر من أي شخصٍ آخر ،، أبحث عن ما لم أجده في أحضان ذاك القصر البارد مع رجل أبرد إلى دفئ كلمات أحمد ، روحي كانت ضائعة ومعه و به ومن خلاله ،، وجدت نفسي مكتوبة لأكثر من مرة في قصيدة خطها منذ زمن بعيد ، أحمد كان غايتي ،، ملجأي ،، وأخيراً بعد كل هذه السنين سنلتقي ،، سألتقي بحبيب العمر الذي لطالما حكت عنه أمي ، والذي لطالما شعرت أني أدين له بالولاء ، نعم كنت هاربة إلى أحمد أكثر من هروبي إلى أمي ،، فأمي لم تكن سوى جزء من أحمد وأنا لم أكن سوى جزء من كليهما ،، لم أشعر يوماً بالانتماء لوالدي ، ولا بالعاطفة الجياشة ، قد أكون أحبه ، بالتأكيد أنا أحبه ، لكنه أبداً لم يسمح لي بحبه كما قالت والدتي بالضبط ، منذ أن انفصلت عنه أمي وهو لم ينادِني باسمي قط أنا دوماً بالنسبة له "فتاة" أو "ابنتي" ، كنت أتألم وأنا أراقب المسافة تتسع بيننا، وهو يزداد قسوةً وغرقاً في العمل ، لم يعد هناك شئ يربطنا سوى اسمان متلاصقان في هويتي الشخصية ، غالبت دمعة أرادت السقوط ، فغلبتني وسقطت تتبعها أخريات ،، كنت أبكي لأجله ، لأجلي ، لأجل رابط الدم البارد الذي يجمعنا ، كم تمنيته يحتضنني ، يحبني ، أو على الأقل يتقبلني ،، لكنه لم يفعل ،، ربما حياته ستكون الآن أسهل بدوني ! عند هذه الفكرة انفجرت في البكاء، وأنا أدرك تماماً أنني سأفتقده ،، وبذات الإدراك أعلم أنه لن يفعل !
بعد عدة ساعات كنت في مطار لندن .. كانت أمي بانتظاري مع أحمد ،، الذي كنت متشوقة إليه كما كان يبدو متشوقاً إليّ .. رأيته يقف بجانبها .. أطول منها يرتدي معطفاً أسود فوق قميص ناصع البياض وسروال بسواد المعطف .. بدى مهيباً .. وجميلاً .. عندما اقتربت عانقتني أمي واعتصرتني بين ذراعيها وفعلت الشئ نفسه بعد عدة قبلات والكثير من الدموع اتجه بصري نحو أحمد فابتسم .. ظهر على خده الأيسر غمازة عميقة وضاقت عيناه العسلية بضحكة جميلة .. وجائني صوته الدافئ " وها هي يافا ،، كما كنتُ أريدها بالضبط" عرفتُ أنه يعني الابنة التي حلم بها مع أمي أيام شبابهما .. مد يده لي ليصافحني لكني شعرت بأن المصافحة سخيفة ورسمية وباردة بالنسبة لرجل شعرت أنه أبي مذ عرفت بأمره لذا ارتميت في حضنه ولأول مرة أشعر بحنان رجل .. حنان ملئ بموجات القوة والأمان .. أحاطني بذراعيه وطبع قبلة على شعري وهو يقول بتأثر "أهلا بكِ يا بنيتي" كان صوته جميلاً ودافئاً كإحساسي وأنا في حضنه ،، هذا هو أبي .. كدتُ أن أجزم .. بعد هذا اللقاء الرائع اتجهنا إلى الخارج .. البرد الإنكليزي خرق عظامي فقدمت أمي لي معطفاً كانت تحمله في يدها وقالت "عرفتُ أنكِ لن تتوقعي هذا البرد" قبلت خدها شاكرة وشعرت بحنانها الذي جعلها تفكر بأبسط التفاصيل ، ركبنا السيارة ونحن نثرثر ،، كأننا عائلة منذ الأزل ،، كأننا كنا على فراق واجتمع شملنا ثانيةً .. أحسست بأنني أخيراً في مكاني الصحيح ،، بعد ساعات وصلنا إلى البيت .. بيت جميل جداً تحيطه حديقة رائعة الترتيب .. رأيت فيها لمسات أمي .. البيت كان من الحجر القديم .. طرازه كان كلاسيكياً جداً ،، أخبرتني أمي أن عمره مئة سنة تقريباً وقد رمماه هي وأحمد حريصين أن لا يفقد شيئاً من شكله الأثري ،، دخلنا من البوابة الرئيسية وركن أحمد السيارة في الكراج .. أحاطت أمي بكتفي بينما أحمد يسير بجانبها .. واتجهنا نحو البيت .. كان باب البهو مفتوحاً يستند على حافته شاب في العشرينات .. يضع يديه في جيبي سرواله الجينز .. كان طويلاً .. أطول من أحمد وضخم البنية .. رشيق الجسد عريض الكتفين .. قال أحمد بفخر "هذا ابني .. آدم" عندها نظرت إليه وقد اقتربنا وعلى وجهي ابتسامة سرعان ما اختفت عندما رأيت تعبيرات وجهه .. عيناه كانت تشبه عيني أحمد لكنها لا تحمل أي معنى للطف وابتسامته التي أظهرت نفس الغمازة التي في خد أحمد كانت ابتسامة لا روح فيها لم تصل إلى عينيه .. شعره المائل إلى الاشقرار كانت تتلاعب بخصلاته الطويلة نسبياً نسمات الهواء البارد ،، نظر إليّ وعندها عرفت . عرفت أنه يكرهني .. لسبب مجهول هذا الشخص يكرهني بقدر ما يحبني والده وقد كرهته .. كرهته منذ اللحظة الأولى"



قراءة ممتعة..
يتبع...

على بحر يافا(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن