الفصل السادس عشر
عدت يافا نبضاتها البطيئة وهي تلقي برأسها على صدر أمها ... واحد ، اثنان، ثلاثة ، أربعة ... كان هناك شئ من العتمة الساكنة تشير إليها بالمجئ .. مغمضة العين كانت تذهب لا شعورياً نحو النقطة المظلمة .. عدت ، عشرة ،، أحد عشر ... ثم وفجأة صوت من بعيد جائها عالياً كأنه يتكلم بمكبر الصوت .. هناك من سحبها من صدر أمها ووجدت جذعها معلقاً في الهواء مستنداً إلى شئ لا تراه ولكنها تحسه جيداً .. بالطبع كانت هذه لمسة آدم .. هي لا تخطئها أبداً .. صاح بها "يافا" ثم اهتز جسدها .. بينما بدأت هي تعد تنازلياً لتوقف قلبها .. ثمانية ، سبعة ، ستة .. كان لا يزال يهزها .. خمسة ، أربعة ، ثلاثة .. كان قلبها يخفت . صوته ضعف ، نفسها تستكين .. ولكن دفعة هواء حارقة اخترقت فمها إلى رئتيها .. شفتان لحوحتان تعرف طعمهما واصلتا النفخ في فمها .. وصوته القادم من مكبرات الصوت الغير مرئية كان يقول بانفعال عاصف متوسلاً : "لا تتركيني .. لا تتركيني .. سأموت لو رحلتِ .. أنا أحبك .. أحبكِ يافتي" .. عندها فقط شهقت تستجدي أنفاسها .. وانتفض جسدها وهبطت من المجال الضوئي ساقطة على غيمة وردية .. قلبها استعاد النبض بشكل تدريجي .. أنفاسها المتلاشية عادت ببطئ .. ثم شعرت بقطرات مطر ساخنة تسقط فوق وجهها ويدين وهميتين تشدانها وصوته منهاراً يصيح بلوم : "أيتها المجنونة كيف تريدين تركي.." .. همست بضعف "آدم .. " ثم تلاشت اليدين عنها وهرب صوته .. ورائحة أنفاسه .. ضوضاء كثير كانت تزعج رأسها صوت هادئ يقول "سارا تقول أنها تستطيع سماعنا" التفتت تبحث بين الغيوم الوردية عن صوت سارا فوجدته .. لكنها لم تكن توجه الحديث لها بل كانت توجهه لشخص آخر وقد بدا صوتها مرعوباً "هل نعطيها شئ دكتور" أجابها صوت عرفته ،، إنه صوت الدكتور علي .. لم تركز على ما كان يقوله ، حاولت أن تلتقط ثانية صوتَ آدم لكنه اختفى تماماً ... نظرت إلى أعلى .. كانت بقعة الضوء الأبيض قد اختفت كذلك.. صدرها أوجعها .. لقد اشتاقت لأمها .. جميلة ونضرة كما في السابق .. وليس كما رأتها آخر مرة .. أغمضت عينيها .. لا تريد أن تفكر في الأمر .. صوت مزعج .. مزعج جداً .. ضايق أذنيها .. هذا الصوت الخبيث الفرنسي الرفيع تعرفه تماماً .. ألم تحطم صاحبته حياتها بكل جدارة .. فتحت عينيها على مضض .. سيلين تدخل بكامل ميوعتها إلى غرفة الجلوس في بيت سيمون بثوبها الفاضح وملامحها المغناجة .. لم تلتفت إلى أحد .. ركزت نظرها على آدم الجالس بجانبها .. اغتاظت يافا تماماً .. هذه المرأة الوقحة .. قالت بصوت متلهف "آدم شيري" وتقدمت نحوه بينما وقف هو وعلى وجهه ملامح غامضة : "أهلاً سيلين" قبلته على خديه دون أن يمنعها مما أشعل قلب يافا غيرة وحقد على هذه المخلوقة التي راحت تتحدث إليه بفرنسية مطلقة دون مراعاة وجودها .. ثم التفتت نحو سيمون وقالت شيئاً ما وضحكت بينما سيمون ردت عليها بابتسامة مضطربة وحولت نظرها إلى يافا بعينين قلقتين .. لكن يافا ردت عليها بابتسامة حاولت أن تبدو مشرقة .. قال آدم بعد أن انتهت سيلين كلامها وعلى وجهه ابتسامة " شكرا لكِ سيلين ،، " ثم التفت نحو يافا التي كانت عيناها تعصفان بالغضب .. وابتسم ثانية وهو يقول "أقدم لكِ خطيبتي يافا .. تقابلتما مرة .. يافا حبيبتي هذه سيلين ، صديقة العائلة" نظرت يافا إليه نظرة تقول "أيها الوغد تقصد صديقتك" ازدادت ابتسامة آدم اتساعاً عندما فهم معنى نظرتها .. التفتت يافا نحو سيلين وابتسمت ببرود : "أجل أذكرها .. مرحبا" نظرة باردة كالجليد وابتسامة لم تصل إلى عيونها ارتسمتا على ملامح سيلين وهي تجيب "أوه صحيح لقد وقعتِ في البحيرة" ثم أطلقت ضحكة وهي تقول "مرحبا عزيزتي" استشاطت يافا غضباً .. وكادت أن ترميها بفنجان القهوة عندما جلست على المقعد وعادت توجه الحديث لآدم بالفرنسية وهو يجيبها بنفس اللغة بينما سيمون ترمق يافا بشفقة .. ويافا تكاد تقتلع عينا سيلين الخبيثة وتضرب آدم .. عندما جاءت الخادمة تعلن لسيدتها أن الغرفة قد تم تجهيزها .. استقامت يافا واقفة بشموخ "اعذروني جميعاً أنا متعبة وبحاجة إلى الراحة" نظر آدم إليها كأنه تذكرها فجأة .. "حسناً حبيبتي سأدلك عليها" لكنها ابتسمت له ابتسامة صفراء "واصل حديثك حبيبي .. الخادمة ستدلني" ثم تجاهلت سيلين تماماً ورمت بابتسامة شكر نحو سيمون وهربت تلحق بالخادمة وهي تغلي من الغضب .. ذلك الوغد ستقتله لتجاهلها .. إذا كانت سيلين تسترعي انتباهه لهذه الدرجة فلماذا إذاً خطبها .. الأحمق الوغد .. الـ .. ووصلت تطلق عليه كل النعوت القبيحة في عقلها حتى أنها لم تنتبه لجمال غرفتها أو للمنظر الخلاب الذي تطل عليه .. بل راحت تفرغ حقيبتها بعصبية بعد أن صرفت الخادمة التي أرادت القيام بهذا العمل .. أخرجت قميص نومها ومنشفتها واتجهت إلى الحمام بخطوات حانقة .. تحت الماء كانت لا تزال تبحث في عقلها عن كل النعوت السيئة لتصفه بها .. سمعت صوته يأتي من خلف باب الحمام الملحق بالغرفة ، "حبيبتي ،، " كانت تنشف شعرها .. فأسرعت تنشف جسدها وارتدت ثوب النوم المحتشم وخرجت له عاصفة "إياك أن تناديني حبيبتي هل تفهم .. أنت تثير قرفي" رفع حاجبيه "حسناً ما بكِ؟" صاحت بوجهه " ما بي؟ كنت تتحدث مع تلك الأفعى بالفرنسية طوال الوقت متجاهلاً إياي و تركتها تقبلك على خدك .. لن أسمح لك بإهانتي علناً يا آدم أحمد هل فهمت" وجهها المحمر غضباً أثار رغبته للضحك فلم يمنع نفسه من إطلاق ضحكة تحت أنظارها الحانقة " يا إلهي .. كم تبدين جميلة وأنتِ غيورة" صاحت وهي ترميه بالوسادة "أيها الـ ... " تفادى الوسادة ببراعة وتقدم إليها يحملها وهي ترفس وقال باستمتاع ظاهر" أيتها الحمقاء ألم تفهمي؟ لقد كنتُ أثيُر غيرتكِ ، سيلين لا تعني شيئاً لي وعندما دخلت ووجدت كيف تحفزتِ كقطة تدافع عن صغارها قررت أن أريكِ ما شعرت به عندما كنتِ تتقافزين أمام ذلك الـ هيو .. أتذكرين؟" فغرت يافا فمها بينما تعالت ضحكاته "كان الأمر ممتعاً حقاً" ضربت بكلتا يديها صدره وهي تصيح به "أنتَ شرير" .. لم يبالي بضرباتها بل انحنى يقبل جبينها "شرير وأحبكِ" التفت يداها على عنقه "كم؟" عيناها المتسعتين .. بلمعة امرأة عاشقة جعلته يقف متسمراً في مكانه وهمس بصوت متقطع الأنفاس "تبدين مثل طفلة تترقب قالب حلوى .. يا إلهي يافا .. كم أنتِ متسامحة معي " ابتسمت في وجهه " أنا أسامحك دائماً وأبداً .. أنتَ حبيبي وبرجي الشامخ" دس أنفه في شعرها المبلل واستنشقه مغمض العينين "أخاف أن أخذلكِ" همست له بثقة "أبداً لن تفعل .. أنا أؤمن بك" اشتدت يده على جسدها ثم رفع رأسه وقال بجدية "ما أن تنتهي امتحاناتكِ حتى نتزوج .. لن أصبر أكثر" اتسعت عيناها دهشة وأخذت نفساً عميقاً محاولة أن تُهدئ نبضاتها .. ثم عادت تبتسم بحنان "أمرك" دار بها حول نفسه ثم أنزلها .. "تعالي اجلسي سأمشط لكِ شعركِ" .. فعلت كما أراد وبينما المشط يتخلل شعرها سألته بحنق مصطنع "هل الشمطاء ما زالت هنا؟" ضحك بشدة "كلا .. لقد رحلت" تمتمت من بين أسنانها "إلى جهنم على ما أتمنى" واصل ضحكه "بل إلى بيتها" ..
الأيام التالية كانت كحلم جميل .. أخذها آدم إلى أماكن متعددة في غراس .. اشترى لها أغلى أنواع العطور وحمل لها في كل صباح باقة ورد بلون مختلف .. سيمون كانت تراقبهم بعيون مستمتعة .. فالحب كان واضحاً عليهما .. بعد أسبوع ودعاها .. فيافا لديها امتحانات يجب أن تحضر لها .. عانقت سيمون يافا وتمنت لها زواجاً سعيداً ووعدتها أنها ستحاول أن تحضر العرس إذا ما استطاعت ... استقبلهما أحمد ووالدتها في المطار بلهفة من لم يرهما لأشهر .. وعادت بعدها الحياة إلى طبيعتها .. يافا استسلمت اخيراً وقادت سيارتها الوردية .. كانت مشغولة جداً في مذاكرتها بينما آدم يحاول بكل الطرق دعمها فحتى عندما يخرجان كان يطلب منها أن تحضر كتابها ليختبرها .. كانت في أحيان كثيرة تدرس لأجله هو .. حتى تجيب على كل سؤال يسألها إياه .. وهكذا بدأت امتحاناتها .. وكادت أن تخور قواها عندما انتهى أخيراً آخر الامتحانات .. رمت يافا الملزمة من شباك سيارة آدم لأنه اليوم كان قد أوصلها وعاد يأخذها .. ضحك آدم "ربما قد تحتاجينها" أجابته بمرح "سأشتري غيرها .. لا شئ يضاهي متعة رميها .. لقد كادت أن تصيبني بعقدة نفسية" .. راقبها باستمتاع ثم أخذها إلى مطعم جميل ليحتفلا بانتهاء الامتحانات .. بعد ذلك انغمست يافا في تحضيرات العرس .. لم تعد ترى آدم كثيراً لأنه كان يحاول أن يرتب أعماله ليستلمها مساعده الأمين عند غيابه في رحلة شهر العسل والتي لا زال يرفض أن يخبرها إلى اين .. وهكذا حل يوم العرس .. في يوم نيساني جميل .. قبل ذلك بيوم كانا قد عقدا قرانهما في المسجد والمحكمة .. وها هي اليوم تتزين بأجمل فستان أبيض .. ترفع شعرها بكعكة ملكية .. تستلقي تحتها طرحة شفافة جميلة .. بيدها تمسك باقة ورد بيضاء جميلة .. عيونها مرسومة بإتقان بالكحل .. عينان زرقاوتان كبحر يحيطه الليل .. شفتان بلون الورد .. زهريتان لامعتان .. قرطان من اللؤلؤ هدية من أحمد .. حذاء كرستالي شفاف .. اشتراه آدم لأجلها خصيصاً من باريس .. وهمس لها عندما قدمه لها قبل أسبوع من حفل الزفاف "لتكوني سندريلا .. لكن الساعة الثانية عشر لن تأتي أبداً .. لأنني لن أسمح لكِ بالرحيل يا حبيبتي" عانقته يومها سعيدة وهي تؤكد له "أبداً لن أرحل" ...
استقلت يافا السيارة مع أحمد ليوصلها إلى قاعة الاحتفالات لكنه سلك طريقاً آخر سألته باستغراب "أحمد نحن لسنا في الطريق الصحيح طريق القاعة على اليمين حبيبي" ابتسم لها فبانت غمازته الشبيهة بغمازة ابنه "أي قاعة؟" نظرت إليه غير مرتاحة لنظرته العابثة .. ما الذي يخبئه؟ "القاعة التي أمضيت شهراً أجهزها لعرسي" أرجع راسه للوراء وهو يقول "آآآه تلك القاعة .. انسي أمرها صغيرتي .. آدم لديه ترتيبات أخرى" صاحت "ماذا .. لا .. ما الذي يجري .. آدم سيخرب ليلة عرسي .. هذا الأحمق" ضحك أحمد وهو يراها تستشيط غضباً " في الحقيقة أظنه سيجعلها أجمل .. فما رأيكِ أن تسترخي وتفكري في ليلة عرس جميلة" وغمزها بنظرة شيطانية استحال على أثرها خداها إلى لون زهري غامق .. ليلة عرسها؟ هي لم تفكر بماذا سيحصل بعد الحفل .. في الحقيقة كانت تخاف أن تفكر .. حتى أنها رفضت أن تستمع لأمها محاولة أن تشرح لها الأمر .. واكتفت بأن تقول لها بأنها تعرف .. الليلة ستكون ملك آدم .. وهو سيكون ملكها .. غارقة في أفكارها لم تنتبه إلى أنهما وصلا .. جائها صوت أحمد ينتشلها من أفكارها الخاصة "لقد وصلنا" نظرت إلى المكان وصاحت "هايد بارك؟ هذا المجنون" ضحك أحمد "القادم مذهل أكثر" نزلت من السيارة بمساعدة أحمد وهي تقول "يا إلهي لا أستطيع أن أصدق .. هذا الرجل يتجاوز أكثر أحلامي بالرومانسية جنوناً" ابتسم أحمد وهو يشعر بالفخر "آدم رجل رائع عندما يحب" نظرت إلى البعيد بحنان "أجل أنه رائع" أخبرها أحمد مازحاً : "هيا يا أميرة لدينا قارب بانتظارنا" صاحت برعب "قارب؟ كلا مستحيل .. لو اهتز ووقعنا سيستحيل ثوبي خرقة .. وكما أنني سأموت قبل أن أحتفل بزواجي لأني لا أعرف كيف أسبح" ضحك أحمد من قلبه "يا إلهي كم تثرثرين عندما تكونين متوترة.. لا تخافي ستكونين بخير" قادها إلى جانب البحيرة حيث كان هناك قارباً بانتظارها .. سلم صغير كهذا الذي يهبط عليه الركاب من الطائرة لكنه أصغر كان موضوعاً على الجرف مؤدياً إلى القارب عليه سجادة حمراء ملكية "يا إلهي ... هل فعل هذا من أجلي؟" ابتسم أحمد "قوة المال صغيرتي .. و حسناً الرجل مجنون بكِ" هبطت بحذر على السلم ثم تلقت صدمتها الثانية عندما نظرت إلى القارب .. القارب كان مزيناً بكل أنواع الزهور حتى اختفى الخشب .. كان كأنه قارب زهري وليس خشبي .. في داخله انتظر رجل يمسك مجذافين يرتدي بدلة رسمية .. صاحت بفرح "رااااائع" ما إن استقرت مع أحمد داخل القارب حتى بدأ الرجل يجذف نحو الطرف الآخر من البحيرة .. كانت تقف ممسكة بذراع أحمد تنظر بلهفة إلى الجرف المقابل .. لمحت أضواء كثير وخيالاات ناس تتحرك وكلما اقتربت وضحت الرؤيا .. الأشجار كلها كانت مزينة بأضواء جميلة بيضاء .. وأناس بأزياء سهرة كانوا مشغولين بالحديث لكنهم انتبهوا لوجودها فتحركت كل الوجوه ناحيتها .. بحثت بيأس عن آدم فوجدته يقف قرب السلم الذي يشبه ذاك الموجود على الجرف ذاك .. مهيباً .. طويلاً .. عريض المنكبين .. تستقر الشمس في ذهبية شعره .. يردتي بدلة سوداء مع قميص أبيض .. ويعلق وردة تشبه زهور باقتها في عروة سترته .. كان ينتظرها بلهفة .. قرأت هذا على وجهه والرجل يوقف القارب عند السلم تماماً .. هبط آدم السلم بخطوات هادئة وفي عينيه تعبير غامض مزيج من الحب واللهفة والفرح .. مد يديه إليها وهمس "تبدين خيالية" لمعت عيناها بدموع الفرح واختنق صوتها عندما أرادت أن تجيبه وضع إصبعه على فمها "إلا دموعكِ يافا ،، إلا دموعك" ابتلعت غصتها وهمست بتأثر "لقد فعلت كل هذا من أجلي .. " ابتسم حتى ظهرت غمازته الجميلة "نعم .. لأنكِ أميرتي .. ولا يليق بكِ عرس أقل من هذا" نظرت إليه وقالت بشئ من الحنق المصطنع "وجعلتني أحضر لشهرٍ القاعة" ضحك "سامحيني .. لقد أردتُ أن أجعلها مفاجأة" ابتسمت له من جديد "مفاجأة رائعة" تنحنح أحمد وقال "حسناً ما رأيكما أن تنهيا الحديث في الحديقة ، أريد أن أستريح من وقفة القارب المرتجفة هذه" ..ضحكا معاً .. مد يده إليها في دعوة صامتة فوضعت يدها في يده وهبطت القارب وصعدت معه السلالم يتبعهما أحمد .. حبست أنفاسها لجمال الزينة المحيطة بها .. طاولات صغيرة بشراشف جميلة الألوان .. زهور في كل مكان .. شموع .. موسيقى .. كل ما يجعل الجو عاطفي .. كان هناك .. انهالت عليهما التهاني من هنا وهناك .. أشخاص تعرفهم وأشخاص لا تعرفهم .. لكنها كانت تضحك وتبتسم وتستمتع بكل تهنئة .. إنها الآن السيدة يافا آدم أحمد أمام الجميع .. أمها تألقت بفستان بلون الكريما .. عانقتها باكية .. وكذلك عانقها أحمد الذي كان يغالب دموعه .. افتتحا الرقص برقصة "سلو" عيناها لم تفارق عينيه .. كانت هناك كامرات تصوير كثيرة تلتقط الصور .. بعضها كما أخبرها آدم .. صحف تحاول نشر خبر زواج رجل الاعمال المشهور آدم أحمد وآخرون يحاولون نشر تفاصيل عرس رومانسي .. ضحكت يافا وقالت "يبدو أننا سنصير مشهورين" غمزها آدم "أجل .. " بعدها طلب منهم المصور أن يقفا معا لصورة العرس الرسمية تعلقت بذراعه لكنها لمحت من بعيد أفعى تتلوى تسير باتجاههم .. سيلين بثوب ذهبي فاضح كالعادة تقدمت إليهم وقاطعت صورة عرسهما .. قبلت أدم على خده مرتين وقدمت تهنئة باردة ليافا التي استشاطت غضباً عندما ابتعدت عنهما همست يافا بحنق "أيها الوغد هل كنت تثير غيرتي الآن أيضاً؟ .. لقد قبلتك" همس لها وقد غامت عيناه بتعبير منزعج لشتيمتها "أنا نصف فرنسي يافا .. القبلة على الخد لا تعني شيئاً" أجابته بذات الحنق "جيد إذاً سأقبل الرجال على خدهم من الآن وصاعداً فالأمر لا يعني شيئاً" تقصلت عضلات ذراعه المستقرة تحت يديها "سأقتلكِ إن فعلتِ" قالت بهدوء "تباً لدمائك الفرنسية أيها المنافق" وقبل أن يجيب جائهما صوت المصور .. "ابتسما" رسمت يافا ابتسامة متجهمة على وجهها ماثلت ابتسامة آدم .. بعد الصورة ابتعدت عنه وراحت تتحدث مع سيمون التي تمكنت من حضور الحفل .. بعد عشر دقائق .. جائها آدم يحمل في يده قنديلاً من تلك المعلقات على الشجرة انسحبت سيمون ما إن رأته قادماً لتمنحهما بعض الخصوصية .. أدارت يافا رأسها بعيداً عنه لكنه قال بهدوء "انظري إلى هذا القنديل" وجهت نظرة سريعة له وهي تسأل" ما به؟" أجابها بجديه "أنتِ كهذا القنديل في حياتي ، تضيئينها.. وعندما لا تبتسمين يخفت هذا القنديل .. فأتخبط في العتمة .. فهل يقبلها قلبكِ أن يتركني أتخبط؟" نظرت إلى القنديل ثم إليه .. عيناه فاضتا بالحب .. أخفضت رأسها بينما قال "أعتذر .. أحياناً لا أستطيع أن أتخلص من بعض طباعي التي يفرضها دمي الفرنسي" أمسكت بيده ورفعت رأسها "أنا التي عليها أن تعتذر .. آسفة ما كان علي أن أقول هذا" كشر بابتسامة طفولية "حسناً ما رأيكِ أن نتجه إلى أقرب شجرة ونعلق القنديل لأنه كاد يحرق يدي" ضحكت بمرح واتجها إلى شجرة قريبة حملها من خصرها لتعلق القنديل ،، ثم سحبها بعد ذلك لحلبة الرقص وهو يقول "سأبروز صورتنا المتجهمة تلك .. أظن أنها أسوأ صورة عرس على الإطلاق" .. ضحكت وهي تدور بين يديه "ستكون مزحتنا السرية"... وهكذا عادت تستمتع بحفلها .. بينما اختفت الأفعى من مجال رؤيتها تماماً .. وعادت الليلة لتكون ليلة خيالية .. وعندما قاربت الساعة على منتصف الليل .. سرق آدم يافا وهرب بها .. تاركاً الآخرين يكملون احتفالهم .. وصلا السيارة مقطوعي الأنفاس لأنهما كانا يركضان .. ضحكهما خرق سكون الحديقة .. قالت يافا وهي تحاول حشر ثوبها في السيارة " سيظنون أننا غرقنا في البحيرة" أجابها آدم وهو يساعدها في مهمتها "لا تخافي قلتُ لأبي أننا ذاهبان لبيتنا" عند كلمة "بيتنا" التقت عيناهما .. فاضت عيناه حباً ورغبة بينما ارتبكت عيناها .. ابتسم وتركها ليجلس في مقعد السائق ويقود السيارة بسرعة معتدلة نحو شقته التي أعادت يافا ترتيبها كما أرادت كما أنها استبدلت غرفة نومه القديمة بغرفة جديدة اختاراها معاً .. وغيرت الستائر وبعض السجاجيد وأدوات المطبخ وأضافت بعض التحف واللوحات .. اكتفى آدم بأن يمسك بيدها ولم يتحدث بل ترك مسجل السيارة يبث موسيقى ناعمة .. عندما وصلا .. هبطت يافا بارتباك بمساعدة آدم .. الذي لم ينطق .. دخلا المبنى واستقلا المصعد في صمت .. عند باب الشقة حملها آدم ودخل .. تعلقت بذراعه وشعرت بأنفاسها تتسارع .. في الداخل أخبرها آدم بلطف : "ما رأيك أن تغيري ملابسكِ ريثما أعد لنا فنجاناً من الشاي؟" هزت رأسها موافقة وهربت إلى غرفة نومهما وما أن دخلت حتى وقعت عيناها على السرير الضخم المغطى بشراشف جميلة مصنوعه باليد .. وعليه استقر ثوب نومها الذي اختارته لليلة عرسها .. خطفت القميص الأبيض الشفاف وهربت إلى الحمام وراحت تنظر إليه برعب تقريباً ... بصعوبة خلعت طرحتها وثوبها .. ثم وقفت تحت الدش تزيل عن جسدها البودرة والمكياج وتحرر شعرها من تسريحته وتتركه للماء لينساب على ظهرها .. بعد عشر دقائق أغلقت حنفية الدش وأخذت منشفة من على الرف المثبت على أحد جوانب الحمام ونشفت جسدها وشعرها ثم ارتدت ثوب نومها وحمدت الله أن مرآة الحمام لم تظهر منها إلا وجهها ورقبتها .. لأن المرآة لم تكون كبيرة جداً وكما أن آدم ثبتها لتناسب طوله .. وهكذا فإن وجهها كل ما استطاعت أن تراه .. لم ترَ أن الفستان كان ينساب على جسدها بنعومة مظهراً حناياه الجميلة .. فبدت بكامل أنوثتها .. مشطت شعرها سريعاً وخرجت .. كان قلبها يقرع بشدة ولكن الغرفة خالية .. من على منضدة الزينة أخذت عطرها ورشته حول نفسها متجنبة النظر إلى نفسها .. صوت آدم جعلها تقفز وتوقع العطر وهو ينادي من خلف الباب :"الشاي جاهز" نادت "حسـ .. حسناً" ومشت بخطوات بطيئة مترددة نحو الباب وفتحته .. كان آدم يدير ظهره لها وهو يضع صينية الشاي على الطاولة .. عندما التفت برقت عيناه بشدة وهي تنزلق على تقاطيع جسدها في ثوب النوم الرقيق ثم إلى وجهها النظيف الخالي من الزينة .. ابتلع ريقه وأجلى حنجرته وتقدم نحوها بخطوات بطيئة .. بينما بذلت جهداً جباراً حتى لا تتراجع وتغلق الباب بوجهه .. أمسك بكتفيها ونظر إليها واستطاع أن يقرأ الخوف في عينيها .. طبع قبلة على جبينها وهمس "كأنكِ قطعة من السماء .. ملائكية جداً حبيبتي" أنفاسها المضطربة بدأت تنتظم قليلاً .. ابتعد عنها وابتسم "هيا لنتناول الشاي" جلسا مقابل بعضهما على الطاولة وارتشفا الشاي .. حاول أن يفتح حواراً لطيفاً عن الحفل فتجاوبت معه ببطئ .. لكنه استطاع أن يبث بها الحماس حتى صارت تضحك باسترخاء .. بعد الشاي نهض .. فعادت عيناها تنظر إليه بقلق مد يده نحوها وقال "تعالي سأريكِ شيئاً" وضعت يدها في يده بتردد ونهضت .. مشيا إلى الغرفة التي طلب منها آدم أن لا تغير فيها شيئاً .. كانت غرفة مهجورة تقريباً .. طلب منها "أغمضي عينيكِ" أغمضت عينيها وقلبها يدق بسرعة أدار مقبض الباب ثم أمسك بيدها يدخلها وعندما أصبحا وسط الغرفة قال لها "افتحيهما الآن" عندما فتحتها صاحت بمفاجأة .. الغرفة المهجورة تحولت لمرسم جميل فيه كل أدوات الرسم ومسند اللوحات ورف تستلقي عليه كافة أنواع الأصباغ وطاولة عليها كل أنواع فرش الرسم .. ومقعد جميل لتجلس عليه أثناء الرسم وهنا أريكة حمراء في أحد الجوانب .. ولوحات منثورة هنا وهناك .. صاحت بفرح "آدم يا إلهي هذا رائع" ودون أدنى تردد استدارت نحوه تحتضنه .. شد ذراعيه حولها ودار بها وهو يقول "سعيد أنه أعجبكِ .. هذا مرسمكِ .. من اليوم تستطيعين أن ترسمي كما تشائين" دموع ترقرت في عينيها "شكراً حبيبي شكراً" أنزلها على الأرض وهو يقول "لا داعي للشكر حبيبتي.. أحب أن أراكِ سعيدة" أكدت له "أنا سعيدة جداً" وراحت تنتقل مثل الفراشة بين أشياء الرسم بعد ربع ساعة أخبرها "هيا يا حبيبتي حان وقت النوم" سقطت منها فرشاة الرسم التي كانت تتأملها ونظرت إليه بارتباك .. تقدم نحوها بينما علم أنها تنهر نفسها بشدة من التراجع .. رفع يدها إلى شفتيه "لا تخافي يافا .. ليس اليوم .. فالأمر مميز لدي جداً .. يعلم الله كم أريده الآن .. لكنني لن أقبل إلا أن يكون مثالياً .." سألت بعد أن شدتها كلمته الأخيرة "وكيف يكون مثالياً؟" ابتسم بحب "في يافا" فغرت يافا فمها باستغراب "يافا؟" .. ابتسم "حيث سنقضي شهر عسلنا .. قال أحمد أنكِ تتوقين لزيارتها .. كما وفكرت أنه سيكون من الجميل أن نذهب إلى مكان اسمكِ على اسمه .. " عيناها فاضتا بالحب وبالشكر وبالفرح ... وكاد قلبها أن يخرج من صدرها وهمست بالكلمة الوحيدة التي تشعر بها "أحبك" قبل جبينها "أحبكِ كثيراً.. والآن علينا أن ننام حتى لا تفوتنا الطائرة" يداً بيد خرجا من المرسم .. وحب كبير يرفرف على قلبيهما .. فكرت يافا .. "سنكون معاً .. على بحر يافا" وعند هذه الفكرة .. استلقت في حضنه بوداعة ونامت ..قراءة ممتعة..
يتبع...
أنت تقرأ
على بحر يافا(مكتملة)
Romansaرواية بقلم الكاتبة بلقيس علي "مُشتاقة" حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي..