الفصل السادس والعشرون

2.1K 128 2
                                    

الفصل السادس والعشرين:



ثلاث أشياء كانت تحدث في خط زمني واحد .. يافا كانت تستعيد رونقها الطبيعي الذي سلبه منها تأثير العلاج الكيماوي .. بشرتها لم تعد نضرة كما في الصور لكنها لم تكن شاحبة كالموتى كذلك .. بعض اللحم كسا تجاويف عظامها البارزة .. الهالات صارت أخف تحت عينيها .. وشعرها بدأت تدب فيه الحياة .. وجهها كان يشرق بابتسامة حقيقة توحي بسعادتها .. ورغم أنني أراها أحياناً تشرد عندما لا يكونُ آدم حولها إلا أنني كنت أشعر بسعادة غامرة لتحسنها .. حالتها النفسية أثرت كثيراً على وضعها الصحي .. الآن وأنا أسمع ضحكتها النابعة من القلب أتذكر المرات الكثيرة التي شاركتني فيها الضحك طيلة الخمسة أشهر التي قضتها وحيدة لأعلم أنها لم تكن تضحك في الحقيقة بل كانت تلك التموجات العالية التي تخرج من صوتها ما هي إلا وجه مفرح لألم مبرح .. لكنها اليوم تضحك بسعادة .. وهذا أسعدني .. الشئ الوحيد الذي كان ينغص عليها عيشها هو رغبتها في رؤية أحمد .. والذي رفض مقابلتها هي وآدم بعد أن تم طلب الأذن من طبيبه .. أخبرها آدم أن طبيبه قال أن أحمد يرفض بشدة أن يراهما .. مما جعلها تحزن كثيراً .. آدم الذي اعتاد هذا الرفض حاول أن يخفف عنها .. ويبدو أنه نجح ..
الشئ الثاني الذي كان يحصل في نفس الوقت هو تطور علاقتي مع والد سامر .. الآن بعد أن كان دوماً السيد رائد صار عمو رائد .. لا أعلم ما الذي قالته له يافا لكنني ممتنة لكل ما قالته لأن عمو رائد أصبح أخيراً مهتماً بمعرفة كنّتِهِ المستقبلية .. حتى أنه أخذني مرة في نزهة إلى الحديقة العامة لوحدنا .. وتبادلنا أطراف الحديث ويا للمصادفة فقد اتضح أننا نحمل ذات الذوق الأدبي في الكتب كما وأنه مثلي من عشاق لعبة الشطرنج .. لعبنا مرة بعد العشاء .. وتركني أغلبه عن طيب خاطر .. نظراته تبدلت من متحفظة ومتعالية إلى مفكرة ولطيفة .. لقد بدأت باكتشاف عمو رائد بشكل مذهل وجديد .. وهو كذلك بدأ باكتشافي وكلانا راضيين على هذا التغيير .. وسامر الذي كان يراقب هذه العلاقة الطيبة تنشأ شيئاً فشيئاً كان كمن يحمل جبل من الهموم وأزيح عنه فجأة ليتنفس الصعداء .. ذهبنا الأسبوع الفائت كعائلة كبيرة لزيارة يافا .. والدة سامر تعلقت جداً بيافا .. وصارت تصب عليها حنانها الأمومي .. كنت أرى نظرة يافا إليها وكيف تشرد أحياناً للبعيد وأعلم أنها تفكر في والدتها رحمها الله فيتمزق قلبي .. عمو رائد كان من فاجأني حقاً .. فقد التصق بيافا كظلها وعاملها كأنها طفلته .. آدم الذي يبدو أنه على علم بكل الموضوع كان يبتسم في عين يافا وهي تبتسم له .. ابتسامة ذات مغزى وهما يراقبان اهتمام عمو رائد بها .. يافا غيرت عمو رائد ... أو أنها أخرجته من مفهوم خاطئ كان غارقاً فيه .. لقد كنت محقة تماماً حين قلت .. أن يافا هي السعادة .. السعادة لكل من حولها وأولهم أنا ..
الشئ الثالث والمثير للقلق هو خطوبة قمر .. قمر الرافضة للزواج بعد ماهر قررت فجأة أنها تريد أن تتزوج ومِن مَنْ؟ من الدكتور علي؟ وقع الأمر علي كصدمة .. لم أفهم كيف حدث هذا الاجتماع الغريب .. لكنها أخبرتني باختصار أنهما معرفة قديمة وعندما تقابلا في المستشفى أعجبوا ببعضهم وهكذا تقدمت والدته لخطبة قمر فوافق والدها .. لكنني لم أستطع أن أصدق أن الأمر تم بهذه البساطة ! .. هناك سر ما خلف الموضوع .. نظرات قمر الساهمة والحزن المطل من ملامحها والبرود الذي يعم علاقتها بالدكتور علي والذي أصبح فجأة علي حاف ! .. ما الأمر؟ عندما جائنا علي ووالديه وبعض أقاربه بعد موافقة أبي ليقرؤوا الفاتحة .. كانت قمر تجلس كمن يقرؤون على روحها الفاتحة .. بدا وجهها مكفهراً وشاحباً .. وعلي كان يراقبها بنظرة غامضة .. توصف بكل شئ إلا السعادة.. كان هناك شعور مخيف داخلي أن قمر قبلت الخطبة لأجلي .. حتى لا تكون عقبة وضعها والدنا في طريقي .. عندما صارحتها ضحكت وهي تعلق أنني اشاهد المسلسلات التركية بكثرة ! .. مع هذا لست مطمئنة .. هناك شئ خاطئ .. شئ لا أعرفه
صوت يافا تشهق بصدمة جعلني أترك الأدوية التي كنت أرتبها على الصينية وأركض اليها .. عيناها كانتا تجحظان بصدمة .. وجهها كان متسمراً تماماً ونظراتها موجهة إلى شاشة التلفاز .. استدرت حيث كانت تنظر وصدمت .. والد يافا تحفه مجموعة من الشرطة يمسكون به كأنهم يلقون القبض عليه حاولت أن أركز على ما يقوله المذيع "اعتُقِلَ اليوم وزير النفط العراقي إبراهيم السيد لاشتباهه في التورط في قضايا فساد بعد أن فضحت أحد الصحف العراقية صفقات مشبوهة قام بها مع الأدلة المصورة .. هذا وقد أفادت السلطات ... " لم أعد أستمع إلى ما تبقى .. صوت يافا الباكي جعلني أجري وأُطفئ التلفاز .. أخفت وجهها بين يديها .. جلست إلى جانبها وأنا أقول "حبيبتي.. لا تبكِ .. سوف .." وقبل أن أكمل رفعت رأسها تشهق وهي تقول "المشكلة أنني لا أشعر بالحزن عليه .. أنا أشعر أنه ينال جزاءه .. وهذا ما يؤلمني .. أنني لا استطيع حتى أن أشفق عليه ولا على مظهره المزري ولا على حزنه العميق لموت أمي .. أنا لا أشعر بقلبي ينبض بأي شعور له .. وهذا يؤلمني .. كيف لا أشعر بالشفقة نحو والدي.. كيف أكون بهذه القسوة لدرجة أنني أكاد أشعر بالراحة لأنه اعتقل" .. كدت أن أصيح في وجهها من ماذا خلقتِ يا امرأة؟! كيف لها أن تشعر بالذنب لأنها لا تشعر بالشفقة تجاه رجل دمر حياتها .. آذاها وحرمها من الأمان .. دفع والدتها لتهرب منه ودفعها لتهرب ثم عاد لينتقم منهما .. خطفها ، أطلق عليها الرصاص ، دفع امرأة إلى أحضان زوجها ، ساهم في قتل والدتها وأخيراً في فقدان طفلتها .. كيف تريد من نفسها أن تشفق عليه؟ التفت ذراعيّ حول كتفيها وهي تبكي بحرقة ملتزمة الصمت خوف أن يترجم عقلي ما فكرت به بكلمات قد تبدو قاسية في حالتها .. صوت الباب يفتح ثم يغلق أعلن عن حضور آدم الذي تلاشت ابتسامته المرسومة على وجهه لدى رؤية زوجته تبكي .. صاح وهو يتقدم منها "ما الأمر" يافا واصلت البكاء بينما شرحتُ له باختصار ما شاهدناه .. بدى وجه آدم جامداً .. لكنه انحنى يحمل يافا ويقول "اعذريني سارا سآخذها إلى الداخل" أومأت برأسي ونهضت قائلة "سأذهب لألاقي سامر على الغداء .. دوائها لم تأخذه بعد .. أرجوكَ لا تنْسَه" أومأ ثم توجه بها إلى غرفتهما .. كانت تضع رأسها على صدره وتتعلق به وتبكي بحرقة .. تمزق قلبي لأجلها .. أخذت حقيبتي وخرجت وأنا أدعو الله أن يتمكن آدم من تهدئتها..
*
نظر إلى عينيها الباكيتين وهي ممدة على السرير بجانبه "حبيبتي من الصعب أن تشفقي عليه بعد كل ما حصل .. فلماذا تحملين نفسكِ فوق طاقتها؟" انتحبت "لكنه أبي" .. قبل جبينها وقال "وشانتال كانت أمي.. هل منعها هذا من تدميري؟ هل منعت أبوة إبراهيم لكِ تدميره لحياتكِ" نظرت إليه بعينيها الزرقاوين .. أجمل ما رآى صدقاً وبراءة وطيبة .. قلبها ينبض فيهما .. خفق قلبه .. كم هي حساسة ورقيقة .. وكم هو لا يرتقي إليها أبداً .. ماذا فعل ليحصل عليها؟ تميمته وملاكه المنقذ .. همست بصوت متقطع "هل .. هل حقاً أنا لستُ شريرة .. لـ .. لأنني لم أحزن عليه" ابتسم لتعبيرها الطفولي الخائف وتلاعب بخصلات شعرها الذي بدأ يستعيد عافيته "أنتِ لستي شريرة أنتِ طيبة .. كجنية سندريلا" استراح رأسها على صدره "لا أريد أن أعرف ما سيحصل له .." تفهم آدم رغبتها في شطب والدها من حياتها .. حتى لا تتألم أكثر .. ضغط على جسدها بين يديه مطمئناً "هكذا أفضل" .. قبل خدها "حان وقت دوائكِ .. واحزري ماذا أحضرتُ لكِ" رفعت عينيها بترقب طفولي "ماذا؟" .. كشر عن ابتسامة عابثة "أحضرتُ لكِ بسبوسة.. خذي أنتِ الـ "بس" وأعطيني الـ بوسة" ضربته على صدره بخفة وهي تضحك "قليل أدب" قبل شفتيها بسرعة "همممم لذيذ" نهضت من على السرير وهي تقول "هيا أطعمني بسبوسة دودي" وأخرجت لسانها له تغيظه نهض متحفزاً فسارعت تركض مبتعدة وهو يلحقها "سأطعمكِ بوسة يا يوفي الشقية" قلبه كان يخفق بسعادة ... رؤيتها تبكي تجعله يحتضر كمن أصابوه برصاصة في القلب .. وعندما تضحك وخصوصاً عندما يكون هو سبب ضحكها يشعر أن هناك حياة جديدة وجميلة كتبت له ليعيشها ..
عند العصر كانت يافا تأخذ قيلولتها المعتادة بينما جلس خلف مكتبه .. يراجع أعماله .. ثم اتصل بسامر ليسأل عنه ويتكلمان معاً .. سامر الذي صار سعيداً هذه الأيام أكثر من ذي قبل بسبب زوال كل العوائق على إتمام زفافه من سارا بدا صوته قلقاً هذه المرة .. سأله آدم "ما الأمر لماذا تبدو قلقاً" أجابه سامر عبر الهاتف "حسناً أنا لستُ قلقاً لكنني مشوش قليلاً .. أو عالق في مشكلة " تنبهت أعصاب آدم بسرعة وهو يسأل "ماذا حدث .. أنا هنا للمساعدة إن احتجت" ضحك سامر "هل ستساعدني في اختيار هدية لسارا؟ على جثتي" ضحك آدم "أنصحكَ بشئ بسيط فيبدو أن زوجتكَ المستقبلية عصامية" شاركه سامر الضحك على الطرف الآخر "كادت تقتلني عندما أخبرتها عن نيتي في شراء سيارة لها" أجابه آدم "بالطبع ستفعل .. عد إلى حيرتك .. وسأعود إلى أعمالي .. فكرت أن أزوركم اليوم أنا ويافا .. لكن لندعها إلى الغد" سارع سامر يقول "اليوم مناسب تماماً غداً موعدي مع الحب" ضحك آدم "أيوا يا عم .. حسناً في الثامنة سنكون عندكم .. يافا تشعر ببعض الحزن على أخبار والدها .. لا بد أنكَ تعلم .. لذا أريدها أن تغير جو" قال له سامر بصوت متفهم "خيراً تفعل في حضوركْ .. أهلاً وسهلاً بكما .. سأخبر سارا لتأتي" هكذا انتهى الاتصال بين الصديقين .. وعاد آدم إلى أوراقه .. ونصف تركيزه يتوجه للمرأة الجميلة التي تنام في سريره في الغرفة الأخرى..
*
خفق قلب أحمد بشعور غريب .. شعور مقيت .. رأسه صار يطرق .. وهو ينظر إلى هذا الرجل في شاشة التلفزيون .. أغمض عينيه وهو يحس أن صدره سينفجر .. أمامه ترائت صور كثيرة .. صور يعرفها .. صور يتذكرها .. فتاة في العشرين .. قصائد .. امرأة فرنسية .. طفل جميل .. أيام طويلة فارغة .. ثم المرأة من جديد وصبية أخرى .. وأيام أخرى تتراوح بين السعادة والألم .. ثم صوت انفجار .. ارتد أحمد عن كرسيه وسقط على الأرض وهو يصيح "أمـــــــــــل" .. ثم أظلمت الدنيا في عينيه وغاب عن الوعي
*
جلست أمامه متوترة .. كوتر العود .. استطاع أن يشعر بذلك .. أصابعها تنقبض على كف يدها الأخرى بعصبية ولا تنظر إليه أبداً .. بعد ثلاثة أيام ستتم خطبتهما وعليه أن يعرف قبل أن يمضي قدماً .. سر هذه الفتاة التي اكتشف أنه ما زال يحبها حد الموت وأنه لأجلها لم يستطع النظر لأي امرأة أخرى .. خفق قلبه عندما تطاير شعرها إثر نسمة هواء .. نظر إليها وقال "حسناً" رفعت نظرها إليه فالتقى بعينيها اللتين تفقدانه صوابه .. على وجهها بانت علامات عدم الفهم وهي تسأل "حسناً ماذا؟" قال بصوت واضح وبطريقة مباشرة "لماذا قبلتِ بعرضي بعد أن قلتِ أنكِ لن تخوني ماهر" عند ذكر اسم ذلك الرجل تراجعت قمر إلى الخلف كمن وجه لها صفعة .. شعر بالغضب يغلي في داخله من ذلك الرجل الشهيد .. بلعت ريقها وهي تقول "لأنني أريد أن أتزوج .." نظر إليها بتركيز "لماذا؟" حدقت بكوب القهوة أمامها وهي تقول بصراحة "إذا لم أتزوج سارا لن تتزوج .. أنا عقبة في طريقها لذا علي أن أزيح نفسي لتتمكن أختي من الزواج .." شعر علي بأن هناك من قبض على قلبه واعتصره .. هي تتزوجه لأجل أختها وليس لأجل شعور جميل ربطهما مسبقاً .. الغضب الأحمر طغى على كل مشاعره الأخرى فنهض من مقعده بقوة جعلتها ترفع رأسها إليه بقلق .. قال بصوتٍ قاسٍ "إذاً أنا أسحب طلبي في الزواج منكِ .. أنا لا أريدكِ" تعابير الألم على وجهها جعلته يشعر بغضب مضاعف من نفسه هذه المرة .. نظرة عينيها انكسرت بينما لم يعد يطيق التواجد معها وهي تصرح له أنها لا تريده بل تتخذه وسيلة لإنقاذ أختها .. عندما ابتعد خطوتين سمع صوتها متهدجاً "أرجوك" استدار إليها .. كانت واقفة الآن يداها تتشبث بحقيبتها كأنها أسباب الحياة .. ورأسها منحنٍ قليلاً وشعرها مسدلٍ على جانبي وجهها ليتساقط على جيدها .. بدت كأنها آلهة الجمال القديمة .. لم تكن بشراً .. بل شيئاً أجمل وأكثر هشاشة .. لمح دموعها تتساقط على خدها .. فتقدم خطوة ليذهب إليها ويرفع رأسها ويقبل مواضع دموعها لكنه تراجع ، قالت بذات الصوت المتهدج المنكسر وهي لا تقوى على النظر إليه "أرجوك .. تـ .. تزوجني" رجفة سرت في أوصال علي .. إنها تتوسله أن يتزوجها بينما هو يكاد يجثو على ركبتيه يطلب منها أن تحبه وتتزوجه .. كره نفسه لأنه وضعها في هذا الموقف .. الموقف الذي تشعر فيه أنها توسلته وأهدرت كرامتها لكنه لم يستطع فعل شئ .. قال بهدوء "حسناً" نظرت إليه بعيون دامعة حطمت قلبه وهمست "شكراً" ثم جرت هاربة منه تكتم شهقات بكائها .. تهاوى علي على كرسيه .. كيف استطاع أن يفعل هذا بها .. شعر بأنه رجل حقير لأنه سمح لنفسه أن يضعها في موقف ضعيف ومتوسل كهذا .. ضرب بقبضته الطاولة فاهتزت فناجين القهوة وتمتم بغضب "اللعنة"
*
تعثرت قمر وكادت أن تسقط وهي تجري من علي إلى أي مكان لا يكون هو فيه .. لقد توسلته ليتزوجها .. كيف حدث هذا؟ كيف سمحت لنفسها؟ مسحت دموعها بيد مرتجفة .. كان عليها أن تفعل .. سارا سعيدة وهي لن تسلب أختها سعادتها أبداً .. عندما سألها لماذا وافقت على الزواج به كادت أن تقول له "لأنني أحبك.. لأنني لطالما أحببتك" لكنها لم تستطع .. فهي لا تستطيع أن تنسى أن هذا الحب الذي تكنه له كان سبباً في موت رجل آخر لم يستحق أن يتألم أو أن يموت .. لقد خانت ماهر مرة .. وهي لن تخونه ثانية بالتفكير في علي بطريقة عاطفية .. هي مضطرة للقبول به لتخلص أختها .. لكنها لن تتورط عاطفياً معه .. هذا أقل ما تدين به لذكرى ماهر .. لعله يسامحها .. لعل الله يسامحها ..
*
نظرت يافا إلى نفسها في المرآة .. لم تكن تبدو في أحسن حالتها لكنها بدت جيدة نوعاً ما .. فستانها الطويل الأبيض كان اختيار آدم وهديته .. أكمامه طويلة وكانت شاكرة لهذا لتخفي آثار الحقن.. وفتحة صدره مثلثة تنتهي ببروش فضي كبير يستقر على صدرها .. الفستان كان جميلاً ومحتشماً في نفس الوقت .. أخفى نحول جسدها وأظهرها رشيقة ونضرة .. كان آدم يقف خلفها يرتدي ملابسه .. بدا كامل الوسامة والجمال .. رجل تنضح من كل مسامة في جسده رائحة الرجولة .. نظر إليها وابتسم ثم قدم إليها ربطة العنق لتربطها له .. وكما كانت تفعل في السابق .. صعدت فوق مقعد طاولة الزينة لتسيطر على فارق الطول وألبسته ربطة العنق ثم عانقته بقوة .. لف ذراعيه على خصرها وعانقها بشغف ثم همس فوق شفتيها "أحبكِ" ابتعدت عنه وهي تقول بحنان "وأنا كذلك .. من المؤسف أنني لا أستطيع أن أرتدي الكعب العالي .. سأبدو قزمة بجانبك" ضحك وهو يمسك بها من خصرها وينزلها على الأرض ليعود فارق الطول بينهما شاسعاً وقال بحب " أحبكِ هكذا .. كوردة صغيرة تستظل بظل شجرة سنديان كبيرة" وضعت رأسها على صدره "شجرتي الحلوة" قبل شعرها "وردتي البيضاء .. هيا سنتأخر" .. أعادت وضع أحمر الشفاه وارتدت حذائها المنخفض الكعب .. جسدها لم يكُن متزناً بما يكفي ليرتكز على كعبٍ عالي .. حاولت مراراً خلال النهار السير به لكنها كانت تهتز .. عزت هذا إلى ضعفِ أعصابها وجسدها بعد فترة العلاج الكيماوي الطويلة .. لذا استسلمت للكعب المنخفض وهي متأكدة أنها ستبدو أقصر امرأة في حفل خطوبة قمر..
*
بدت قمر قمراً بالفعل هذا المساء بفستان أخضر حالم .. لم تعترف لنفسها حتى أنها اختارت الفستان لأن عيون علي خضراء .. علي الذي كان مدمراً في وسامته في البدلة الرسمية والطول الفارع والهيئة المسيطرة .. كلما نظر إليها وتلاقت عيونهما هربت من عينيه .. هو لم يكلمها منذ مواجهتهما في المطعم وهي لم تفعل كذلك .. الجميع كانوا من حولها متألقين وسعيدين .. حتى هي داخلياً كانت تشعر بالسعادة لكنها أحست بالذنب لذلك فحاولت أن تتصور ماهر .. لكنه بدا في تلك اللحظة طيف بعيد فشلت في الإمساك به .. جلس علي إلى جانبها فخفق قلبها .. خفقات تعرفها جيداً .. خفقات تقول له أنه حلم عمرها الكبير .. أنه حب حياتها .. أنه رجُلها وأنها المرأة التي خلقت من ضلعه هو .. من صدره هو .. قرب قلبه هو .. هو لا غير .. نظرت إليه فتلاقت عيونهما .. لم تستطع أن تخفي شوقها ولا سعادتها .. حتى أنها ابتسمت له وراقبت ملامحه المندهشة تفيض حناناً لطالما غمرها به .. همس لها "تبدين جميلة" أخفضت عينيها وابتسمت "شكراً" .. ثم رفعت عينيها وهي تقول بصوت متحشرج "علي" لكن ودون قصد انحرفت عينيها ناحية المرأة التي تجلس بهدوء والتي كانت تبتسم بحزن قطع قلبها .. المرأة التي تنظر إليها والتي كادت أن تكون يوماً كنتها .. ارتجفت قمر وهي تنظر لوالدة ماهر .. وعاد كل شئ إلى الوراء .. وساورها ذات الإحساس المؤلم بأنها تخونه إذا فرحت مع علي .. مع علي بالذات .. فتجمدت ملامحها وزحف الحزن إلى عينيها .. صوت علي الملح سألها "ما الأمر؟" .. هزت رأسها "لا شئ .. سأذهب لأرحب بيافا وزوجها لقد وصلا أخيراً" .. نهضت هاربة نحو يافا وآدم ..
*
كان آدم يذرع الممر جيئة وذهاباً كالمجنون .. بعد وجبة العشاء شعرت يافا بتوعك .. وهربت إلى الحمام فلحقها .. وسمعها من خلف الباب تستفرغ .. رعب شديد سيطر عليه .. ففتح الباب غير مبالٍ أنها غرفة استراحة السيدات وأمسك بكتفي زوجته وهي تخرج كل ما أكلته .. مسح على رأسها وهو يقول "لا بأس لا بأس" لكنها ما أن انتهت حتى ما عادت قدميها تحملها فكادت أن تتهاوى .. هنا وصل قلق آدم وخوفه أقصى حدوده .. فحمل زوجته وركض إلى المستشفى في الطريق كلم سامر وأخبره ما حصل وطلب منه ألا يخبر سارا حتى لا يفسد حفل أختها .. وها هو يذرع المكان بخطوات قلقة وخائفة .. ماذا لو حدث لها شئ؟ إنها غلطته لأنه سمح لها أن تجهد نفسها وتذهب إلى الحفل .. يا إلهي .. ماذا لو حدث شئ؟ سيموت .. سيموت .. خرج الطبيب أخيراً وهو يبتسم سارع آدم إليه وهو يقول "هل هي بخير؟" ابتسم الطبيب أكثر وربت على كتفه عندما رآى مدى خوفه وقال "بالطبع هي بخير .. مبروك .. ستصير أباً عما قريب .. زوجتك حامل في شهرها الأول" !!!





قراءة ممتعة..
يتبع...

على بحر يافا(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن