الفصل الثالث والعشرين
نظرت يافا إلى آدم الذي كان يغفو بجانبها .. ارتعش قلبها في صدرها .. هل ستكتفي يوماً من النظر إليه؟ هل سيتوقف قلبها يوماً عن الارتجاف كأنها تراه للمرة الأولى كلما كانت بقربه؟ .. أبداً لن يحدث .. غيبوبتها كانت نعمة .. الآن فقط وبعد أن علمت أن لينا ليست غاضبة .. تستطيع أن تحب هذا الرجل وتمنحه كامل غفرانها دون أن تشعر بالذنب .. استقرت يدها دون وعيٍ فوق بطنها المسطحة .. وتذكرت كيف كانت ممتلئة بلينا .. لينا التي انتظرتها بصبرٍ وشوق .. لتحصل على قطعة من آدم ومنها .. لترى ثمرة حبها لزوجها تتمثل بهيئة طفلة جميلة .. عندما حملتها بين يديها للمرة الأولى والأخيرة كانت تبكي .. ولكنها ما إن استقرت في محيط ذراعيها حتى تلوت كأنها تتمطى ثم استكانت .. وجهها المحمر كان هادئاً ومسالماً .. ويدها الصغيرة جداً التفت حول إصبع أمها .. ونفسها البطئ كان كأنه يخرج من صدر يافا لا من صدر طفلتها .. لقد وقعت في غرام طفلتها منذ اللحظة الأولى ... منذ اللحظة الأخيرة ! .. تقلصت ملامح يافا بألم .. من تلوم على خسارتها لطفلتها؟ هل تلوم والدها؟ لا تستطيع فيكفي ما به الآن .. هل تلوم آدم؟ قد سامحته لينا فكيف لا تسامحه .. هل تلوم نفسها؟ لقد كانت تحاول أن تحمي زوجها .. أليس هذا ما كانت ستفعله كل امرأة في مكانها .. بشكل فجائي انتفض جسد يافا بنوبة ألم .. سرت في كل جسدها لتستقر في رأسها المريض .. فزع آدم ونهض من نومه صائحاً "يافا" ملامحها المتألمة جعلته يقفز وهو يسأل "مابكِ؟ بماذا تشعرين؟" كانت تشعر أن حجم دماغها أكبر من جمجمتها .. و بأشياء تتحرك في خلايا دماغها .. وهي تشعر بالمرض يزحف إلى ما بقي من دماغها السليم .. هل تموت؟ تمسكت بآدم كأنه حبل نجاتها بينما اندفعت موجة أخرى من الألم في رأسها أعادته إلى الوراء كأن أحدهم سدد لها قبضة مؤلمة... أمسك آدم برأسها وهو يقبله وقد سالت دموعه "الله لا إله إلا هو الحي القيوم .. لا تأخذه سنة ولا نوم ... " وصل صوته الباكي تلاوة الآية وراح يردد "يا مشافي يا معافي" موجات صوته المليئة بالثقة بالله قاطع تركيزها على الألم .. كان دماغها يستوعب كم تغير آدم .. كم تغير .. لقد تغير .. ردد قلبها الكلمات بفرح .. وتصارع شعوران عظيمان داخلها .. شعور الألم المستقر في دماغها .. وشعور الفرح المستقر في قلبها .. بعد دقيقة دخل الدكتور علي تتبعه سارا المرعوبة .. فيبدو أن آدم قد ضغط على زر الاستدعاء دون انتباهها .. أبعد آدم شفتيه المرتلة عن جبين زوجته وأمسك بيدها بينما قام الدكتور علي بفحصها .. ثم طلب من سارة أن تعطي ليافا حبة دواء لم تركز يافا على اسمها لأنها كانت مشغولة بالنظر إلى وجه زوجها القلق .. وجهه الشاحب أثار شفقتها .. همست بحب "أنا بخير" تقلصت أصابعه على يدها ولكنه حاول جاهداً رسم شئ يشبه الابتسامة وهو يجيب "بالطبع" ..
الألم المخيف الذي كانت تشعر به .. تراجع شيئاً فشيئاً .. بينما انسحبت سارا سبقها الدكتور علي .. همست يافا بابتسامةٍ لزوجها : "تعالَ أخبركَ بسر" جلس بجانبها وما زال وجهه قلقاً .. وشفتاه ترتجفان .. أمسكت وجهه بين يديها وهي تهمس "أحبك" ثم وضعت شفتيها البيضاء فوق شفتيه المتملكة .. وقبلتها بلطف .. أحاطها بذراعيه وألصقها بجسده .. ابتسمت في سرها .. عناقه كان لطيفاً .. لقد بذل جهداً كبيراً ليتخلص من عنفه الجسدي .. لقد راقبته يوماً بعد يوم يُحكم السيطرة على نفسه ويتدرج سلوكه العاطفي من قاسٍ إلى لطيف .. وها هو بعد كل هذه الشهور لم يفقد شيئاً من لطفه .. الذي عملا معاً وبجهد ليصلا إليه .. استقر رأسها على كتفه .. وهمست "آدم" .. مسح على رأسها "نعم حبيبتي" .. تمسكت بقميصه وهي تقول "أريد أن أعود إلى البيت" انتفض آدم وقال بسرعة "لا يمكن حبيبتي .. عليكِ أن تتعالجي هنا" أجلت حنجرتها وهي تقول "أظنني سأشعر بالراحة في بيتي .. أرجوك .. لقد تعبت" سمعت أنفاسه تعلو صدره يهبط ويعلو بألم .. وقال بصوت حاول أن يجعله ثابتاً لكنه خرج متحشرجاً ومخنوقاً "سأرى ما يمكن فعله" .. تمتمت بكلمة شكر .. ثم شعرت بتأثير المسكن يتزايد .. فكتمت تثاؤبها .. وأغمضت عينيها .. لتغط في نومٍ خالٍ من الكوابيس ..
*
تأكد آدم من أن يافا استقرت جيداً في نومها بعد أن وضع رأسها على الوسادة وغطاها .. قلبه نبض بألم .. زوجته مريضة جداً .. بريقها يكاد يكون منطفئاً .. عندما كان يمسح على شعرها حاول أن يخفي رعبه عندما رأى خصلات من شعرها تسقط في يده .. حمد الله أنها كانت تضع رأسها على كتفه فلم ترَ نظرة الرعب في عينيه وإلا كانت فسرتها على أنها شئ آخر .. هشاشة بنيتها أخافته .. عظامها تكاد تكون ظاهرة .. كان بمكانه أن يعد عظام عامودها الفقري بيده .. تجاويف وجهها بدت واضحة تماماً .. بعد أن كانت ممتلئة وجميلة ونضرة .. بشرتها لا تزال تحمل نعومة الأطفال لكنها فقدت الحمرة الخفيفة لوجنتيها وفقدت لونها الجميل لتصير شاحبة وخالية من اللون .. شعر بالقهر .. والعجز لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً لها .. تمنى لو أنه يستطيع أن يهبها صحته وعافيته وعمره .. تمنى لو أنه يمنحها الحياة .. فهي تستحقها أكثر منه .. تمتم "أستغفر الله" ثم فكر في طلبها .. قرر أن يتكلم مع الدكتور علي لينظر رأيه في الموضوع .. هكذا ترك آدم زوجته على مضض وذهب إلى غرفة الدكتور علي الذي كان منهمكاً في مراجعة أوراق ما .. رحب الدكتور به وأجلسه ثم سأله عما يشرب .. فشكره آدم وطلب كأس ماء .. وبعدها دخل في الموضوع مباشرةً "دكتور .. زوجتي تريد العودة إلى البيت وأنا أريد أن أعرف وضعها الصحي وإمكانية توفير رعاية صحية لها أثناء تواجدها هناك" تلاعب الدكتور علي بقلمه ثم نظر إلى آدم وهو يقول بهدوء "سيد آدم دعني أصارحكْ .. حالة زوجتك متأخرة جداً .. العلاج الكيماوي لم يعد يجدي نفعاً .. الخمس جلسات السابقة لم تؤدي أي تقدم يذكر في شفاء المرض .. الحل الجراحي هو الوحيد المتوفر في هذه المرحلة .. لكن زوجتك ترفضه لأن مخاطر فشل العملية عالية وكما أنها إن نجت منها فستخرج فاقدة الذاكرة ،، قرب الورم من مراكز الذاكرة يجعل من المستحيل إزالته دون أن تفقد ذاكرتها كاملة أو جزءاً منها وهذا ما رفضته زوجتك رفضاً تاماً" أغمض آدم عينيه يستوعب شيئين .. الألم القاتل في قلبه .. والمعلومات التي أخبره بها الدكتور.. طبعاً يافا ترفض الجراحة .. هو يعرفها لا تخاف من الموت فقد عاشت على بعد خطوة منه طول حياتها .. لكن فقدان الذاكرة هذا ما لن تقبل به أبداً .. وهو يعرف أن حالة والده هي السبب .. تنفس بعمق .. يحاول أن يهدأ نفسه "هل يعني هذا أنه من الأفضل أن آخذها إلى البيت؟" .. أومأ الدكتور علي "أجل إنه الحل الأفضل .. حاول أن توفر لها بيئة نفسية جيدة .. فالعنصر النفسي في هذه المرحلة مهم .. فهو يعطيها الدافع للتمسك بالحياة" بلع آدم ريقه وهمس بالكلمات التي كانت تؤرقه منذ أن عرف بمرضها وخاف أن ينطقها .. سأل بصوت متقطع " كـ .. كم بقـ .. بقي لها؟" نظر الدكتور علي إليه بتعاطف "الأعمار بيد الله .. لكن من خلال ما تظهره تقارير حالتها .. فيبدو أنه ليس الكثير على ما أخشى" قفز آدم من مكانه مفزوعاً وركض خارج الغرفة تلاحقه عيون الدكتور علي المتعاطفة .. ركض حتى آخر الممر ثم انهار قرب الحائط راكعاً وهو يضرب الحائط بقبضته بقوة .. لقد كان غاضباً .. غاضباً ومجروحاً ومذبوحاً .. إنه يفقدها ولا يستطيع أن يفعل أي شئ .. صوت مألوف صاح بقلق "آدم" .. ثم أحس بسامر يتقدم نحوه بسرعة وهو يسأل "ما الأمر .. هل يافا بخير؟" قبضة أخرى سددها إلى الحائط وهو يصيح كأسد مجروح "إنها تموت" يدا سامر تشبثتا بكتفه ورفعه بقوة من الأرض وهو ينظر في عينيه بقوة ويقول "استهدِ بربك يا رجل ... قل الحمد لله .." عندما لم يقل صاح به سامر "قل" فقال بصوتٍ باكٍ "الحـ .. الحمد لله" ثم اهتز جسده بنحيب مؤلم ... إنه يفقد يافا .. يفقدها
*
دخلت قمر المستشفى بخطىً سريعة .. لقد أخذت باقي اليوم إجازة .. حالة سارا لم تكن جيدة البارحة فهي لم تتوقف عن البكاء طيلة الليل .. مما أثقل قلب قمر بالألم .. فقررت أن تذهب إليها اليوم لتأخذها إلى الغداء وتقضي بعض الوقت معها .. حتى وإن كان يعني أنها ستضطر إلى اشتنساق روائح المعقمات الكريهة .. في الممرات الكثيرة كادت قمر أن تتوه لولا أنها لمحت طيف رجلٍ تعرفه .. يجلس بجانب رجل طويل كالبرج .. كان سامر يربت على كتف الرجل الآخر .. ما الذي جاء بسامر الآن؟ المفروض أن يكون في عمله .. آه رائع لقد ذهبت خططها أدراج الرياح .. تقدمت نحوه ولم يشعر بها لا هو ولا الرجل الذي يبدو بائساً بشكل يثير الشفقة .. الرجل الآخر كان أشقر الشعر .. ملامحه وسيمة جداً لكن يعلوها ألم يكاد يفتت الصخر .. وكادت تقسم أنه كان يبكي .. عندما تقدمت أكثر شعر بها الرجل ذو الشعر الذهبي فرفع رأسه وعندما رآها استقام فجاة وحلت محل ملامحه المتألمة ملامح جامدة صارمة .. وعجبت لسيطرته السريعة على نفسه التفت إليها سامر بعد ذلك وما إن رآها حتى نهض قائلاً بترحيب "قمر .. يا لها من مفاجأة جميلة" ابتسمت له وهي تقول "مرحباً سامر .. كنت أبحث عن سارا .. أين هي؟" أجابها "في غرفة يافا على ما أظن .. اذهبي إلى آخر الممر ثم اتجهي شمالاً الغرفة رقم 238 " بالطبع قمر تعرف يافا .. المريضة الجميلة التي تعيش مأساة كبيرة .. والتي أثارت تعاطف عائلتها ما إن أخبرتهم سارا بالأمر قالت "حسناً رائع فهذه فرصة لألتقي بيافا الشهيرة" فجأة رفع الرجل رأسه ينظر باهتمام إليها .. نظرت قمر إلى الرجل ثم إلى سامر .. فاستدرك سامر الأمر وهو يقول "أوه بمناسبة يافا .. أقدم لكِ زوجها آدم .. آدم هذه أخت سارا قمر" صافحته وراقبت كيف بدت ملامحه أكثر ليناً عندما عرف من تكون قالت له "من دواعي سروري لقائك .. حمداً لله على عودة يافا" شاهدت سحابة الألم التي مرت على وجهه عندما ذكرت اسم زوجته فأشفقت عليه .. يبدو متألماً جداً لأجلها تمتم بصوت متزن "السرور لي .. شكراً" بعدها استأذنت تترك الرجلين لخلوتهما وأسرعت الخطى نحو آخر الممر ثم اتجهت شمالاً .. لتتسمر في مكانها وهي ترى الرجل القادم وما إن رآها تسمر هو الآخر همست باستغراب "علي؟" ثم ابتلعت ريقها .. كم مضى على آخر مرة رأته فيها؟ خمس سنوات؟ ستة؟ تدارك علي الموقف بسرعة واختفى ذهوله واعتدل وهو يقول "قمر .. يا لها من مفاجأة جميلة .. هل تزورين أحداً؟" مفاجأة جميلة؟ تكاد تقسم أن رؤيته لها يمكن أن تكون كل شئ إلا مفاجأة جميلة .. لكنها ابتسمت وقالت "أختي" مسح وجهها بنظرته مما أحرجها قبل أن يقول "هل هي مريضة هنا؟" هزت رأسها "كلا في الحقيقة هي ممرضة" رفع علي حاجبه الكثيف باستغراب "حقاً؟ ما اسمها" .. أجابته "سارا" أرجع رأسه إلى الوراء في صدمة "أوووووه حقاً .. لهذا كنت دوماً أتسائل لماذا يبدو وجهها مألوفاً" .. نظرت إليه .. لقد نضج كثيراً .. شعره الأسود مصفف بترتيب ووقار .. حاجبيه الكثيفان يستقران بحدة على بشرة حنطية وعيون واسعة بلون زيتوني تحيطها رموش كثيفة .. لطالما أعجبت بطول رموشه ولون عيونها .. أنفه حاد ومستقيم .. شفتاه حازمتان .. فكاه مرسومان بدقة .. بدا أكثر روعة ووقار .. وخفق قلبها بألم .. كم كانت تحب أن تلمس هذه الرموش .. ابتلعت ريقها بصعوبة .. وانتبهت إلى أنه يقيمها أيضاً بنظرته .. وتمنت لو أنها ترتدي شيئاً أكثر أناقة من تنورتها السوداء البسيطة التي تصل إلى ركبتها وقميصها الأبيض الرسمي ورأت عيناه تتسمران على فتحة القميص الذي تظهر منه سلسلة فضية رفيعه تعلق بها قلب من الألماس المزيف .. ارتعبت عندما رأت عينيه تظلم .. وأقسمت أنه عاد بالزمن للوراء .. يتذكر المرة التي وضع حول رقبتها هذه السلسة .. تحركت بسرعة وهي تقول "عن إذنك.." وهربت من أمامه تاركة إياه يقف في منتصف الممر ينظر إليها بحيرة..
*
كانت يافا نائمة عندما دخلت عليها .. لكنها استيقظت ما إن فتحت الباب .. اعتذرت "آسفة عزيزتي" ابتسمت لي "أين آدم؟" .. أجبتها "أظنه مع سامر .. بدأت أغار من زوجكِ يا يافا" عبست يافا تمثل الانزعاج "وبدأت أغار من خطيبك يا سارا" ضحكتُ لتعبير وجهها الطفولي بعدها اعتدلت يافا في سريرها وهي تقول "أدين لكِ بباقي القصة" خفق قلبي بإثارة لأنني لم أكف عن التفكير ببقية قصتها أبداً رغم كثر الهموم فوق رأسي .. نظرت يافا إليّ وهي تقول "ألن تخبريني ما الأمر؟"رفعت رأسي وأنا أشعر كأني طالب أمسكه أستاذه متلبساً وهو يسرق الطبشور "لا يوجد شئ حبيبتي" نظرت إليّ بعتب "سارا أنتِ وسامر تبدوان على غير عادتكما .. هناك شئ .. أرجوكِ اخبريني" عندها استسلمت وأخبرتها بما حدث معي ففاجئتني تقول "أريد أن أرى السيد رائد لو سمحتِ" سألتها بذهول "لماذا؟" .. نظرت إليّ وهي تقول "أرجوكِ أخبريه بأنني أريد منه أن يزورني .. هل يمكن أن تفعلي هذا لأجلي؟" حاولت أن أعرف بماذا تفكر لكن وجهها كان مبتسماً وخالياً من التعابير فأومأت بالإيجاب .. عندها قالت لي "حسناً اجلسي سأخبركِ بباقي القصة .. أين وصلنا؟".. جلست وأنا أقول لها "وصلنا إلى حيث ضحكَ منكِ على الباب عندما وصلتِ إلى بيت أحمد ووالدتكِ" تعبير متألم لاح في وجهها عندما ذكرت اسم أحمد ووالدتها .. أجلت يافا حنجرتها وبدأت تسرد لي بقية الأحداث وأنا أصغي إليها بمزيج من الألم والفرح والإثارة والغضب والحزن والشفقة .. لم أستطع أن أتخيل كيف استطاعت أن تتحمل كل هذا .. فهي تبدو ضعيفة جداً لتتحمل صفعة فكيف تحملت رصاصة؟ وتبدو هشة لتواجه قطة فكيف واجهت وحش آدم؟ غامت عيناها بتعبير غريب هو شئ من الحزن والألم والغضب "لقد كانت سيلين محقة .. كان والدي خلف كل شئ .. لم أصدق كيف يمكنه أن يؤذيني بهذه الطريقة لكنه فعل .. دوماً كان يفعل ..ألم يرمِني برصاصةٍ في يومٍ ما ؟ ... مرت الأيام بعدها .. آدم كان يتغير تدريجياً .. لم أذكر أبداً ما قالته سيلين لي .. لقد حزنت عليها رغم أنها ساهمت في تدمير حياتي .. لكن ضميرها المعذب كان كافياً لي لأشفع لها .. وثم موتها المأساوي غسل من قلبي كل حقدٍ عليها .. رغم أنني لا أنكر أنها كانت لعنتي .. بعد هذا بستة أشهر .. كنت حاملاً في شهري السابع بلينا .. كلمنا أحمد يقول أن والدتي متعبة وفي السرير عندما ذهبنا علمنا أن والدي لم يكتفي من انتقامه بعد .. بل رفع دعوى قضائية ضد أمي .. يتهمها بسلب ملكية أرضٍ تنازل جدي والد أمي عنها له .. وطبعا جدي لم يفعل لكن والدي كان يريد لأمي أن تذهب للعراق .. واستدعاء من المحكمة كان يضمن له أنها ستأتي رغماً عنها .. أحمد لم يتركها تذهب لوحدها .. ولكن الاثنان رفضا مرافقتي لهما أنا وآدم .. هكذا ذهبا معاً .. وكنت أعلم أن هناك كارثة ستحل بهما .. لم أستطع أن أنتظر ولا آدم .. حجزنا طائرة وذهبنا إلى الأردن ومن هناك طرنا إلى العراق قبل موعد الجلسة بيوم .. ذهبت إلى بيت جدي .. حيث كانت أمي تقيم مع أحمد .. أمي لم تكن موجودة ولا أحمد .. عندما اتصلت عليها قالت أنها في حي الرواد تحضر بعض الأغراض للبيت طبعاً بعد أن أعطتني محاضرة توبيخية لحضوري .. بعد ساعة وبينما كنت أتابع الأخبار جاء خبر عاجل عن حدوث انفجار في مكان قريب من المكان الذي كانت تتسوق منه أمي .. فجن جنوني .. اتصلت عليها وعلى أحمد ولم يجيبا .. آدم استبد به القلق .. فقرر أن يخرج ليعاين المكان وبما أنه لا يعلم شيئاً عن مناطق العراق كان مضطراً لأخذي .. وعندما وصلنا .. "تهدج صوت يافا وسقطت دموعها .. فاقتربت أمسك يدها وأنا أقول "لا داعي لأن تكملي .." لكنها لم تكن صغي إليّ عيناها غامتا بتعبير غريب .. كأنها تعيش الأحداث الماضية وهمست بصوتٍ باكٍ "وجدت أمي هناك قرب السيارة المنفجرة .. مرمية على الأرض مغطاة بغبار الانفجار .. وأحمد يجلس بجانبها يأخذها بين ذراعيه ويصيح كالمجنون " شهقتُ برعب .. ولم أستطع منع دموعي من التساقط .. كيف تحملت أن تشاهد امها ميتة ؟ كيف تحملت أن ترى كل هذا؟ كيف؟ وهذا الوالد الشرير .. الحيوان العديم القلب .. المتحجر .. كيف كيف؟ أكملت متلعثمة بدموعها "عندما رآني أحمد صرخ أملي ماتت .. انهرت فأمسكني آدم وعندما حاول المسعفون إبعاد أحمد عن أمي راح يصرخ بصوت أعلى ثم غاب عن الوعي .. بعدها لم أدرك شيئاً لأنني غبت عن الوعي كذلك .. عندما استيقظت كنت في المستشفى وبجانبي آدم .. انهارت أعصابي .. وأنا أصرخ وأبكي كالمجنونة وآدم يمسك بي ويبكي مثلي .. بعدها صرخت أنني أريد أحمد ولكنه أخبرني بصوت متألم أن أحمد في غيبوبة .. نقلناه إلى لندن بعد أن أقسم آدم أنه لن يبقى .. دفنا والدتي وعدنا .. لم أكن أشعر بشئ .. كنت أهيم على وجهي كأن هذا الجسد لأخرى .. روحي كانت في مكان ما بين السماء والأرض .. بعد شهرين استفاق أحمد عندما اقتربت منه أقبله وأبكي سألني بصوت مصدوم "من أنتِ؟" وكانت هذه الكارثة الثانية .. أخبرنا الطبيب أن الضغط كان أكبر من أن يتحمله جسده وعقله .. ففضل أن يفقد ذاكرته .. وهو لن يستعيدها إلا إن أراد... رفض أحمد بعدها أن يقابلنا .. اختلى بنفسه في البيت وهو يقول أنه لا يعرفنا وأن آدم ليس ابنه .. وكان يصاب بانهيارٍ عصبي كلما حاولنا أنا أو آدم أن نقترب منه .. فنصحنا الطبيب بعدم زيارته لفترة .. حتى تستقر حالته ويصير مستعداً لسماع الحقائق .. فعقله الباطن ما زال يحاول التعامل مع حقيقة فقدانِهِ أمي" انخفض رأس يافا وتكسر صوتها وأطلقت لدموعها العنان .. احتضنتها وأنا أبكي معها قالت من بين دموعها "لقد خسرتهما معاً .. لقد حرمني أبي منهما" .. ما إن أنهت جملتها حتى طرق أحدهم الباب .. ودخلت بعدها أختي قمر شاحبة الوجه وهي تقول "مرحباً" ثم نظرت بذهول إلى وجهينا المبتلين بالدموع وركضت نحوي تقول "سارا ما الأمر؟"
*
راقب علي قمر تهرب من أمامه .. قلبه خفق بسرعة آلمته .. كم مر من الوقت على آخر مرة التقيا ؟.. سنوات طويلة باردة وقاحلة من حياته مرت .. لم ينتهي يوم منها دون أن يتذكرها فيه .. دون أن يغضب عليها حيناً ويشتاقها حيناً آخر .. رؤيتها صدمته .. هل كانت أختها قريبة منه طيلة الوقت .. يا للأقدار .. قمر بدت كما كانت دوماً .. جميلة وبسيطة .. شعرها الكستنائي كان مذهلاً بطوله .. لقد اعتاد أن يناديها بالهندية لجمال شعرها وقد كانت تكره هذا ! .. عيناها البنية كانت واسعة ومضيئة .. كأنها نجمتين .. شفتاها دوماً ما أذهلته بلونهما الوردي الجذاب .. كم أقسم في سره أنه سيقبلها يوماً قبلة تجعل من لونهما أحمراً قاني .. لكن هذا لم ولن يحدث أبداً .. هي الآن ملك رجل آخر .. تقلص وجهه بغضب وكره .. لقد أخذها منه ماهر .. وقد قبلتْ .. لقد تركته دون أي كلمة وذهبت .. وظن أنه كرهها لكن رؤيتها اليوم صدمته وجعلته يشعر بالحرارة تسري في دمه .. جسدها أصبح أجمل .. لائمها أن تكون أنحف من مما مضى .. زيها البسيط الذي أظهر ساقين عاجيتين .. جعل قلبه يخفق بشكل أحمق .. ورؤية سلسلته ما زالت تزين رقبتها المرمرية عذبه ودفع ألف سؤال وسؤال إلى دماغه .. الصدمة جعلته ينسى أن يسألها عن زوجها .. لكنه اعترف لنفسه .. لقد تناسى تلك اللحظة كل شئ عن زوجها .. واستمتع برؤية وجهها المشع النضر .. وعيناها المرتبكتين .. عندما مرت بجانبه فاحت منها رائحة العطر الذي كانت تضعه دوماً .. مزيج من الياسمين والزهور الأخرى .. يذكر جيداً كيف كان يخبرها أن لا تغير عطرها أبداً لأنه يذكره بالربيع ... خطواتها المستعجلة جعلت ظفيرتها الكستنائية تتمايل حتى آخر ظهرها .. خفق قلبه .. بينما أعطته نظرة أخيرة مرتبكة قبل أن تدخل إلى غرفة يافا..قراءة ممتعة..
يتبع...
أنت تقرأ
على بحر يافا(مكتملة)
Romanceرواية بقلم الكاتبة بلقيس علي "مُشتاقة" حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي..