الفصل الثاني والعشرين
دخل سامر إلى البيت وهو يزيح عن رقبته ربطة العنق الخانقة .. كم يكره هذه الملابس الرسمية .. فهي تقيده وتجعله يبدو على غير طبيعته .. استقبلته أمه بابتسامة لطيفة وهي تقول "مرحباً بك صغيري .. كيف كان يومك؟" ... قبل جبينها وهو يقول "كالعادة .. آه صحيح .. لقد أفاقت يافا" كانت والدته قد زارت يافا مرتين .. بعد أن جاء آدم في ضيافتهم .. فقد شعرت بالحزن لمنظره ولحال زوجته كما أنها لم تخفي فضولها برؤية المريضة الشهيرة التي يتحدث عنها ابنها وخطيبته .. أطل الفرح على ملامح وجه أمه الحنون وهي تقول بابتهاج "حقاً .. الحمد لله يارب .. وكيف آدم" .. أجابها "أخبرتني سارا أن الأمور تجري على ما يرام فمنذ صحت يافا وموقفها كان قد تغير من رؤية آدم .. يبدو أن معجزة قد حلت عليهما .. فوهبتهما السلام" رفعت أمه يديها إلى السماء في حركة شكر لله وهي تقول "الحمد لله يارب .. عقبال أن ترى أنتَ السلام يا حبيبي" ثم حولت نظرها إلى باب مكتب والده المغلق وهي تقول "أنه يريدك" تنهد سامر .. كلمات أمه تضمنت تحذيراً أن المشاكل قادمة .. رمى حقيبته وربطة عنقه على المقعد ومشى إلى مكتب والده .. بعد طرقة واحدة أَذِنَ له والده بالدخول فدخل .. والده كان يجلس خلف مكتبه الفخم يراجع أوراق عمل ودون أن يرفع رأسه قال له "كيف حالك بني؟" .. جلس سامر على المقعد أمام والده وهو يقول "جئت للتو من الشركة .. كل شئ على ما يرام .. الصفقة تمت بنجاح .. رغم أنها اخذت الكثير من النقاش" .. رفع والده بصره إليه وقال بفخر "كنت أعلم أنك ستنجزها" ثم عاد ينظر إلى أوراقه يقلبها وقال "هل تجهزت للسفر إلى السعودية؟" .. ها قد ابتدأت المشاكل .. فكر سامر .. لقد علم منذ البداية أن والده طلبه ليتكلم في هذا الموضوع .. تنهد وهو يجيب "لا أتذكر أنني وافقت يا أبي على الذهاب هناك.. السفر لسنتين لإدارة شركتنا بحجة اكتساب خبرة إضافية لم تقنعني" والده يريد أن يتقاعد لكنه قبل أن يسلم الشركات والعمل لابنه اشترط عليه أن يذهب إلى فرع الشركة في السعودية ليعمل لسنتين دون نصحه أو إرشاده ليتمكن من تقوية خبرته وليتأكد والده أنه من الممكن أن يدبر أمور العمل بدون مساعدة .. لكن سامر كان يعلم أن الأمر مجرد حجة لإبعاده عن سارا فوالده العنيد قد سبق ووضع سارا في قائمة الأشخاص غير المرغوب فيهم في حياته وهو ينوي أن يتخلص منها .. سمع صوت والده يخرجه من أفكاره وهو يقول بصرامة "أنا لم أسال موافقتك .. هذا أمر من رب عملك يا سامر" .. نهض سامر من مكانه وهو يقول بهدوء "إذاً أنا أستقيل .." رفع والده رأسه إليه بحده "ماذا تقول؟" هز سامر كتفيه "أعرف تماماً لماذا تريد أن ترميني هناك لسنتين بدون إجازاتٍ حتى .. تريدني أن أفترق عن سارا .. فأنا أعلم أنك لست مقتنعاً بها يا أبي .. لكنني لن أتركها .. ولن أذهب إلى هناك خاصة وأنت ترفض أن نتمم زواجنا" في الحقيقة والد سارا أيضاً يرفض أن يتمم الزواج .. والده يشترط عليه أن يستلم أمور الشركات أولاً ووالدها يشترط عليها أن تتزوج أختها الأكبر أولاً.. كلا الوالدين يلتزمان موقفهما بتطرف .. وهو وسارا عالقان في الوسط .. لكنه لن يتخلى عنها وليفعلا ما يشاءان .. لأنه لن يتركها وهي لن تتركه .. نهض والده من مكانه .. نظرة النسر تعلو وجهه .. إنه يعلم هذه النظرة الأشد قسوة التي يمتلكها والده "ستسافر يا سامر .. الاستقالة مرفوضة .. وانتهى النقاش" تصاعد الحنق في نفس سامر لكنه لم يجب .. يبدو أن والده لن يقتنع إلا بذات الطريقة التي استخدمها لإقناعه بخطبة سارا .. يبدو أنه بحاجة إلى طريقة مجنونة .. ترك والده وخرج من المكتب بدون أي تعليق ... عليه أن يتناقش مع سارا أولاً ..
*
طرقتُ الباب .. كنت أحمل صينية الدواء في يدي .. وأنا أشعر بالسرور أن يافا ستتناول دوائها بدل أن أضطر لحقنه داخل وريدها .. فعلامات الحقن على جلدها كانت تؤلمني .. دخلت ورقّ قلبي وخفق لمنظر يافا التي كانت تستند إلى صدر آدم الجالس على السرير بجانبها ،، وتغفو بسلام .. بدت الراحة على وجهها والسكينة .. كذلك ارتسم الارتياح على وجه آدم .. ارتياح من رعب ماضيهما على ما يبدو .. لكن قلقه على صحتها ما زال مطلاً من عينيه خصوصاً عندما رآني أحمل صينية الدواء .. همس لي بخفوت "ألا يمكن أن نؤجله قليلاً .. لقد غفت لتوها" ابتسمت وأنا أهز رأسي بالموافقة ثم أخبرته "لقد تكلمت مع الدكتور علي .. كل شئ على ما يرام" عندما علم الدكتور بأن يافا أفاقت جاء لفحصها لكنه عندما رآى آدم رفض بقاءه في الغرفة .. حتى عندما استبقاه بإلحاح من يافا كان يبدو غيرَ راضٍ أبداً خوفاً على صحة مريضته وحالتها النفسية لكنني تحدثت إليه قبل قليل وشرحتُ له مدى أهمية آدم في علاج يافا .. فاقتنع أخيراً .. الارتياح والامتنان أطلا من عيون آدم وابتسم لي .. ابتسامة خلابة زادت من رجولته .. لدى يافا الحق أن تعشقه .. فقد كان وسيماً بحق .. أخفضت عيني وأنا أبتسم وأفكر في أن سامر سيقتلني لو عرف بماذا أفكر .. رفعت رأسي ثانية وأنا أخبره "سامر سيأتي في المساء لزيارتها" ابتسم مرة أخرى "شكراً لكما" نظرت إلى يافا بحنان .. ما أجملها .. ضئيلة وصغيرة مقارنة بحجم آدم .. ابتسمت في حلمها .. كأنها تحلم بأشياء سعيدة .. فحمدت الله في داخلي .. استأذنت وأنا أذكر آدم بالدواء .. ثم خرجت .. مر بعدها الوقت سريعاً .. كان المساء قد حل قبل أن ألاحظ .. حتى وجدت سامر يقف أمامي .. خفق قلبي ورفرف بين ضلوعي .. حبيبي جاء ... بقامته الجميلة وطوله الفارع .. بعينيه البنية وشعره البندقي .. مرتدياً جينزاً غامق اللون مع تي شيرت أبيض .. ابتسم لي وقال : "سارتي .. هل انتهى عملكِ؟" هفى قلبي عندما نادني بسارتي .. كأنه يملكني .. وهو يفعل بالتأكيد .. نظرت إلى ساعتي وأدركتُ أن عملي انتهي فأجبته بنعم عندها قال لي "تعالي لأسلم على يافا .. لنرى هل لها عينان بزرقة البحر كما تقولين" ضحكت له وتمشينا معاً إلى غرفة يافا وقبل أن أطرق الباب أمسك يدي ونظر في عيني وقال "اشتقتُ إليكِ" كدت أن أحتضنه لولا أننا في المستشفى .. أطل الحب من عيني وأنا أقول له "ليس بقدر ما اشتقت إليك" ثم طرقت الباب ودخلنا .. يافا كانت تجلس على كرسيها المفضل المطل على النافذة لكن هذه المرة كان آدم يجلس على كرسي بجانبها وكانت هي تميل برأسها إليه وتحدثه بهمس وتضحك وفكرت لقد انتهى زمن الانتظار.. نظر سامر إلي وابتسم وقد فهمت ابتسامته .. كان يقول لي "انظري إلى عصفوري الحب" بادلته الابتسامة وأنا أقول "طرقت الباب .. ألم يسمعني أحد؟" التفت آدم ويافا نحوي .. نهض آدم بسرعة وسلم على سامر لكنه هذه المرة لم يصافحه بل تقدم إليه واحتضنه وسمعته يهمس في أذنه "لقد سامحتني" ربت سامر على كتف آدم ... صداقتهما أسعدت قلبي .. التقارب بينهما كان رائعاً .. فكما أنا أشعر برابط خفي يربطني بيافا يبدو أن آدم وسامر يشعران برابط صداقة خفي كذلك .. تنحنحت يافا وهي تقول "حسناً هل أضع سامر في قائمة الاشخاص الذين أغار منهم؟" التفت آدم إليها وهو يطلق سراح صديقه وضحك "لا أحد ينافسكِ" ابتسمت له بحب ثم التفت إلى سامر .. الذي كان تقدم نحوها وهو يقول مبتسماً "أهلاً بعودتك يافا .. سارا أكلت رأسي بسيرتكِ" شهقت وأنا أقول "سامر" ضحكت يافا وهي تقول "لقد قلتُ لها مرة أن تحضرك لأجر أُذُنك وأقول لك أي هديةٍ هبطت لك من السماء" ضحكت وأنا اتذكر هذا الكلام بينما استدار نحوي سامر عابساً بطريقة درامية ثم التفت إلى يافا "تجرين أذني؟ .. سأجر أذنها تلك الشقية" ساد جو الضحك في الغرفة جلست أنا وسامر على حافة سرير يافا بينما اتخذ آدم مكانه جانب يافا .. همس لي سامر عندما كان آدم يعدل وضعية الشال حول كتفي زوجته "لقد كنتِ محقة بشأن عينيها .. لكن عيناكِ أجمل" ملتُ برأسي على كتفه دون أن أتكلم عندها سمعت صوت آدم "يافا احضري معي فلم الغرام هذا" ضحكت يافا وشاركها آدم وسامر بينما احمرت وجنتيّ خجلاً ... بعد ساعه تركنا الزوجين معاً .. عانقتني يافا بحب وهمست "أنا سعيدة سارا" امتلأت عيني بالدموع فرحاً لأجلها .. أن تكون سعيدة فهذا أقصى ما كنت أتمناه .. قبلت وجنتها وأنا أقول "وأنا سعيدة كذلك .. جداً" ثم انسحبت لكن ليس قبل أن أهمس لآدم على غفلة من الجميع "شكراً" واتجهت عيناي ليافا ففهم أنني أشكره لأنه معها .. فقال لي "أنا أحبها" كدتُ أن أبكي فرحاً .. مشاعره ظهرت على وجهه .. وأخيراً .. ها هما يجتمعان من جديد .. في يوم ما على يافا أن تحدثني ببقية القصة .. أمسك سامر بيدي وهو يلقي تحية المساء وخرجنا .. قال لي "والآن إلى الجاردنز أم إلى مكة مول " شدت أصابعي على أصابعه وأنا اقول "أي مكان .. معك" .. كشر لي وهو يقول "إذاً إلى البيت" ضربته بيدي الحرة على أعلى ذراعه المعبأ بالعضلات "سخيف" ضحك وهو يجرني خلفه إلى السيارة..
*
بدت جميلة ككل مرة .. حتى بملابس التمريض كانت جميلة .. مشعة ودافئة .. أخذها إلى مكة مول ... جلسا في المطعم ليتناولا العشاء .. كانت تضحك بفرح حقيقي .. بدت مرتاحة جداً وقد عرف السبب .. فيافا أفاقت .. وهي مع آدم الآن .. لم يكن يعرف كيف سيخبرها بالأمر .. كيف سيشرح لها .. لكن عليها أن تعرف .. فكل الحلول ضاقت به ذرعاً .. انتبه إليها وهي تقول "ألن تقول لي ما الأمر؟" نظر إلى عمق عينيها .. كم تفهمه .. كم تعرفه وتشعر به .. أمسك بيدها عبر الطاولة وهو يقول "هناك موضوع أريد أن أكلمكِ فيه" .. اعتدلت امامه وارتسمت الجدية على وجهها "أسمعكَ حبيبي" .. "إنه أبي" ظهر الفهم على وجهها وعلمت أن مشكلة جديدة في الطريق إليها .. راقبها وهي تتنهد .. شفتاها انفرجتا بإغراء لم تشعر به لكنه أحرقه .. أجبر نفسه أن يركز فواصل يقول "يريد أن يسلمني أعماله كما تعرفين.. لكنه اشترط أن أستلم فرع المجموعة في السعودية لمدة سنتين دون إجازاتٍ حتى .. ليتأكد من حسن إدارتي وقدرتي في تدبير الأمور لوحدي" الدهشة علت وجه سارا الجميل .. عضت على شفتيها وأغمضت عينيها وراقبها وهي تحاول أن تهدأ نفسها فأشفق عليها .. وتصاعد حنقه على والده فقبض على يدها بشكل أقوى "لقد استقلت .. لن أترككِ أبداً" راقبها تبتلع ريقها وهي تقول بعد لحظة تفكير "لا يمكنك أن تستقيل .. هذه أعمال العائلة .. هذا ما شقى والدك لأجله وتعب .. لا يجب أن تخيب ظنه" كان يعلم أنها نبيلة بما يكفي حتى لا تُظهر استيائها من والده ولا تشجعه على كسر كلامه .. لو كان والده يعلم أيُّ كنزٍ هي سارا .. لفهم لماذا هو يتمسك بها .. نظر إليها وهو يقول "كيف تقولين هذا؟ إنها سنتان يا سارا .. كيف سأتحمل .. سأموت" انتفضت عند آخر كلمة وصاحت "بعيد الشر .. لا تقل مثل هذا الكلام أبداً,, ثم أيها الأحمق هناك اختراع اسمه انترنيت .. يمكنك أن تراني وتتكلم معي كل يوم كما نفعل الآن" ذلك التفاني من جانبها جعله يغضب من والده أكثر .. فسارا تحاول أن تخفي مشاعرها الحقيقية وبالكاد تستطيع لجم الدموع في مآقيها لكي لا تعرضه لمشكلة مع والده قال لها بإصرار "لن يكون نفس الشئ .. لن أستطيع لمسك والإحساس بدفئكِ .. سأكون كالضائع .. لن أذهب يا سارا وانتهى الأمر" سحبت سارا يدها وقالت بجديه "لن أدعك تتشاجر مع والدك وتقف ضده بسببي .. اذهب وإلا لن أستمر في هذه الخطبة" اتسعت عيناه بدهشة .. هذه الفتاة الحمقاء الشجاعة تريد أن تضحي بحبها له حتى لا يخسر علاقته بوالده .. نهض من مكانه ورمى بضع أوراق نقدية على الطاولة وأمسك بيدها وخرجا .. كان يمشي بسرعة يجرها خلفه .. حتى وصلا إلى السيارة وما أن أغلق الباب حتى التفت إليها واحتضنها مقبلاً إياها .. فبادلته قبلته بشغف .. كم يحبها .. كيف يمكنه أن يصبر على فراقها .. هو لن يستطيع .. عليه أن يجد حلاً ما .. أي حل .. رن هاتفها فقطع لحظتهما السحرية كانت هذه أختها قمر تطمئن عليها .. فكر أن قمر مشكلة أخرى وهي عائق آخر في وجه ارتباطه بسارا .. قمر لطيفة وجميلة لكنها لم تتزوج لحد الآن .. ليس لقلة العرسان ولكن لأنها ترفض الواحد تلو الآخر .. وبما أنها أكبر من سارا فقد اتخذها والد سارا حجة لعدم إتمام الزواج كما اتخذ والده من إدارة الشركات حجة .. بعد أن أنهت الاتصال أخبرته بضرورة العودة .. طوال الطريق كانت تمسك بيده بينما يقود بالأخرى ولكنه كان يراقب أفكارها تشرد للبعيد .. وهو يعلم بماذا تفكر .. وكان عليه أن يجد حلاً .. أمام البناية المتواضعة التي تسكن فيها سارا .. ودعها سامر بقبلة خاطفة خوفاً من أن يراهما أحد .. وراقبها وهي تختفي داخل البناية .. آخذة قلبه معها.
*
كانت قمر في المطبخ عندما سمعت صوت الباب يفتح وعلمت أنها أختها سارا .. وتوقعت من سارا أن تُطل بأي لحظة عليها مبتسمة ابتسامتها الشقية .. لكنها لم تأتِ .. أطفأت قمر النار تحت قدر الحساء وتبعت أختها التي لم تكن في الصالة .. فخمنت أنها في غرفتهم صعدت إليها وقبل أن تفتح الباب .. سمعت صوت نحيبها .. فدخلت مفزوعة دون أن تطرق الباب .. وهي تقول بقلق "حبيبتي ما الأمر؟" التفت سارا بعينين دامعة إلى أختها وهي تقول بحزن آلم صدرها "سوف يأخذوه مني" جلست قمر على السرير وأخذت أختها بين يديها وتركتها تبكي .. وخمنت أن المشكلة لا بد قادمة من والد سامر .. بما أن والدها لم يفتعل أي مشكلة فهذا دور والد سامر .. كلا الوالدين يتناوبان على تعذيب أولادهما .. شعرت بحجر ثقيل يسقط فوق صدرها .. هي نفسها مشكلة .. ومشكلة كبيرة بالنسبة لسارا وسامر .. وكم تمنت .. كم تمنت أنها تستطيع أن تجد حلاً لنفسها .. لتترك المجال مفتوحاً أمام أختها وتبطل حجة والدها .. ولكن كيف تجد الحل .. وصورة ماهر لا تزال تهاجمها كل ليلة في كوابيسها !قراءة ممتعة..
يتبع...
أنت تقرأ
على بحر يافا(مكتملة)
Romanceرواية بقلم الكاتبة بلقيس علي "مُشتاقة" حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي..