مُلحق الفصل الرابع

3.1K 193 5
                                    

مشكلة تمشي على رجلين
ملحق الفصل الرابع - رواية على بحر يافا

يافا ، يافا ، يافا ... هذا الاسم الذي لم يتوقف عن سماعه لسنة كاملة ،، وأخيراً ستأتي صاحبته شخصياً .. وسيرى اليوم يافا بعينيه لا بعيني أمل .. كان متحمساً لفكرة قدومها ، فلطالما تمنى أن يكون له أخت صغيرة يدللها ويرعاها ، ويافا ستكون هذه الأخت المنتظرة ... ابتعد عن النافذة التي كان يقف إلى جانبها مطلاً على الحديقة المرتبة حيث وضعت أمل كل طاقاتها الفنية لتجعلها تبدو على أحسن وجه وقد بدت .. واتجه يجلس على الأريكة ،، ركز نظره على الحائط لصورة ملتقطة لوالده وأمل قبل شهرين ،، ملامح والده نطقت بالحب ، كما نطقت به ملامح أمل ... هو يذكر تماماً تلك الليلة التي اتصل فيها والده من عمّان ليخبره أنه وجد أمل وأنه سيتزوجها ، ويتذكر كيف شجعه على هذه الخطوة. آدم ممتن للفتة والده اللطيفة باستئذانه الزواج من حبيبة الصبا رغم أن آدم يعلم أن رفضه لم يكن ليحول دون هذا الزواج ولكنه بالتأكيد سيحول دون سعادة والده الكاملة ، وسعادة والده هو كل ما يتمناه ... وأمل هي سعادته،، كيف لا؟ وهو يتذكر كم مرّ اسمها في قصائده ، الغريب في الأمر أنه لم يكن يكرهها ، كان ينظر إليها كآلهة عظيمة من خلال كلمات والده ، ولم يشعر بالغضب تجاهها لأنها احتلت مكاناً كان من المفروض أن تحتله أمه ،، ابتسم بسخرية وهو يصحح لنفسه "شانتال" وليس "ماما" فمنذ أن وعى تعود على نظرتها الغاضبة كلما ناداها ماما ثم كلماتها الفرنسية الحانقة " أنا شانتال يا آدم .. لا تناديني ماما" ، حتى في ذاك السن المبكر استطاع أن يشعر مدى رفضها له ،، طبعاً فشانتال كانت رائعة الجمال ، بقامتها المديدة ، بشقرة شعرها ، بالخضرة الخالصة في عينينها وبرشاقة جسدها .. وهي بكل هذا لم تستطع أن تعترف أنها فقدت شيئاً من شبابها وأنها أصبحت أم ، عرف منذ البداية أنها لم تكن تريده ، لم تكن تريد أي أطفال حتى لا يفسد شكل جسدها الجميل ، ولكن والده كان متلهفاً لطفل يملأ عليه حياته بعاطفة خالصة ، وشاء القدر أن تحمل شانتال به في أول أشهر زواجها من والده ، سمعها مرة تقول له وهي تتجادل كعادتها أنها لم تكن تريده ، أنها لم تكن تريد أن تصير أماً في هذا السن المبكر ، إنهما ما زالا أطفالاً على الإنجاب ، وكان والده يجيب دوماً بذات الأجابة "آدم هو أفضل ما في علاقتنا يا شانتال ، إنه ابني ، ملاكي الصغير ، قصيدتي التي تزداد كل يوم شطراً أجمل من الذي قبله" ،، وكانت ترد عليه دوماً بذات الحنق والضحكة الهازئة "شاعر" .. كانت تقولها له كأنها تشتمه ، وهذا ما آلمه ،، آلمه أن يرى الجميع والده رجلاً ناجحاً وشاعراً مرموقاً بينما زوجته ، أقرب الناس إليه تستنقص منه ومن موهبته ، شانتال لم تكن يوماً رقيقة ، كانت دوماً تهتم لنفسها ، لجمالها ، لعروض الأزياء والحفلات والسهرات الاجتماعية ، ابتسم وهو يتذكر كيف كان يجد أحياناً والده يدخل إلى غرفته بينما هناك حفلة صاخبة تجري في الأسفل ويستلقي معه على السرير الصغير ونصف ساقيه في الهواء ،، ويحتضنه ويقول بمرح "أريد قليلاً من الحنان يا قصيدتي" وكيف كان يلتصق بوالده ويطلب منه أن يقرأ له قصيدة ، ومنذ ذاك الوقت وهو يسمع اسم أمل في القصائد حتى تقبلها وفهم قبل أن يقص عليه والده أنها حبيبته الحقيقية ، وهكذا عاش مع أمل ،، القصيدة الكاملة بنظر والده ، لذا عندما توفيت شانتال في حادث سير عندما كانت تقود مخمورة في شوارع "غراس" بفرنسا ، فإنه ووالده لم يستطيعا أن يشعرا بحزن عميق ، شعر آدم بالأسف لموتها وهي في عز شبابها ولكنه لم يشعر بفقدان الأم ، لأنها لم تكن أبداً أمه ،، كانت دائماً شانتال ، وهكذا ستبقى في فكره ،، والآن ها هو والده بعد كل هذه السنين يلتقي بحب حياته ، و آدم سعيد لأجله ، وخصوصاً بعدما قابل أمل شخصياً وعرف كم كان والده محقاً في كلامه عنها وفي قصائده لها ،، كانت مثل النسيم العليل ،، هادئة ومبتسمة وعيناها تنطق بحنان، استشعره لأول مرة عندها رفضت أن تصافح يده الممدودة وألقت ذراعيها حوله عوضاً عن ذلك ،، انحنى آدم لا إرادياً لها ليسهل عليها عناقه ففارق الطول بينهما لم يسمح لها أن تصل إليه إلا بعد أن ترفع نفسها على أصابع أقدامها ،، يوم غمرته شعر بحنان غريب ، لم يعتد عليه ،، طبعاً حنان والده كان دائماً حاضراً لكن هذا الحنان من نوع آخر ،، حنان دافئ جداً ،، كحنان الأم ،، أو هذا ما خمنه ذلك أنه لم يعرف يوماً حنان الأم .. بادلها العناق ومن ذلك الوقت وأمل هي بمثابة والدته ، وحقاً هي تتصرف كأنها أم متسلطة فبعد أن فشلت في جعله يعيش معهما صارت تكلمه يومياً وتسأله أسئلة الأمهات التي لم يعتد عليها "هل نمت جيداً؟" "هل تناولت طعامك؟" "هل ترتدي ملابس سميكة؟" ثم تبدأ بإلقاء الأوامر "لا تدخن" "لا تتأخر في العمل" "تعال لزيارتنا" ورغم أن آدم يقول لها في كل مرة أنه لم يعد طفلاً لتخاف عليه فهو قادر على تدبر أمره إلا أنه يعترف لنفسه أنه يشعر بمتعة خفية لهذا الاهتمام الأمومي منها ،، أنه يحب أمل ، فهي الوالدة التي تمناها دوماً .. والحصول عليها متأخراً أفضل من عدم الحصول عليها نهائياً ،، وها هي يافا ستأتي لتأخذ مكانها بين العائلة فهل سيفعلها حظه السعيد مرة أخرى ويحظى بأخت جميلة ؟ لا بد أنه سيكون أمراً ممتعاً أن يصحبها إلى كل الأماكن السياحية ويصير صديقاً لها ، ينصحها ويحميها ويستمع لها ،، فهناك رغبة لا يود الاعتراف بها عن حاجته في الاعتناء بشخص ما ،، ابتسم لنفسه وفكر بسخرية لو أن إحدى صديقاته علمت كم هو رقيق خلف مظهره الصلب لوقف شعر رأسها .. فهو للآخرين دائماً "آدم الحديدي" الذي لا يهزه شئ والذي لا يملك عاطفة تجاه أي شئ سوى عمله ،، ساعده مظهره لتكوين هذه الصورة فهو يملك تلك الصلابة التي كانت تتمتع بها ملامح شانتال وإن كان يملك قلب والده ، ذلك القلب الذي وعد نفسه أنه لن يعطيه لأي امرأة ، فهو قد رأى ما فعل الحب بوالده ، فقد جعله مهووساً بامرأة طوال عمره ،، حتى فقد طعم الراحة ، وإن كان محظوظاً للقاءه بها ولكن آدم لا يستطيع إلا أن يشفق على والده من سنوات الحب الصامت الطويلة جداً ، وهو لا يريد أن يكون كذلك ، لا يريد أن يكون ضعيفاً أمام نفسه ، لا يريد لامرأة أن تمسك قلبه وتسيطر عليه ، لذا فتلك العلاقات الجسدية السريعة والمبنية على تفاهم مشترك أساسه المتعة المؤقتة تبدو مناسبة جداً له وتخدم أغراضه ..
استفاق من أفكاره على صوت السيارة القادمة وعرف أن والده وأمل قد وصلا من المطار .. شعر بإثارة ، وهو يتخيل شكل لقاءه بالأخت المرتقبة "يافا" .. مشى نحو مدخل البهو وفتح الباب وأطل منه على الخارج وراقب والده ينزل ضاحكاً تتبعه أمل مشاركة إياه ضحكه ثم نزلت .. وتوقف كل شئ للحظة ،، قصيرة القامة ،، محمرة الوجنتين ،، خصلات من شعرها تلتف حول وجهها بينما تنتشر الأخرى بفوضوية على ظهرها لتعانق خصرها الرشيق المتدثر بمعطف شتوي ،، تقدمت نحوه مع والده وأمل ،، وكلما اقتربت شعر آدم بالضيق أكثر وتقطعت أنفاسه ، تهادت في مشيتها وهي تنظر باتجاهه ،، شكلها بدا أوضح ،، فم أحمر بلون الدم ،، عينان لم يتبين لونهما لكنه رأى مدى اتساعهما،، خذلته استقامة جسده ، فمال إلى حافة الباب يستند ،، "هل هذهِ يافا ، هل هذه أخته الجديدة؟" تمتم من بين أسنانه "اللعنة" كانت قد وصلت إلى السلالم المؤدية إلى مدخل البيت ، ورفعت نظرها إليه فشاهد بحرين من الفيروز يهيمان في عينين باتساع عيون المها ،، دون أن يعلم ارتدى وجهه التعبير الساخر ،، في داخله أطلق شتيمة أخرى وهو يفكر "اللعنة ، مشكلة تمشي على رجلين" !!

قراءة ممتعة..
يتبع...

على بحر يافا(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن