الفصل الثامن والعشرون والأخير

3K 149 7
                                    

الفصل الثامن والعشرين والأخير



تألقت قمر بثوبها الأبيض .. وتسريحة شعرها البسيطة .. مكياجها الهادئ أعطاها شكلاً ملائكياً .. علي كان يجلس بجانبها .. لم تعرف بماذا تشعر .. بالفرح اللانهائي لأنها تتزوج من الرجل الذي لطالما أحبته أم بالخيانة المطلقة لرجلٍ ظلمته معها .. وجه زوجها كان خالياً من أي تعبير .. هي لا تعلم لماذا استمر في الخطبة والزواج .. بعد أن قالت له بصراحة سبب قبولها به .. فهو على الرغم من استمراره في إتمام الزواج كان بارداً جداً معها .. يكلمها عند الضرورة .. يراها عند الضرورة .. ولا يقابل عينيها أبداً بضرورة أو بغيرها .. كانت تتألم في داخلها .. لأنها تشتاق لعلي الذي كانت تعرفه .. وليس علي الذي تراه الآن .. لكن من يلومه؟ هي السبب في كل شئ .. ومن يلومها؟ إذا كانت أشباح الماضي تطاردها .. لاحت لها أختها من بعيد متألقة في ثوبها الأخضر يحوم حولها سامر ينظر إليها بوله فابتسمت .. سعادة أختها هي الشئ الوحيد الذي ربحته من هذا الزواج .. انتقلت نظرتها إلى يافا وآدم .. يافا تجلس بهدوء تبتسم لشئ يقوله والد آدم .. بدت شاحبة أكثر من الأسبوع الماضي عندما رأتها آخر مرة .. لكن الأمر يعود إلى حملها في ظروف صعبة .. تعجبت لماذا تحتفظ بالطفل وهي مريضة لهذه الدرجة لكن يافا قالت لها حتى دون أن تسألها أنها تريد الطفل ذكرى لحبها لزوجها وحتى يبقى شئ منها في هذه الحياة بعد أن تغادرها .. عندما قالت لها هذه الكلمات لم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء .. يافا قوية جداً .. واجهت كل أشباح الماضي وما زالت تواجه وهي تحمل إصراراً لا ينضب لتعيش حياتها سعيدة .. وهي تبدو سعيدة برغم شحوبها .. وآدم الذي ينظر إليها كأنها الشئ الوحيد في هذا العالم يبدو سعيداً أيضاً .. وتمنت من كل قلبها أن تحظى يوماً بهذه السعادة مع الرجل الزيتوني العينين الجالس بجانبها ..
عندما انتهت الحفلة بدأ جسد قمر بالارتعاش .. فهي تعرف الخطوة التالية .. نهض علي وقدم لها يده فدست يدها في ذراعه دون أن تنظر إليه .. رجفة يدها عبرت إليه عبر عضلات ذراعه .. لكنه لم يعلق بل تقدم بها محيياً أهله وأهلها وركب معها السيارة .. في الطريق كان صامتاً جداً .. ترك موسيقى ناعمة تصدح في جو السيارة المتوتر .. تقلصت أصابع قمر على بعضها من الخوف .. وعندما وصلا إلى الفندق كادت تعثر وتسقط لدى نزولها من السيارة لولا يد علي التي أنقذتها .. لم تلتقي بعينيه أبداً .. وهو تحاشى النظر إليها .. عندما وصلا إلى غرفتهما كانت قمر على وشك أن تفقد سيطرتها على نفسها وتولي هاربة لكنها قاومت هذا الإحساس وخطت إلى الداخل .. لم تستطع أن تنتبه أو تركز على ديكور الجناح لكن عيناها التقطت اللونين الأزرق والأبيض الطاغي على الغرفة .. تقدم علي ووقف إلى جانبها وقال بصوت لا يحمل أي انفعال من أي نوع "سأغير ملابسي لتناول العشاء .. وأنصحكِ بفعل نفس الشئ" ارتعشت وهي تنظر إليه بخوف .. وقرأ خوفها فقال "أنا سأستخدم الغرفة الملحقة" ومشى دون أن يرى تعابير وجهها .. اتجهت إلى الغرفة الرئيسية ووقعت عينها على السرير الكبير الذي كان يتوسط الغرفة فطرق قلبها خوفاً وإثارة .. حولت نظرها بسرعة وفتحت حقيبتها وتحاشت النظر لملابس النوم المخرمة والجميلة والتقطت بجامة نوم قطنية وعادية وأسرعت إلى الحمام .. تخلصت من فستانها والدبابيس التي كانت تبقي شعرها مرفوعاً بإحكام ووقفت تحت ماء الدوش تحاول أن تسترخي لكن النتيجة أنها خرجت منه أكثر توتراً .. في الخارج كان ينتظرها علي .. جالساً على الطاولة يتناول الطعام بهدوء .. أصابعه الجميلة الممسكة بكأس الماء جعلتها ترتعش .. لكم أحبت أصابعه .. ولكم تغزلت بها .. أخفضت عينيها وتقدمت بينما عيناه تمسحان بجامتها وشعرها المبلل ووجهها الخالي من الزينة .. جلست قبالته وبدأت بتناول الطعام رغم أنها لا تتذوق شيئاً منه فعلاً .. الصمت كان مزعجاً بشكل كبير وأثار توترها اكثر .. فجأة نهض علي وقال "تصبحين على خير" ومشى مبتعداً إلى الغرفة الملحقة .. رمت قمر الملعقة من يدها ونزلت دموعها على خدها .. هي لا تعلم لماذا تبكي .. لكن بروده معها كان غير محتمل .. أوجع قلبها .. هل ستكون هذه شكل حياتهما كيف يمكن لشخصين أن يكونا بهذا التباعد بعد أن جمعتهما قصة حب كبيرة .. كيف يمكنه أن يكون لا مبالياً هكذا .. كم مرة خططا لزواجهما؟ كم مرة تحدثا عن ليلة عرسهما؟ كم مرة تشاركا الأحلام الرومانسية عن هذه اللحظات .. موجة من الغضب عصفت بعقلها .. لماذا يجب عليها أن تبقى هكذا؟ أن تعيش حياتها في سجن بارد بينما الرجل الذي تحب يبعد عنها بضع خطوات .. نهضت من مكانها تتجه بغضب نحو غرفته و دون استئذان فتحتها لتجده جالساً على حافة السرير يدخن سيجارة .. نسيت ما كانت ستقوله وقالت باستغراب "أنت تدخن!!" نظر إليها وقال بلا مبالاة "منذ أن رأيتكِ مرة أخرى وصار التدخين عادة .. لأن التوتر صار عادة !" أخذت نفساً عميقاً وقالت ما عزمت أن تقوله "لقد أصيب بنوبة قلبية .. أعني أبي .. لم أستطِع أن أرفض ماهر فكرت أنه كان سيموت بسببي" نظر إليها باستغراب .. فهو لا يعلم هذا أبداً.. جلست على الأرض بشئ من الضعف وهي تقول بصوت بائس "عندما صفعتني كدتُ أن أخبركَ بالحقيقة لكنني قررت أن هكذا أفضل .. فكاذبة لا تستحق الحب أفضل من حب لا تستطيع الوصول إليه .. فكرت أنك ستنساني بسهولة إذا ما تصورتني بشخصية الكاذبة الخائنة .. .أتعرف ما يضحك في الموضوع؟" ضحكت بسخرية والدموع تتجمع بعينيها "أن كلاكما يراني خائنة .. لقد صاح بي أنني خائنة عندما رآني أحتضن صورتكَ وأبكي" تراجع رأس علي للوراء كمن تلقى صفعة بينما أكملت "بسببي ذهب إلى فلسطين .. بسببي مات" ثم انهارت تبكي .. قفز علي من مكانه وجلس على الأرض بجانبها .. واحتضنها وهو يقول "لا تبكي حبيبتي أرجوكِ" تسمرت في مكانها وهي تسأل ببلاهة "حبيبتي؟" قبل جبينها "دوماً كنتِ حبيبتي قمر .. دوماً .. لماذا تظنين أنني تزوجتكِ .. لقد تزوجتكِ وأنا على يقين أنكِ تحبين ماهر لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي عنكِ لقد تمنيت أن أمحو ذكراه مع الأيام .. لكن الآن وأنتِ ترمين تلك الحقائق في وجهي لا أستطيع أن أتخيل كيف اتهمتكِ بالخيانة" دفنت وجهها في صدره "أنا أحبكَ علي.. ولكنني لا أستطيع أن أغفر لنفسي .. لقد قتلت ماهر" طبطب على ظهرها وهو يقول "استغفري ربكِ يا قمر أنتِ تقولين كلاماً لا يجوز أن تقوله فتاة مؤمنة .. هذا أجله .. ويومه كان قد حلّ ولو كان في أي مكان لوافته منيته .. تذكري قوله تعالى "أينما تذهبوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" .. كان سيموت في فلسطين أو في غيرها .. إن الله كتب عليه أن يولد في موعد ويموت في موعد ولا راد لقضاء الله" تشبثت به وهي تهمس "أستغفر الله ،، أستغفر الله" نهض وأنهضها معه .. أمسك بوجهها بين يديه ومسح دموعها .. "لا تبكِ يا قمر .. دموعكِ تدمي قلبي" شهقت في محاولة لتوقف دموعها فانحنى عليها يقبل خدها .. اشتعل خدها جمراً إثْرَ قبلته .. تخللت أصابعه شعرها وقبل جبينها "أحبكِ" همست له بصوت مبحوح "أحبك" نظر إلى عينيها مطولاً ثم انحنى يعانقها..
*
نظرت يافا لنفسها في المرآة .. تتحسس بطنها المنتفخ بحب .. هذا شهرها الأخير .. تفصلها أيام بسيطة عن ولادة طفلتهما .. اقترح طبيبها أن تنجب بعملية قيصيرية نظراً لحالتها الصحية لكنها رفضت وأصرت أن تختبر تجربة الولادة .. كما اختبرتها يوماً مع لينا .. لقد كانت تجربة مؤلمة لكنها فريدة وسحرية في ذات الوقت .. عندما علمت أنها حامل بطفلة شعرت بأن معجزة تتحقق وأن الله يعوضها عن خسارتها لينا .. قررت وبدون أي تردد أن تسميها أمل .. عندما سمع أحمد الاسم وضع يده على بطنها وبكى وهمس بكلمات شكر وامتنان .. هي تفهم مشاعره تماماً .. فطفلتها أمل ستحيي بشكل ما والدتها .. هي لا تستطيع أن تقول أن أشهر الحمل كانت سهلة عليها .. فهي باتت لا تتذكر عدد المرات التي دخلت بها المستشفى إثْرَ ضعف حاد أو إرهاق .. مرضها أثر على بنيتها الضعيفة أصلاً ،، كانت فترة صعبة .. لكنها ستنتهي قريباً .. بقائها على قيد الحياة للآن وحده يكفي ليجعلها تشكر الله ألفَيْ مرة .. دخل آدم عليها وهو يبتسم "كيف حال بالونتي يوفي؟" عبست في وجهه متصنعة الحنق "أنت تسخر مني ومن ابنتك دودي .. سأجعلها تركلك عندما تأتي إلى الحياة" وقف ورائها ولف ذراعيه حولها ليتشابك كفيه على بطنها "أحبك وأنتِ بالونة كبيرة هكذا وأحب امل وهي تركل كأنها تشاكي شان" أرجعت رأسها إلى الوراء لتستند إلى صدره وتغمض عينيها .. هذه هي الجنة .. فكرت بسعادة .. هنا تنتمي .. هذه الذراعين المحيطة بها تكملها .. تجعلها مكتفية وراضية .. هنا بيتها ووطنها .. هنا ، بين ذراعيه تكتشف يافا الحقيقية .. التي خلقت من ضلع آدم .. أول الرجال في حياتها وآخرهم همست بحب "أحبك" .. وقبل أن يتسنى له الرد انقبضت عضلات معدتها في ألم غريب .. صاحت وهي تنتفض "آآآآآآه" تصلب جسد آدم الملتصق بها وأمسك بذراعيها وأدراها إليه برفق يتنافى مع الرعب في صوته "ماذا حصل؟ هل تتألمين؟" قبل أن ترد شعرت بشئ ساخن يسيل على ساقيها .. فتحت عينيها مذهولة "أتاني المخاض" وما إن أتمت الجملة حتى رأت نفسها محمولة بين ذراعي زوجها الذي ركض نحو الباب ومنه إلى السيارة .. كان يقود بسرعه جنونية .. صاحت "أبطئ أرجوك" أبطئ من سرعة السيارة وهو يتمتم بقلق "آسف .. هل أنتِ بخير؟" رغم ألمها لكن منظره المرعوب أضحكها فأفلتت منها ضحكة متأوهة "بالطبع أنا بخير .. أنا على وشك ولادة أمل .. أنا بخير بالتأكيد" أمسك بيده فتعلق بيدها بشدة وواصل القيادة .. في المستشفى أدخلت بسرعة إلى صالة الولادة .. هناك اختبرت يافا أجمل معجزة .. شعرت بطفلتها تنسل من جسدها وسمعت أول صرخة تطلقها أمل .. كان العرق يتصبب من جبينها.. عضلاتها ارتخت في تعب ظاهر .. تنفست بصعوبة .. ألم في رأسها واصل الطرق .. لكنه أبداً لم يقلل من فرحة سماع صوت ابنتها .. قالت بوهن "أريد أن أراها" .. الرؤيا بدأت تتشوش أمام عينيها .. لكنها لمحت طفلة وردية الجلد محمولة بين ذراعي ممرضة .. همست بحب "أمل" قبل أن تظلم الدنيا في عينيها..
*
كان آدم يذرع الممر أمام صالة الولادة بنفاذ صبر .. والده كان يجلس على المقاعد بجانبه جلس سامر وسارا .. الكل كان ينتظر بترقب .. رفع آدم رأسه بترقب حين سمع الصرخة الأولى لطفلته .. التصق جسده بباب الصالة المغلق وأصغى لصوت أمل تبكي .. كان صوت بكائها أجمل صوتٍ سمعه في حياته بعد صوت والدتها .. نزلت دموع الشكر والامتنان لله على هذه المعجزة دون أن يحاول منعها ثم خر ساجداً على الأرض سجدة شكر وهو يتمتم "حمداً لله ,, حمداً لله" عانقه والده بفرح وهو يبكي كذلك .. فأمل تبعث من جديد في جسد حفيدته الصغيرة .. ثم احتضن سامر صديقه وهو يربت على كتفه مبارِكاً .. سعيداً لسعادته وهو ينظر في عيني سارا كأنه يقول لها "سنرزق نحن بطفلة كأمل" .. سارا التي كانت قلقة حد الموت على صديقتها بكت كذلك .. لقد عوض الله يافا بعد طول عذابها .. لقد مد لها يد رحمته وعنايته وأهداها أمل .. لتنير حياتهم جميعاً بالأمل .. بعد دقائق خرج الطبيب مسرعاً وعلى وجهه أمارات القلق فلحق به آدم وقلبه يرتجف "ما الأمر دكتور" حاول الدكتور أن يبتسم "طفلة كالقمر .. مبروك" ملامح الطبيب المسرع في مشيه لم تعجب آدم فسأل "و يافا" نظر إليه الطبيب بأسف "فقدت الوعي .. جسدها لا يحتمل على أن أقوم بعمل بعض الفحوص لها .. أعتذر بشدة .. ستكون بخير إن شاء الله" الخبر كان كصفعة على وجه آدم الذي ركض كالمجنون نحو صالة الولادة .. دخلها دون استئذان ولم يلتفت للصوت الباكي لطفلته .. عيناه تسمرتا برعب على زوجته ملقاة على السدية والدماء تغطيها .. شعرها التصق بجبينها بسبب العرق .. ويداها استقرتا بوهن على جانب جسدها وجفناها انسدلا بهدوء فوق خديها.. لم يستمع لنداء الممرضة التي تعترض على تواجده هنا .. اتجه فوراً إلى زوجته .. منظرها بهذا الشكل أرعبه .. لقد بدت .. بدت .. بدت ميتة .. عند هذه الفكرة احتضن آدم زوجته ورفعها عن السدية ليضمها إلى صدره وهو يصيح باكياً "يافا استيقظي .. حبيبتي لقد صار لدينا طفلة .. استيقظي" مجموعة ممرضات عملن على إبعاده عنها عندما وصل الطبيب ملقياً أوامره بنقل المريضة لقسم آخر ..
*
كان وجهها يستلقي بسلام على الوسادة .. أمسكت بيد سامر وأنا أنظر إليها .. دموعي تجمعت مرة أخرى مهددة بالنزول ... لكنني منعتها .. يافا ستكون بخير.. يجب أن تكون بخير.. آدم كان يبدو في حالة يرثى لها .. لقد بدى شاحباً كزوجته تماماً .. هو حتى لم يلتفت إلى أمل .. طفلته الحديثة الولادة بل جرى خلف يافا عندما نقلها الأطباء من صالة الولادة .. بينما كنت أنظر إلى يافا لم أستطع أن أتخيل أنها نفس الصبية الجميلة التي حضرت عرسي منذ شهرين .. عندما كانت تحوم كالفراشة بثوب أزرق بلون المحيط تتمسك بذراع زوجها .. يافا التي كانت تقف بجانبي في صور عرسي تختلف تماماً عن يافا المستلقية في سرير المرض .. لقد فرحت جداً بصوري معها .. هكذا على الأقل سجنت لحظة عشناها معاً بفرح خلف قضبان الأبدية مطبوعة على ورق الصورة .. صورتها هي وآدم معي أنا وسامر علقتها في غرفة الضيوف .. عندما أراها أشعر بالتقارب والتواصل بيني وبين يافا .. يافا التي أشعر أنها تشاركني ذات صلة الدم والقرابة .. والتي شاركتها أكثر أيام حياتها وحدة وألماً .. اقتربت بجسدي تلقائياً نحو زوجي أبحث فيه عن الطمأنينة .. ربت سامر على كتفي وهمس "ستكون بخير" وكأن يافا قد سمعت كلماته فسرعان ما رفرفت جفونها وفتحت عينيها متأوهة قليلاً .. قفزنا نحن الأربعة نقترب منها لكن عينيها تسمرتا على آدم وانشقت شفتيها عن ابتسامة واهنة وهي تستوعب مكانها وتستوعب همست له "مرحبا أبو أمل" تمسك آدم بيدها بقوة وشاهدته كيف يجاهد دموع الارتياح ويحاول أن يبتسم بينما يرد بصوت متهدج "أهلاً بعودتك أم أمل" .. شملتنا بنظرتها وابتسامتها وسألت "أين ابنتي؟" .. ابتسمت لها وقلت "تثير ضجة في غرفة الأطفال .. ابتسمت يافا بشقاوة "أتسائل من أين جاءت بشقاوتها" قبل آدم جبينها ضاحكاً .. ضحكة ارتياح أكثر من ضحكة مشاركة في المزح .. تسللت أنا وسامر إلى الخارج لنحضر أمل كي تراها يافا وهكذا كان .. أمل كانت تركل برجليها في كل الاتجاهات .. وهي تبكي باستمرار .. لكنني عندما وضعتها بين يدي يافا استقرت كأنها تعود إلى مكانها الطبيعي .. صوت يافا الجميل همس لها "حبيبتي أمل .. لكم أحبكِ" ثم قبلت جبينها وهي تقول "وبابا كان يقول لي بالون .. أريدكِ أن تركليه بشدة" صوت ضحك آدم تبعه صوت ضحكنا جميعاً .. احتضن آدم كتفي يافا وتأمل بحب ابنته وهو يقول "أمل .. أنا برئ .. يوفي وأقصد ماما كانت تبدو فعلاً كالبالون بسببكِ" اقترب أحمد منهم وهو يقول بلهفة "كفى كلام أطفال دعوني أرى أمل" سلمته يافا ابنتها وعندما حطت بين ذراعي جدها بدأ الاثنان بالبكاء .. كان أحمد ينظر إلى أمل الصغيرة كأنه ينظر إلى حب حياته .. وعرفت تماماً لماذا ينظر إليها هكذا .. فهذه الطفلة تحمل اسم ودم أكثر إنسانة أحبها أحمد في الوجود .. استقر رأسي على كتف سامر الذي قبل جبيني وهو يقول "أصبحت لا أطيق صبراً لأصير أباً.." ابتسمت له بحب "ستكون أباً رائعة" شد على كتفي "لطفل رائع من أم أروع" .. تلك اللحظات شعرت بشئ سحري يلف المكان .. ولادة حياة جديدة وأمل جديد وسعادة جديدة جعلت تلك اللحظات تبدو كالمعجزة .. معجزة لم تدم كثيراً..
*
ثلاث أشهر .. فكرت يافا بحب .. لقد صار عمر أمل اليوم ثلاثة أشهر .. وما زالت لم توضع في فراشها .. فهي تنتقل من يد إلى أخرى .. أمل ذات الغمازة الجميلة والشعر الكستنائي والعيون الزرقاء .. بدت شبيهة جداً بها .. وضعتها على السرير لتغير لها ملابسها .. فبعد قليل ستأتي قمر وزوجها علي للزيارة .. قمر الحامل في شهرها الخامس بدت متألقة وسعيدة جداً كما تبدو سارا تماماً .. هذا ما أثار سعادة يافا وضاعفها .. فهي تحب عائلة سارا جداً وتعتبرها عائلتها وكذلك عائلة سامر خصوصاً عمو رائد الذي بالغ في تدليل أمل منذ أن جاءت إلى الدنيا .. نظرت إلى طفلتها وهي تلعب ببطة بلاستيكية وتضعها في فمها وفكرت قد لا يكون لدى أمل أقارب بصلات دم لكنها بالتأكيد تملك عائلة كبيرة من أحمد وسامر وعائلته وسارا وعائلتها .. انحنت نحو الدرج لتفتحه وتخرج ملابس أمل .. لكن موجة ألم ضربت رأسها بقوة .. جعلت عظامها تهتز فمالت على الخزانة تتكئ .. الألم لم يتوقف .. لكنها حاولت أن تستقيم .. وتمشي نحو ابنتها .. وما إن خطت خطوتين حتى طرق الألم في رأسها أشد من السابق .. فلم تحمل قوته .. وسقطت مغشياً عليها ..
كانت ملقاة على الأرض تتناثر حولها ملابس أمل عندما دخل آدم إلى الغرفة ليتفقدها .. الرعب الذي ارتسم على ملامحه كان غير قابل للوصف .. صاح بسرعه على والده .. حمل يافا بين ذراعيه وصاح "أبي اعتني بأمل" وخرج راكضاً .. في المستشفى قال له الدكتور علي الذي استدعاه آدم أن حالة يافا في تأخر مستمر .. المرض انتشر كلياً في دماغها حتى صار جسدها عاجزاً عن المقاومة لذا فإن نوبات غيابها عن الوعي تتكرر بشكل كبير هذه الفترة .. جسدها وصل إلى آخر قدرات تحمله .. رغم أن آدم كان يعلم هذه الحقيقة إلا أنه انهار على المقعد يخفي وجهه بين يديه .. يافا تضيع منه .. صوت الدكتور علي يناديه أوقظه من شحنة الألم التي كان غارقاً بها "لقد أفاقت" ركض آدم إلى الداخل .. عندما نظرت إليه ابتسمت بوهن "آسفة حبيبي" قبل جبينها محاولاً أن يخفي ألمه ومخاوفه وابتسم "الحمد لله على سلامتكِ" .. سألت بلهفة "أين أمل؟" .. أجابها "مع أبي .. لا بد أنه قادم" .. صمتت لدقيقة ثم قالت "آدم" أمسك بيدها "نعم حبيبتي" نظرت إليه بعينين زرقاوين لا زالتا قادرتان على إذابة قلبه "أريد أن أذهب إلى يافا" سرح شعرها بيده "حالما تخرجين من هنا سنذهب" ابتسمت له بامتنان .. وحركت رأسها لتضعه في حجره وهي تقول "أنتَ معجزتي" .. خنق دمعة كادت أن تسقط وقال بصوت حاول أن يجعله ثابتاً "وأنتِ تميمتي"
*
البحر كان هادئاً .. موجاته ضربت قدميها الحافية بلطف وهي تجلس على رمال الساحل .. أمل كانت بين يديها تلاعبها وتضحك عندما ترميها في الهواء وتتلقفها بيدها .. آدم كان جالساً بجانبها يراقب ابتسامتها السعيدة دون أن يخفى عليه ذبولها الواضح للعيان .. تقدم أحمد وهو يقول "دعوني ألاعب أملي قليلاً" .. نظرت يافا إلى أمل .. لا تعرف لماذا شعرت أنها تراها لآخر مرة .. قبلت جبينها وخديها وهمست في أذنها "أحبكِ صغيرتي .. دائماً معكِ" ثم سلمتها إلى أحمد وهي تبتسم له قائلة "شكراً بابا" اهتزت يدي أحمد بانفعال عاطفي عندما سمعها تناديه بابا .. نظرتها كانت شاكرة جداً .. شاكرة لكل شئ فعله .. لأبوته .. لحبه .. لآدم من صلبه .. قبل أحمد خدها وحمل أمل وتمشى بها بعيداً .. نظرت إلى آدم .. كان يبتسم لها .. قلبها طرق لرؤية غمازته كما يطرق في كل مرة يبتسم فيها لها .. مدت يدها وتخللت خصلات شعره الذهبية .. همست له "أحبكْ .. بقدر رمل بحر يافا .. بقدر موجه ... هلا قرأت لي القصيدة التي كتبتها لي .. هل تتذكرها؟" أمسك بوجهها بين يديه ومس شفتيها بقبلة حنونة وهمس قريباً من أذنها بكلمات القصيدة:

على بحر يافا ، يستيقظُ قلبي
كأنكِ آخر النساء
كأنكِ أجمعهم
وكأني طفل صغير
يبحث عن حنان أمه
فكوني أمي
كأنكِ آخر علامات الجنون
وأول علامات الحب
وكأني رجل تائه
فكوني علامة في طريقي
كأنكِ القلب إذا ما خفق
وكأني بلا قلب
فأخفقي في أضلعي
على بحر يافا ، أرمي بنفسي
فتلقفيني
أنا رجل إذا ما أحببت استيقظ شيطاني
فهل تمنحيني الهداية؟
على بحر يافا أسقط غريقاً
بحبكِ ..
وقد أموت .. ولستُ أبالي
فالموت على حبكِ .. شهادة
بينما كان يقرأ القصيدة .. كانت تشعر بأن قدميها صارتا ببرودة الثلج .. وأن روحها تنسحب بهدوء من جسدها .. في البعيد كانت هناك امرأة جميلة ترتدي البياض تلاعب طفلة صغيرة ذهبية الظفائر بين أمواج الماء .. تعرف ملامح هذه المرأة جيداً .. فمن لا يعرف ملامح أمه؟ وتعرف ملامحَ الطفلة جيداً .. فمن لا يعرف ملامح ابنته البكر؟ .. امتدت يدها إلى السلسال المعلق في رقبتها .. فتحت كف زوجها ووضعت السلسلة والمفتاح المعلق بها في داخل كفه وهي تقول "أعطيه لأمل عندما تكبر .. قل لها .. أن يافا هي بلدها الحقيقي" ابتلع آدم غصة .. لماذا تنزعه الآن من جيدها ؟ لماذا هذا الحزن في صوتها؟ احتضنها وضمها إلى صدره .. كان جسدها بارداً جداً .. فقال بقلق "يجب أن نعود أنتِ ترتعشين برداً" .. دفنت وجهها في الانحناء ما بين رقبته وكتفه وهي تقول "لا .. على بحر يافا .. لنبقى" ثم قبل أن يعترض قالت له بحب "آدم .. أنت معجزتي .. أنت حبيب العمر .. أنت السعادة .. شكراً لأجل كل شئ يا حبيبي .. شكراً على الحزن الجميل والفرح الجميل .. شكراً لأنك زوجي .." كلماتها أخافته .. رعشة أصابت جسده أمسك بذراعيها وأبعدها قليلاً لينظر في وجهها "يافا حبيبتي .. أرجوكِ لا تتكلمي كأنك تودعينني" .. تقدمت نحوهما موجة زرقاء .. اعتدلت وجلست إلى جانبه ووضعت رأسها على كتفه وسمعت صوت أمها تضحك مع لينا في الموج .. أغمضت عينيها وأمسكت بأصابعه وهمست " الموت على حبكَ .. شهادة" .. لامست الموجة قدمها .. وتوقف قلبها الصغير عن الخفقان .. وتراخى رأسها من على كتف زوجها ليسقط في حجره .. بعدها غرق كل شئ في السكون .. حتى بحر يافا!




قراءة ممتعة..
يتبع مع الخاتمة...

على بحر يافا(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن