مُلحق الفصل التاسع ج١

2.7K 138 2
                                    

كم أحبها ،، كم يكرهها !
الجزء الأول من ملحق الفصل التاسع – على بحر يافا

"وسيم ، سنتأخر" .. صوت أمه في الأسفل ارتفع للمرة الخامسة في عشر دقائق بينما كان يحاول أن يربط ربطة عنقه بإحكام ، ونادى للمرة الخامسة "قادم" ،، حفلة أخرى مملة ،، فكر وهو يثبت ربطة عنق سوداء حريرية فوق قميص ناصع البياض ، ثم تنهد بضجر وهبط إلى الأسفل وعندما رأته والدته قالت "أخيراً" ثم تأبطت ذراع والده الذي غمز له مداعباً وهو يأخذ ذراع زوجته فبادله وسيم غمزته ثم انطلق ماشياً خلفهما إلى السيارة ، قالت أمه ما أن استقلوا السيارة ومشت بضع أمتار "يقولون أنها فاتنة" سألها هو ووالده بنفس الوقت "من؟" فأجابتهم "يافا ، ابنة أمل التي تُقام الحفلة على شرفها ، تقول مدام لوريس وقد رأتها مرة مع أحمد أنها جميلة جداً ولها أغرب عينان زرقاوان وأجمل شعر كستنائي وأنها كانت تبدو كتلة من مرح" رفع وسيم عينيه إلى السماء ، يا للنساء! لن يتغيرن أبداً ... بعد تعليق بسيط من والده عن أنهم سيرون ما إن كانت السيدة لوريس محقة ، سادت أحاديث جانبيه لم يُرِد أن يشارك فيها وسيم ، فهو مشغول البال بدراسته ولا وقت لديه حقاً للحفلات الاجتماعية المملة ولكن أمه سامحها الله أصرت على أن تحضره معها .. بعد قليل وصلوا إلى مكان الحفلة .. ترجل من السيارة ووضع يديه في جيبه ومشى خلف والديه بضجر نحو الداخل حيث كانت الحفلة في بدايتها وصوت موسيقى ناعمة ينساب من الداخل .. سلم على مضيفيه أمل وأحمد اللذان بدوا رائعين معاً ، وفي عينيهما شئ يشع كالنور كلما نظر أحدهما إلى الآخر .. أيكون هذا هو الحب؟ هو لم يعرفه أبداً ، لكن وفي الدقيقة التالية تعرف إليه يتجسد بشكل امرأة صغيرة الحجم ، تهبط السلم وعيناها تبحثان في الجموع ، عينان بدوتا حتى من بعيد بزرقة سماء الربيع ، شعر غامق يستلقي إلى الخلف لم يتبين طوله للآن ،، بشرة كحقول القمح تستقر على جسد متكامل الأنوثة صارخ الجمال ، يلتف بثوبٍ قصير محكم ،، رفع بصره إلى عينيها ثانية وهو في حالة ذهول والتمعت حدقتاه ،، "هذا هو الحب" هكذا أجزم في سره وهو يرى العيون الجميلة تزداد غموضاً ويتبدل شئ في أعماقها وهي تهبط لكنها بعد لحظة تردد هبطت ،، وتلقتها والدتها وأحمد .. راقبها تبتسم لهما فذاب قلبه وسقط في مكان ما تحت قدميها ، تسمر في مكانه يراقبها ، تمشي وتتحدث وتضحك وحسد كل من سمع صوتها أو توجهت له ضحكتها دون أن يجرؤ على الاقتراب منها خوفاً أن تكون مجرد حلم يتلاشى ليصحو على خيبة أمل ،، انسابت موسيقى الرقص فانفض الجميع من حولها ، ووقفت هي تنظر إليهم بكآبة ، خفق قلبه لمنظرها فهي قد بدت رغم كل جمالها وحيدة بشكل جعله يتقدم نحوها ليقف بجانبها فتضربه رائحة عطرها الهادئ في صميم روحه ووجد نفسه يقول "مرحباً" وعندها ، عندها فقط استدارت إليه أجمل عيون رآها في حياته ، عيون سكنت أحلامه لسنوات بعدها ، عيون فيها زرقة السماء وفضاء الكون ، عينان تنطقان بلغة خاصة ، شعر أمامهما بأنه .. أنه ... لم يجد الكلمة المناسبة لكنه شعر بالحماقة ! وعندما ابتسمت له كادت تودي بحياته .. فقد توقف قلبه عن النبض وانساب صوتها إليه ، شجياً كآلة العود التي يحب صوت عزفها .. قالت له "مرحباً" فعاد قلبه يدق بجنون حتى خاف أن يصلها صوت قرعه المتواصل .. للحظة رمش في وجهها مستعيداً ذاته حتى لا يبدو كالأحمق أمامها ،، يكفي أنه يشعر أنه كذلك فلا داعي ليجعلها تشعر بهذا أيضاً ! عرفها بنفسه "أنا وسيم عبد الله" .. "أوه" كانت هذه ردة فعلها على اسمه أوشكت هذهِ الـ "أوه" أن تطيح بعقله وتعقله ، كم هي ناعمة تلك التأوهة الصغيرة التي تخرج من شفتين ممتلئتين مصبوغتين بلون الدم .. وكاد يقسم لدقيقة أنه دمه .. حاول السيطرة على نفسه وابتسم ابتسامة مرتجفة " بريطاني من أب وأم مسلمين لذا .." لم يكمل جملته لم يستطع أن يركز على الحروف التي تخرج من فمه بينما تراقبه عينانِ متسعتان كالوجود .. لكنها لم تنتبه لاضطرابه ولا لابتسامته المرتجفة الثانية بل مدت يدها وسارعت تقول "أوه عفواً كانت قلة ذوق مني .. أنا يافا إبراهيم" .. يافا إبراهيم .. حبيبته ! .. هكذا فكر وهي تنطق باسمها بلحن جميل .. ونظر إلى يدها الممدودة ، هي لم تعلم عندما التفت يده الضخمة حول يدها الناعمة في مصافحة عابرة كم تغير هو .. وكم من الأشياء انهدمت في عالمه لتبني أشياء أخرى أكبر وأهم وأجمل تتخذ كلها شكل يافا وتفاصيلها ! ... وهكذا وجد نفسه واقعاً في الحب ، بلا تخطيط ، بلا استعداد ، وبلا إرادة ،، كان يتحدث إليها فقط ليستمع لصوتها الجميل يجيبه ،، يطالبها برقصة تلو أخرى فقط ليحتفظ بها قريبة حتى يتنشق عطرها ، يشعر بنحول خصرها تحت يده ، بيدها تعتقلها يده الأخرى ، يا إلهي! إن كان هناك قانون يحرم على الإنسان الابتسام فسيطبقه عليها فهي لا تعلم كم تجعلها هذه الابتسامة التي ترسمها على وجهها موجهة إليه فقط تبدو ملائكية إلى حد قد يوقظ كل الشياطين ! وما أن ذكر الشيطان في عقله حتى تجسد له في هيئة آدم ! ابن زوج أمها الذي يعتبر أخوها ،، آدم .. كم سمع عنه .. الفتى العابث الذي لا يقيم للمشاعر وزناً ، الفتى الذي صرع قلوب صديقاته واحدة تلو الأخرى دون أن تتعظ النساء الأخريات اللاتي يرمين بنفسهن عليه كما يرتمي الماء في حضن الكأس ! جاءه صوته ساخراً ، حاداً كشخصية الشيطان "اسمح لي أن أراقص أختي!" عندها تراجع هو خطوتين مجبوراً ، فهو مجرد ضيف وهذا مضيفه ، وتمتم باعتذار لا يتذكر ما هو حتى وتركهما على حلبة الرقص وابتعد ، وهو يشعر بفراغ كبير في صدره ، صورتها كانت لا تفارق خياله وهو يتحدث مع الآخرين محاولاً إلهاء نفسه عنها وما أن سمح لنفسه بالالتفات نحو مكانها أخيراً وجدها قد اختفت فراح يتلفت حولها كالأبله يبحث عنها وقادته رجلاه هنا وهناك حتى وجدها في الشرفة تستند بيدها على الدرابزين وشعرها يتطاير كالحلم في نسيم الهواء الخفيف تقدم منها وهو يقول "هل أنتِ بخير" فنظرت إليه بعينين أكثر زرقة وعتمة من المعتاد وقالت "أجل شكراً ،، أحسست بحاجة لتنشق هواء منعش ،، إنها أول حفلة لي لذا ... " وفهم ما أرادت قوله ، فعلق.. "الحفلات لا تروقني كثيراً لكنني سعيد بقدومي فقد حظيت بسعادة معرفتكِ" .. اتسمت له فهوى قلبه إلى الأسفل بإحساس تعود عليه طيلة مدة هذه الحفلة " وأنا سعيدة بالتعرف عليك يا وسيم .. أنتَ شخص لطيف جداً" وقف إلى جانبها فلمس كتفها ذراعه وكم أسعده أنها لم تجفل ولم تبتعد ليس لأنه أراد أي تلامس جسدي بينهما ولكن لإحساسه أنها قد وثقت به واطمأنت له فوجد نفسه يقول بشكل لا إرادي "وأنتِ لطيفة كذلك ،، لطيفة لحد خطر" وقبل أن تعلق بشئ سمع صوت أخوها يأتي ساخراً من خلفه " وأنتَ قريب منها لحد خطر" استدار نحوه ولمح نظرة آدم الحادة وسمع صوت يافا تعترض "آدم لا يجب أ ... " لكن آدم لم يعطي اهتماماً لها بينما ركز عليه بنظرة كرهها تماماً وسمعه يطلب " اعذرني عزيزي هل لي بكلمة مع يافا على انفراد" .. نظر إليه بغضب اشتعل في داخله ، ولا يعرف لماذا شعر بغريزة الحماية نحو يافا .. أيحميها من أخوها؟ هذا مستحيل طبعاً ، وحذر نفسه من أن ينطق بأي كلام قد يجعله يندم فهو لا يريد كسب عداء آدم خصوصاً وإن كان ينوي التقرب أكثر من يافا فهؤلاء ليسوا انكليز بل هم عرب وروابط الأسرة لديهم أقوى والرجل عندهم له الكلمة العليا ، لذا وكي لا يخلق مشهداً لن يكون في صالحه ،، استأذن بهدوء وانصرف ،، ولديه نفس الإحساس أن هناك مكان خالٍ في صدره ،، بعدها اختفت يافا ولم يرها واضطر أن يخضع لوالديه أخيراً ويذهب وهو يشعر بخيبة أمل كبيرة لأنه لم يرها ثانية .. لكنه لن يتوقف الآن عند هذا الحد .. فسوف يراها بالتأكيد .. وقد واتته الفرصة بعد عدة أيام عندما كانت والدته تخبرهم على طاولة الغداء أن يافا بدأت دوامها الدراسي وأن السيدة أمل متحمسة لهذه الفكرة .. يومها تحمس هو أيضاً للفكرة ولم يتأخر يوماً واحداً .. فقد ذهب إلى جامعتها بحجة أن لديه صديق هناك ، والتقى بها ... هذه المرة وتحت ضوء النهاء ، بالجينز الذي كانت ترتديه والكنزة التي حشرت جسدها الصغير فيها وبشعرها المربوط والذي بدى أفتح لوناً ووجهها الخالي من الزينة بدت له كأنها الجمال بعينه ، كأنها البراءة بعينها ، كأنها قلبه ! ...
منذ ذلك اليوم وحتى الآن وهو يستلقي في غياهب هذا السجن العفن لسنة كاملة حيث لا يستطيع أن يعرف إن كان الوقت ليلاً أو نهاراً ولا أن يعرف الصيف من الشتاء ،، ولا يمر عليه يوم دون أن يتذكرها ، كم أحبها وكم يكرهها !


قراءة ممتعة..
يتبع...

على بحر يافا(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن