على بحر يافا - الخاتمة
وقف آدم يراقب جسد يافا الملتف بالكفن ينزل ببطئ إلى حفرة القبر .. هذه الحفرة الضيقة ستداري جسد المرأة التي لم يعشق سواها في حياته .. الألم الذي كان يجتاحه لم يكن ألماً قابلاً للوصف .. شعر بحرقة في عينيه .. يريد أن يبكي .. لكن الدموع قد نفذت منه .. ففي الساعات التي مضت استنزف آدم كل دمعة استطاعت عيناه أن تذرفها .. كيف تموت يافا؟ .. كيف يكون من العدل أن تؤخذ منه الإنسانة الوحيدة التي يعيش لأجلها أيام عمره .. كيف تخسر صبية في أوج شبابها لم تكمل الرابعة والعشرين عمرها؟ كيف سيعيش هو بدونها؟ بدون تنفس نفس الهواء الذي تتنفس وينام تحت ذات السماء التي تنام هي تحتها .. كيف يمكنه أن يتعايش مع هذا الألم الذي يزداد كل هنيهة .. ومع هذا الإحساس البشع باليتم وبالفقدان وبالخسارة والقهر والعجز .. كيف يمكنه أن يتعايش مع الحياة ويافا ليست جزءاً منها .. شخص ما كان يرمي التراب بالمجرفة ليواري جسد يافا .. المنظر جعل آدم يرتعش .. موجة من الرفض والرعب عبرت إلى كل جسده .. فصاح بقوة "توقف" ولم يشعر بنفسه إلا وهو يقفز إلى حفرة القبر ينظف عن جسد زوجته الملتف بالبياض التراب .. ثم أخذها بين ذراعيه وحملها إلى صدره .. يضم جسدها الخالي من الحياة .. حرقة عينيه تحولت إلى دموع ساخنة فأحنى رأسه على جسدها المضموم إلى صدره وانتحب .. كيف تركته؟ كيف تجرأت على حرمانه منها .. ألم تعلم أنه سيموت إن رحلت عنه .. ألم تعلم كم هو صعب ومؤلم ومعذب فراقها؟ صيحات من حوله استوعبها بذهن مشوش .. صوت الشيخ الذي كان يقرأ على قبرها دعاه بحنان "يا ولدي دع جسدها يرتاح في قبره .. إكرام الميت دفنه .. تمسك بحبل الله واعتصم" لكن آدم الذي كان منهاراً تماماً لم يلقي بالاً لكلمات الشيخ بل وجه نظره للرجل الذي كان يمسك المجرفة وصاح به "هيا ارمي علينا التراب .. ارمِه .. أنا وهي ميتان .. دعونا لوحدنا .. ارمِ التراب" أصوات منتحبة جاءته من كل مكان .. منظره كان باعثاً على الشفقة وهو يطالب باكياً أن يُدفَنُ حياً مع زوجته .. كيف يظنونه حي؟ ألا يفهمون؟ لقد مات هو أيضاً .. ما نفع جسدٍ يتحرك بلا روح؟ روح ميتة وقلب لا يدق .. مكانه الصحيح مع زوجته .. ميتاً كإياها .. يجب أن يموتا معاً .. ألم يتفقا أن يهرما معاً .. إذاً لماذا ماتت وتركته.. صاح مرة أخرى "ارمِ التراب" لكن هذه المرة صوت بكاء أمل أوقفه عن إعادة الطلب المجنون .. رفع رأسه ناحية صوتها ... والده كان يحملها .. كلاهما كانا يبكيان .. لكن أمل كانت تنحني بجسدها إلى الأسفل نحوه وتمد يديها وتبكي وتركل برجليها .. كانت تريده .. وهو لا يريد سوى والدتها .. ركلاتها وصراخها طغى على كل تفكيره .. جزء من يافا يبكي.. كيف يمكنه أن يجعلها تبكي؟ أمل قطعة من روح يافا .. عاشت داخلها تسعة أشهر .. قطعة من قلب حبيبته .. كيف يمكنه أن يجعلها تبكي .. نظر إلى جسد يافا على صدره وإلى طفلته .. القرار صعب .. ولكن صراخ طفلته كان حاداً وهو لم يحتمل أن يجعلها تبكي .. لأنها شئ من يافا .. أرجَعَ جسد يافا إلى مكانه في القبر .. وضع رأسه على صدرها وذرف آخر دموعه فوق جسدها .. ثم قبض على حفنة تراب من قبرها وقبلها وهو يقول "اللهم إني أمنتُ ترابكَ جسدها .. اللهم فرفقاً بها" وضع حفنة التراب في جيبه وانحنى يقبل رأسها باكياً .. بينما صراخ ابنته يعلو .. ثم نظر إلى أمل وقال "بابا قادم حبيبتي" ساعده سامر على الخروج من القبر فأسرع نحو ابنته يحتضنها ويبكي .. بينما عاد يسمع صوت المجرفة ترمي التراب على جسد زوجته .. لم يستطع أن يتحمل أكثر .. احتضن طفلته وركض خارج المقبرة .. يافا لا يمكن أن تموت .. يافا لم تمت !
*
لم يُزعج سكون الليل سوى صوت قطرات المطر ترتطم بالنافذة .. هناكَ ثقل غريب في قلبي .. ألم حاد .. كأنني فقدت طعم الحياة .. كأن هناك شئ ما قد مات مع موت يافا .. تدفقت الدموع من عيني مرة أخرى ككل مرة أفكر فيها في موت يافا .. يافا الصغيرة .. الربيع الذي أزهر في حياة الجميع بينما كانت تعيش الشتاء لوحدها .. تنهدت بقوة ... أنا بحكم عملي كنت أكثر من يدرك أنه لا أمل لها بالشفاء .. لكنني لم أرد أن أصدق .. لم أستطع أن أتخيل الحياة خالية منها .. من ضحكتها المشرقة وطريقة كلامها الجميلة .. وروحها الممتلئة بالحب والطيبة .. نظرتُ إلى الرسائل الموضوعة على الطاولة قرب سريري وإلى الدفتر الأخضر .. امتدت يدي على الظرف الذي كتب عليه اسمي .. متحاشية الظروف الأخرى فهي لا تخصني .. مجرد أمانة سلمتني إياها يافا لأعطيها إلى أصحابها بعد .. بعد .. ابتلعتُ غصة .. ذكر الموت مقترناً باسمها يجعلني أشعر برغبة في البكاء.. فتحت الظرف وتناولت الرسالة التي بداخله وقرأت ما سطرته يافا بخط جميل مرتب :
"مرحباً يا هديتي السماوية ..
اشتقتُ إليكِ.. حسناً لا تبكي أرجوكِ .. أنا لا أكتبُ لكِ لتبكي .. لنعتبر أنني مسافرة في رحلة طويلة وأننا نتراسل .. أنا بخير بالتأكيد .. السماء أجمل بكثير من الأرض.. على الأقل لا يوجد فيها ازدحام سيارات ..
سارا .. أريد أن أشكركِ .. فأنت النجمة التي أضائت ليالي وحشتي وغربتي الذاتية .. أتعلمين؟ لقد كنتِ الشئ الوحيد الجميل في أكثر فترات حياتي صعوبة .. أنا لستُ غاضبة لأنني مرضت ولأنني دخلت المستشفى .. فلولا هذا لم أكن لأعرف إنسانة رائعة اسمها سارا
عندما كنتِ تدخلين إلى غرفتي .. كنتي تضيئين المكان بروحكِ الطيبة .. وتضيئين وحشة قلبي بالأمل .. ابتسامتكِ الهادئة كانت بلسماً لجراحي الكثيرة .. لقد كنتِ نعمتي .. وكنتِ هبةُ الله إلي في وحدتي .. كنتِ مؤنسة ظلمتي ورفيقة دربي الشائك .. فكيف أشكرك؟ .. شكراً بحجم السماء
أنا سعيدة يا سارا .. هذه ليست النهاية .. هذه البداية فقط .. أعلم أن آدم يتألم .. ولكم أتمنى أن أكون بجانبه لأخفف عنه .. أرجوكِ اعتني به أنتِ وسامر .. وأخبري أمل دوماً أنني أحبها .. أحبكِ سارا .. وساكونُ دوماً معكِ .. فواصلي صلاتكِ على روحي
أنت تقرأ
على بحر يافا(مكتملة)
Romanceرواية بقلم الكاتبة بلقيس علي "مُشتاقة" حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي..