الفصل السابع والعشرين
استندت يافا على الوسادة خلف ظهرها وهي تتنفس بعمق غير مصدقة تمتمت "أنا حامل" بعدها ارتسمت ابتسامة واسعة على فمها .. ووضعت يدها تلقائياً على بطنها .. كان الأمر كمعجزة .. لم تستطع حقاً أن تشرح مشاعرها .. لكنها كانت كمن يمسك كل أحلامه بقبضته دفعة واحدة .. كمن يرى كل ما أراده يوماً في حياتِهِ ماثلاً كحقيقة واقعة تكبر كل لحظة .. وبينما كانت لا تزال تسحب بِضعَ أنفاسٍ معبئة بالفرحة دخل آدم شاحب الوجه .. وعرفت فوراً أنه قلق على صحتها .. فهي تعاني بما يكفي من آلام السرطان فكيف يمكنها أن تتحمل آلام الحمل؟ سؤال آخر قفز إلى ذهنها لكنها أبعدته بإصرار .. ورسمت ابتسامة فرحة على وجهها "آدم .. سيكون لنا طفل" جلس آدم على حافة السرير بجانبها وأمسك بيدها .. القلق والخوف البادي على وجهه أَثارَ شفقتها عليه .. همس بصعوبة "أنا خائفٌ عليكِ" كلماته المختصرة بصوته المبحوح جعلتها تقترب منه وتضمه "سأكون على ما يرام .. أريد هذا الطفل يا آدم .. أريده جداً" شعرت بيده تترك كتفها لتستقر على بطنها وقال بصدق "وأنا أريده أيضاً .. وأشعر أنني سأكون أنانياً لو طلبتُ منكِ أن تحتفظي به .. " تراجعت يافا مذعورة وهي تصيح "أتعتقد أنني سأتخلص منه؟" ملامح كئيبة ارتسمت على وجهه "إنه الحل الأسلم في وضعكِ .. لا أريدكِ أن تعاني .. أنا أتألم في قلبي كلما رأيت ملامحكِ تنقبض ألماً" اغرورقت عيناها بالدموع .. هذا الرجل العسلي العينين يكاد يضحي بكل شئ لأجلها .. همست له "حبيبي .. أرجوك .. أنا أريده من كل قلبي .. جزء منكَ وجزء مني .. ثمرة حبنا .. أتعلم .. هذا الطفل يشبه كثيراً حبنا .. كلاهما تكون في ظروف قاسية .. أنا متأكدة أنني سأكون بخير .. لا تقلق" رفعت رأسها ومست شفتيه بشفتيها .. فتمسك بها كالغريق يتمسك بقشة كآخر أسباب الحياة .. كانت تعلم أن الطريق الذي اختارته لتهب هذا الجنين نعمة رؤية نور الحياة هو ذاته الطريق الذي تهب فيه لنفسها الدخول بخطوات سريعة لعتمة الموت .. لكنها كانت سعيدة .. سعيدة أكثر من أي وقتٍ مضى!
*
ساعد آدم يافا في الاستقرار في سريرهما .. بدت شاحبة قليلاً مما أثار قلقه لكنها طمئنته أنها بخير .. وتسائل في نفسه هل هي حقاً بخير؟ .. فكرة أن تحتفظ بالطفل كانت فكرة جنونية كيف وافق عليها؟ جسدها ضعيف أساساً وهذا الحمل سيكون عبئاً ثقيلاً سينهار تحت وطأته جسدها .. لكنه لا يستطيع أن يطلب منها مرة أخرى أن تنزل الجنين .. لأنه يعلم كم تريده وكم بدت مشرقة وفرحة منذ خبر حملها .. دعى الله أن يلهمه الصبر والقدرة على تحمل رؤيتها بهذا الضعف .. تركها تغفو بينما ذهب ليتوضأ ويصلي .. صلاته كانت متضرعة وخاشعة .. أراد من قلبه أن يكون قريباً من الله .. ثم رفع يديه إلى السماء وهو يتوسل "يارب أريدها بخير .. أريدها على قيد الحياة" راح يردد الكلمات بشكل بائس ويائس .. كأنه يتعلق بحبال أمل ورجاء غير مرئية .. قاطع دعائه صوت جرس الباب .. أسرع يمسح وجهه وينهض ليفتح الباب ليتجمد وجهه أمام الرجل الخمسيني الذي يقف أمامه وتسللت الكلمة المذهولة من فمه "بابا".. بدا والده مشعث الشعر .. لحيته النامية وعيونه المحمرة أكدت لابنه أنه لم يذق طعم الراحة والنوم .. لم يكن يحمل حقيبة سفر أو أي شئ .. ألقى والده ذراعيه حوله واهتز جسده بنحيب صامت .. وعلم عندها أنه استعاد ذاكرته فشد يديه حول جسد والده وهو يقول "هذا أمر الله" كلماته لم تزد والده إلا نحيباً وسمع صوته يأتي منكسراً ومتكسراً "لقد ماتت ولم أستطِع حمايتها" ربت آدم على كتف والده "لم يكن ذنبك أبي .. إنه أجَلُها .. إنه يومها" لدقائق بقي أحمد ينتحب في حضن ابنه .. لكنه رفع رأسه على صوت يافا المذهول "أحمد" .. رفع آدم وأحمد رأسيهما في نفس الوقت .. وفكر آدم أن منظر والده هكذا سيدمر يافا ويعيد لها ذكرياتها السيئة.. ركضت إليه بينما انسل والده من حضنه وعانقها .. اعتصرها بين يديه كأنه يشم رائحة أمل فيها .. طرق قلب آدم بألم .. أمل التي لن يتمكنوا من رؤيتها مرة أخرى .. بكائهما كان أشبه بسكين تغرس في كبده .. لو أنه يستطيع منحهما الراحة والسعادة لو أنه يستطيع أن يخفف عنهما .. لماذا لا يستطيع أن يفعل شيئاً لأحبابه .. أن يمنحهم السلام الذي لا يرى إليهم طريقاً .. استند آدم على حافة الباب يراقب بعجز والده يبكي متأخراً على وفاة أمل .. وفي قلبه إحساس خانق بالألم .
*
جلس أحمد يراقب يافا تعد له فنجان شاي بالمرمية .. كما يحبه .. لقد بدت أشبه بأمل وهي تتحرك كالفراشة .. هناك ألم لا يستطيع أن يحد منه .. ألم لفراق أمل .. وألم لوضع يافا المستحيل .. عندما كان فاقداً للذاكرة كان أيضاً يشعر بألم لكنه كان يجهل منبعه .. كان يشعر بقلبه ينقبض دوماً كأنه ينتحب على شخص ما .. لم يعرفه .. لكن الآن بدت ملامح الألم واضحة ومنطقية .. راقب حركة يافا وهي تصب الشاي الشهي الرائحة .. طفلته الصغيرة مريضة .. المرض بدا واضحاً عليها .. شعرها المتضرر وضعف جسدها ونحولها وشحوبها كان واضحاً .. أخبره آدم أن وضعها الآن أحسن بكثير .. ولم يستطع أن يمنع ركلة الألم في معدته لتخيلها في وضع أسوأ من هذا .. تقدمت إليه باسمة كأنها الربيع تحمل في يدها فنجان الشاي .. قبلت جبينه بحب وقالت له "هيا يا أحمد شايُك جاهز" ابتسم لها تلك الابتسامة الحزينة التي لم تفارقه منذ مدة طويلة وهو يقول "يسلم إيدك" قبل أن يمد يده للشاي قالت له "هناك شئ انتظرت أسبوعاً كاملاً حتى أطلعك عليه .. كنت أنتظرك أن تتحسن قليلاً لتأخذ هذا الخبر" اتسعت ابتسامتها فقال "أتشوق لأعرفه" أمسكت بكف يده بحنان ووضعتها على بطنها وهي تهمس بحب "هنا ينتظرك حفيد جميل .. سيفقدك أعصابكَ بصراخه الليلي بعد تسعة أشهر" .. لم يعرف أحمد ماهية الشعور الذي انتابه .. موجات متدفقة من الفرح الذي كان قد نسيه تماماً ضربت كل أجزاء جسده .. فما كان منه إلا أن بكى فرحة .. احتضنته يافا وهي تقول بحب "هيا يا حبيبي لا تبكِ الآن ستصير أجمل جدو" استعاد في ذهنه أيام حملها الأول .. عندما كان يقرأ للينا قصائده .. ها هو الله يعوضها ويعوضه ويعوض آدم .. فجأة رفع رأسه وقال "ولكن .. لكن و.. وضعكِ" ابتسمت له "لا يؤثر تماماً أنا بخير" .. عاد يحتضنها وهو يقول "لقد أهديتني الحياة يا يافا .." الآن فقط يستطيع أن يفكر بشئ ما يجعله راغباً بأن يعيش الحياة .. حفيده المنتظر .. قطعة من يافا .. وبالتالي قطعة من أمل ..
*
انتظرت يافا آدم أن يخرج من الغرفة لتستطيع أخيراً أن تتلوى ألماً .. هناك سكاكين صغيرة وحادة تطعن دماغها .. تصاحبها ضربات كهربائية لشرايين رأسها .. كادت أن تقسم أن هناك من يمارس عليها التعذيب بأبشع الطرق .. أمسكت برأسها تضغط عليه .. عندما يعاودها هذا الألم المخيف لا تستطيع منع نفسها من أن تتسائل هل تملك من الوقت ما يكفي لتنجب طفلها؟ أم أن الموت سيكون إليهما أسرع .. تكورت في سريرها تضم ركبتيها إلى صدرها وتدعو بصمت "يارب دعه يرى نور الحياة" لم تستطع حقاً أن تشرح ذلك الشعور الحاد بالألم .. فقد كان فوق الوصف .. رأسها يتقد جمراً .. نيران غير مرئية كانت تحرق خلاياها .. يدها ارتخت في وهن إلى جانب رأسها على الوسادة .. أصابعها توقفت عن الالتواء .. جسدها كله توقف استعداداً لموجة الألم الجديدة .. دفنت فمها في الوسادة وصاحت "آآآآآآآآآه" وانتفض رأسها .. كان الأمر يشبه موجة كبيرة جداً تتقدم من كل أنحاء جسدها .. من قدمها تصعد لساقها لبطنها لصدرها لتحشد كل قوتها وتضرب رأسها بعنف .. لكن الموجة لم تكن موجة ماء منعشة بل موجة وجع قاهر .. جبينها تعرق بفعل المجهود المؤلم الذي تبذله لتسيطر على صوتها منخفضاً .. أوردة رقبتها برزت في محاولة مستميتة لوقف الألم .. للحظة تشتت انتباهها عن رأسها المريض .. عندما هاجمتها موجة غثيان اجتاحت معدتها بلا رحمة .. عضلات بطنها تقلصت لتواجه ألماً من نوع آخر .. آثار الوحام قد بدأت تظهر .. رائحة المكان صارت مزعجة .. نفسها اختنق .. هناك عطر في الهواء لا تتحمله .. ربما هو عطرها لكنها الآن لا تطيقه .. معدتها تقلصت مرة أخرى .. هذه المرة موجتان بنفس القوة اندفعتا في اتجاهين مختلفين .. موجة ضربت رأسها وموجة ضربت معدتها .. الألم لم يكن يشبه بعضه لكنه ترابط ليكون شعوراً خانقاً وموجعاً .. شعرت بعظامها تتكسر وبعضلاتها تتقلص وأنفاسها تتلاحق .. الغثيان في معدتها وصل مداه .. شعرت أنها بحاجة أن تفرغ كل ما في جوفها .. نظرت إلى باب الحمام .. فتهيأ لها أن الباب يبتعد عنها .. حاولت أن تنهض لكن دون فائدة .. سحبت رأسها المثقل من على الوسادة لكن باقي جسدها رفض الحركة .. الغثيان كان يزحف إلى أعلى .. يجب أن تستفرغ .. يجب أن تُخرج ما في جوفها .. يجب أن تذهب إلى الحمام .. لكن جسدها رفض الأوامر وأبى أن يتحرك .. بشكل بائس .. وكفاقد الحيلة .. لم تستطع أن تمنع غثيانها أن يتوقف ولا أن تحث جسدها على الحركة .. انتهى بها الأمر .. تستفرغ كل ما في جوفها على وسادتها .. وهي تنهار باكية ... هنا دخل آدم مسرعاً مذعوراً فصاحت به بوهن "اخرج .. اخرج" لكنه صاح برعب "يافا" وتقدم نحوها يحملها بين يديه يبعدها عن السرير المتسخ ويركض بها إلى الحمام .. كانت لا تزال تبكي بوجع .. موجة ألم ثالثة انضمت إلى رفيقتيها .. موجة ألم عاطفي ضرب قلبها ... لم تكن تريده أن يراها بهذا المنظر البشع المقزز .. لم تكن تريد أن تجعله يشعر بالذنب أو بالخوف .. كانت تريد أن تبقى جميلة وحيوية في عينيه .. لكنه الآن وقد شهد الموقف الباعث على الاشمئزاز فمن المستحيل أن لا يتذكر هذا المشهد ... انتحبت تحت وطأة موجات الألم الثلاث وهي تستند على ذراعه بضعف بينما هو يغسل فمها ووجهها .. ما إن انتهى حتى أمسك بوجهها بين يديه وقبل فمها .. وتسائلت كيف لا يشعر بالاشمئزاز منها .. قبل كل وجهها وهو يهمس لها "أحبكِ .. أحبكِ" مالت بجسدها المنهار إلى صدره .. وهي تبكي بضعف ...قراءة ممتعة..
يتبع...
أنت تقرأ
على بحر يافا(مكتملة)
Romanceرواية بقلم الكاتبة بلقيس علي "مُشتاقة" حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي..