في تلك الحديقة التي تقع في طرف الحفرة، تماماً بجوار مياه الميناء الضحلة والعميقة، تقف سلطان معطيةً ظهرها للجميع بينما تعطي وجهها لاحدهم... من بعيد يراها كهرمان بحيث يلتقي بصره بمكانها، فيما يتسائل عن سبب وقوفها هناك، ومن ذلك الشخص؟ فهو يقف خلف ظل الاشجار، حمل في يده كوبين من العصير البارد واتجه الى حيث تقف والدته، يسير ببطئ وهدوء، ليرى ان الرجل قد رفع سلاحه ووجهه الى امه، لم يكد يخطو خطوتين ليسمع ثلاث رصاصات اطلقت من السلاح صانعتاً طريقها في جسد امه الذي تهاوى سريعاً وسقط في مياه البحر المظلم، رمى ما في يده سريعاً وركض باتجاهها قافزاً خلفها في المياه، فيما اتجمع اخوته على طرف المياه حاصةً بعد سماع صوت العيارات النارية، يناظرون كهرمان الذي دخل المياه واختفى، ينتظرون سلطان، ويحدقون بمن يحمل السلاح في يده التي ترتجف...
سابقاً...
مر اربعة شهور على عودة سلطان، وكان كل شيء يجري بسلاسة، لا احد يؤذي الاخر، كان كل شيء مستقراً بطريقة تقير الجدل، لا مرض ولا اذى، هدوء مطمئنٌ و مريب في ذات الوقت ، كأن اكوبين اختفى من الوجود، كان قد حل يوم مميز لدى الجميع، يوم الام حسب الرزنامة الغربية، نهض صالح في الصباح الباكر، ليعايد على امه قبل زوجته، خرج من غرفته بهدوء دون ايقاظ احد، وما ان كاد يخرج من الباب حتى اوقفه صوت احدهم "الى اين؟" التفت ليجد سلطان خلفه، ابتلع ريقه مجيباً "يوجد عمل يجب ان انجزه" "تعلم انها لن تعود، وانك تتكلم مع حجر" اقتربت واكملت "لتكن زيارتك سريعة، لربما تلتحق بها" توتر صالح وتراجع للخلف لتكمل الاخرى "بالنهاية انت لست الا دمية نتحكم بها، وتبقى هنا بسبب رحمتي، فانا سمحت بذلك، لكن النهاية لازالت غير واضحة" صمت الاخر ولم يجب، فقط استوعب بضع الحقائق، واكتفى بفتح الباب والخروج من المكان شاتماً نفسه وحياته وحظه في هذه الدنيا الفانية، توقف لدى بائعة الورد "صباح الخير يا بني ماذا تريد؟" سيدة عجوز غريبة لكنها ابتسمت في وجهه واشارت له لما امامها، "من هذه وهذه" "وهذه لك فوق ما اخذته، ولتدعو لي" ابتسم الاخر فيما اخذه طريقه الى قبر حبيبته الاولى، قبر والدته، جلس ارضاً على ركبته رافعاً كم قميصه، وبدأ يزيل من الاشواك ما جرح اصابعه، نظفه جيداً وزرع ما كان يحمله بيده، "انيه!" هتف فيما ابتسم وهو يكت يديه من الاتربة واكمل "هل ابدأ بالجزء السيء ام الجيد؟، نبدأ بالجيد، انا اعيش حلمي، حلمي بان اعيش مع ابي، ان ابني عائلة، لو ترين كم يتكلمان يا امي، كنتي ستأكلينهما، لا اعرف ان كنت متلهما عندما كنت باعمراهم، اساساً لا يوجد من يتذكر طفولتي، حتى انا لا اذكرها، انيه، صحتي تتأرجح بين طرفي الميزان، لكنها في الطرف الجيد هذه الفترة، على الاقل هذا جيد" تنهد وجلس رامياً بثقلة هلى طرف القبو واكمل "عادت سلطان الى بيت ابي، لم ارغب بهذا لكن حدث غصباً عني، ها لم يكن لابي واخوتي دخل بالموضوع، انا من طلبت قدومها، وحتى هذا الموضوع قصته طويلة، لكن نهايته لن تكون جيدة، ان اختفيت لا تقلقي، فهذا دليل على نجاح خطة ال**** اكوبين ذاك" رتب المكان واحضر المياه ليروي ما زرعه من ورود وما كاد ان يخرج حتى وصلته رسالة (تعال الى العنوان التالي، انتظرك ولا تتأخر) تذمر والاخر وانطلق سريعاً.
عاد الى البيت لاحقاً، واكمل طريقه الى غرفته، جلس على طرف سرير ابنه يراقبه وهو ينام بهدوء، شرد وهو يفكر في عالمه المخيف، يغرق في عالم كوابيسه، كوابيس ستترك ابنه بلا اب، "صالح، صالح، هل تسمعني؟" التفت ليجد سعادات خلفه "ساديش؟" اقتربت الاخرى بقلق "ماذا هناك؟ الم تسمعني؟" هز الاخر رأسه نافياً "يوك، شردت قليلاً، تعرفين اليوم عيد الام وتعرفين حالي" اقتربت الاخرى وجلست امامه وامسكت يده ومسحت بيدها الاخرى على جبهته "اعلم، حسناً لتأخذ وقتك، لكن ليكن بعلمك، الافطار سيجهز بعد قليل، وسأخرج بعد قليل مع سنا، يوجد موعد عند الطبيب لنطمئن عليها، ومساءً سنخرج جميعاً لنحتفل" ابتلع الاخر ريقه ونطق "حسناً ممكن" تنهد واكمل "لقد احضرت لك شيئاً، تعالي لتريه" جذبها من يدها ودخلا الى غرفتهما فيما اخرج من خزانته علبة صغيرة، تحتوي بداخلها سلسلة قفلها يدان تشتبكان سوياً، وله تعليقة تحمل رمز عائلتهم الصغيرة، زوجان وطفلان، واكمل "لتعتني بهم ان حصل لي شيء، وتعتني بنفسك ايضاً" صمتت الاخرى ونظرت اليه "هل هناك شيء صالح؟" ابتسم الاخر فيما لمعت دمعةٌ في طرف عينه اليمنى، ابتلع غصته واكمل "يوك، لا يوجد، يعني لا نضمن انفسنا في هذه الحياة، وانا ذاتاً حياتي معلقة بطرف قشة، لهذا فقط قلت ذلك" ابتسم فيما عانقا بعضهما واكملت سعادات "لتعتني بنفسك انت ايضاً، وها لن تموت قبل ان تبلغ الثمانين، احذرك" ضحك الاخر واكمل "بالكاد اتخطى الثلاثينات" "صالح، ان لن تقول خيراً لتصمت حباً بالله" ابتسم الاخر فيما انسحبت هي من الغرفة وعاد ليجلس على طرف السرير "لا اعد اي منكم بشيء للاسف" فرك وجهه بيده، وعاد لغرفة ابناءه..
لطالما كانت تعطيه السم في العسل، لكن لم يكن الامر بهذا الوضوح من قبل، في العالم الموازي، كان صالح يتربع بين ابناءه يداعب هذا ويلاعب تلك، يحفظ معالمهم، ضحكاتهم، لمساتهم، وكل انشٍ خطوه في هذا المكان وفي قلبه، يبتسم وكأنه ينسى بل يتناسى ما سيحدث خلال ساعات، يتناسى ما سمعه صباحاً، يرتجف قلبه من ما سيقدم على فعله، "ادريس بني" "ايفندم بابا" جلس مربعاً ساقيه واحدة في الاخرى واجلس ادريس امامه "انظر، مهما يحدث، يجب ان تعلم دائماً اني احبك كثيراً، انت واختك، فمهما سمعت لن تصدق احد سواي انا وامك وجدك" نظر له صغيره باستغراب ليبتلع غصته ويكمل "ستعتني باختك وامك جيداً تمام؟" رد الاخر باندفاع طفولي "حاضر بابا" ابتسم الاخر فيما سحبه لحضنه غامراً اياه بحنان وحب، لعله يحاول الابقاء عليه في ذاكرته، "بابا هيا لنكمل اللعبة" "حسناً، هل تذكر التعليمات؟" "اجل، ان مرض احد اتصل على هذا الزر خمس مرات" "احسنت, ومتى ايضاً؟" "عندها اشعر بالخطر" "جيد، واين سيبقى هذا الهاتف؟" "في غرفتي، او مع امي" "بالضبط" مسح صالح على رأسه، وقبله وسحبه لحضنه، فيما كان يعلمه كيفك الاتصال بالطوارئ في حال احتاج الامر، كونه يعلم انه لن يبقى بالارجاء في الفترة القادمة...
تعالت اصوات الاطفال ممتزجةً بصوت الاغاني، كان قد حل المساء، غابت الشمس وحل مكانها اضواء خافتة منها البراق ومنها ما يريح النظر، اجتمع افراد تلك العائلة في مكان واحد، تحت الاشجار وبين الالعاب، جلس صالح بجوار ابيه، ليسمع ادريس يتمتم "كم ادعوا الله ان يديم حالكم على ما هي عليه الان، لا اريد ان يتغير للاسوأ ولا للافضل حتى، هدوء، الجميع سعيد، والجميع بصحة جيدة" ربت على قدم صالح مكملاً "خاصةً انت، اكثر من يشغل عقلي، واعرف ان بك امراً لا تتكلم عنه، تبقيه في سرك" رفع الاخر رأسه والتفت لادريس ليضحك الاخر بخفة "كلامي صحيح اذاً، ارجو ان لا تكون قد تورطت في امرٍ ما ولم تكلم اي احد" رد الاخر مصطنعاً الهدوء فيما اجتمع الدمع في عينه "لا يوجد شيء بابا" اخذ نفساً عميقاً واكمل "بابا، ان حدث شيء فرقني عنكم، هلا اعتنيت بابنائي فلا دخل لهم بي" واكمل فيما غير نبرته وكأنه يحاول عدم اقلاق والده "يعني في المستقبل البعيد، كما تعلم روحي على كف عفريت" "لا سمح الله يا بني" "لاتعلم ما الي تؤول به الامور" "صالح لتتكلم خيراً او لتصمت" ضحك الاخر واكمل ممازحاً والده "حتى انت! حسناً سأصمت، لكنك ستشتاق لثرثرتي هذه" "لان صالح، قلت اصمت" "تمام تمام"، عاد ليجلس بجوار ابيه "كم كنت اكره هذا اليوم، ويوم ميلادها ويوم وفاتها.." قاطعه والده "اعرف، تقبل امر كهذا صعب، مررت به انا ايضاً، لا تتخطاه لكنك تتعلم كيفية التعايش معه" همهم الاخر بنبرة مكسور "اووف بابا.." ربت الاخر على يده واكمل مبتسماً "المهم انك عدت الى حيث تنتمي الان، حتى ولو كان بعد حين والم وصبر على عثرات كثيرة" تنهد الاخر "الحمدلله" ونهض فيما رن هاتفه ليجيب عليه...
"ألم تشتاق لي صالح؟" رد الاخر ساخراً "لا، لن اشتاق ابداً، ماذا تريد؟" "انت مستعد لما سيحصل لاحقاً، اليس كذلك؟" لم يجب صالح ليكمل الاخر "في تمام الثامنة على حافة الميناء، لتنهي مهمتك هناك، ستكون فريستك هناك، لتنهي الامر بنظافةٍ وترتيب، لا اريد فوضى" "لتذهب الى الجحيم" "سنذهب سوياً لا تقلق، هيا اراك قريباً" اغلق الهاتف فيما ترك صالح شارداً غير واعٍ لما يحدث حوله، قاطعه لمسات ياماش الذي وضع يده على كتفه "هل انت بخير؟ بابناولو؟" نظر الاخر لياماش "بخير بخير، شردت قليلاً" ابتسم الاخر في وجهه "في ماذا؟" قرر الاخر ادخال امه ليبرر غرابته في ذلك اليوم، ابتسم بخفةٍ مجيباً "تعرف، يعني اليوم ليس بذكرى جيده لشخص شهد مقتل والدته" اومئ ياماش متفهماً "فهمت، هيا تعال لنجلس جانباً" "يوك، لنبقى هنا حيث الاطفال، افضل لامانهم" "ممكن، لكن تعرف ان اخوتي وابي واغلب رجال الحي هنا، يعني اكوبين ليس غبياً ليفتعل ضوضاء في هذا الحشد" "لا تعرف من اين سيخرج ولا كيف سيتحرك حتى، لربما يتحكم ببضع قطع شطرنج هنا" ابتسم مبتعداً فيما ربت على ذراع ياماش وانطلق الى حيث ابناءه، رفع ايسل مقبلاً اياها من رقبتها، ووضعها في اللعبة التي امامها فيما كانت ضحكاتها تزيل الهم عن صدره، "جيلاسون تعال الى هنا" لحظة وكان بجواره "تفضل آبي" "جيلاسون، اترى هذه الفتاة التي بطول الذراع" ابتسم الاخر مجيباً "تقصد ايسل؟" "اها، انها في أمانتك بعد الله وابي" نظر بعيداً واكمل "وادريس كذلك، انهم بامانتكم انت وميدات، ان قصر احد في حقهم، لن اسامحكم" "بالطبع آبي، ليدمك الله فوق رؤوسهم، ما داعي هذا الكلام الان؟" ابتلع الاخر ريقه ورد "لا يوجد، لكن لضمان اموري" نظر لساعته التي تشير الى الثامنة الا خمس دقائق، تسارعت نبضات قلبه وانسحب بهدوء من بينهم الى حيث طُلب منه، يرتجف، يكاد يبكي لكنه يتماسك، يكرر في ذاته "هذا ما يجب ان يحصل" انطلق وهو يخطوا خطوةً للامام وعشرة للخلف، تماماً الى طرف الميناء...
"الم اقل لكَ ان خطتك لن تنجح!" يقف صالح مقابل سلطان على طرف ذلك الميناء بالقرب من البحر الذي تتلاطم امواجه وتتلاحق لتصل ذلك الجدار الصدئ، ابتسم بخفة قبل ان يجيب "أي خطة؟ ومن قال لكِ انني اتبع خطةً ما!" اقتربت الاخرى منه ونكزته بطرف اصبعها في صدره "خطتك ان تقلب ابنائي علي وطردي من البيت، بل الاستيلاء على عائلتي كما ارادت امك، تكمل خطتها، قال كانت ستتركك طفلاً لاتحمل مسؤوليتك، من انت اساساً، حسن فعل قاسم عندما نفذ كلامي وقتلها والافضل انه قتلها امامك، لكن ذلك الابله لم ينهي عمله" ضحكت واكملت باستهزاء "قال انه لا يستطيع ان يفرط بطفل بطول الساق" صمت الاخر فيما بدأ يشتطات غضباً "لا داعي للكلام عن الماضي الان، بالنهاية انا لم يكن لي ذنب في كل ما تروينه، بينما الذنب يلبسك من اعلى رأسك لاخمص قدميكِ" ضحكت الاخرى مجيبةً "حقاً! انظر اين اصبح ذلك الطفل ذو طول الساق الان! حرم اخوته من امهم، والاحفاد من جدتهم، وفرق بين زوجٍ ووليفته!، حقير ودنيء كوالدته" ضغط الاخر على قبضتيه وهتف "هلا ابقينا امي خارج الموضوع، انظري الى الان لازلت أحترم انك كبيرة في السن وابنائك اخوتي، لا تتمادي اكثر من هذا والا.." رفع اصبعه واحتدت نبرته فيما ارتسمت معالم فارتولو على وجهه لترد الاخرى ببرود "والا ماذا!، ستقتلني! وستخسر اخوتك، وستقول اخذت بانتقام ماذا؟ تلك العا***ة يا ابن الز..." اتسعت عيناها حين ادركت ان الاخر كان يوجه سلاحه نوحها، بل اطلق النار ايضاً، مؤلم، يحترق، حريق انتشر في جسدها، فيما مال ليسقط في البحر، عله يطهرها من ذنوبها قليلاً...
سابقاً في ذلك اليوم، كان صالح قد نهض من جوار والده، ليجيب على الهاتف، بل ليتوجه الى مكان سلاحٍ مخبأ بين العاب الاطفال، يحتوي ثلاث رصاصات بالضبط، وهي ذاتها التي اطلقها صالح على زوجة ابيه...والان، وكان قد دوى صوت رصاص في المكان، مسبباً ضوضاء وفوضى، اطلق صالح النار على سلطان تحت انظار ابناءها، اندفع كهرمان سريعاً الى المياه حيث سقطت سلطان، فيما وقف جومالي امام صالح، اخذ السلاح من يده واعطاه لوالده، ونظر لصالح بحدة، بل بغضب ممزوج بخذلان، وحول اهتمامه الى المياه واقترب من كهرمان ليسحب امه من بين يديه "بهدوء" واكمل هاتفاً "ليتصل احدكم بالاسعاف" فيما سحب جسد سلطان من المياه، سالت دمها مع المياه التي غمرت جسدها، يحاولون اعادتها لوعيها لكن عبثاً، بالكاد تبدي اي معالم للحياة، توتر الجو جداً، نظراتهم التي تقييم صالح من اخمص قدمه حتى اعلى رأسه، خوفهم على والدتهم التي تصارع روحها، يقف متجمداً مكانه، ولا يعاد في رأسه الا لحظة مقتل امه امام عينيه، روحه تبكي مصابه وما فعله باخوته، يفهم غضبهم، بل يعرفه، يراقب حركتهم ويدعوا ان يكون ما يحدث امامه من نسج خياله "كم انت جبان يا صالح" هتف صوت فارتولو بداخله، سحبه ادريس جانباً فيما امتلأ المكان بالمسعفين والشرطة، وسرعان ما اختفت تلك الفوضى والاضواء، تماماً غروب الشمس، "صالح! اين شردت!" هتف ادريس فيما سحب ابنه جانباً واكمل بغضب بعد اجلسه على الكرسي "لماذا فعلت هذا!" لكن الاخر شارد في بعد اخرلا يجيب، تنهد ادريس واقترب ليأخذ المسدس الذي كان بحوزة ابنه لكنه لم يجده "مجاهد، اين السلاح الذي كان مع صالح؟" "اخذه احد رجال الشرطة" "ماذا!" نسي انه رماه جانباً مع جلبة الاحداث، نفث الهواء غاضباً وعاد الى ابنه الذي لازال لا يستوعب ما يحصل، "لان صالح في اي عالمٍ غرقت!" صفعه بقوة ليسيل الدماء من شفته "اولوم! اني اتكلم معك" رفع الاخر نظره لابيه ليكمل ادريس "بماذا كنت تفكر يا هذا! احاول حمايتك بكل الطرق وانت تلقي بنفسك في جهنم! هيا امشي امامي" لكن الاخر متجمد بلا كلام او فعل فجذبه من ذراعه واخذه الى حيث اخوته...
عودةً الى ازقة ذلك المشفى، حيث يجتمع ابناء ادريس امام قسم العمليات، كان كهرمان يدور حول نفسه ويحاول السيطرة على اعصابه، لقد فقد الكثير لايفقد امه ايضاً، ليس بعد ان كانت السبب في استيعابه حقيقة فقدانه لعائلته وقتله لابنته، ليس بعد ان تقبل حقيقة ذلك، يتبادل نظرات حاقدة مع جومالي، الذي اجاب بحدة "لا تنظر الي هكذا، انا كنت ضد اجتماعهما" اقترب الاخر غاضباً وامسك جومالي من ياقته وهتف في وجهه "هل ترى! كنت تقول انها هي من يؤذي صالح، هل ترى! هل ترى من قام بايذاء من؟" ازاحه جومالي جانباً ولم يجب ليبتعد الاخر وهو يتمتم "بالطبع لن تستطيع الاجابة، بماذا ستجيب؟ لا يوجد تبرير لفعلته، فغالباً ما قلتموه عنها ليس حقيقةً اساساً" قلب نظره بين اخوته الاخرين، كل منهما يجلس على كرسي في طرف المكان، ينظران للارض بخذلان...
تزامن ذلك مع وصول ادريس وخلفه عمي وصالح، وما ان لمحه كهرمان حتى انقض عليه هاتفاً "هل ارتحت! هل ارتحت الان! امي تموت بسببك امي تموت بسببك يا ابن الز*نا، انظر الي يا هذا" كان الاخر يقف هادئاً بلا حراك ولا صوت، يناظر الارض، على الاقل الى حين ذكر كهرمان سيرة والدته ونعته بلقبٍ لا يطيقه، اشتعل داخله وهتف مجيباً الاخر "لا تتكلم عن امي يا هذا، لا تأتي بسيرتها على لسانك القذر هذا" اتسعت عيناه واكمل غاضباً "هذا ما كان يجب ان يحدث منذ زمنٍ طويل اساساً.." لم ينهي كلامه ليتلقى لكمةً من كهرمان الا ان الاخر تفاداها وامسكه من ياقته وضربه بالجدار "لا تسترجل، لا ترتدي زي الشرف علي يا هذا، يا قاتل ابنته، على الاقل انا اخذت بثأر امي وطفولتي، وانت؟ ازهقت روحاً بلا ذنب" "اخرس.." وما كاد ان يكمل حتى خرج الطبيب من غرفة العمليات، شعر كهرمان وكأن قلبه سقط ارضاً عندما رأى معالم وجه الطبيب...
"فقدنا المريضة" كانت اول كلمة نطقها ذلك الطبيب، واكمل فيما يناظر الاخوة باسى "لقد نزفت كثيراً ولم يستحمل قلبها ذلك" واتبع بجملة اكثر قسوة "سلم رأسكم" هدوء مخيف عم للحظات طويلة، لربما هي قصيرة بالحساب الزمني لكنها طويلة كطول النظرات التي يتبادلها صالح مع اخوته، منها الحزينة، تلك كانت من سليم، والاستنكار والرفض التي ارتسمت على معالم ياماش، والغاضبة، ترمي شراراً من كهرمان، يكاد يحرقه حياً، لكن أسوأها كانت من اخيه الاكبر، نظرات الخذلان، اقترب جومالي فيما تراجع صالح للخلف مبتلعاً ريقه، فيما هتف الاخر بنبرة مكسورة "لماذا فعلت ذلك حباً بالله! كانت مريضة" نظر جانباً فيما اشتعلت عينيه غضباً وهتف "حباً بالله صالح، لماذا؟ هل اذتك مجدداً! لا لم تفعل، هل آذت ابناءك؟ لم يحصل ايضاً" شد على قبضته واكمل وهو يضغط على فكه "انا كنت اخاف ان تقوم هي بايذاءك" ضحك واعاد طريقه الى حيث صالح الذي وصل الجدار "تكلم لااان، لا تصمت هكذا" لكن لا مجيب صمت مخيف يختلط باجواء مشحونة، كالكهرباء الساكنة تماماً، اختفى صوت جومالي ليعلو صوت كهرمان مجدداً "اجب يا هذا، اجب يا ***, لقد اعتبرتك اخي، ليتبين لاحقاً انك مجرد افعى تسللت الى بيتنا، وهدفك واحد، اما تشتيت شملنا او.." صمت وصرخ متقدماً باتجاه صالح "هدفك كان قتلها من البداية، أليس كذلك؟ لهذا وافقت بهذه السرعة، بل اصررت على ذلك، ايها ال***، تمثل علينا المرض وانك المظلوم بيننا، وفي واقع الامر انت فقط مجرد *** اندس بيننا، ولربما مرضك هذا خطة بينك وبين طبيبك اندريا.." صمت حين رد صالح عليه، بكل قوة وشموخ "هذا ما توجب فعله وفعلته، نقطة وانتهى، ان كان لدى احدكم شيء يريد فعله ليفعله، غير ذلك انا سأكون بالخارج" التفت وهم ذاهباً ليلتفت مجدداً ونطق مستقصداً اخوته "ليسلم رأسكم" ثم الى والده وتمتم قائلاً "سامحني يا ابي" وبادل نظراته مع اخوته قبل ان يدير ظهره لهم ويخطو خطواته قاصداً خارج المكان...
"لااان!" سحبه كهرمان ليفلت الاخر نفسه متفادياً لكمته مجدداً، بل قام هو بضرب كهرمان مسقطاً اياه ارضاً واكمل "هل هذا ما تفلح به فقط! عنف وضرب وشتم، لا حل عقلاني يمر في رأسك الفارغ هذا" قاطعهم صوت والدهم الذي هتف بل صرخ "يتاااار، ابتعدوا عن بعضكم" ثم التفت الى جهة صالح واكمل "انت اصمت، اغلق فمك هذا قليلاً، اغلقه للحظة فقط" لكن الاخر رفع كتفيه ورد ببرود "هذا متوقع اساساً، هيا الى اللقاء" خرج بخطىً واثقة، وكأن شيئاً لم يحصل متجاهلاً الحرب التي تجري بداخله، لحظات ووصل ضابط الشرطة وبرفقته رجاله ليأخذوا افادات الجميع، ولربما لاعتقال المشتبه، "سلم رأسكم جميعاً" اومئ ادريس مجيباً "ليسلم الاصدقاء" ليكمل الضابط معرفاً عن نفسه "انا الضابط المسؤول عن قضية قتل السيدة سلطان كوشوفالي" نظر له ادريس تنهد وجلس مصغياً لكلامه "كما خرج من كاميرات المراقبة في الحديقة ساعة الحادثة فان صالح كوشوفالي كان قد توجهه الى ذات مكان الحادثة، لهذا يجب ان اخذ افادته، بالاضافة الى افاداتكم جميعاً، ويستحسن ان يحصل هذا الان.." ما كاد ان يكمل حتى تدخل ايمي "صالح ليس هنا كما ترى، ووضعهم لا يسمح بان يتم استجوابهم، لتأجل الامر حتى يوم غد" "لكن.." "لا يوجد لكن يا بني، الوضع لا يسمح تعال غداً" "لكن هذه عرقلة للتحقيق" "لا يوجد عرقلة او ما شابه لكن صدقني لن تأخذ اي شيء منهم في هذه الساعة، تعال غداً.." "كما تريد.." انسحب الشرطي مع ان الامر لم يعجبه، لكنه فضل عدم اصدار ضجة قد تزيد من توتر الامر..
بالقرب من الشاطئ، يجلس كحيل العين على كرسيٍ خشبيٍ مهترء، في ظلام دامس بالكاد يرى هيئة ما حوله، يشفي روحه بهدوء المكان شارداً فيما يتصارع داخله، يتذكر ما حدث للتو، جزء منه مرتاح، لربما كان الجزء الذي يمثله فارتولو، الطرف الذي يعشق الانتقام، فهو اخيراً اخذ بثأر امه، طفولته وبثأره هو بحد ذاته، لكن هناك طرف اخر يشعر بالذنب، وغالباً هنا يأتي صالح الفتى المهذب، الذي لا يريد لاي انسان ان يذوق ربع ما مر به... "ماذا تفعل هنا لوحدك آبي؟" رفع الاخر نظره الى مصدر الصوت ليجد جيلاسون بجواره "من اين اتيت يا بني؟" ابتسم الاخر ورد بدفئ "لحقت بك، منذ خرجت من المشفى" اشار الاخر له بجواره "تعال واجلس هنا" واكمل "هل ارسلك ابي؟" رفع الاخر حاجبيه نافياً "اتيت لوحدي" رفع صالح حاجبيه ليسمع الاخر يتكلم "لكن ايمي يعلم اني بجوارك، لا يقلقون عليك الان" ضحك صالح فيما مسح على وججه واتبعها بتنهيدةٍ طويلة، وما كاد جيلاسون ان يتكلم حتى قاطعه صالح "هل تذكر اول مرة دخلت بها الى الحي؟ عندما لم ينظر ايٌ منهم الى وجهي، لكن هل تعلم، كدت اعود ادراجي في اللحظة الاخيرة، كنت قد ازلت تلك الفكرة من رأسي، يعني العائلة، ان يكون لك اب واخوة، كانه شيءٌ من الخيال، احلم به فقط ولا اراه، كانت تمر ايام لا يعلم بها احد سوى الله، كانت تنتهي بثقلها وادعو الله ان لا يكون لها غد..." صمت للحظة واكمل "لا تفهمني بطريقة خاطئة، انا احمد الله انني لم اعد ادراجي الى ذلك العالم السفلي الذي نشأت به، لكن وجود شخص تهتم به عبئ كبير، فهم بخطر ان اخطأت، وان لم تخطئ، تخاف عليهم وتخاف من خوفهم عليك، تتشاجر معهم وتكره نفسك لانك تشاجرت معهم، لكن بالنهاية يجب ان تقوم بحمايتهم تماماً كما سيقومون هم بحمايتك، فروحهم لك وروحك لهم، بهذا القدر.." انهى جملته وصمت، قابله جيلاسون بالصمت في الطرف الاخر، "آبي، هيا لنعود" "يوك، اذهب انت وانا اعود لاحقاً" "لا سنعود سوياً" رفع صالح نظره وصمت، ليعتدل الاخر في جلسته "آبي سيقومون باعتقالك" "جيد، على الاقل سكن مجاني" نهض متجهاً الى جهة البحر ليسمع جيلاسون "هل قام احد ما بتهديدك؟" انصت صالح ونظر للبحر معطياً ظهره للاخر ولم يجب، فاكمل جيلاسون "هل اك.." قاطعه صالح "لن تذهب وتتركني اليس كذلك؟" رفع الاخر حاجبيه مجيباً "لن افعل، نعود سوياً او نبقى هنا سوياً" "وان بقينا لن تصمت؟" "لا، هل ستخبرني لماذا فعلت ذلك؟" "يوك، ليس من شأنك.. هيا لنعود اذاً، معك سيارة أليس كذلك؟" "ايفيت" "جيد على الاقل لحظة سكينة، هيا لنذهب" حمل سترته وانطلق الى سيارته فيما ذهب جيلاسون خلفه في سيارةٍ اخرى، واتجها الى الحفرة، الى بيته الذي يطل على بيت والده، ركن سيارته ودخل فيما يتسابق قلبه متوتراً...
ما ان اضاء البيت حتى وجد والده امامه، جالس في وسط الاريكة، ممسكاً بمسبحته في يديه، ويرتسم الغصب على معالمه، ارتجف الاخر وتجمد مكانه فيما تمتم بصوت لا يسمع "بابا!" ليقابله الاخر بالصمت فيما اشار له بطرف يده ليقترب، وما ان اصبح امامه حتى نطق ادريس بنبرة حادة "تكلم" ابتلع صالح ريقه ونظر للارض "لا يوجد ما نتكلم عنه..." لم ينهي كلامه ليتلقى صفعةً من والده "هل انت احمق! غبي! بلا عقل! ماذا يعني ما فعلته، هل اخذت انتقامك؟ هل ارتحت؟ لا لم تفعل، بل عقدت علاقتك مع اخوتك فقط.." صمت واكمل "انتقامك حقك لن اكذب، لكن ليس هكذا! ليس هكذا، الشرطة تبحث عنك واخوتك يشتاطون غضباً الان، لا اعرف كيف سأمنعهم من ايذاءك، خاصةً كهرمان، ان كان يتقبلك قليلاً فقد انتهى كل شيء بينكما.." اقترب منه واكمل "انا لن احميك منهم ليكن هذا امام عينيك" تركه وذهب، فيما بقي صالح يقف في مكانه متجمداً الى حين سمع صوت الباب الذي اغلقه ادريس بعنف خلفه، خلع سترته ورمى بنفسه على الاريكة مكان والده، وبقي يحدق في الفراغ لساعات، الى ان غفت عينيه مع طلوع الشمس...
في تمام العاشرةِ صباحاً، استيقظ صالح على طرق الباب، "انت رهن الاعتقال" كان ما سمعه فيما كان يعدل هيئته، نظر جيداً ليجب سيارة الشرطة مع عدد من الضباط وبجوارهم ادريس "هكذ اكثر اماناً" كان كل ما قاله ادريس لصالح، الذي لازال لا يفهم ما يحدث، نظر بعيداً ليجد جومالي يقف بجوار بوابة البيت، عابساً وعاقد الحاجبين، غاضبٌ جداً بالكاد يكبح نفسه عن اخيه، جذب الضابط ذراع صالح ووضع الاصفاد بها، فيما سحب الاخرى ولواها خلف ظهره ليكمل وضع الاصفاد، واقتاده الى السيارة بعد تفتيشه، كان الاخر يتحرك بين يديه كالدمية، لا يتكلم ولا يقاوم، صامت ويبادل والده النظرات، تكاد تتكلم عنه وتقول "انقذني من الجحيم يا ابي" لكن الاخر غاضب، بالكاد يرى ما امامه، يعلم انه ان لم يتصرف بهذه الطريقة فسينتهي الامر بطريقة اكثر دموية، فهذا ما تركه بالبيت، ذلك الشجار، تهديدات كهرمان بايذاء صالح، لربما هو يتكلم دون ان يفكر، لكن ادريس يعلم ان الاصغر لن يحتمل، فقرر ابقاءه في وصاية ضابط الشرطة...
سُحب صالح من بيته فيما ارتسمت ابتسامةٌ ساخرةٌ على وجهه، فيالَ سخرية القدر، وضعت الاصفاد فيه رسغيه بامر من والده، سنده في هذه الحياة، فيما أُقتاد تحت انظار اخيه الاكبر، طرفه القوي، "بابا، ادريس وايسل!" هتف فيما تجمعت الدموع في عينيه ليجبه ادريس "سيبقيان تحت جناحي، الى حين.." لم يسمع صالح ما قاله ادريس فقد اغلق باب السيارة عازلاً اياه عن ما خارجها، واخذته بعيداً، وضع بالنهاية خلف قضبان حديدية، غرفة مائلة للبرودة، واضاءةٍ خافتة، وهدوء مخيف، كمش جسده على نفسه وجلس في مكانه، يناظر طيفه بل قرينه، يناظر فارتولو الذي ينظر له بحدة من طرف الغرفة "واخيراً تحركت ايها الجبان" "اصمت" "لماذا سأصمت يا ترى؟ أليس حقك؟ ام ماذا؟" "اصمت" جلس الاخر واضعاً قدماً فوق الاخرى بجوار صالح وضحك "كما تريد، سنلعب الكثير من الالعاب الان"...
رُفعت الجنازة في الحفرة، وحمل النعش بمن يقولون انها ام الحفرة، لربما كانت ام الحفرة عدا شخص واحد، لربما سبب ذلك هو جشعها او غيرتها، لكن انتهى، الى هنا وانتهت القصة التي سترويها، انتهى دورها في ذلك الجزء من المسرحية، وصولاً الى مقبرة الحفرة، نزل الاخوين الكبيرين فيما اخذا جسد سلطان و واروه للثرى "ألن تكشف عن وجهها؟" سأل جومالي فيما حل عقد الكفن" ليجيب كهرمان "لا ليبقى هكذا، ودعناها بالمشفى اساساً، لا استطيع توديعها مجدداً" اومئ الاخر وخرج من القبر ليتناول سليم القطع الخشبية ليرتبها فوق الميت ثم رموا التراب من فوقها، لحظات وبدأ الازدحام يختفي من المكان، بقي اربعتهم مع ادريس، "هناك خطب ما بما حدث، انا لا افهم اي شيء" هتف ياماش الذي لازال في صدمته منذ الحادثة واكمل "صالح لا يفعل هذا" ليجبه كهرمان "فعل وانتهى، فارتولو فعل او صالح لا يهم لكنه فعل، تدافعون عنه كأنه ملاك من السماء، وهو شيطان من جهنم.." ليأتيه رد من سليم "كل هذا، يعني منذ اطلق النار وحتى الان، كل ما حدث، به خطب ما" "يووك لا يوجد خطب وما شابه، خطط ونفذ، سمعتموه باذانكم" صمت ونظر لجومالي "أليس كذلك آبي؟" نظر له جومالي ولم يجب، ليكمل كهرمان متوجهاً لوالده "اين خبأته؟" "لا يخصك" صرخ الاخر بوالده "بل يخصني، هذا ابن ال*** اخذ امي مني، قتلها بدمٍ بارد، امامك وامام الجميع، وانت الان تقوم بحمايته، اين ذهب؟" نظر ادريس له بحدة ليجيب "انت لا تعي ما تقوله، لازلت تحت تأثير الصدمة.." قاطعه كهرمان بصوت عالٍ "اين اختبئ ذلك الجبان!" رد جومالي عليه "سلمه والدي للشرطة.." التفت كل من سليم وياماش الى ادريس، ليجيب الاخر "هذا ما تطلب وهذا ما حصل، لا يناقشني اي منكم بالامر، هيا الى البيت" تركهم وخطى في طريقه الى بيت العزاء...
لاحقاً وخلال ساعات، كان ادريس يتجهز للذهاب لمركز الشرطة، وما ان فتح الباب حتى رأى سيارة شرطة تضيء بالوانها في ساحة البيت، نزل منها ضابط واقترب موطئاً رأسه بخجل من ادريس "سيد ادريس، اعتذر عما سأقوله، لقد حدث حريق في مركز الشرطة، وفقدنا اغلب المساجين، هلا اتيت الى المشفى..." يتبع...