" أنتِ قوية و إن قست عليكِ الأيام، أنتِ فقط لا تُدركين ذلك و بلحظة ستكتشفين قوتكِ و تستغلينها و تستعيدي توازنكِ من جديد، ابحثِ عنها بداخلكِ و ستكتشفيها".
والدتكِ."لم يفوتني القطار وحده..بل فاتتني المحطة و ضلني الطريق و خانني رفاق السفر".
(محمود درويش).مرت بضعة أيام و استقرت حالة نورة كما استقرت حالة الجنين و توقف النزيف لذا سمح الطبيب لها بالخروج مع مراعاة حالتها و الحصول على الراحة و عدم القيام بأمور مُرهقة و متابعة وضع الجنين أسبوعياً للتأكد من مرور أشهر الحمل بسلام و خلال تلك الفترة كان الجميع جوارها يؤاذرونها و يهتمون بها و من بينهم سيد و لكنها امتنعت عن الحديث و لم تنطق بحرف منذ استفاقت و باءت كل محاولات رامي لجعلها تتحدث بالفشل و لكنه مستمر بدعمها نفسياً بكل ما أوتي من قوة.
خرجت نورة و استقرت بشقتها أو بالأحرى شقة إبراهيم و قد وفر لها رامي ممرضة متخصصة بمرعاية الحالات النفسية لتستطيع مراعاتها و مراقبتها عن كثب و قد بدأ إبراهيم يجهز لها المنزل و يزيل كل شيء من الممكن استخدامه لإيذاء نفسها و قد كانت هذه تعليمات رامي بالطبع و بدأ إبراهيم ينظر للأشياء من منظورها و بخبرته بِمَ مر به معها لذا أخذ جميع المقاعد و الأثاث الذي يوجد به مسامير و قطع معدنية و بدأ يُعدلها بحرفية لتصبح قطع خالية من المعادن تماماً بِمَ يسمى بالعامية (تعشيق) و هذا يعني إحداث ثغرات و فتحات كمجرى بقطع الخشب لتتماسك ببعضها و يقويها بلاصق قوي كي لا تتفكك كما أنه ثبت الأقمشة بلصق مُخصص و تعمد إخفاء الأخشاب بالأقمشة كي يمنعها من جرح نفسها بأي طريقة كانت و فحص كل إنش بالشقة و أزال المسامير و اللوحات و ما شابه و استعان بأشياء بديلة عنها و كان هذا عمله طوال تلك الأيام التي قضتها نورة بالمشفى و قد استغل الوضع ليشغل ذهنه و يشتت تفكيره عنها أو هكذا أقنع نفسه و لكنه بالحقيقة كان يفعل كل ما يلزم لحمايتها و يجهز كل شيء للإعتناء بها و رغم أنه كان يُثقل على نفسه بالعمل كي يشتت ذهنه عنها إلا أنها لم تغِب عن ذهنه و طيفها لم يفارقه لحظة و الفؤاد يتألم لألمها مرغماً.
اليوم صعدت لها بديعة تطمئن عليها و قد قامت بزيارتها بالمشفى و لكنها لم تتجرأ على الحديث معها، دلفت بديعة لها و قد كانت نورة ممدة بفراشها تتبع أوامر الطبيب و تنال قسطاً من الراحة ثم جلست جوارها تطالعها بحزن و نورة تنظر للاشيء، تنهدت بديعة ثم تشجعت و تحدثت بألم و هي تربت على فخذ نورة تعتذر منها:
- حقك عليا يا بنتي....حقك على عيني و الله، كان يتقطع لساني قبل ما أنطق و أشجعك، حقك عليا يا ضنايا...سامحيني.لم تتأثر نورة بحديثها و كأنها بعالم آخر فهربت عبارات بديعة و قبلت رأسها و هي تربت على كتفها بحنو ثم نهضت و غادرت الغرفة، أبان ذلك كان رامي وصل لورشة إبراهيم يجلس معه يتحدثان بشأن نورة و حالتها و قد التقط رامي بندق يبدو عليه الحزن يجلس منزوياً يراقب عمل زملائه بصمت فسأل إبراهيم:
- بندق شكله متأثر، اتكلم معاك في حاجة؟.
أنت تقرأ
غُربة
Non-Fictionغُربة، غُربة أرواح تاهت بدروب الحياة، أرواح تغربت و ضاعت خُطاها تقودها نحو المجهول و الخوف يسكنها، أرواح لم تحلم بالحياة سوى بحياة، حياة بأوطان تسكنها آمنة، أوطان تقتل غُربتها و تقتل الحنين فهل من أوطان آمنة أم ستظل الأرواح مُغتربة تبحث عن وطن حتى ي...