(٢)
قبل يومين..
بخطواتٍ متتاليةٍ كانت تقفز بخفةٍ فوق درجاتِ السلمِ الرخاميةِ، ترفع بآناملها فستانها الطويل حتى لا يُعيق هرولتها السريعةِ، من ثم تعود أصابعها تهندم حجابها البسيط..
كلُ خطوةٍ توازي بسمةً منفلتةً من بين شفتيها ولمعةً لخضرة عينيها المميزة.. خطواتٌ أخرى و كانت تندفع من باب المطبخ الكبير بعد ما اجتازت المسافة بين بوابة الفيلا لمكمن أمها الدائم.
بذراعيها ضمتها من الخلف على حين غرةٍ لتصيح ببهجةٍ حقيقيةٍ وحماسٍ فعلي:
- نجحت ياماما نجحت.
واستدارت تقابلها بقسمات حفرت عليها السعادة، فطعمُ النجاحِ المنبثقِ من بين طياتِ الحياةِ القاسيةِ لهو الأروع على الإطلاق.. ترفع كتفيها وتُردف بزهوٍ وغرورٍ مصطنعٍ:
- ومش بس كده لااا كمان الأولى على الدفعة.
تحركت المرأة من جلستها، تسحبها لأحضانها عنوةً،
وتهتف بحشرجةٍ فرحةٍ:
- مبروك يا قلب ماما.. مبروك يا نسمة.
وابتعدت تكفكف دمعاتها المنسابة دون إرادةٍ مردفةً بحنينٍ:
- الله يرحمك يا رفعت.. فينك تشوف بنتك وهي ناجحة ورافعة الرأس.
رفعت نسمة أناملها الرفيعة تمحي لها دمعةً أخرى قبل أن تدمدم بخفوتٍ:
- الله يرحمه.
ثم تابعت مغيرةً دفة الحديث بجبينٍ مقطبٍ، وعتبٍ مازحٍ:
- مش هتضحكي عليّ يا ننوس.. فين حلاوة النجاح؟
تهللت أساريرُ المرأةِ على الفورِ مستجيبةً لمزحة ابنتها، وهي تتحرك ناحية البراد تخرج منه ما قضت ساعاتها الماضية في إعداده وقدمته بفخرٍ:
- أحلى تورتة لأحلى نجاح يانور عيني.
لثمت كفيها وهتفت بفرحٍ لرؤية سعادتها العارمة:
- تسلم إيديكِ يا ست الكل.
ثم سرعان ما جذبت سكينًا من فوق المنضدة الكبيرة، وهمت بالتقطيع والتهام الكعك بشراهةٍ تحت نظرات والدتها الدامعة.. دست بفمها قطعةً كبيرةً فغصت بها وتعالت ضحكاتهما معًا قبل أن تقوم بدس قطعةٍ مماثلةٍ في فم أمها.. ليقطع الصخبَ القائمَ اقتحامٌ أنثويٌ يشبه قطع الفريز المحيطة بقالب الكعك الشهي، سروالٌ أحمرٌ قصيرٌ حد الفخذين مع بلوزة بيضاء بحمالاتٍ رفيعةٍ كشفت عن وردية بشرتها مع خصلاتٍ بنيةٍ قصيرةٍ حد الكتفين؛ تحيط بوجهها الطفولي في تناسبٍ مع جسدها المنمنم..
تقدمت بخطواتها إلى المنضدة بينهما تستند عليها بساعديها، وتلقي التحية بنبرةٍ متثائبةٍ.. باردةٍ:
- Good morning.
وكانت الأم أول من ردت الصباح..
- صباح الجمال يا غِنَى.
وأردفت متسائلةً:
- ها ياحبيبتي أحضرلك الفطار؟
- ميرسي يا دادة ماليش نفس.
قالت وعيناها تدور فوق المنضدةِ تراقب بقايا الاحتفال الصغير المنقطع بولوجها.. فتابعت بتملقها المعتاد:
- في حفلة هنا ولا إيه!
تبسمت المرأة وهي تجذب ابنتها لأحضانها من جديدٍ صائحةً بجذلٍ:
- مش تباركي لنسمة يا غِنَى.. نجحت يابنتي وطلعت الأولى على دفعتها.
تأهبت في وقفتها فجأةً وهي ترمي ببصرها نحو نسمة الصامتة منذ بداية الحوار لتهمس بعيونٍ غير مصدقةٍ:
- Really!
وهزةُ رأسٍ مع ابتسامةٍ خفيفةٍ كان جوابها لتعود عينا غِنَى تشتعل بضيقٍ برعت في مداراته..!
أي عدل ذاك أن تدرس كلتاهما بكلية التجارة قسم اللغة الإنجليزية فتنال تلك النسمة أعلى الدرجات في حصاد عامهم الأول
بينما هي و رغم جامعتها الخاصة ذات السيط الذائع يكون حظها بذلك السوء!!
همست أخيرًا بابتسامةٍ باهتةٍ ونبرةٍ خفيضةٍ
- مبروك.
تسائلت نسمة أخيرًا بهدوءٍ متوجسٍ:
- الله يبارك فيك.. أنتِ عملت إيه؟
- نجحت طبعًا!
كان جوابها صائحًا بديهيًا بنظراتٍ مخترقةٍ لتلك التي تقابلها في وقفتها من خلف المنضدة، قطع نظراتهما المتبادلة زغرودة عالية رجت أركان المنزل..
- ألف بركة يا حبايبي عقبال ما تتخرجوا ونفرح بيكم يارب.
لتضرب الأرض بقدمها في اعتراض وتبرَّمٍ جليٍ متخصرةً في وقفتها:
- فين التورتة بتاعتي! ولا هي نسمة بس.
- لأ إزاي يا غِنَى أحلى تورتة لعيونك ياحبيبتي.
تأهبت في وقفتها عاقدةً ساعديها فوق صدرها و دارت برأسها جانبًا في اعتراضٍ قبل أن تهمهم بكلماتٍ مغتاظةٍ:
- لأ يا دادة مش عاوزة منك حاجة.
واندفعت للخارج بوجهٍ محتقنٍ فقلبت المرأة كفيها على بعض متمتمةً بعجبٍ:
- ربنا يهديكِ يا غِنَى.. كل ساعة بحال.
- معلش يا ماما دلوقت تروق وتيجي تعتذر منك.
أخفت نسمة ضيقها ببراعةٍ اعتادتها مواسيةً إياها ببضع كلماتٍ وأكملت مردفةً:
- أنا هنضف المكان ارتاحي أنتِ.
وقبل أن تبتعد خطوتها عنها جذبت رسغها برفق،ٍ تفصح عما بخلدها بترددٍ:
- صحيح يا نسمة.. يسرا هانم كلمتني من يومين علشان أروح معاها خطوبة بنت الست نادية قريبتها.. الست لوحدها في ليلة زي دي واجب نقف معاها.
تغضنت ملامحها في لحظتها، تهتف بحنقٍ وليدٍ:
- وبعدين يا ماما أنتِ مابقتيش حمل مشاوير زي دي، مالنا احنا بنادية هانم و لاغيرها.. وبعدين أنتِ عارفة ماحبكيش تروحي عن حد ولا بابا الله يرحمه كان بيوافق على كده.
- يابنتي الست يسرا قصدتني وماقدرتش أكسفها، علشان خاطرها بس وخاطر شهاب بيه أنتِ عارفة غلاوتهم عندنا وغلاوتنا عندهم.
حركت نسمة رأسها متنهدةً في قلة حيلةٍ:
- اعملي اللي تشوفيه يا ماما أنا عارفة مش هاخد معاكِ حق ولا باطل طالما صممتي على حاجة.
أردفت بعدها بضيقٍ واضحٍ:
- هتتأخروا هناك؟
طمأنتها بحنوٍ وتربيتةِ كفٍ راضيةٍ:
- هنطلع كمان شوية وبعد بكرة هتلاقينا هنا بإذن الله.. عمر بس اللي رايح معانا، غِنَى مش رايحه ما أنتِ عارفة مالهاش في المشاوير دي
وأكيد مش هيقدروا يتأخروا عنها أكتر من كده.
هزت رأسها بتفهمٍ قبل أن تتحرك بآليةٍ محبطة تنظف مكان احتفالهما الصغير والمكتوب عليه عدم التتمة اليوم.
...
تتوسد فراشها العريض في ميلٍ واضحٍ، تحجز هاتفها اللوحي بين أذنها وكتفها بينما أصابعها تتشاغل بإعادة طلاء أظافر قدميها.. وحينما أنهى الطرف الآخر جملته هتفت بمللٍ:
- أنتِ مش مركزة معايا يا يارا؟.. بقول لك طلعت الأولى على دفعتها!
ثم جذبت خصلات شعرها القصيرة لتردف بكبتٍ من بين ضروسها:
- أنتِ فاهمة يعني إيه!
" كبري دماغك منها.. هتركزي مع بنت الشغالة يا غِنَى؟ "
- يا بيبي أكيد مش مركزة يعني، بس شكلي إيه قدام ماما وبابا لما يعرفوا أنها نجحت بتفوق وأنا طلعت بمواد.
وصلها الصوت متأففًا:
" أووف بقى سيبك من الحوارات العقيمة دي وتعالي نركز في الأجازة."
- يارا ممكن تخرسي.. أنتِ مش حاسة بيا أنا متضايقة بجد!
" براحتك بقى أنا هنااام "
وقطعت الصديقة الاتصال دون كلمةٍ أخرى، فتركت الأخرى الهاتف ينزلق فوق الفراش غائبةً برفقة طلائها ذي اللون الصارخ وبرمت شفتيها في يأس..
- مافيش حد حاسس بيا..
بطرف عينيها التقطت السلحفاة خاصتها، المسكينة تتعثر فوق الفراش تود الهرب فجذبتها بغتةً، قلبتها على ظهرها الصلد ونغزتها بسبابتها معنفةً إياها بحاجبين معقودين:
- حتى أنتِ يا لولي!
دقائقٌ قليلةٌ مرت لتلتمع مقلتاها بفكرةٍ ما، ربما تعمل على تهدأة ما يعتمل داخلها.. جذبت الهاتف من جديدٍ مكررةً الاتصال وما إن وصلتها الهمهمة الناعسة حتى هتفت من جديدٍ:
- يارا ظبطي مع منة وسالي واستعدوا الليلة..
ارتمت بظهرها على الفراش بقوةٍ لتصرخ بحماسٍ فعليٍ:
- Let's have a party girls.
وأغلقت الجهاز عقب جملتها الصائحة لتتبسم لحالها بمكرٍ..
فالليلة أكثر من مناسبة لتحتفل بتلك المجتهدة خير احتفال.
***
خصومةٌ سياسيةٌ..
حربٌ غير نزيهةٍ ولا عادلةٍ قد تودي بالخصم المنشود لبئرٍ سحيقٍ، المهم نيل نشوة النصر وتملك حصانة ترفع الشأن بين البشر بتسلطٍ وتجبرٍ يليق بصاحبه..
وهكذا كان "حلمي الجمال" رجل الأعمال المخضرم..
يعد من أثرياء البلد يطمح في نيل اللقب وإزاحة الخصم اللدود من الطريق..
ف "شهاب الكارم" خصمٌ لا يستهان به، لديه من النفوذ ما يكفي، يملك جميع الطرق الملتوية المشروعة والصريحة بحنكةٍ تصل به إلى مبتغاه في النهاية، غير شعبيته الكبيرة و التي حتمًا تؤهله للفوز في كل مرة.
لذا كان لابد من ممارسة بعض من الألاعيب والحيل الغير شريفة لطرده من الساحة..
وهل هناك أسهل من افتعال فضيحةٍ؟
بلبلةٌ وسيرة تلوكها ألسن المجتمع المخملي فيصبح الرجل الفاضل بفرقعة إصبعٍ يهوى من عليين إلى أسفل سافلين.
خطط ودبر واستعان بمن هم أهل لذلك.. أو هكذا ظن!
فوقتما ظنَّ أنه اقترب خطوةً أدرك أنه عاد عشر للخلف؛ فالهدف المنشود لم يقع في المصيدة والفضيحة لم تفتعل، والسبب مجموعة من الحمقى اتكل عليهم في نيل مايريد.!
كان يتوسط مكتبه الأبنوسي الضخم وصوته الغاضب يطلق شرره عبر الهاتف النقال:
- علشان أنت غبي ورجالتك أغبياء.. اسمع يا أيوب لو الموضوع ده اتكشف ومس اسمي من قريب أو بعيد مش هيطلع عليك نهار، خلصنا من الورطة دي من غير ما حد يحس بحاجة، ومش عايز أشوف وشك ولا أسمع صوتك غير لما تخلص.. مفهوووم؟
بطنت حروفه الممطوطه تحذير شديد أغلق بعدها الهاتف في وجه محدثه ضاربًا بقبضته فوق سطح المكتب لاعنًا غباء جميع من حوله.
بينما على الطرف الآخر كان أيوب يشتعل فوق مراجل من لهبٍ ما إن قطع سيده الاتصال في وجهه، اقتحم الغرفة بثورته المشتعلة يطالع جسدها المنكمش والمتكوم في الزاوية، يبادل نظراتها المرتعبة بأخرى غاضبة..
انحنى أمامها يجلس القرفصاء تصله أنفاسها المتسارعة بهلعٍ فتزداد ابتسامته شراسة، رفع ذراعه السليم يقبض على فكها في قوة وينفث أنفاسه الكريهة فوق صفحة وجهها:
- بقى أنا أتهزأ بسبب واحدة زيك؟!
أنفاسها توقفت في حلقها ككرة مسننة تصارع حتى تلفظها خارجًا فلا تنال غير حشرجةٍ مؤلمةٍ، تراقب عينيه الجاحظة بتوحشٍ فتنكمش على نفسها أكثر وأكثر ورغم ذلك خرج تلعثمها الخافت بنبرةٍ مبحوحةٍ علها تعي بأي دوامةٍ سقطت:
- أأ.. أنت.. أنت مين؟!
سألت بتيهٍ جليٍ، وعيناها تلتقط ذراعه الآخر المعطل والمرتكن في جانبه بإيحاءٍ غير طبيعيٍ فتغضنت ملامحها تلقائيًا وزاغت ببصرها بعيداً عنه..
وهو لم يفته كل ذلك وكان جوابه موازٍ لرفع ذراعه المصاب بمساعدة الآخر السليم، يحط به فوق صفحة وجهها ويمرره فوق وجنتها، ينزل به عن عمدٍ عند فكها و ينفث أحرفه كالفحيح منتشيًا:
- أنا عملك الأسود ياختي..عرفتِ أنا مين؟
ما إن حطت أصابعه فوق بشرتها استشعر جسدها خشونة الملمس وبرودته، سرت داخلها قشعريرة ونفور غريزي ترجمته في
صرخاتٍ مفزعةٍ و رجفاتٍ متتاليةٍ..
صرخات تعدت الأفق ولا من مجيبٍ بينما هو مستمرٌ في السير بأنامله حتى وصل لذراعها العاري يمسده بطوله مع قهقهاتٍ صاخبةٍ، وبالرغم من عدم إحساسه بما يحدث في جسدها أسفل لمسات أصابعه الباردة إلا أن نظراتها المرتعبة كانت أكثر من كافيةٍ حتى يتلذذ بها منتشيًا.
تناهى لمسامعه صوتٌ قادمٌ من عند الباب الخارجي جعله يتوقف عما يفعل وينهض مبتعدًا على عجل، تاركًا إياها تلملم نفسها داخل ثوبها القصير وتنزوي بشهقاتها أكثر حتى كادت تبتلعها الجدران قبل أن يغيب العقل في غيابات ذكرى أخرى ليست بالبعيدة.
***
" دي أول مرة أطلب منك كده يا نسمة ينفع تكسفيني؟ "
تبسمت لها في خجلٍ قبل أن تجيب:
- مش قصدي والله يا غِنَى بس يعني أنتِ وصحباتك أنا هعمل إيه؟ حقيقي وجودي مالوش لزوم.
بشفاه مقلوبة همست بخيبة أمل وحزن مصطنع:
- أنا بس فكرت في نجاحنا إحنا الإتنين، كنت عاوزه نحتفل بنهاية أول سنة لينا وتكون ذكرى حلوة نفتكرها بعدين.. ثم إننا كده كده قاعدين لوحدنا يعني حقنا نستغل الفرصة دي.
زاغت نسمة ببصرها في أنحاء شقتهم الصغيرة وهي تقلب الفكرة في عقلها..
فمنذ أن غادرت أمها برفقة السيد والسيدة منذ الساعتين وقد استعمرها الملل لكن ليس لدرجة أن تأتى تلك التي تقف قبالتها وتترجاها بتوسلٍ حتى تقبل دعوتها لحفلها الخاص بصحبة صديقاتها..
- مش عارفه أقولك إيه..
حينما التقطت منها شبه موافقة كانت تصفق بيديها وتحفزها أكثر بحماسٍ:
- قولي موافقه بليييييز.. هنسهر للصبح، أوعدك بليلة عمرك ما تنسيها.
وفقط هزة رأس هادئة صدرت منها، جعلت الأخرى تصرخ بانتصارٍ خفيٍ قبل أن تختفي من أمامها:
- Yeeees
وأردفت سريعا:
- مستنياكِ مش تتأخري بقى .
تبسمت نسمة لحالها عقب رحيلها الصاخب..
غريبة الأطوار تلك الفتاة.. مرة لا تُطاق وأخرى تتحول فيها لودودة بحنوٍ وثالثة لا تفهمها أبدًا، لكن في النهاية لا عجب فتلك هي غِنَى.
...
حجرةٌ أنثويةٌ بدرجة امتياز تعج بأصنافٍ عدة من وجبات سريعة، ثيابٌ تكومت فوق الفراش بكثرةٍ مفزعةٍ، بينما صوت المغني الأجنبي المشهور يدوي بصخبٍ بين الأركان تشاركه أنغامه ثلاث فتيات يفرغن طاقتهن بسخاءٍ في رقصٍ غير مفهومٍ كنهه عقب ما تفرغن من وضع مساحيق التجميل هنا وهناك، وارتداء أجمل الثياب وأغلاها.. وهي اتخذت من منصة الفرجة ملاذًا تشاهد كل ذلك بانشداهٍ وغرابةٍ في نفسها بينما عقلها يهمس لها مستمتعًا بسخريةٍ
"تقاليع أغنياء"
ضحكت مع حالها قبل أن تتقدم ناحيتها إحدى المدعوات
تجذب يدها في دعوةٍ لمشاركتهم الصاخبة:
- يلا يا نسمة ارقصي معانا.
مال بصرها فوق ملابسها وحجابها البسيط في لمحةٍ خاطفةٍ منها قبل ما ترفع رأسها لمحدثتها تنهي الدعوة برفضٍ قاطعٍ:
- لا لا أنا ماعرفش.
رمقتها الفتاة بإحباطٍ.. فتقدمت صاحبة الحفل
تحمل ثوبًا بين ذراعيها تقدمه لها بمحبةٍ وتشجيعٍ:
- بطلي كآبة يابنتي.. بصي البسي الفستان ده هيبقى تحفة وهو بيعكس لون عينيكِ، يلا بقى بلاش كسل.
حركت رأسها برفضٍ صامتٍ فعاجلتها بإلحاحٍ امتزج ببسمةٍ ودودةٍ:
- ماتنسيش تظبطي شعرك والميكاب.
وقبل رفضٍ ثالتٍ كانت تجذبها هي وصديقاتها قسرًا يدفعن بها نحو الحمام الداخلي للغرفة قاطعين عنها كافة الطرق الرافضة عائدين لوصلة الرقص خاصتهم.
أغلقت المزلاج في قلة حيلة واستدارت تواجه المرآة،
تلامس بشرتها بأناملها فتمط شفتيها في عدم رضا..
بشرةٌ شاحبةٌ أقرب للحنطية..
وشفتان رفيعتان أكثر شحوبًا..
فقط عينان لوزيتان تحملان خضارًا مميزًا كعيني قطةٍ شاردةٍ بأهدابٍ كثيفةٍ يجب أن تشعر بالغبطة لأجلهما..
وهه ساخرة خرجت عبر شفتيها أثناء حل وثاق حجابها لتكشف عن تاجها الذي يحمل الصدارة في سواده الباهت، فلا هو نال جاذبية الليلكي ولا احتفظ بجمال البني، فقط عالقٌ بين هذا وذاك.!
تخللت بأصابعها خصلاتها المنتهية عند منتصف الظهر قبل أن تجمعهم جانبًا وتبدأ في خلع ملابسها..
عضت فوق شفتها السفلى وهي تتناول الثوب بينما عقلها يضرب رقمًا قياسيًا في ثمنه لكنه حتمًا يستحق..
كان لغِنَى يوم مولدها العام الماضي هدية والدها
من إحدى البلدان الخارجية وحتمًا لازالت تتذكر انبهارها به آنذاك.
انسدل الثوب فوق قدها بتمهلٍ لتحتضن حبات اللؤلؤ الصغيرة المتراصة بتجاورٍ حناياها بحميميةٍ، بينما انسابت طبقات التول الناعمة تخدش بشرتها برفقٍ.. تطلعت لساقيها العاريين أسفل الثوب القصير بضحكاتٍ خافتةٍ قبل أن ترفع رأسها للمرآة من جديدٍ، تعبث بشعرها مرةً لليمين وأخرى ناحية اليسار، ثم دارت حول نفسها في حيرةٍ..
كيف ستخرج هكذا؟
لم يعتد أحدًا من قبل رؤيتها بتلك الهيئة الغريبة، ولا تدري إن كانت قد لائمتها أم لا!
وهل بعد كل ذلك أصبحت شبيهةً بمن بالخارج أم سيظل الفارق بينهما في كل شيءٍ تاركاً بصمته الخاصة؟
جذب انتباهها الصمت السائد بالخارج بعد الصخب المدوي، اقتربت من الباب في محاولةٍ لالتقاط أصوات الفتيات الثلاث ولا شيء غير الهدوء التام فعقدت حاجبيها وحركت المزلاج مواربة الباب بعض الشيء تتطلع برأسها ولا أحد..
خطت بهدوءٍ وعيناها تدور هنا وهناك وحين واجهتها نفس النتيجة
راودتها الظنون أنهن بالأسفل لأجل أمرٍ ما.
وقع بصرها على المرآة الطويلة قبالتها فعكست لها صورتها كاملةً، تبسمت رغمًا عنها وهي تقترب تتطلع لصورتها بانبهارٍ وليدٍ؛ فذلك الثوب حتمًا كالسحر يجمل من ترتديه!
جذبت أطرافه قليلًا عله يستطيل لأسفل الركبتين بمقدار..
لكنه عاد وارتفع لما فوقهما فحركت كتفيها في قلة حيلة.
وثلاثُ دقائقٍ فقط حلقت فيهما بثوبها اللامع نحو الأحلام كنجمةٍ تطأ البساط الأحمر، لتهبط بعدها لواقعها المرير وهي ترى ذلك الثعبان الطويل يتلوى على بعضه على بعد خطواتٍ قليلةٍ منها..!
وثبت من وقفتها صارخةً تركض ناحية الباب المغلق تجذب مقبضه بقوةٍ ولا فائدة!
وحينها فقط وصلتها ضحكاتُ الفتيات الثلاث
بقهقهاتٍ عاليةٍ من خلف الباب الموصد لتضيع صرخاتها المتوسلة مع ابتعاد خطواتهم..!
وكأنما بصرخاتها أذنت لذلك الكائن بتحديد هدفه فأخذ يتحرك ناحيتها لتقفز بذعرها من جديدٍ وتحط فوق الفراش هذه المرة، تبصره بأنفاسٍ محتجزةٍ داخل حلقها وهو يتحرك بعشوائيةٍ..
الآن فقط أدركت مغزى دعوة تلك المدللة!
و لكن..
أيصل دلالها وعبثها لتركها حبيسة غرفتها برفقة ثعبان؟!
على ماذا تنوي بفعلتها..!
سبتها ولعنت حالها وسذاجتها التي أوقعتها في هكذا مأزق..
ولتكتمل ليلتها الإستثنائية انقطع التيار الكهربائي على غير العادة فتخاذلت جميع أطرافها وسقطت فوق الفراش في استسلامٍ للقدر المحتوم، تضم كفيها لوجهها، تنتحب بصمتٍ..
فتدعمها الغريزة الفطرية بعد حينٍ بالنهوض والبحث عن بديلٍ..
لكن كافة شيءٍ غاب وتوارى حين داهمها من الخلف حائطٌ بشريٌ
يقطع عنها تنفسها ويقيد حركتها،
لترحب بعتمةٍ أخرى وقدرٍ آخرٍ أشد ضراوةً من الأول بوعيٍ مسلوبٍ.!
***
تحرك المزلاج ببطءٍ، تبعه ولوجٌ هادئٌ لا يتناسب مع أنفاس الآخر المشتعلة والذي سرعان ما باغت بسؤالٍ عن فحوى ما كان ينتظر:
- هااا وصلت لإيه؟
جذب مقعدًا جانبيًا، وجلس بوضع عكسي، يشعل تبغه وينفث دخانه بتمهلٍ مغيظٍ قبل أن يجيب ويدلي بما توصل إليه خلال ساعات غيابه:
- اسمها نسمة رفعت القاصد.. أبوها كان سواق خاص لشهاب كارم قبل ما يموت من حوالي إحداشر سنة.. أمها أنيسة منصور ست غلبانة خريجة ملجأ أيتام اشتغلت في بيت شهاب خدامة بعد ما اتجوزت الراجل السواق ومن يومها وهما عايشين في ملحق الفيلا، وحتى بعد ما جوزها مات فضلت معاهم هي وبنتها.
حك أيوب ذقنه مضيقًا حدقتيه في تفكيرٍ بينما ملامح وجهه أخذت في الانبساط تدريجيًا وهو يرهف السمع لبقية الحديث:
- مالهاش إلا عم واحد اسمه سعيد عايش مع مراته وبناته التلاتة في محافظة تانية وده تقدر تقول عليه كلب فلوس وعلاقته بأخوه إتقطعت يوم ما قرر يتجوز من خريجة ملجأ.
ضحك أيوب وقهقه بجذلٍ وهو يعود برأسه للخلف قبل أن يردف الأول بنفاذ صبرٍ:
- ما ترسيني ياعم هنهبب إيه في أم ده حوار؟!
تكلم أيوب وهو يحك ذقنه في تمهلٍ:
- خلاصة كلامك إن البت مقطوعة من شجرة..
ثم أردف بكسرة عينٍ:
- يعني مالهاش ديه.
تنبهت حواس الآخر لنبرة الشر المغلفة لكلماته فتسائل متوجسًا:
- تقصد إيه؟
عاد أيوب يقهقه من جديدٍ قبل ما ينهض ليقف بمحاذاته ويهمس له من علوٍ:
- هو اللي فهمته اسم النبي صاينك.
رفع الآخر رأسه بغتةً يطالعه لثوانٍ تأكدت فيها ظنونه، ليتمتم بعينين ضاقت حدقاتهما:
- بس اتفاقنا ماكنش فيه دم!
ليزعق أيوب بنبرته الخشنة وذراعيه ينفتحان بأمر مسلم به:
- وجات لقضاها.. حد يقول للقضاء لأ!
وزعقة أيوب توازي انتفاضة الآخر من جلسته وعيون تطاير منها الشرر:
- لحد هنا وإثبت يا معلم ومن الآخر كده يفتح الله، لا دي سكتي ولا ناوي أدخل فيها.
وقبل أن يستدير ويهم برحيل كان يجذبه أيوب من تلابيبه بعنف مخترقًا سوداوية عينيه بأخرى أكثر وحشيةً:
- لهو أنت فاكر لسه مادخلتش؟ لأ يا ناصح دخلت ورجلك غرزت يوم ما وافقت تدخل دايرة حلمي الجمال.. جاي دلوقت بعد ما وقعتنا في الغلط تقول يفتح الله! اللي بدأ اللعبة هيكملها للآخر وغصب عنه مش بالمزاج هي.
- ماحدش وقعنا في الغلط غيرك، مش دي شورتك المهببة؟!
دمدم بها بعينين غاضبتين ليكشر أيوب فوق ضروسه بنفاذ صبرٍ وأردف يوضح بحممٍ مشتعلةٍ:
- نهاية الكلام ماقدمناش غير إننا نشتري رضا حلمي بيه ده راجل زعله وحش..
وبغمزة عينٍ مغزاها تهديد مبطن تابع:
- ربنا يكفيك شره.
صمت الإثنان لدقائقٍ إلا من أنفاسهما الهادرة ليتابع أيوب عرضه المستفيض بهدوءٍ ناقض اشتعاله السابق:
- من حظنا اللوز أن البت مالهاش حد يسأل عليها يعني شهر.. إتنين، إن كترت تلاتة وتتنسي.. بس أفتكر هي قاعدة في بيت مين! يعني رجوعها هيفتح علينا النار من كل جهة وأنا وأنت أول مين هيداس تحت الرجلين.
- قوم نقتلها!
- ماقلنا لك قضاها.. الله! ماتفتح مخك معايا ياجدع ماتبقاش قفل أومااال، وماتخافش حقك محفوظ وفوقيه عشر بوسات كمان مرضي ياعم؟
تنهد بحرارة ومسد جبينه في تفكيرٍ مشوشٍ قبل أن يقترب الشيطان من جديد ينفث في أذنيه آخر لهيب الخطة:
- تأخد البت وتطلع على الصحراوي..
صمت لبرهةٍ بسط فيها كف الصامت ليترك بها أحد الأسلحة صغيرالحجم فتاك الفعل..
وبملامحٍ قاسيةٍ وتمهلٍ بغيضٍ ذيل النهاية بتوقيعه:
- بعد ما تخلص عليها هتلاقي في شنطة العربية كافة شيء يلزمك عشان تحفر مكان يليق بالسنيورة، تحط الجثة وتردم فوقيها.. بعد ما تتأكد إن كله تمام تركب عربيتك وتلف وترجع ولا من شاف ولا من دري.
والجواب تمثل في..
أصابع انطبقت فوق السلاح بتمهلٍ وإذعانٍ.
***
اعتاد بنو البشر على اختزال النهايات بكلمةٍ
بينما تحتاج البدايات لدواوين ومجلدات لتُكتب
- خلصت..؟
سؤالٌ خرج عبر الهاتف المحمول عقب ساعتين أو ثلاث من زمن حمله للفتاة والرحيل بها تحت جنح الظلام، لا يهم الأهم أنه خطط ودبر وسينال الشيطان مراده.. والجواب تلك المرة تمثل في جفنين افترقا بتأنٍ لتظهر لمعة العين الخاصة لتحكي عن سيطرة رجلٍ سلك دربه الخاص وسن قوانينه ليذيل هو النهايات كما نال البدايات رغمًا عن أنف الجميع..
- خلصت.
نقطة انتهى.
لتعلو بعدها قهقهات أيوب عبر الشبكات بجذلٍ منتصرٍ، وصياحٍ اخترق السكون:
- عفارم عليك يا أبوعلي.. تربية إيدي بصحيح.
ارتفع شارب حسن في ضحكةٍ متهكمةٍ موازيةٍ لقهقهات معلمه الصاخبة، فأيوب لم يخطئ؛ فهو تربية يديه كما قال ويقول دائماً.
فأول من رسخ بعقله وغزل خيوط الشياطين كان أيوب..
أول من لقن فنون خفة اليد وحاك قوانين النهب والاحتيال ببراعةٍ كان أيوب..
أول من غذى الداهية بداخله ليصبح ما آل إليه لم يكن يومًا غير أيوب..
والتربية النجسة مآلها إعوجاج
أغلق الهاتف تاركاً من رباه يحتفل بنشوة الخلاص وتحركت قدماه حول الفراش العريض يطالع الجسد المسجى أمامه..
مد أنامله إلى عنقها يستشعرعرقها النابض بخفوتٍ؛ فالفتاة لا يكاد يعود وعيها حتى يغيب من جديد.
تذكر نبرة أيوب المهللة بانتصارٍ ..
لو فقط يعلم الرجل بما فعل وعلى ماذا ينوي لربما أصابته نوبة قلبية!
ضحك حتى ظهرت نواجذه وهو يرسم عدة خيالات لمعلمه، قبل أن يخرج ويغلق الباب من ورائه..
لينل حصته من المال أولًا، وليبقَ أيوب وسيده حتى إشعارٍ آخرٍ يقرر هو رفعه.
والغنيمة قُدر لها أن تكون ضحيةً
عقب ما انتهى بها الحال طريحة فراشٍ متهالكٍ بين جدرانٍ متشققةٍ في وكرِ لصٍ!
أنت تقرأ
الغنيمة
Romance"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...