الفصل الـ ٢٠

110 4 0
                                    

(20)

بين كثيرٍ من المحطات التي نمر عليها هناك واحدة لا نملك معها سوى الخنوع قبل التسليم والقبول..
وماذا عسانا نفعل حين يفوت الأوان!

- أبوك مات من شهرين ياحسن.
وكان لفظ "أبوك" من فمها الواثق أكثر من كافٍ لتخرس لسانه وترمقها عيناه بغرابةٍ أقرب للصدمة..
تشنجت جميع أطرافه لدقائق إلى أن نطق بعد حين بقسمات تتغضن ببطءٍ كمن استوعب للتو صدمته..
- مات!
تحركت من فوق مقعدها حتى اقتربت منه وعيناها تلتهم كل تفصيلةٍ تنتجها قسماته ورأسها توميء في صمتٍ وتأكيدٍ، ملامحه تآكلتها الصدمة فلم يظهر أي تعبيرٍ آخرٍ حتى تنهد أخيرًا وهو يطرق برأسه للأسفل، وحينها همست بصوتٍ متشنجٍ بعض الشيء وبصرها يشمله كله في نظرةٍ:
- كنا على تواصل دايم من بعد وفاة أمي و.. وسجنك.. آخر مرة كلمني فيها قالي أنه تعبان ونفسه يشوفني، مفكرتش كتير ونزلت له.
صمتت تلعق شفتيها بلسانها وهي تستعيد مرارة الذكرى:
- كان بيموت ياحسن، كان بينازع الموت بكلام كتير، كان يسكت ويرجع يقول شيطاني غلبني و أكتر كلمة قالها سامحيني..
ظل على وضعه المنكس فاستدارت بجسدها عائدة لمقعدها من جديد، تتابع وأصابعها تدعك جبهتها مع نبرة متوترة:
- وقتها ما افتكرتش ظلمه لينا لكن افتكرت أمي، شفت صورتها قدامي، صوتها وهي بتقوله أنتَ طعنتني في شرفي وابنك طعني في روحي!.. شفتها وهي بتموت بحسرتها وكأنها جات للدنيا عشان تعيش في مرار وتموت بحسرة.
صمتت تحملق فيه حتى رأت رأسه يرتفع ببطء وعيون مهتزة شاخصة، كان وقع الجملة المنقولة عن لسان أمه الراحلة ثقيل، ثقيل لدرجة جعل لسانه يلهث في خفوت بالكاد وصلها:
- قابلها!
أومأت برأسها وأكدت بكلماتها:
- هي اللي طلبت تشوفه.
حينما صمت تنهدت وهي تزوغ ببصرها عنه لتهمس في خفوتٍ تستكمل حديثها السابق:
- ورغم ده كله ماقدرتش غير أسامحه، في النهاية هو بشر.. مين فينا ماغلطش ولا شيطانه غلبه.
كانت تلقي بكلماتها المبطنة بحذر، وفي داخلها تبتهل أن تكون لكلماتها اللآذعة أثر في نفسه التائهة، لم تخبره عن وصية أبيها والتي لم تشمل أحدًا غيره، فقد جعلها تقطع وعدًا بأن تبقى إلى جانبه مهما قسى أو تجبر، ترجاها أن تأخذ دوره لأنَّ الله سوف يسترد أمانته وليس له في الأمر شيء..
- حسن..؟
نادته برفق حين استشعرت شروده الذي طال رغم حملقته فيها دون رؤية حقيقية، تنبه لندائها فضاقت نظرته في استفهام واضح، هتفت في جرأة محدودة لا تعلم عواقبها:
- سامحه أنت كمان عشان ربنا يسامحك.
رأت تشنج حلقه وهو يبتلع غصته أمام عينيها، لم يجلْ في خاطره أن يأتي اليوم الذي يجلس فيه صاغرًا أمام أخته الصغرى لتلقي عليه بالنصائح المبطنة.. ضحك ضحكة قصيرة ميتة لا روح فيها ثم عاد إلى صمته وأشاح ببصره بعيدًا، في صدره تندلع وتضطرم نيران حارقة، شعور بتيه يكبر ويكبر في نفسه كأن العالم كله من حوله اختلف، وهو بالفعل اختلف فلم يعد شيئًا كالسابق، حتى هو ذاته بات يشعر كأنه لم يعد كما كان من قبل، يتملكه شعور بالضياع والغربة بداية من احتيال أيوب على جميع مايملك، مرورًا بمقابلته مع حلمي الجمال الذي أصبح عضوًا في المجلس عقب ما سحق كل عثرةٍ كانت تقف في طريقه فنال ما كان يبغي، وكان هو أحد العثراث التي دهسها بقدمه حين لجأ له باحثًا عن عمل فور خروجه فأمره بفظاظة وأنفه أنه بات منتهي الصلاحية وذا سابقة سوف تلون تاريخه للأبد وهو رجل يفضل أن يبقى دائمًا فوق مستوى الشبهات وحينما أوشك على التجرأ سبقه قاطعًا عليه الطريق مخبرًا إياه ببساطة..
" وبالنسبة للورق اللي معاك وجاي تساوم عليه، بله واشرب ميته"
ثم صرفه بإشارة من يده، وكيف لا يفعل والرجل أصبح ذا شأنٍ يحسد عليه، وهو على يقينٍ تام أنه ما وافق على مقابلته إلا ليقطع عليه الطريق إن فكر مجرد تفكير فقط في المرور من جانبه مرة أخرى.. ومن هو ليفعل!
وانتهت صراعاته بمواجهة مع الزوجة التي خلخلت كل ثوابته وأطاحت بما تبقى من صلابته ليسقط في النهاية أمام عينيها دون حول ولا قوة.. لكن من جميع ماسبق لم يتحشرج داخل صدره غير جملة أمه، أحقًا قالت ذلك!
هل ساوته مع الرجل الذي تخلى عنها بل عنهم جميعًا في مقام واحد.. كيف تفعل وهو لم يشترِ امرأة غيرها؟!
شعر باقتراب خطواتها منه فقطع استرسال شريط أفكاره ودار برأسه قليلاً ينتظر مافي جعبتها، فعلى مايبدو سماح لن تنتهي اليوم.. اقتربت تقف على مقربة وظلت ترمقه للحظات كأنما تريد اقتناص رد فعله لحديثها القادم إلا أنها لم تصبر أكثر لتهتف بصوت ثابت:
- قبل ما يموت كتب لنا نصيبنا في أملاكه.. وعايزك تأخد مكانه في الشركة اللى عملها.
صمت للحظات استوعب فيها الكلمات ليصيح بعدها متجهمًا:
- قصدك اللي عملها بفلوس مراته.. مراته اللي اختار يربي بنتها بدل ما يربي ولاده!
نفت بحاجبين معقودين بقوة:
- دي فلوسه؛ حلاله وتعب السنين.. ده حقنا فيه!
لم تلقَ أي رد منه فتابعت وهي تفرد كفها أمام عينيه فظهر بداخلها مفتاح حديدي:
- وكتب لك شقة باسمك، معايا عقدها وده المفتاح.. وزيها ليا.
ضحك بقوة دون مرح حتى أدمعت مآقيه، بينما هي تهتف في حدة تقطع عنه أي نوايا ماجنة قد تنتابه:
- أنا قبلت نصيبي ياحسن وماعنديش استعداد أتنازل.. معنديش استعداد أرجع لخدمة البيوت من تاني!
سكتت لبرهة تلتقط فيها أنفاسها ثم عادت بعدها تتولى دفة الحوار لكن بنبرة حانية أكثر تلك المرة ونظراتها ترجوه:
- ورحمة أمك أنت كمان لتنسى اللي فات، انسى وابعد عن كل حاجة ضيعت تلات سنين من عمرك وياعالم هتضيع منك إيه تاني.
دار الحوار الصامت بين الأعين حتى قطعته بعد حين بسؤال قلق:
- مش عايز تقول حاجة؟
لم تجد منه أيضًا رد، تنهدت وهي تهندم من وشاحها فوق عبائتها السوداء وتلقي بجملتها الأخيرة حتى تتضح أمامه الصورة كاملة دون أي رتوش تجميلية:
- لازم تعرف كمان مش مسموح لأي حد من الورثه يبيع نصيبه في الشركة أو المزرعة.. ده كان شرطه في الوصية اللي بلغني بيها المحامي.
حملت حقيبتها وظلت تتطلع إليه لدقائق، تعلم أنها أثقلت عليه وزادت من ضياعه، لكن هكذا أفضل لربما يتعثر ويسقط تلك المرة فوق الطريق الصحيح..
- أنا همشي دلوقتِ وهجيلك بكرة، مش عايز حاجة أجيبهالك معايا؟
حرك رأسه نافيًا ببطء، فتبسمت له وتحركت خطوة ثم استدارت تهتف له بذات الإبتسامة:
- فكر كويس يا حسن واحسبها صح.
ورحلت..
رحلت وتركته داخل هوة ضياع تتسع أكثر عن ذي قبل..
وكأنه يملك رفاهية الإختيار من الأساس!
تركته ولا تدري أن جميع الأبواب قد أوصدت في وجهه ولم يتبقَ سوى واحد مفتوح، بل هي من قامت بفتحه على مصراعيه أمام عينيه وغادرت.
***
لا شيء يمر عبثًا
حتى العثرة الصغيرة تزيد من قوة عودك
مرة تلو أخرى ولم تعِ حتى جاء السقوط الأخيرالذي أعقبه عجز في نفسها وعطب في روحها، لكن الجيد من كل تلك العقبات أنها باتت على قدر مستطاع من التحمل ومواجهة الصعاب، يومًا بعد آخر تصبح أقوى و أكثر شدة وبأس، ليس من العدل بعد كل ما مرت به أن تهزم وترفع راية ضعفها.. تلك المرة ستلفظه هي خارج حياتها، فقد نضجت الساذجة التي كانت تتبعه ببصيرة عمياء حين كان لها بصيص نور وسط عتمة الظلام لتكتشف في النهاية أن الظلام لم يكن أحد غيره. عقلها يخبرها أن تلوذ بالفرار دون لحظة انتظار واحدة بينما هناك صوت داخلي يعبرعما يصول ويجول في نفسها داعمًا تلك الروح المقهورة التي تستوطنها منذ واجهها بحقيقته بكل وقاحة يمتلكها، حين تتذكر أمها ووجيعتها على رحيلها تتمنى أن تراه أمامها في لحظتها ينازع نفس الألم، حينما تنبش في ذاكرتها فتلوح لها تلك الساعات التي قضتها مقيدةً وملقاة فوق أرض صلبة باردة كشيءٍ بخس لا قيمة له وهو من حملها بيديه لهناك تجتاحها كل مشاعر الكره والبغض التي تجوب الكون وليتها تكفيها لحظتها، حين ترى حالها مبهورة بنبله وشهامته فتلمع صورة الفارس المغوار في عينيها لتسلمه نفسها ما أن يطلبها عن طيب خاطر تبغض ذكراه وتبغض نفسها قبل منه.. في داخلها أكثر ما تتمنى هو إيلامه لو فقط تنهش جلده بأظافرها علها تخمد تلك النيران التي لا تهدأ، حتى أنها فكرت تذهب لرؤيته في المشفى وتراه مكبلًا بالمرض فلربما تشعر ببعض التشفي حينها وترتاح نفسها؛ لكنها لم تكن يوماً بتلك الوضاعة!
- هتفضلي مطنشاني كتير؟
أجفلت على الصوت الذي يعلوها بتأفف، لترفع بصرها تتطلع لها بلا حياة:
- عايزة إيه يا سماح.
جاورتها سماح فوق الأريكة الصغيرة، راقبتها للحظات لتهتف بعدها بعدم رضا:
- مالك؟
- مالي ما أنا كويسة قدامك.
قالتها بسخرية باردة لتعاود سماح تفحصها بصمت حتى سألتها مباشرة دون موارة:
- حصل إيه بينك وبين حسن؟.. مش ده اللي كنتِ هتموتي نفسك من العياط عليه، مش ده اللي كنت بتعدي الأيام عشان يخرج؟
وثبت من جلستها فجأة، ترمقها بعيون غاضبة، كفى لقد زهدت قالب الساذجة التي يضعها الجميع فيه، صرخت فيها وقد فقدت كل ذرة أعصاب تمتلكها:
- كنت هبلة مش شايفه حقيقة أخوكي.. الحرامي.
ظهر توتر سماح في عينيها المرتبكة من تلك الحقيقة التي تتعرى أمامها دون ساتر، نعم يؤلمها أن تكون تلك هي حقيقة شقيقها لكن ماذا هناك يمكنها فعله، ليت الزمان يعود للوراء؛ ليته فقط..
نهضت بدورها تقابلها وتهتف بدفاع تمني نفسها به:
- اتغير يا نسمة، مش هيرجع للسكة دي تاني.. السجن درس عمره ما هينساه.
كانت على يقين أن شقيقته لا تعلم عنه سوى قضية الحبس التي تمت محاسبته عليها بالفعل، كانت أكيدة أنه أجبن من أن يقر لها بفعلته معها.. كادت أن تصرخ أمامها بكل ماتحمل في جعبتها من خذلان لكنها تراجعت وهتفت عوضًا عن ذلك بملامح قاتمة ونبرة صلبة:
- آخر همي، صدقيني آخر همي يتغير ولا مايتغيرش.
أمسكت سماح بكتفيها وعيناها ترجوها:
- هو محتاج وجودنا قوي الفترة دي، وأنتِ مراته لآزم تكوني جنبه.
امتقع وجهها وهي تعقد حاجبيها وتهتف فيها باستنكار:
- جنبه!
ثم تلوت بجسدها تبعده عن مرمى قبضتيها القويتان عائدة خطوة للخلف:
- أنا مش عايزة أشوف وشه أصلًا.
ورفعت سبابتها في وجهها تستطرد بنبرة ظهر فيها البغض على قدر الجدية:
- قولي له يطلقني في أقرب وقت.
ظهرت ملامح الخيبة في عيني سماح التي عادت تجلس من جديد وهي تهمس في تروي:
- استهدي بالله يا نسمة طلاق إيه بس.
اقتربت منها نسمة في تحدٍ حتى وقفت أمامها، تسألها بنبرة قاتمة:
- لو كنتِ مكاني تعملي إيه؟ قولي يا سماح لو عرفتي أن جوزك واحد كداب ونصاب، حياته حرام في حرام.. ردي وعرفيني المفروض أعمل إيه!
تحشرج صوتها وتهدج فأشاحت برأسها جانبًا تخفي دمعات خائنة تنوي الظهور، إلا أن نبرة سماح الهادئة وصلتها:
- حقك.. ماقدرش ألومك.
- يبقى خلال أيام لو مطلقنيش أنا هرفع عليه قضية خلع.
قالت جملتها بنبرة قاسية وهي على وضعها دونما تنظر لها وحين انتهت كانت تستدير لتختفي خلف باب دورة المياة بينما ظلت سماح تتبع أثرها وقد أظلمت عيناها فهي أعلم الناس بأخيها وبعناده كما باتت تعرف نسمة خير معرفة وأكثر من تدري أن تلك القصة لن تمر مرور الكرام.
***
(لا قيمة لوجود الإنسان إن لم يكن طموحًا)
الكلمات التي يؤمن بكل حرف فيها وعلى أساسها ينتهج سبله، فتلك بمثابة طاقة روحية يستنير بها عقله فيمضي يشق طريقة بسرعة صاروخية دونما ينظر للوراء، ولأن لكل مجتهد نصيب كما يقال كان له كل نصيب وكل خير وفير، هو مهند البغدادي الذي تتلمذ على يد أبيه السيد المخضرم في دنيا الأعمال والمال ليسير على نهجه المستنير حتى بعد رحيله، كان أكثر إصرارًا ومثابرةً فلم يكن إلا أن سطع نجمه أكثر وأكثر.
وكانت تلك له صفقة رابحة طمح لنيلها من البداية، منذ وفاة شهاب كارم تحديدًا، ومن لا يبغى ضم اسم يعد أسطورة في مجاله بل ويسعى لذلك وهو بفطنته أدرك أن تلك الأسطورة نهايتها إنهيار يتبعه سقوط وتأكدت ظنونه عقب تقربه المقصود من مراد كارم ومع أول فرصة مناسبة كان يقتنص الغنيمة من فيه الأسد فكان له ما أراد، فذلك هو قانون السوق؛ البقاء للأذكى.. ولا ينكر أنه بات يطمح لنيل المزيد والمزيد بعد ما رأى من عبث يحدث في هكذا صرح عظيم، فكلما نال أكثر وأصلح كل هذا العبث كلما زادت نسبة الربح أضعافًا مضاعفةً لتلك الأسطورة التي يلهث من خلفها حيتان السوق.
وتلك القصيرة هي أول العبث، قصيرة لا يتجاوز طولها المئة وستون قامت بطرد مراد لتتولى منصبها المستحق كما تتشدق بالقول لكل صغير وكبير هنا، وتعامله هو بشكل خاص بكل صلف لا يطاق وعداء كبير حد أنها تتعمد تجاهله ولا تتوجه له بالحديث إلا للضرورة القصوى.
انتهى للتو الإجتماع المعقود بأمرٍ منها وقد خرج الجميع ولم يتبق سواها والسيد شوقي الذي بات علقة ملتصقة فيها طيلة اليوم حتى يسقيها عصارة خبرته بدلًا من انهاء مهامه كأي موظف محترم، يوم عن يوم يرى بريق الإصرار يلمع في عينيها أكثر وربما هذا ما يثير القلق في نفسه بعض الشيء..
تحرك ينوي المغادرة إلا أنها قطعت خطواته بنبرة قوية دونما التفاتة:
- لحظة من فضلك..
رفع حاجبيه مستنكرًا نبرة الذوق منها، فمنذ متى بالله.. ومع ذلك استدار بجسده ينوي رفض تسلطها الطفولي القميء إلا أنها عاجلته باستدارة من رأسها وهي تهتف بنبرة هادئة زانتها ابتسامة عذوب!:
- ممكن تقعد عايزاك في حاجة مهمة، إديني دقيقة بس.
استنكاره بلغ مبلغه وهو يتقدم ليعود لجلسته السابقة محتلًا مقعده في أريحية تامة فاردًا ساقيه على طولهما بعيون ضاقت في مراقبة.. كانت اليوم ترتدي بلوزة قطنية بيضاء ناصعة يعتليها سترة جلدية سوداء مع بنطال يمثالها بينما شعرها الخفيف كالعادة ترفعه في هيئة ذيل حصان قصير، كانت تشبه الدمى لحد ما وبعيدة كل البعد عن ثوب سيدة الأعمال التي تحشر حالها فيه رغمًا عنها.. تنحنح بصوت واضح يعلن نفاذ صبره فدارت له بمقعدها بعدما صرفت السيد علقة بإشارة منها، قابلت حاجبه المرفوع في شك بإبتسامة كبيرة وأكثر عذوبة مما أثار حفيظته أكثر، وكانت نبرتها المسالمة خير دليل:
- مش هاخد من وقتك كتير.
أومأ برأسه دون تعقيب فتابعت وهي تشبك أصابعها فوق المائدة الكبيرة، تهتف بوهج يحتل عيناها ورآه لأول مرة:
- عندي ليك عرض كويس.
ضاقت نظراته وهو يعتدل بجذعه بعض الشيء عاقدًا ساعديه أمام صدره ينتظر منها المفيد، فتلك النفحة المفاجئة من اللباقة مؤكد يعقبها المفيد، غمغم بصوت أجش:
- اتفضلي.
سحبت شهيقًا قصيرًا ثم هتفت له بإبتسامة عملية تلك المرة:
- أنا هرجع أشتري منك الأسهم بنفس السعر زائد نسبة أرباح تلات شهور، وبكده هتخرج بمكسب حلو ده غير أنك مش مضطر تستنى مراد عشان تكمل في إتفاق سخيف زي ده.
- إتفاق؟
عقب مستفهمًا فعاجلته بالجواب في تملق وبعض الحدة فقدت عليه السيطرة:
- مش حضرتك كنت متفق مع مراد أن وضع الشراكة مؤقت؟
حك ذقنه الحليقة لثوان بدت لها كتفكير سليم حتى همس بعد حين أمام وجهها بإستخاف لم يصلها:
- لأ عرض مغري فعلًا.
تهللت أساريرها بسعادة لم تفلح في إخفائها:
- مغري جداً جداً.. تحب المحامي يجهز العقود أمتى؟
مط شفتيه في تفكير دمدم بعدها في جدية:
- والله أنا فلوسي جاهزة في أي وقت.
- فلوسك!
هتفت بغباء فتبسم لها في مرح مصطنع وهو يتشدق قائلًا بدوره:
- ما ده العرض بتاعي المغري أكتر، أيه رأيك أشتري أنا كله وبالسعر اللي تقولي عليه؟
ضاقت عيناها في استيعاب بما نطق وما إن حدث حتى ضربت بقبضتها المكورة فوق سطح المائدة الزجاجية وتهدر بهسيس ينذر بشر:
- أنت بتستظرف صح؟
مال بجذعه أكثر حتى لامس ذقنها في حركة خاطفة بواسطة أنامله ورأسه تتحرك أسفًا بالنفي بينما شفاهه تحركت بتلكؤ سمج:
- تؤ، ده جد الجد يا آنسة غنى كارم.
زفرت في قنوط وهي تحاول التشبث بآخر إطار للصبر كي لا تفقد ما تبقى من تحضرها وتضرب برأسه في أقرب حائط:
- طيب اسمعني يا سيد مهند المكان اللي أنتَ طمعان فيه ده بتاع والدي لو مش واخد بالك يعني، وأنا مش ناوية أتنازل عنه فياريت حضرتك تفكر كويس في كلامي، قلت إيه؟
- قلت مافيش أي إتفاق حصل بيني وبين مراد، ده بيع وشراء تم بعقود سليمة تقدري تراجعيها بنفسك؛ ده أولاً.. ثانيًا بقى بما أن عرضك مرفوض تماماً من ناحيتي، دورك تفكري كويس في عرضي.
- والحل؟
سألت من بين ضروسها في حنق و تجاهل تام لعرضه المستخف ليأتيها الجواب المتوقع بكفين مفتوحين وابتسامة أقرب للسماجة:
- يبقى الوضع كما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للقضاء.
حدجته بنظرة غاضبة نهض على أثرها، يدس بكفيه داخل جيوب سرواله، يرمقها من عليائه لثوان قليلة تفحص فيها شرودها اللذيذ حتى قال أخيراً بهدوء لا يناسب اللحظة:
- عندنا عشاء عمل النهاردة مع الوفد الأجنبي، الساعة تسعة بالظبط تكوني موجودة في الأوتيل، وياريت ماتنسيش أن دقة المواعيد مطلوبة في شغلنا.
كان هذا دورها لترفع حاجبيها في استنكار واستهجان لما يقول، هل يملي عليها الأوامر ذلك المتحذلق!
- أنت إزاي تكل...
- وياريت كمان تلبسي حاجة مناسبة، بلاش جو الجينز وديل الحصان ده ليفكروني واخد معايا بنت أختي!
قاطعها بإشارة من كفه ليلقي كلماته اللآذعة بنبرة جادة لا تبدي أي هزل، وما إن انتهى حتى استدار واختفى من أمامها بذات الهدوء البغيض تاركًا إياها صاغرةً بفك مدلى في صدمة!
في المساء؛ حول طاولة مستديرة بشرشف نبيذي كانت تجالس أربع رجال وامرأة، لا تعرف منهم سوى شريكها البغيض، الكريه الذي يتحدث الفرنسية بطلاقة جذابة، يقدم ويفند برنامجهم السياحي المميز بحنكة نال على أثرها رضا الحضور بينما هي لم تلقي غير عبارات ترحيبية في بداية الأمسية ليستلم سيادته من بعدها دفة الحديث.
شعرت بالحنق يضرب نافوخها وهي ترى ضحكاته الصاخبة تصدح وتندمج مع البقية دونها، يبرم الصفقة وينهي اتفاقية مكتفيا بالرجوع لها كل حين بنظرة! وكأن هذا الخبيث يتعمد وضعها في قالب الجهل!
نفخت بضيق، تقر لحالها أنها بالفعل مازالت جاهلة بالكثير، بحر العمل واسع وهي بالكاد تعافر حتى تثبت أقدامها.. عند هذه النقطة قررت أن تخوض معركتها الخاصة بإبتسامة جذابة وبضع أحاديث تناقلتها بين الحضور حتى تكسر صمتها الذي طال وتعبر عن وجودها ودورها بما تملك، المهم لا تترك مكانها خاليا، ستكمل ما بدأت وستكون ذات يوم ماتتمنى وأكثر..
مرت الليلة سريعًا وغادر الضيوف، كان يستعد للمغادره بدوره حين فاجئته بهسيس كلماتها:
- لما يكون في مقابلة مهمة زي دي المفروض يكون عندي خبر بكل تفاصيلها مش حضرتك تستلم الليلة كأنك صاحب الأمر!
رسم إمارات التعحب:
- هو أستاذ شوقي مبلغش سيادة المدير العام بالتفاصيل المهمة دي.. معقولة؟!
بعصبية طفيفه:
- مالكش دعوة بأستاذ شوقي.. أنا بكلمك أنت، طول ما إحنا بنتنيل نشتغل مع بعض مينفعش الموقف ده يتكرر.. مفهوم؟
عض فوق شفته السفلى بحنق واضح ثم حرر أنفاسه الساخنة على مهل، يستدعي كل صبر العالم بينما ينهض عن مقعده، يميل بجذعه إليها ويهمس جوار أذنها قبل رحيل:
- طول ما تصرفاتك عيالي كده معتقدش هنتفق..
واستدار تاركًا إياها بوجه شاحب، لكن مالبث أن استدار حتى عاد لها بذات الوضعية السابقة، يمر بصره فوق ثوبها المورد بجاذبية خطفته منذ لمحها ويغمغم بجدية لاتناسب فحوى كلماته:
- ذوقك في الفساتين حلو على فكرة.
تجزم أنه أطلق ضحكة صغيرة يتعمد بها إثارة غيظها قبل ما يرحل ويتركها وحيدة حول الطاولة الكبيرة!
عند البوابة الرئيسية للفندق كان مازال واقفا في انتظار السائس يأتي له بالسيارة خاصته، طرق خطواتها المغتاظة سبق جسدها الذي قابله وسبابتها التي ارتفعت لوجهه والتي سيقطعها لها يومًا دون شك:
- آخر مرة تكلمني بالأسلوب ده وعلى فكرة أنا تصرفاتي مش عيالي بس أنت.. أنت.. مستفز!
وخرجت التتمة بأوداج منتفخه أجبرته على الضحك رغمًا عنه.
***
يا كثر ما صدقوا حين قالوا أن الأب هو من يربي ويرعى، فقد كان لها نعم الأب والسند ولكم عانى في آخر أيامه، ليتها تصدق أن رجل مثله يملك خطيئة بحقٍ ويخشاها كل ذلك!
تململت في جلستها تميل برأسها المتشنج إلى الخلف، فمنذ ساعات وهي على ذات الوضعية في منتصف فراشها يعلو ركبتيها حاسوبها النقال، حتى ساعات الراحة تهبها للعمل المتأخر وليته يعود بفائدة.. منذ عام على وجه الدقة والحال في تدهور مستمر، وكأن بإنتكاس أبيها ومرضه انتكس اسمهم في السوق فما عاد لهم ذات السيط القديم.. تحتاج إلى كم هائل من طاقات التحمل والتحفيز حتى تتمكن من المثابرة، وحتى تحقق وصية أبيها التي ألقى بثقلها فوق عاتقها، فذلك المال لم يعد يخصها وشقيقها وحدهما بل أصبح هناك إثنان آخران يشاركانهما فيه..
همست لحالها تشد من أزرها رغمًا عنها:
- قدها ماتقلقيش.
- قدها ونص يا سوسو.
هتف بها شقيقها من عند الباب الذي يحتل إطاره بوجه بشوش سرعان ما انعكس عليها لتطرد عبوس وجهها لآخر مبتسم:
- تعالى يا أنوس.. ماما جات؟
تقدم ناحيتها مجيبًا في تكاسل:
- ماما هتبات عند خالتو لسه قافل معاها.
- كويس خليها تغير جو.
قالتها وهي تعود برأسها للشاشة المضيئة ليقاطعها بنداء:
- ميسون..
رفعت رأسها تلبي ندائه بهزة رأس مستفهمة، تابع وأنامله تفلل خصلاته في تردد:
- عايز فلوس.
تلاقى جفنيها لجزء من الثانية، عادت بعدها تهتف بشيء من الحدة:
- أنت عارف وأخد كام الأسبوع ده؟
- وخلصوا أعمل إيه يعني!
قالها بتأفف لتهتفت بدورها:
- يا سلام! ماتلم إيدك شوية وتقدر الوضع الهباب اللي احنا فيه.
نفخ في سأم واستدار ينوي مغادرة بنبرة ضائقة:
- خلاص مش عايز منك حاجة.
- أنس!
أوقفت خطواته فاستدار دون رد لتزفر وتغمغم في قلة حيلة:
- شوف عايز كام وخد بس الله يكرمك حاول تمسك إيدك شوية.. مش كدة يعني!
تهللت أساريره وهو يقترب بسرعة صاروخية يقبل وجنتها بقوة مغمغمًا في جذل:
- يخليكي ليا يا أحلى سوسو.
- استنى لسة في شرط!
أبعدته بنبرة جادة فعاد يتململ في ضجر:
- ييييي قولي وخلصيني.
- هتيجي معايا نزور حسن بعد مايخرج من المستشفى.
أغمض عين وترك الأخرى وصمت لثوان معدودة، أعقبها:
- بصراحة مش فاهم إصرارك بس تمام يعني طالما عايزة كده.
تنهدت في قلة حيلة وهي تعيد عليه ما يتجاهله عن عمد ويتخطاه كما تخطى حزنه في وقت قياسي:
- لأ، ده كان طلب بابا وحضرتك وعدته تتواصل معاهم بس طلع كله كلام فض مجالس.
كان التنهيد دوره تلك المرة وهو يجلس فوق الفراش ثم مال على جانبه يبادلها النظر لثوان هتف بعدها في جدية:
- مش هكدب عليكِ بس حوار أخواتك مش أخواتك ده لسه مش عارف أبلعه أزاي..
ثم إستطرد بمزاح المستغرب:
- حاجة عفاريتي كده مش مستوعبها.
همست له بنبرة عقلانية:
- طبيعي لأنك لسه ماتعرفهمش، كل ده هيتغير لما تقرب منهم وتعرفهم.
نهض من جديد ليضمها تلك المرة ويهتف بنبرة مشاغبة مستعجلة:
- سيبك.. أنا بحبك لما تديني فلوس من وراء ماما.
زادت على ضمه قبل ما تضربه فوق كتفه:
- عادي يعني، طول عمرك بتاع مصلحتك.
عبث بخصلات شعرها المعصوقه قبل ما يتركها ليأخذ ما يريد من الجارور المجاور ويخرج راضيًا فتصله نبرتها العالية:
- خد بالك من نفسك وما تتأخرش.
وصلتها همهمة بعيدة قبل ما يتبعها صوت الباب لتهز رأسها يائسة وتعود تنكفأ على حالها من جديد.
***
ست أسابيع مضت عليه ببطء قاتل بين جدران المشفى، قضى فترته العلآجية وغادر على وعد بإستكمالها في المنزل، كانت تلك الفترة بمثابة حبس إضافي نال منه ما نال، لكن تلك المرة يكف أنه غادر بصحة أفضل، لأول مرة منذ سنوات يستشعر بروح الحياة تسري في عروقه.
ليلة الأمس خرج من المشفى برفقة سماح على شقته التي وهبها له أبيه كجزء من ميراثه، مسكن فاخر لا ينقصه عود ومنصب مرموق ينتظره في ملكه ما إن يتماثل لتمام الشفاء، ربما فعل كل هذا كتعويض عما ألصق بأمه من تهم وثمنا لبيعه لهم منذ الصغر وحتى الكبر، على كل حال أيًا كانت نواياه هو قبل منه كل ما أعطى وانتهى الأمر.. وهل كان من العقل أن يرفض كل هذا!
بات ليلته يتقلب فوق جمر متقد، بل هو يحيا على جمر متقد منذ أن علم بأمر القضية التي رفعتها عليه زوجته.
تظن بفعلتها الحمقاء تلك ستتخلص منه، لا بأس فلتعبث كما يحلو لها وليعبث بدوره فليس هو من يقف صاغرًا حتى تنتهي..
التهم ماتبقي من درجات في خطوة واحدة وتقدم بخطى لا تقبل التهاون حتى قابله الفراغ يحيط بالمكان، وقف لوهلة يراقب المكان بنظرات باهتة لا تمت للحياة بصلة، كم كانت له صولات وجولات فوق هذه    الأرض وخلف ذلك الباب الموصد، لينتهي به الحال يستشعر حاله كغريب لاينتمي لذلك كله ولا بأي صلة، فمنذ أن سقط فوق تلك البقعة وأصبح هذا المكان لا يلائمه.. تقدم حتى أراح كفيه فوق السور العريض، كانت تلك بقعته الأثيرة حين تتزاحم في رأسه الأفكار وتتناحر، يتمدد هنا بجسده دون رهبة من سقوط يهشم عظامه أو خوف يتلبسه، مرر أنامله فوق الحجارة الخشنة فسرى فيه شيء من رهبة، وكأن ذلك المقدام بداخله تحول لكهل، كهل كبله العجز قبل المرض..
ماذا تفعل هنا ياحسن؟
عما تبحث!
لم لا تمنحها حريتها التي تريد ويكفي ما طالته من تحت رأسك؟!
وقع أقدام متوقفة على بعد خطوات من خلفه هي ما انتشلته من شروده البعيد، استدار ببطء يواجه عينيها المصدومة، شعر بأنفاسه تتحشرج بحلقه بينما تلك المضغة الغبية الساكنة بين ضلوعه كانت تنازع الرتم المعتاد بسرعة جديدة عليها، يشعر بشيء ما بداخله مبتهج فقط لكونه يرى صورتها التي سكنت خياله منذ أسابيع يجسدها الواقع، اللعنة على هكذا شعور خانق!
- جاي ليه؟!
صرخت بها فعليا، بحنق وغضب يراه الأعمى، كيف لا تفعل وكل شيء يرفض انفصامها عن هذا الواقف قبالتها.. القضية خاصتها منذ أكثر من شهر وهي على حالها، لا جديد، هكذا أخبرها المحامي قبل وقت قصير، وحقا لم يكن ينقصها سوى رؤية هذا المخادع ليجعل شياطين الأنس والجن تتقافز أمامها.
- جاي أشوفك.
اقتنصت بسمته الساخرة بنظرة ساخطة.. ماذا يريد بعد؟ متى يتركها تعيش حياتها دون منغصات، يكفيها حياة روتينية مملة لا تريد أكثر من ذلك.. وجدته يقترب دون مقدمات، كفيه داخل جيوب سرواله ويهتف بنبرته الباردة.. الآمرة:
- لمي حاجتك.. هتيجي معايا.
ارتد رأسها للوراء بغتةً، تتطلع لقسمات وجهه الباردة وتقول في بغض صريح:
- مش هروح أي مكان أنت فيه، وقريب قوي مش هيبقى في أي حاجة تجمعنا.. أبدًا!
قلص مابينهما من مسافة في خطوة واحدة، يجذب جسدها إليه بينما أصابعه تزيد من ضغطها فوق ذراعيها، وصلتها حروفه بغضب مكبوت وكل الويل لو قررت تفجيره:
- نجوم السما أقرب لك من الجنان اللي في دماغك!
اقتربت تصد كلماته بأنامل جعدت قماش قميصه دون شعور وصوتها يعلو في انفعال منقطع النظير:
- مش هتخوفني.. وبردو هخلعك!
أطلق ضحكة ساخرة.. تتحداها:
- ولحد ما ده يحصل هتفضلي معايا.
- مش بمزاجك!
صرخت بقوة لينهرها بنبرة عنيفة أكثر سطوة:
- بمزاجي يانسمة.. والقضية بتاعتك بليها واشربي ميتها.
يقطر من نبرتها الكراهية وهي تصرخ بدورها:
- القضية هكمل فيها لآخر نفس، هعمل أي حاجة ممكن تتخيلها عشان أخلص منك.. أنا بكرهك، بكره اليوم والساعة اللي عرفتك فيهم!
كانت تلهث وصوتها يتهدج بمرارة بينما أنفاسه المتعسره تنحره قبل ماتفارق جسده، ظل للحظات يراقب نبرتها وملامحها التي تقطر بالكراهية وتفيض، كان الأمر أشبه بقبضة من صقيع لكمة معدته.. ارتخت أصابعه عن ذراعيها فجأة، نهى ذلك الصراع بنبرة قاسية، جليدية اقتصها من شعوره الحالي:

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن