الفصل الـ ٢٦

85 5 0
                                    

(26)

اتبع جهلك إن شئت..
لكن لا تلوم بئر الخطيئة حين تسقط!
وهو سار بدرب الجهل مدفوعًا بمنغصات من القلق، فمنذ أن شاب عن طوق الطفولة واعتنق أرض الشباب والريعان اكتشف نقصه.. نقص لا يظهر للعيان لكنه يهز عرش رجولته ويضرب في كيانه الحيرة، أتراه يكون بذلك رجلا منقوص لن يكتمل ولن يحوز على ما منح لغيره من مكتملي الخليقة؟.. لم يحادثه أحد ليقدم له تفصيلا مفصل يطمئن به باله الحائر، صحيح بحث عبر الشبكة العنكبوتية وقرأ عن الأمر فهدأ في قرارة نفسه بعض الشيء لكن عاد ونخر الأمر في رأسه حين أخبره أحد الرفاق أن تلك معضلة كبرى في حياة أي رجل ولم يكن يدري أنه يحمل له في نفسه ضغينة فتحدث عن جهل مدفوعًا بها.
ولأجل ذلك سعى وراء تجربة تخبره أنه لا يشكو من شيء وأنه كاملا مكمل لن يعيبه نقص فما كان غير أن نوى وخاض لولا ذلك الدخيل الذي قطع عليه خلوته كرجل شرطة قبض عليه متلبسا. كيف سار بدرب الخطيئة غافيًا، بل كيف انحدر لذلك السفح الملوث؟ لم يكن قديسًا منزهًا عن الخطأ بل كان غارقًا في مرحلته الانتقالية تلك متبعًا أهواء مراهقته كحال الجميع في مثل سنه، لكن أن يصل به الأمر حد المجازفة ضاربًا بكل القيم وماتربى عليه عرض الحائط تلك نقرة أخرى.
كان ممددًا فوق الفراش بجسد ساكن وساعدٍ يعصب عينيه، وصله أزيز الباب ورتم خطوات بات يعرف صاحبها فلم يتزحزح عن موضعه ظل كما هو فتحرك الدخيل حتى قبالته، ظل يراقب سكونه حتى ظن أنه راح في سبات حتى رفع ساعده و افترق جفناه ثم اعتدل جالسًا فبات يقابله وجهًا لوجه لا يفصل بينها إلا القليل، ابتلع لعابه مترددًا قبل ما يدمدم بادئًا الحديث بنبرة باردة، تمنى لو تمحو خزي اللحظات الفائتة:
- على فكرة أنا وافقت أقعد عشان مش ناقص صداع من ماما، ماهو أكيد ميسون شحنتها.
طالت نظرة محدثه إليه وهو يحك ذقنه النامية في تباطؤ محاولًا بذلك سبر أغواره، متناقض ذلك الولد بكل ماتحمل الكلمة من معنى، بات لا يعلم مدلل هو أم منحرف الطباع أم هو في الأصل هذا الذي يجالسه بهدوء مقلق..
طال تفحصه والصغير زائغ البصر في ضيق بان على ملامحه حتى تحدث أخيرًا بعد صمت باحثًا عن تفسير:
- إيه الحوار؟
قالها حسن بغمزة خاطفة ولمحها الآخر الذي عقد حاجبيه بقوة وهو ينهض فجأة في انفعال حاد أكد شكوك الجالس:
- لا حوار ولا غيره ياعم.. في إيه أنت!
اضطجع للوراء ودمدم ماطا بالكلمات في هدوء مغيظ مفردا بها عن خبرة سابقة:
- أصلك كنت متخشب، ده غيرملامحك مكانتش ملامح واحد ناوي يدفع عشان يتبسط.
مشط جسده بنظرة جريئة عاد بعدها لعينه وهو يغمزه من جديد وسؤاله تلك المرة بطنته الوقاحة:
- إيه الحوار بقى؟
حملق فيه أنس مغتاظا من جرأته، مشتعلا من كشفه لبواطن أموره ولم يملك أمام هذا سوى أن يهدر منفعلا:
- أنا همشي أكرم لي.
- اترزع مكانك.
نهره بفظاظه وكفه يشير حيث كان ليبادله النظر ساخطًا للحظات عاد بعدها وجلس، سحب شهيقًا طويلًا عله يهدئ من توتره الداخلي قبل ما يصعد بصره نحو النظرات المتفحصة له بتركيز، قطعها ساخطا وهو يطلق زفيره المحتبس بحرارة مهمها في اختصار وكأن ما يلفظه شيء ليس بالأمر الهام ومن ناحيته قطعا لا يبالي:
- كان عندي حاجة اسمها  undescended testisوعملت عملية.
ارتفع حاجبا حسن وهو يميل بجذعه للأمام محاولا فك شفرات الكلمات التي لفظها ذلك المراهق سريعا متلجلجًا حتى عجز وإن راودته بعض الظنون الصحيحة لكنها حتما لاتكفي.. تحركت سبابته في حركة دائرية بالقرب من أخيه الذي هتف بدوره وقد أصابه رد فعله الغير مفسر بغباء مفاجئ:
- إيه!
- انزل بالترجمة.
رفع أصابعه العشر يجذب فيهم خصلاته بينما لسانه يهذي بالترجمة الصريحة كما رغب حتى انتهى، ترك رأسه وعاد لمحدثه ليجده يحملق فيه مذهولا فبادل صمته بآخر حتى جاءت نبرته الساخرة مستنكرة:
- والبيه رايح يطمن على نفسه في شقة مفروشة!
- ييييي مش هنخلص من الليلة السوداء دي.. بس أنا اللي غلطان؛ أحكي لك بتاع إيه!
صاح فيه حسن منفعلًا بدوره:
- افهم ياحمار قلقان يبقى تروح لدكتور يطمنك مش تلبس نفسك مصيبة أكبر منك.
أشاح بيده وعاد بجسده للوراء حتى تمدد مغمغما في تكاسل:
- اللي حصل بقى.
هز رأسه يائسا من تفكيره المتهور ونهض يخلع عنه قميصه، أطفأ الضوء وتمدد بدوره فوق الفراش الآخر، وما إن فعل حتى أتاه السؤال المستنكر:
- أنت هتنام هنا!
- عندك مانع؟
- لا بس يعني سايب مراتك ليه.. أنتو متخانقين؟
لم يتبين قسماته في الظلام الدامس لكن الصمت الذي ران أخبره أنه تطاول وحشر أنفه فيما لا يخصه وربما هو تحذير خفي يذكره بوعيده السابق والذي ما إن تذكره حتى نفخ في ضجر ودار وعاد بالدفة حيث حديثه الأول وفي خياله يرتسم موال آخر:
- لو كنت فضلت هناك كان زماني مفضوح ولابس قضية.
صرح عما يخشاه وفي داخله كان ممتنًا لحضوره في التوقيت المناسب قبل ما يقع المحظور، لم يبادله الحديث فعاد واستأنف في ترفع محاولا فتح صفحة جديدة:
- على فكرة أنا ماقصدتش الكلام اللي قلته.. متزعلش.
ظن لوهلة أنه سيتبع اعتذاره بآخر يمحو به أثر الصفعة التي نالها على يده لكن خاب ظنه حين وصلته ضحكة متهكمة خافتة شقت السكون تبعها همسه الفاتر:
- ماتشغلش بالك؛ مش أنا اللي أخد على كلام العيال.
- سبحان الله هو أنا مش بطيقك من شوية.
قالها أنس بغيظ ليأتيه الرد مفعلا من غيظه أكتر:
- ده على أساس أني بموت فيك مثلا.
تأفف ساخطا:
- ده أنت مستفز يا أخي.
- نام وبطل هري عشان عندك شغل الصبح.
- شغل!
واستطرد حائرًا:
- شغل إيه؟!
لم يرد, فتأفف عشرات المرات قبل ما يسقط صريعا للنعاس.
***
يولد الحب من رحم الحياة وتولد الحياة حين تجد الرفيق الذي يشاركك الدرب الطويل ويده تعانق يدك، قلب حان يظلل عليك ويحميك دون سؤال، ظهر تلقي عليه حملك فيخبرك أنه جدير بحمله.. تعددت أشكال الحب ولكل عاشق طريقته في تصوير محبوبه، وزوجها اختصر الجميع في حنوه..
كانت تجالس التلفاز دون تركيز وكفها يعانق كوب الشاي؛ مشروبها المفضل عقب كل وجبة، شاردة الذهن مع أشيب الفودين الذي يجالس صغيرته عند المائدة يدرس لها واجباتها اليومية ككل يوم في هكذا توقيت بينما تتشاغل هي برفقة شاشة لا تراها سارحة فيه، تلك الشعيرات الرمادية التي تجتاح جانبي رأسه هي أكثر ما تعشق..
تعشق!
تردد صدى الكلمة داخل روحها واستقر داخل حجرات القلب حيث المنتهى ليزين ثغرها بسمة خافتة رسمها الهوى الذي تحياه، لم يخيل لها أن تكن له تلك النوعية من المشاعر وفي وقت قصير كهذا.. قبلته الدافئة التي يلثم بها جبينها قبل رحيله وعند عودته بمثابة حجر جديد لحبه داخل نابضها يضعه كل يوم حتى بات كالبنيان المرصوص لا تهزه ريح، ربتاته الحانية وقتما تقوم بعمل ما تمحو كل تعب عاشته، حتى صغيرته التي لم تعتَدها حتى اللحظة وتفضل أباها في كل شيء باتت محبتها تتضاعف كما أبيها يوما بعد يوم، يفلت عقال نبضاتها ويحرك فيها شيئًا لم تكنه يوما حد أنها وقتما تتطلع إلى نفسها في المرآة تجدها تنضح بجمال لم تره في نفسها قبلا.
بعد حين كانا قد انتهيا وحان موعد نوم الصغيرة فخلدت إلى فراشها وجاء هو ليشاركها الجلوس وذراعه يمتد من خلفها فوق حافة الأريكة، التقط جهاز التحكم الخاص بالتلفاز وأخذ يتنقل بين القنوات الرياضية والإخبارية في تركيز كامل بينما أنفاسها تتقارع في تعثر، استغلت تركيزه الغائب عنها وإقتربت تسحب شهيقا طويلا معبقا برائحة جسده لا بقايا عطره، مغمضة العينين وكل خلية فيها تسكر لحلاوة ما تشعر..
قالوا من قبل أول ما تعشق المرأة في رجلها.. رائحته!
وهي لم تعشقها فحسب بل أدمنتها.
- شوط يابني آدم ماهي قدامك!
أفزعتها صيحته المتفاعلة مع مباراة تجهل أسماء لاعبيها لتنتشلها من وسط خيالاتها التي تعدت الكثير..
اللعنة عليها!
تملك لسانًا لا يكف عن الثرثرة صبح مساء مع أيّ كان ويأتي عند زوجها حلالها وكأنما أربعة أحصنة عربية بفرسانهم يسحبونه للخلف فيموت كل حرف يبغي ظهورا، ماذا يحدث لو أخبرته أنها تكن له بعض المشاعر!
بل ماذا يتوجب على أي زوجة أن تفعل غير ذلك؟
حسنًا.. الآن!
في هاته اللحظة سوف تخبره أنها تحبه..
هكذا ببساطة..
- بقولك إيه..
أجلت حنجرتها وهمست بها خافتة مترددة إلا أنها كانت كافية ليهبط لها بصره في انتباه حتى تنهي جملتها المنقوصة إلا أنها تلعثمت من الداخل وارتبكت كل الحروف وماجت في بعضها، حرك رأسه بهزة صغيرة وحاجباه يلتقيان في عقدة خفيفة يحثها بذلك على المتابعة.. ففعلت:
- تاكل بسبوسة؟
- أي حاجة منك حلوة يا سمسم.
أجابها ببسمته الصافية وعاد يتابع مباراته لتبادله بمثلها وهي تنهض من فورها، سبت حالها في طريقها إلى المطبخ كيف لها أن تعترف بحبها إن كانت تستحي من لفظ اسمه!
وبخت نفسها ونالت على تقريع كاف قبل ما ترسم بسمتها العذبة وتعود أدراجها وبين يديها طبق"البسبوسة"، جلست في مكانها وناولته إياه، تذوق القليل ثم هتف مشيدا بكل ما تصنع يداها كعادته معها:
- حلوة قوي تسلم إيديك.
لم تعد تهرب بنظراتها منه بل أصبحت تستقبل كل مايجود به وهي على أتم استعداد لاستقباله وتمني نفسها أن تحرر مشاعرها المقيدة رغما عنها حتى تستطيع مبادلته ذلك يوما.
بعد محاولات تعدت العشر باءت كلها بالفشل كانت تتوسط فراشها استعداد للنوم وبينما كان هو ينهي قراءة كتابه كان يعمل عقلها على خطة لا تقبل التراجع تلك المرة..
ما إن يقترب سوف تغوص بين ذراعيه وتهمس بحبها هكذا دون مقدمات ليتسلم هو الدفة بعد ذلك..
حتى اللحظة لا تفهم مدى إصرارها هذه الليلة وصراعها الذي طال، عل الأمر يعود لاقتراب موعد عادتها الشهرية لتعبث بها الهرمونات خير عبث.. نامت على بطنها وعيناها تراقبه في إنتظار حتى يفرغ، لكن على مايبدو أنها لم تعمل حساب للنعاس الذي أفسد خطتها حين أوقع بها بين شباكه فغابت معه دون مقاومة تذكر.
***
تنمو بذرة الحب حين ترتوي بالاهتمام..
عندما تمنح صاحب الدقات نصيبه الخاص من حيزك الأكثر خصوصية، هو أمر خارج عن إرادتنا الحرة وقتها تكون أفعالك ماهي إلا صدى منعكس لما يفتعل بداخلك فتلبي جوارحك الأوامر  بكل متعة خالصة.
ضغطة صغيرة طالت جرس الباب وعادت يدها توازن الصندوق القابع بين ذراعيها في انتظار لم يطل حين فتح الباب بتلكؤ, وظهر وجهه وقد علته الصدمة التي غلبت حمرته وهزاله الواضح وهو يهتف مستنكرا لوجودها، هنا أمام باب بيته:
-  غنى!
في العادة وقتما تصل إلى العمل تجده سبقها إلى هناك لكن حينما واجهها الفراغ داخل مكتبه صباح اليوم انتابها القلق وهاتفته من فورها وكان قلقها في محله حين أخبرها أنه يعاني من ارتفاع في الحرارة وصداع يكاد يفتك بدماغه ولا يقوى على نهوض ثم أتبع حديثه باعتذار عن حضوره لليوم، فما كان غير أن أنهت بعض المهام ومن وجهها جاءت إليه، ذلك أقل ما يمكن تقديمه لمن كان إلى جانبها الفترة الماضية، تحمل مزاجيتها المضطربة وفعل مابوسعه حتى تعود لطبيعتها، وهي بفضله تفعل.
- شكلك تعبان قوي.
أقرت أسفًا بما تراه واضحًا فوق معالم وجهه في حين جاءت نبرته واهنة وأصابعة تفرك جبهته في إعياء:
- يعني شوية.
تجاوزت عتبة الباب ببضع سنتيمترات:
- يبقى لازم ترتاح.
ثم مدت يدها بصندوقها الورقي مع ابتسامة جذابة:
- جبت لك دول.
رفع حاجبًا متوجسًا وهو يتناوله ويبعد غطاءه فوجد مجموعة من أدوية البرد تصحبهم لفافة أعشاب لذات الغرض مع كوب فخاري، ضحك ملء فيه وعيناه تلاقي عينيها الذائبة في نكهة القهوة فتتألق بوهج خاص ألبسه ثوب الفكاهة:
- كل ده عشاني؟
افترق ثغرها بضحكة صغيرة ورأسها تتحرك في إيجاب ثم رمقته في استياء مصطنع:
- أنت ماقولتليش اتفضلي على فكرة.
حك مؤخرة رأسه وحاجبه الأيسر يعلو في عبث:
- والله أنا نفسي أقولك اتفضلي وتتفضلي فعلا بس خايف بعد ما تتفضلي تزعلي إنك اتفضلتي.
استغرق الأمر منها بضع لحظات حتى وصلها المعنى المستتر لما وراء كلماته ففغرت فمها محملقة في صمت ثم أغلقته ويدها تصارع خصلة قصيرة تعود بها لخلف أذنها؛ كيف نسيت أنهُ يعيش وحيدًا, لا هي لم تنسَ! ولكنها انفلتتَ! احمرّتْ وجنتاها لتهمس له بنظرات متوجسة وخطواتها تعود إلى الخارج:
- طيب هامشي أنا بقى، ماتنساش تاخد العلاج وتخلي بالك من صحتك.
لم يجِب وضحك في عبث قلما يسلكه ليزيد من تلجلجها، لكن ماذا يفعل إن كان القلب يميل فتميل معه كل الجوارح..
سحبت شهيقًا قصيرًا وأسنانها تضغط فوق شفتها السفلى بينما ترفع كفها في سلام عابر، توليه ظهرها في رحيل تنواه قطعه بنداء رخيم:
- غنى..
توقفت خطواتها ودارت ترمش بأهدابها حتى جاءتها نبرته الباسمة في امتنان:
- شكرًا.
قالها مختصرة لكنها تحوي الكثير، الكثير من المشاعر المتضاربة لكنها جميعًا تصب في نهر واحد مقره ومستقره القلب. لم يكن رجلا يعتاد الحيرة والتخبط، بل اعتاد الوضوح والصراحة وعلى هذا النهج يسير ولن يكون للقلب مسارًا منحرفًا.. وهو في هاته اللحظة يعترف لنفسه اعترافًا ضمنيًا أنه قرر واختار  وشكره هذا لأجل حضورها المباغت الذي أسقط آخر عثرة في طريق القلب ليضيء له مساره الجديد.
تلاقت النظرات للحظات بدت كالأبد قطعتها بهمهمة سريعة اختفت بعدها خلف باب المصعد تتنفس الصعداء. سارت على وجهها هائمة، حائرة، يذكرها عقلها التائه أن الأمور تتصاعد بشكل مريب وسرعة تفوق المنطقية، فهذا الذي كانت تقف عند بابه منذ لحظات قليلة أصبح.. أصبح يربكها! تحديداً منذ ليلة زواج أمها والتي كانت فيها بحالة يرثى لها، وما كان منه غير أن احتوى.. مابالها تنزلق داخل هوة لا تفقه مستقرها لكنها تجيد السقوط بنفس راضية؟
هزت رأسها ترفض تلك الأفكار الهوجاء.. هي فقط تهتم لأمره لأنه فعل من قبل وكان إلى جوارها وقت الحاجة، هو شريكها بالعمل وصديقها مؤخرا الذي يفهمها دون حديث وما يحدث ماهو إلا داخل إطار صداقة جميل جمع بينهما بعد عداء لم يطل. استراحت لهذا التفكير وتنبهت لحالها التي شردت كثيرًا حد تناسي إيقاف عربة الأجرة، وما إن فعلت واستقرت داخل مقعدها حتى راودتها فكرة مسرطنة تركت عدة شروخ فوق فكرها المستريح.. فقد قفز هاجس لعين يخبرها ببساطة أن ذلك الإطار الذي تحتمي فيه كذباً بدأ في التصدع حين كان يتطلع إليها في شيء من لهفة سكنت عيناه وإستشعرها قلبها.
***
إن لم يكن قاربُك المشرَع على قدرٍ كافٍ من الحماية حتمًا ستهزمه العاصفة.. حد الغرق.
بأصابع مرتجفة رفعت الشريحة البلاستيكية الخاصة باختبار الحمل المنزلي، تفصد جبينها عن العرق وهي ترى الخط الأحمر يرتسم سريعًا تبعه خط آخر لكنه باهت، تعالت وتيرة الدقات حتى كاد نبضها أن يتوقف، دقائق وكان جسدها ينزلق ببطء لتفترش أرضية الحمام بثوبها غير آبهة لذلك وقد زاد الخط الباهت وضوحا مخبرًا إياها على مهل أن في رحمها ينمو جنينه!
عادت برأسها للوراء وألقت بها فوق الجدار البارد كروحها في هاته اللحظة، عصرت جفنيها بقوة فتسللت عبرة حارة بينما أصابعها تنقبض وتعود تنفرد فوق بطنها، تعتصر بقوة واهنة ذنبها الوليد..
نعم ذنبها، لو ما كانت بذلك الضعف ماكانت لتسقط ليلتها وتنساق خلف رغبة جسدها الذي لبى قربه بشكل مثير للشفقة..
كانت توشك على الوصول حيث خط النهاية، قضيتها تسير كما تريد ولم يتبقَّ سوى القليل حتى تنال مرادها، ارتاحت لاعتزاله الفترة المنصرمة حد أنها ماعادت تراه إلا مصادفة عابرة فأعدت حالها وهيئتها لرحيل قريب..
فشجرتهما جفت وتساقطت أوراقها وماتبقى لم يكن سوى بالشيء الهين وكانت أكيدة لاقتراب سقوطه بل واقتلاعه كاملا من الجذور..
لماذا الآن؟
لماذا الآن ترتوي الأغصان اليابسة وتثمر في لحظة!
ما ذنب تلك الروح في أب كهذا وأم تمقت وجودها من اللحظة التي عرفتها فيها؟
وما ذنبها هي لتحيا كل هذا!
ظلت على وضعها لوقت لا تعيه، جامدة الحركة إلا من عبرات أغرقت روحها وفاضت حتى ملأت وجهها الشاحب، انتشلتها الدقات التي تعالت فوق الباب المغلق في تناغم فرفعت وجهها تنظر إليه وكأنما تراه لتتضاعف وجيعتها مع وصول نبرته القلقة :
- نسمة..
كررها ثانية وعند الثالثة قطعت سيلها المنهمر في قسوة نالتها من ظهر كفها وهي تنهض في صعوبة حتى استوت واقفة، تتطلع إلى الشريحة الساكنة داخل راحة يدها بعيون غائرة، أطبقت عليها أصابعها في قسوة غائبة في دنياها عن المقبض الثائر في عشوائية حتى كاد أن يخلع في قبضته..
قطعت ثورته بباب انفرج بغتة ومن ورائه كان يقف بقسمات غلبها القلق، أطلق زفير مشحون حين رآها وما كاد يفعل حتى قطب جبينه وحاحبيه في جهل لما يرى من حالة يرثى لها:
- حصل إيه؟
سأل متوجسًا بينما ظلت هي تحدجه في صمت وفوق أهدابها تجمدت عبرة، جمرة من لهب استقرت في جوفها وهي تلفظ أحرفها الضائعة دون حياة:
- أنت لعنة مش هخلص منها غير بالموت.
دقات رتيبة فوق ساعة الحائط تخبرنا أنها تخطت السادسة صباحًا ببضع دقائق يقف فيها عاجزًا عن فهم البركان الخامد الذي يقف أمامه وينتظر اللحظة المناسبة حتى يثور بينما عيناه تترقب العبرات الساكنة في مهدها بوجع عكسته مقلتيها الخابية داخل قمقم القهر والحسرة.
- كرهتني حتى في نفسي.
- حصل إييييه؟
صرخ فيها بصبر فرَغ وعيون قست نظرتها، كفه يقبض على ذراعها بقوة رجتها عله يعي لما تهذي في باكورة هذا الصباح الأغبر، ضربت بإختبارها في صدره فارتطم فيه ليسقط أرضًا بعدها، دفعت بصدره حتى يحررها من قبضته ففعل حين استقر بصره فوق الشريحة المستريحة عند أقدامه، تخطت إطار الباب وابتعدت عن مرماه بخطوات تعالت فيهم شهقاتها وغصت بحلقها، جسدها يرتعد وأسنانها تصطك في بعضها دون إرادة منها.
كان الخبر الذي أكده الخطان الواضحان بقوة بمثابة قبضة التفت حول أحشائه سحبت أنفاسه وأوقفت الدم في عروقه، دار بصره ناحيتها فوجدها تغص بروحها في انهيار لم يسبق له مثيل، اقترب بأقدام مثقلة يضغط فوق كتفها براحته وبالكاد همس:
- إهدي.
وصلتها باردة، هادئة حد فوران الدم برأسها لتزيح ذراعه عنها في فظاظة وازتها دهشة مصطنعة :
- وهو المفروض أكون هادية!
- يعني شغل الجنان ده هيريحك.
- أنت السبب في كل المصايب دي.
- ماضربتكيش على إيدك!
لفظها غاضبة لتعود برأسها للوراء وبصرها يرتاح عند نقطة وهمية بينما حروفها تتبعثر في شتات:
- عندك حق أنا السبب، المرة دي الذنب ذنبي..
قالتها بنبرة ميتة وروح تماثلها ليقترب يمسك بوجهها يجبرها على النظر بينما تضيق نظرته والاستنكار حليفه تلك المرة:
- ذنب!
ما إن جاءتها نبرته المستنكرة مع توحش نظرته ماجت حروفها وخرجت تجابه في قسوة مريرة:
- أيوه ذنب، لما يبقى منك أنت يبقى ذنب.
ثم كورت يمناها وأخذت تضرب بطنها بوعي مغيب وشهقاتها تعلو وتيرتها في همس قاس:
- بس أنا السبب، أنا الغبية..
- كفااااااية.
صرخ في وجهها ويده تطبق فوق رسغها يمنع ضرباتها التي تسددها إلى رحمها في جنون، لم يتركها إلا عندما هدأت أنفاسها وخمد بركانها أسفل قبضته، صمتت إلا من بكاء متقطع ظلت تغص فيه لبعد حين حتى تحركت مبتعدة بأكتاف منحنية ورأس منكس يعلن أنها قد خسرت للتو وانتصر هو دون نزال.
***
حين نفقد هويتنا نقف عند مفترق طرق، نخطو فنجبن ثم نعود إلى نقطة البداية خائبين، متحيرين دون قرار..
حينها عليك أن تستفتي قلبك، سلمه لجام أمرك وحده قادر على أن يبدد سطوة ظلامك فيستنير لك الطريق.
ماحدث صباح اليوم كان مفترق جديد يدعوه للالتحاق فيه، لو أخبروه من قبل أنه سيكون أبًا ذات يوم لضحك ملء شدقيه هازئا، كانت الفكرة بعيدة تمام البعد لدرجة لم يعِ فيها أن ذلك وارد الحدوث بل وبكل يسر كما حدث.
هو نفسه لا يفهم كنه مايشعر، ماذا يعني له ذلك الجنين؟ هل هو ذنب كما قالت أم متاهة جديدة سوف يخوض دروبها!..
قضى يومه داخل بئر العمل شريد الروح والبدن بعقل صاخب يبحث عن جواب واحد..
ماذا يريد؟
وياله من سؤال تعجيزي لقاموسه الفارغ.
عاد منذ قرابة الساعتين ليحتل المائدة في جلوس خاو، مفرغ إلا من صورتها وهي تضرب بطنها تبغي خلاص منه ومن ذنبه كما تقول.. مسح عن وجهه ثم نهض مثقل الجسد والنفس، دفع ببابها الموارب ليجدها على حالها كما غادرها في الصباح، ساكنة على جانبها  فوق الفراش، خامدة الروح والبدن إلا من عيون محدقه في الفراغ تخبره أنها مازالت تنتمي إلى عالم الأحياء.
تقدم بالخطى ودار حول الفراش وفي بطء كان جسده ينسل إلى داخله، استوى مثلها على جانبه من خلف جسدها الذي ارتجف وهو يحيط خصرها بذراعه، ضمها إليه برفق فبات ظهرها يغوص داخل صدره وكفه المحيط يرتاح فوق بطنها المسطحة بينما نظراته الفارغة تواجه خصلاتها المسدولة بإهمال من خلف رأسها الساكن.
- أنا مستحيل أسمح أنك تتأذي بسببي، على الأقل دلوقتي.. دي حقيقة لازم تصدقيها.
همس بحروفه الرخيمة وهو على يقين أنها تستمتع إلى كلماته التي أفلت عقالها وكان تشنج جسدها خير دليل، تابع وجسده ساكن إلا من حركة أهداب رتيبة :
- أنتِ اللي مصره توصلينا لطريق مسدود بعد ما حكمتي عليّ من غير ماتسألي إيه وصلني لكدة؟ قررتي تشوفيني من زاوية واحدة ترضي بيها ضميرك الملاك وتقنعيه إن أنا الشيطان اللي يستحق العقاب طول الوقت..
ضغط كفه فوق بطنها دون وعي وهو يهدر:
- مفكرتيش تسأليني ولو لمرة أنا ليه اخترت الغلط؟
وصمت لبرهة قست فيها نظرته وهو يستطرد بلهجة ساخرة:
- كنت هقولك لما يكون قدامك كل السكك أخرتها غلط طبيعي نختار الغلط.
ويبرر بجفاء:
- أنتِ ماتعرفيش كنت عايش إزاي؟.. حياة كلها فقر وذل.. ظلم وموت بالحيا.
تحرك جسدها يرفض ذلك الدرب الذي يجبرها على السير فيه، فابتعد عنها وسكن على ظهره، ساعده أسفل رأسه وبصره يعانق السقف دون رؤية واضحة، ضائع بين سراديب الحقيقة:
- أنا تايه يا نسمة..
فجّر حيرته بتلك الأحرف الأخيرة، بينما كان جوفه يشتعل فأغمض عينيه وترك لبقية الحروف حرية التعبير من بين اصطكاك حائر:
- مش لاقي نفسي جوه بدلة ومكتب وصورة الأخ المسؤول، فيه صوت بيقولي إن هو السبب في اللي وصلت له وإن مكاني مش هنا، مكاني مع نفسي اللي أعرفها من سنين..
افترق جفناه على الواقع:
- بس في نفس الوقت في حاجة مقيداني مش عارف إيه هي، حاجة منعاني أرجع للي كنت فيه وأنا مش عارف أكون حد تاني مايشبهنيش.
مال على جانبه وعاد يتحكم في خصرها بضغطة حانية بعثر فيها حروفه الصادقة فوق جراحها المثخنة:
- مش برتاح غير معاكي، بكون واحد تالت بس مرتاح.
وتنهد فوق جيدها في حرارة مسترسلا في حديث حبسه داخل نفسه حتى فاض وأغرق روحه الضائعة:
- رسايلك ليا في السجن كانت زي النفس اللي باخده بعد خنقة طويلة ويوم بعد يوم فضلت أستناه.. وإبني اللي جواكي مش ذنب ده النفس الهارب من شهور.
رفع رأسه حتى استكان بذقنه فوق كتفها يراقب عبراتها المتساقطة واحدة تلو أخرى في صمت فشد على ضمته أكثر ونبرته كانت كمن وصل بعد طول غياب:
- أنتِ الطريق الوحيد اللي أعرفه ومش عايز أخسره.
ثم أطرق برأسه وغاص داخل خصلاتها بمهادنة جديدة يلقي بحبالها إليها:
- خلينا نفتح صفحة جديدة، اديني الوقت عشان أثبت لك إني مش نفس الشخص اللي مصممة تشوفيه بنفس العين.. اعتبري شهور الحمل فترة اختبار يا نكمل بعدها يا كل واحد يروح لحاله من غير فضايح بقضايا ولا محاكم.
ذيل ختام عرضه بربتة ولثمة استقرت فوق خصلاتها صاحبها إسدال الستار لحديثه الذي طال:
- القرار قرارك.
ختم حديثه ونهض تاركًا إياها تلفحها البرودة من كل صوب، تركها صريعة روحها الثكلى وقلبها العاق.

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن