الفصل الـ ٣٣

111 7 0
                                    

(٣٣)

العبرة في الدقة الأولى
أول عناق للنظرات
وأول تلآقي للأنامل
بعدها تتوالى الدقات، يسكن الوله العيون والشوق يغزو الكيان.. فينتهي بك المآل بقلب خاضع لسلطان العشق.
وكانت نظرته العطشى لرؤياها تسبح فوق قسماتها في جرأة وعدم تصديق، فبعد محايلات دامت لشهرين كاملين أخيرًا قررت _أم العيون غزلان_ منحه شرف لقياها.
سحب لها المقعد كجنتلمان مهذب في حين كانت نظراتها هي مبعثرة من حولها، تتطلع بعدد الثوان يمنة ويسرى، لاتعلم هل تلك الدقائق المسروقة من قبل الزمن من حقها أم أنها تطعن ثقة والديها في مقتل بقبولها دعوته للعشاء..
لا.. بل منذ طاوعت قلبها وسارت من وراءه معصوبة العينين، واربت الباب وسمحت له أن ينفذ إلى قلبها، خطفها بقربه وكلماته فبات وجوده في يومها من ضمن أركانه وما عاد يحلو إلا به.
أليس من حقها أن تختار برفقة من تشرك عمرها؟
أليس من حقها أن تعيش هاته اللحظات؟ وبالرغم من كل تلك النوازع بداخلها إلا أن حلاوة اللحظة كانت تستدعي أن تعود له بعد قلق طال وحروفه العابثة تجذبها:
- يارب تهدي بدأت أحس أني خاطفك.
وعادت نبرته تتغلغل إليها وتمس كيانها بينما جذعه يميل فوق المائدة مقلصًا مابينهم من مسافة:
- مفيش حد هنا يعرفك ولا شايفك غيري.
تكفلت ببسمة صغيرة، مرتبكة، دارتها بحدة النبرة وقلبها يقرع كطبول حرب:
- أعمل إيه يعني دي أول مرة أخرج فيها مع ولد.
- ولد!!
قالها مستنكرا فدارت حرجها بعقدة حاجبين وساعدين بينما رأسها يلتف جانبا بشفاه مزمومه، تنهد في قلة حيلة، يعلم أنها رضخت بعد إصرار من قبله وتشيجع صديقاتها الآئي يدعمنه وبشدة ومؤكد تلعن حالها في هاته اللحظة، كما يعلم أنه يحاصرها ويتقن لف شباكه من حولها، لكن ماعساه يفعل وهي باتت تستوطنه؟
سكر أيامه الذي أدمنه دون شعور..
تسربلت إلى داخله دون جهد فأصبح الأعجاب المتبادل في غضون أسابيع مشاعر حية تمنحهما معا نفحة من السعادة.
- تحبي نمشي؟
همس برجاء خائب، فقد ضاع حلم الأمسية الأولى بملامحها القلقه والضيق الذي يتلبسها، ولم تحتاج لأكثر من ذلك حتى تحرك له رأسها في إيجاب وعيناها تقابل عيناه العاشقة في إمتنان.
أمام البناية ودعها بهمس مغتاظ ألبسه ثوب الفكاهه:
- ميرسي على السهرة الفظيعة دي.
زينت محياها ببسمة آخاذه لتهمس:
- متزعلش.
بادل بسمتها بأخرى وأنامله تتجرأ وتعانق أناملها عنوة مع همس حار:
- مقدرش أزعل منك.
سحبت يدها وضحكتها تتراقص فوق ثغرها بينما تستدير بجسدها وتخطو إلى الداخل، وماكادت تصل إلى البوابة حتى عادت خطواتها الثلاث بوجه غير الذي راحت فيه:
- ينفع أقولك حاجة؟..
اقترب بغتةً حتى كاد أن يلاحمها وهمس بأمل يائس:
- ياستي قولي حاجات مش حاجة واحدة بس.
عضت فوق شفتها ونكست برأسها في تردد، ابتهلت بداخلها وسألت ربها الثبات قبل ما تهتف في تلعثم:
- هاني ابن عمتي نزل مصر.
في التو تجهمت قسماته وتلاقت ضروسه في إنفعال حاد:
- وبعدين يعني نعمله إيه سي زفت؟!
هتفت بحنق مماثل:
- لو هتتكلم بالأسلوب ده يبقى أنا آسفة أني تكلمت معاك أصلا وأتفضل أمشي.
- متستفزنيش يا عيشة!
- مش بستفزك يا أنس بس أنا في ورطة حقيقية، كونك مش معترف بيها ده مش هيقلل من حجم الكارثة اللي هتحصل.
قالت كلماتها بكدر وعادت للخلف حتى جلست فوق درجات السلم، استهلكت طاقتها من كثرة التفكير، فمنذ وصوله فجر اليوم ولم يتوقف هاتفها عن الرنين، مرة أبيها وأخرى عمتها وأخيرة من هاني نفسه، كلمات مبطنة تنبأ عن حدث سعيد عما قريب، ومالا يعلمه أنس أن سبب موافقتها لدعوته كان بغية في التحرر من كل ذلك الحصار الذي تحياه، أرادت أن تحيا بضع لحظات تسعدها لشخصها دون الإلتفات لعواقب ذلك لكن ما كان منها الا أن خربتها لا أكثر.
جاورها فوق الدرج مطلقًا زفير طويل حتى قال بعد حين بجفاء:
- قولي لهم مش عايزه أتجوز.. معقول يغصبوكي على حاجة مش عيزاها؟
تطلعت إلى جانب وجهه المشدود في محاولة للسيطرة على الغضب حتى قالت:
- أنتَ متعرفش بابا وعمتو علاقتهم قوية إزاي ببعض، الكل بيتعامل معايا كأنه شيء مفروغ منه، حتى لما بلمح وأقول أني رافضه بياخدوا الكلام على أنه دلع بنات.
زمجر:
- أنا بجد هتجنن هما بيفكروا إزاي!
ثم استطرد في جدية:
- إسمعي مني وخليني أكلم باباكي ونحط حد لكل الهبل ده.
هتفت بقوة وأصابعها تغرز في ساعده:
- إوعى يا أنس، أي كلام منك دلوقتي هيعقد الدنيا أكتر.
- طيب وبعدين.. إيه الحل؟
- مافيش، لما يتكلموا معايا رسمي هوصلهم رفضي بشكل قاطع وربنا يستر بقى.
نفخ وبصره يعلو نحو السماء في سأم وضيق فجاءت نبرتها الخائفة تتسربل في نعومة:
- أنا بعمل كل ده عشانك.
فما كان منه إلا أن يغادر سحر النجوم ويلاقي سحر قمريه في صدق ناسب اللحظة:
- وأنا عمري ما هخذلك.
***
ويحدث أن يأتيك الخذلان من الحياة..
حين ترسم أحلامك بريشة من أمل وما إن تلامسها تتضح لك الصورة كوهم خادع ويذهب كافة شيء ادراج الرياح وتعود حينها كما كنت بلا أحلام.. لا يمكنك إلقاء اللوم على أحد لأنه فقط عدم وفاق أو كما يقولون.. قسمة ونصيب.
فاجئته رؤيتها لا ينكر، كم مر من الوقت وهي جليسته ومازال لا يستوعب سبب زيارتها لمقر عمله والغير مفسر حتى اللحظة..
كان يتلاعب بالقلم بين أصابعه حين دمدت ببحة خاصة عقب صمت لم يطل:
- شكلك مرتاح في الشغل هنا.. وشك باين عليه.
حك جبينه دون حاجة وقسرا رسم إبتسامة مصطنعة ليهتف في إختصار:
- الحمد لله.
- أنتَ بجد تستاهل كل خير.
نهض من فوق كرسيه ودار حول المكتب حتى جاورها، طالعها من علو وغمغم بضيق فشل في مدارته:
- أنتِ جايه ليه يا أنجي؟
استقامت بدورها تقابل ملامحه المتغضنة وتهتف بنبرة متعالية، مستنكره:
- أنتَ متضايق من وجودي يا ماهر!
زاغ بصره من حولها مطلقا زفير طويل متبعا درب الصمت، وماذا عساه يقول؟ هل يخبرها أنها تذكره بفشله!
فشل في صنع حياة أرادها وبشدة، أنه وبعد عام واحد من الزواج لم يعد حلم العائلة من ضمن أولوياته..
تقربت خطوة تنوي بها إصلاح ما خربت يداها، تعترف أنها تسرعت في طلبها للطلاق كان يكفي أن يبتعدان لفترة ثم تعود بهم الحياة إلى مراسيها.. هي تسرعت وهو لم يتوانى.
- أنا آسفة ياماهر، عارفة أن الطلاق كان رغبتي لكن أنا معترفة دلوقتي أنه كان قرار غلط..
حرك رأسه في يأس ومبسم ساخر حين تابعت في شيء من بداهة.. أو سذاجة:
- بس أنتَ كمان غلطت لما وافقت بسهولة.. على العموم الحياة لسه قدامنا ونقدر نعوض كل حاجه لما نرجع لبعض و..
قاطعها بحدة:
- نرجع!!
انتفضت في وقفتها إثر نبرته الحادة وهمست في تردد:
- أنا حياتي واقفه من بعدك، وأنتَ كمان حياتك..
قاطعها ثانيةً بكف قابل وجهها في صرامة:
- ملكيش دعوة بحياتي يا إنجي ومن فضلك اقفلي السيرة دي.
إقتربت في إصرار أكبر وأناملها تلامس أزرار قميصه مع نبرة بطنها الرجاء الناعم كأمل واه:
- ليه بتقول كده يا ماهر، أنا لسه بحبك وبجد نفسي نرجع لبعض.
- أعمل حسابك يا أستاذ... آوه.. أنا آسفه ماكونتش أعرف أن عندك حد.. سوري مرة تانية.
كانت المقاطعة الثالثة والحرجة من نصيب ميسون التي اقتحمت غرفة مكتبه عقب طرقه سريعة لتصدمها رؤية تلك المرأة التي تتعلق في قميصه وترجوه بنبرة وصلتها مائعة فما كان منها إلا أن تلقي بإعتذارها الملعثم دون إنتظار وتغلق الباب من خلفها.
أبعد أناملها العالقة بينما ينهرها بفظاظه:
- أنتِ بجد مش معقولة!.. إمبارح طلقني يا ماهر والنهاردة يلا نرجع، لا وبتتكلمي بكل بساطة كأن الموضوع كله دوست زرار.
رفعت رأسها بكبرياء مذبوح وقد اغاظها بإبتعاده:
- عايز تفهمني أنك بترفضي؟.. أنا إنجي العلاليلي!
- أنا برفض الفشل يا إنجي، وحياتنا سوا عبارة عن دوامة فشل مالهاش نهاية.
لم تصله غمغمتها الحانقة وهي تضرب الأرض بكعب حذائها لتغادر بزوبعة غاضبة تاركه إياه من خلفها مجرد من كل شعور.
***
بساق مهتز كانت تضرب الأرض بعدد الثوان وأنامل تضرب فوق مفاتيح الحاسوب بنصف وعي، حالة من النكران تتلبسها، كأن من رأته لم يكن نفس الشخص الذي تعرفه.. ماهر الصديق قبل الزميل، كيف أثر وجوده الخفيف على المحيط بأكمله، لم يتبقى عامل ولا موظف إلا وكان له نصيب من رفقته، كسب محبة وإحترام الجميع بحلاوة روحه، وهي حتما ليست استثناء فقد كان لها الصديق خارج إطار العمل، قربتهم الهوايات المشتركة حد التآلف والألفة والإنسجام الذي أتاحه مجتمعهم المنفتح ولم يتخطى حتما حدود الإحترام.
لا تدرك معنى لضيقها الذي يشعل جمر بروحها، ولا تسمع غير صدى الكلمات التي وصلتها دون قصد..
هل كانت تطلب منه الرجوع؟
بل ترجوه إن صح التعبير!
شعرت بالغثيان والصورة الحرجة ترتسم أمامها، كيف لامرأة أن تتعلق هكذا برجل متسلحة بالغواية في رجاء كأنما تتوسله؟
صحيح هي حمقاء أنها تنازلت من البداية عن رجل مثل ماهر، لكن وإن يكن؟ ما رأته كان تقليل من شأنها ولكرامتها، فكيف بالله ترضى!
انتشلها من غيابت شرودها طرقات الباب المتناغمة ولم يحتاج الأمر كثيرًا لترى هوية الدخيل، وكأن عبث خيالاتها إجتمع ليحضر أمامها بملامحه المعتاده كما عرفتها كل يوم..
- ممكن اللاب خمسة؟.. الsystem عندي مش شغال، فهرفع شغل من لابك..
أومأت له موافقة وأفسحت له المجال، جلس على حافة المكتب ورفع الجهاز فوق ساقه ينقر فوقه في تركيز لم يتأثر بحديثه:
- اختارتي فيلم ولا لسه؟
رسمت التشاغل بالنقر فوق شاشة هاتفها بينما تجيب:
- لا أنا مشغولة ومش هينفع النهاردة.
- قصدك بتهربي عشان الدفع عليكِ المرة دي.
باغتها بنبرته المرحه وحاجبه المرفوع في تحد لتقابل كل هذا بإنفعال وليد:
- أكيد مش كده بس ماليش مزاج أخرج النهاردة.. عادي يعني.
راقب انفعالها حتى إنتهى ثم أغلق الجهاز وتركه فوق سطح المكتب، نهض من جلوسه يدور حول المكتب حتى وصل على مقربة منها فمال بجذعه بعض الشيء مرتكزًا بكفيه فوق السطح الأملس، تلكأ بنظراته فوق قسماتها ثم هتف دون مقدمات:
- حكايتي مع إنجي خلصت ومستحيل يكون لها جزء تاني.
- مادخلنيش في حياتك الشخصية، أنا مطلبتش ده!
صدته بحنق سريع فكاد أن يقتلها بهدوءه:
- عارف.. ومع ذلك يهمني تعرفي.
ابتعد بقناع الهدوء تحت نظراتها المتعجبة وعند الباب استدار وهتف بغمزة عين وشقاوة آمره:
- هنروح سينما.. والحساب عليّ يا بخيلة.
واختفى عقب ما افتعل بالقلب شرارة.. هي فقط مجرد بداية.
***
والبدايات دومًا يتبعها بعثرة
بعثرة مشاعر.. بعثرة كيان
وبعثرة حروف مع كفين يشاركانها لحظة البوح في غمرة سعادة:
- مش عارفة يا نسمة بس أنا مبسوطة.
ونسمة تكور كفها أسفل ذقنها في إنصات تام لإعتراف مبعثر، لم يصرح لسانها وخجل لكن فضحتها عيناها وقالت مواويل، سمعتها حتى انتهت وما ان فعلت حتى قالت بعتاب مازح:
- يظهر أن الأستاذ مهند أخد مكانتي عندك كمان.
- لا طبعًا، ولا حد يجرأ أصلا!
نهضتا سويًا تتبادلان عناق حار همست نسمة من بينه:
- من زمان ماشفتكيش مبسوطة كده، ماتعرفيش ده فرحني قد إيه.
إبتعدت غنى ترمش بأهدابها وتسحب شهيق بضحكة آخاذه:
- أنا بحبك.
تعالى صخب الضحكات تحت أنظار سماح المراقبة، تتدعي التشاغل بين أركان المتجر منذ دلوف الضيفة لكن في الحقيقية كانت أذنيها حاضره مع الحديث الدائر، وكانت أصابعها تتشاغل في تزيين قالب كعك حين هتفت بنبرة متمهلة لفتت الأنظار:
- بس خلي بالك رجالة اليومين دول ساعات يطلعوا قشرة.
عضت نسمة فوق شفتها، تعرف سماح ومقصد حديثها لكن غنى حتما لم تعرفها كفاية فعدد اللقاءات القليلة التي جمعتهم منذ إفتتاح المتجر ليست كافية لتفهم بساطة كلماتها وسلامة نيتها، وإن فاجئتها بساطة سماح المعهودة فتباسط غنى التي سارت حتى جاورتها فوق مقعد من خلف الفاترينه التي تعمل فوقها صدمها بحق قبل ما تسأل في براءة:
- تقصدي إيه يا سماح؟
وسماح تركت مابيدها ومالت بجذعها، تقترب منها وتسقيها من كأس خبرتها:
- أقصد قبل ما تنوليه المراد تعرفي ميته، هل هو راجل ولا لامؤاخذة.. بخيل ولا ايده فرطه.. ابن أصول ولا اصله واطي!
فغرت غنى فاها في عدم استيعاب بينما ضحكة نسمة تشق السكون وكفها القابع فوق ثغرها فشل في كبحها، همست غنى بعد حين و كفيها يتعانقان فوق صدرها بينما عيناها تلمع بنشوة العشق:
- هو أنا مش فاهمة قصدك قوي، بس يعني مهند جنتلمان ومستحيل يكون اللي بتقوليه ده يا سماح.
وعلى مايبدو ليست سماح وحدها من كانت تسترق السمع، فزوزو جهرت بصوتها الكئيب في توضيح ينبأ عن سلامة فهمها:
- أبلة سماح قصدها تخلي بالك ليكون بيضحك عليكِ ولا حاجة وأنتِ حلوة كده وزي القمر.
شهقت غنى دون صوت بينما كف نسمة يلوح لها من بعيد أن لا تأبه لحديثهم والا تأخذه على محمل الجد، وكان رنين هاتفها خير منقذ، حملت حالها وودعتهم بإبتسامة جذابة مع وعد بزيارة مماثلة قريبة.
ما إن اختفت حتى مصمصت سماح شفتيها في حسرة غير مفسره:
- البت عاملة زي البسكويته الدايبة، ربنا يستر لو طلع ابن كلب مش هتاخد في إيده غلوة.
- يالهوي عليكِ يا سماح إيه كل السيناريوهات الكئيبه دي؟
- أصل أنتِ ماتعرفيش، ولاد العز دول دايما يطلعوا استغفر الله يعني مش تمام.
حركت رأسها ضاحكة في يأس:
- كتر خيرك ياستي بس سيبي صحبتي في حالها، وبعدين مش كان عندك حنة باين ولا إيه؟ يلا روحي عشان متتأخريش.
- هخلص اللي في إيدي وأمشي على طول.
- لا سيبي أنا هخلصه.
وتحركت تأخذ مكانها، حتى ودعتهم كما فعلت غنى منذ قليل.. لفت إنتباها صمت زوزو الغير معتاد فمنذ الصباح وهي بمزاج عكر ولا تتحدث إلا القليل..
سألت بحنو وإبتسامة هادئة:
- مالك يا زوزو، في حد مزعلك؟
أجابتها بتنهيدة و وجه كالح:
- وهي الدنيا دي فيها إيه يفرح.
- ياساتر يارب.. ليه بس بتقولي كده؟
هتفت بحنق واوداج منتفخه:
- الولا حماده جه يخطبني امبارح بس اللهي يجحمه اللهي يدوسه قطر من غير قضبان؛ اللي مايتسمى جوز أمي طرده.
تخلت نسمة عما تفعل وراحت إليها، تهدأ من انفعالها الغاضب بربتة كتف حانية:
- طيب ممكن ماتزعليش؟ وبعدين جواز إيه في السن ده! يابنتي أنتِ يدوب خمستاشر سنة وكام شهر، ثم إحنا اتفقنا أنك تبطلي تفكري في الموضوع ده ونأجله لوقته.. رجعتي في كلامك ليه؟
- زهقت يا أبلة، أنا عايشه مرمطون لأمي وجوزها اللي عايز يربطني جنبه كده طول العمر عشان بجيب له قرشين كل شهر وأنا لو فضلت على الحال ده آخرتها يا يقتلني يا اقتله!
- مين ده اللي عاوزه تقتليه يامجرمة؟
هتف بها حسن الذي دلف للتو على سيرة القتل والوعيد لتقابله نسمة الواقفة بحركة كتفين قليلة الحيلة بمعنى أنها ذات المشكلة، زوزو وزوج أمها وسلسال من المعارك المتصلة، بينما زوزو قررت الغوص داخل بؤرة النكد بكف مكور أسفل وجنتها تبعته بتنهيدة طويلة وصمت مطبق، زوى مابين حاجبيه وجاورهم حول المنضدة المستديرة، متسائلا في جدية:
- ضربك؟
- وإيه الجديد ما كل يوم يضربني.
ربتت نسمة فوق كتفها من جديد في تأثر نقشته ملامحها بينما عينيها تتبع عيني زوجها في استغاثة صامتة.. حتى قال:
- وأمك فين؟ مبتقفلوش ليه؟
- أمي إيه بس وهو ده حد يقدر يقف له.
ربت فوق رأسها في مرضاة، وقد نجحت في استدرار عاطفته وحمائيته:
- طيب أنا هكلمه وأشوف لك صرفه معاه الخسيس ده.
أشرقت ضحكتها وكفيها يجتمعان في دعاء مسموع:
- روح ياشيخ اللهي يسترك، اللهي يطعمك مايحوجك ويجبر بخاطرك زي ما جبرت بخاطري يا حسن يا ابن... هي أمك اسمها إيه؟!
رفع لها حاجب شرير مع نبرة غليظة.. مازحه:
- خدتي عليَّ قوي أنتِ، بس إن شاء الله هقص لسانك الطويل ده قريب.
- والنبي عسل، ما تتجوزني أنتَ ولك الأجر والثواب؟
سايرها بأسف مصطنع:
- ولما جوز أمك يطردني، ترضيهالي؟
خططت في ثوان:
- لا ما احنا نحطه قدام الأمر الواقع!
- وإزاي بقى؟
سألتها نسمة التي تتابع الحوار الدائر من بين كآبه وجدية لينتهي بمزاح عابث من كلا الطرفين، وكان جواب زوزو البديهي حاضر كالعادة:
- أهرب ونتجوز في السر.
ضحك حسن حتى بانت نواجذه، يسحب زوجته إلى صدره قائلا في مرح:
- طيب ونكسر قلب المسكينة دي وهي على وش ولادة كده، مش يبقى حرام يا زوزو؟
حركت نسمة رأسها في إيجاب وشفاه مقلوبه في تأكيد للحزن الذي أصابها وقد شاركتهم التمثيلية المبتذلة لتتراجع زوزو بكف لوح في قهر:
- خلاص إشبعوا ببعض بقى وأنا ربنا يتولاني.
تعالت ضحكاتهم بصخب فمن يراها يظن أنها تتحدث بجدية، لديها قدرات هائلة في التمثيل تلك الفتاة.. هذا ما اجتمعا عليه قبل مغادرتهم من المتجر بأيدي متعانقة.
***
لم تختزل الحياة الزوجية يومًا في عناق حان وقبلة جبين، دوما هناك صدع، انعطاف يغير مجرى الأيام لتنقلب الوردية الحالمة لواقع أسود مرير..
وذلك ليس بواقع وفقط بل بركان واندلع في عقر بيتها، هيئته الثائرة بجنون تراها لأول مرة ولولا أنها تراها بعينها لما صدقت.
كانت تقابله داخل عبائتها السمراء المشعثه بأزرارها المفتوحه لتكشف عن ثوبها المطرز من تحتها، ثوب ذا لون زاهي يذكرها بحفل الحناء الذي كانت فيه منذ وقت قصير وتحول من بعدها لمعركة محتدمة.
- أنتِ أكيد اتهبلتي ولا حصل في عقلك حاجة!..
وعاد يصرخ في مجون؛ دون تصديق وقد خلع الحليم ثوبه:
- أنا على آخر الزمن يتقالي إلحق مراتك بتتخانق!
ضرب بكفيه فوق مائدة الطعام ثم مال ينكس برأسه بينما الصورة المخزيه ترتسم أمام ناظريه فلا تزيد سوى من سعير نيرانه.
تنتفض كل خلية في كيانها، مبعثرة الحروف والأفكار، مشتته بين الصواب والخطأ..
لكن ما عساه يريدها أن تفعل عقب ما سمعت من كلمات سممت بدنها!
كانت فرحه بالدعوة، أول مناسبة عائلية تحضرها عقب زواجها، حمسها زوجها للذهاب وساندته حماتها المريضة، تزينت بأجمل ثيابها ولبست حليها، رتبت مظهرها حتى نالت عين الرضى ولم تنسى الصغيرة فكان لها نصيب من الإهتمام، كان كل شيء يسير على مايرام حتى حضرت تلك ال"نجلاء" لم تلتفت كثيرًا لبرود نبرتها وسلامها، انسجمت مع بهجة العروس وأخذها حماس الأجواء حتى ذهبت لدورة المياة وفي طريق عودتها فاجئها ظهور تلك السخيفة خالة أميرة..
تقطع عليها الطريق بنظرة استعلاء واضحة وتهمس في شيطنة امرأة غيور:
" بالذمة أحمد عجبه إيه فيكي؟.. سوري يعني بصيت مالقتش حاجة تستاهل!"
"نعم!!"
بالرغم من دمها الذي ضرب بنافوخها إلا أن حرمة البيت الذي فيه وجبت عليها أن تتشبث بآخر ذرة للصبر وتقرر السير دون اعطاءها أي قيمة عقب ما حدجتها بنظرة قاتلة، لكنها مالبثت أن تخطو حتى توقفت مع انبعاث الكلمات المهينة:
"سمعت أنك كنتِ بتشتغلي اممممم خدامة؟.. خدامة تغسل وتنضف البيوت وكده صح؟ طيب مافكرتيش مرة أن أحمد مش شايفك أكتر من كده؟..
إرتج رأسها والتف ناحيتها من جديد في صدمة لم تنجح في تداركها لتستطرد الأخرى بمهانة أكبر:
"على العموم مسيره يعرف غلطته ويصلحها"
كمن كبل لسانها، كل خلية فيها أصابها الخرس وكانت تلك لحظة نصر للآخرى فستغلتها خير استغلال، دارت من حولها في بطء متظاهرة بالنظر إلى أظافرها المطلية وكلمات جديدة بطنتها بثعلبة ماكره:
"صحيح هو أحمد ماقلكيش على مشروع الجواز اللي كان بينا؟"
بالكاد خرجت أنفاسها المتحشرجة، وعبرات ساخنة؛ لعينة تناوش الأجفان بحرقة موجعة.. متى تركتها تلك الحقيرة؟ ومابالها تقف هكذا كتمثال شمع لا حول له ولا قوة!
لم تستفق إلا وكف أميرة يلامس كفها، طالعت الصغيرة بتيه فقابلتها بنظرات قلقه، حالة الجمود التي تتلبسها كفيلة بإثارة شفقة الصغير قبل الكبير، ملأت رئتيها بالهواء دفعة واحدة وأخبرت الصغيرة بإختصار أن عليهم الرحيل، تحركت بآليه وبصر لايقوى على النظر تبحث عن عباءتها لكن ما لم يكن في الحسبان أن تصل الجرأة بتلك الحقيرة أن ترفع بقدمها في طريقها عن قصد، تفتعل لها فضيحة بسقوط وسط النسوة لكن رد الله كيدها حين نجحت في موازنة جسدها بآخر لحظة، وما إن استقامت لم تدري بحالها إلا وكفها يقتلع خصلات نجلاء من منبتهم، نشب بعدها حراك ساخن كانت الغلبة فيه لسماح المشتعلة أوداجها غضبا، بالكاد فرق بينهم الحضور لتتعالى بعدها الهمزات واللمزات وتفزع هي لإختفاء الصغيرة التي فزعت من قبلها، ارتدت عباءتها على عجل وركضت نحو الخارج على أمل إيجادها.. وكانت هناك أمام البيت تقف جوار أبيها الذي كانت تنضح معالمه بغضب أسود، غضب أجاد تفريغه فوق رأسها..
- أنا.. أنا..
إقتربت في حذر وكفها يرتفع ببطء في محاولة لمس كتفه المحني لكنها ما إن همست حتى إعتدل ليصرخ في وجهها دون شعور:
- أنتِ فضحتيني!
هنا هطلت دموعها مدرارا، وحاولت الحديث فظهرت حروفها متلعثمة من بين شهقاتها:
- أنتَ متعرفش.. أنا معملتش حاجة.. دي هي.. هي اللي..
وسكتت تتجرع وجيعتها في صمت، بينما تقدم هو يجذبها من كتفيها بقسوة، يهتف بعيون متحجرة بقهر:
- كفاية قوي أعرف أن سيرة مراتي هتكون على لسان الكل الليلة.. كفاية أعرف أن المدام المحترمة عاملة فيها فتوة!
- بس بقى!!
صرخت ودفعت به عنها بقوة كفيها، ارتد خطوة للخلف بينما ظلت هي مكانها تبدأ وصلتها الصارخة بقهر من بين دموعها:
- عمال تهين وتجرح ومفكرتش لثانية أني ممكن أكون مظلومة!..
وصمتت لبرهة تلتقط فيها أنفاسها الهاربة، تقطع سيل الدمع في قسوة بظهر كفها بينما تتابع بغيظ قاتم:
-  وبعدين أنتَ مقولتليش ليه أنك كنت ناوي تتجوز بنت الكلب دي!.. هاه.. داريت عني ليه؟ ولا حلو دور المغفلة اللي كنت معيشني فيه!
نظرتها ونبرتها المحترقة تخبراه أن تلك النجلاء تلاعبت في عقلها بالكلمات كما تجيد أن تفعل دائمًا، وربما أخبرتها أنه طلب الزواج منها وهي من رفضت! فمن المحال أن تخبر أحدًا بحقيقة عرضها نفسها عليه عقب وفاة شقيقتها بشهر واحد فقط!
لم يستوعب صدمته حينها، تلك الصغيرة التي لطالما رأها كأخت ثالثة تطلبه كزوج دون حياء مدعيه أنها الأمثل؛ ومن مثلها يراعي ابنة شقيقتها؟
لكنه لم يجد صدى لفعلتها تلك غير العزوف عنها نهائيا، حتى ابنته خفف من ذهابها إلى بيت جدتها تفاديا للإحتكاك بخالتها المخبولة لكنها لم تهدأ حتى نالت على وظيفة بنفس مدرسة الصغيرة ومنذ حينها وهو على دراية تامة أنها تتقصى أخباره بشكل يومي عن طريق ابنته فما كان منه الا أن تركها تحيا جنونها الخاص مع نفسها دون الاكتراث.
كما سيتركها هاته اللحظة أيضًا ويتبع دربه الخاص برفقة مجنونة أخرى تسعى لخراب بيتها بيديها:
- زي ما أنتِ خبيتي حقيقة سجن أخوكي.
وتلك صدمة أخرى لليلتها الاستثنائية، ارتدت رأسها للخلف تبتلع لعابها في عسر، عينيها تفيض بدمع جديد مبادلة إياه النظرات الجريحة.. هل تؤلمها تلك الحقيقة؟ أم يؤلمها تأكيده على كلام تلك النجلاء!
قالت بعد حين بإنكسار مشتت ودمع جارح:
- هانتني.. قالت عني خدامة.. حستتني أني مساويش..
وغصت شهقتها مع استطرادتها الأخيرة:
- صغرتني قدام نفسي!
ظل يرمقها للحظات في صمت، تشرب ملامحها المقهورة بقهر آخر، ليذكر نفسه أن صفعت الإفاقة قد حانت:
- ماحدش صغرك يا سماح، أنتِ اللي صغرتي نفسك وصغرتيني معاكي.
قالها بقسوة غير آبه لنظراتها المتحسرة لينزل الستار بجفاء قاتل شطر أحلى مافيها لنصفين:
- أول مرة أندم على حاجة أختارها.
وشملها بنظرة أخيرة كانت القاصمة والتتمة لجملته الأخيرة، راقبت ابتعاده حتى أختفى خلف باب ابنته الغائبة برفقة جدتها بالأسفل، تركها وحدها تعاني صراع ساحق، تركها وحدها فريسة لأحرفه القاتلة، تركها تتجرع جملته الأخيرة وترتشف حروفها على مهل فتسقيهم بملوحة دمعاتها..
وكان ذلك كاف لتعيد هندمة عباءتها بأصابع خرقاء وتغادر البيت في صمت.
***
والصمت هو حليفك الوحيد حين تفقد كل دوافعك
وهي لم تكن تملك أي دوافع غير أنها لا تريد!
بوجه متورم من كثرة البكاء قابلته، فزع لمظهرها وقبل ما يلفظ سؤاله المتوجس جاء التفسير المنطقي لما يراه عبر شفتيها تزينه ملوحة العبرات:
- البيت قايد حريقة من إمبارح.. بابا مخاصمني وعمتو مش ساكته.. الكل ضدي وأنا مش عارفة أعمل إيه!
كان يعلم أن الحرب ستبدأ برجوع ذلك الهاني، حربه الخاصة وإن لم يظهر في كادر الصورة بعد لكنها كذلك بالنسبة له، بل هي كذلك منذ أن قرر القلب وإستحكم فأختار وفي حضرة السلطان أنت لا تملك قرار.. أنت تتخذ القرارات قيد التنفيذ دون تفكير:
- الليلة هطلب إيدك من والدك.
- كده هتولع النار بزيادة.
- في حل تاني؟!
حركت كتفيها في قلة حيلة وعينيها الغائرة بدمع ثقيل، تهمس له في تحشرج عاجز:
- ماعرفش، بس مش عايزه أتجوزه يا أنس.
رفع كفه يحيط بجانب وجنتها الغارقه بدمعها في اقتراب تبيحه شريعة القلب، ووعد لم يلفظ صراحة لكن هدرت به الكلمات المتملكة بإندفاع شاب يعيش مع قلبه أولى حكاياته:
- على جثتي تكوني لحد غيري!
"هو ده بقى العيل اللي رفضتيني ومزعله الكل عشانه!!"
وعلى الصوت الدخيل إلتفت رؤوسهم بحدة ليسقط قلبها عند قدميها وقد تقابل الغريمان في تحد نظرات تلون بوعيد قاتل.

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن