(٥)
والغربة غربةُ نفوس..
نفوسٌ هدمها مِعول القهر فطمرها الزمنُ أسفل تربةِ النسيان، نفوسٌ باتت تحيا كهلامٍ يحومُ بمسمى حياة, والنبشُ في تربةِ ماضيها لن يُخرج سوى العفَن.
- ربنا يستر.. ابنك داخل علينا بزعابيبه.
همست بها سماح بقسماتٍ متوجسة لتلك التي تجاورها فوق الأريكة أسفل النافذة, وبين أيدهم كوبين من الشاي الثقيل تتشاركان أمسيةً هادئة.. أو هكذا كانت قبل ولوج شقيقها بملامح مكفهرة تشي بنُذر غيرِ مبشرة.
اعتدلت أمها في جلستها تهلل لحضورِه بمحيّا متبسم كعادتِها, واقترب هو منها يُقابلها بوقفته المتحفزة, كانت تسمعُ هديرَ أنفاسِه الحارة من فوقِها حين تساءلَتْ:
- مالك يا حسن؟ اقعد يا بني خد نفسك.
صمتَ ولا يدري من أين يبدأ الحديث، فقط دارَ بصرُه بين شقيقته المتوجسة وأمه القلقة, لذا بعد برهة اختصر البدايات
وخاضَ في أصلِ الحكاية دون مقدمات بسؤال مباغت:
- هو أبويا مات إزاي!
ارتعدت أصابعها المحيطة بكوب الشاي الساخن وهي تبحثُ عن المنضدة أمامها في تعثّر حد تناثر القطرات فوق كفّها, لتسارع سماح بتناولِه منها, وقد غادرَها توجسها ليحل محلّه الوجوم بينها وأخيها, لتُجيب هي بدلًا عنها ببديهية:
- ما أنت عارف أنه غرق مع اللي غرقوا يا حسن في إيه مالك؟
- اسكتي أنتِ دلوقت.. ردي عليا يا أمه الله لا يسيئك.
لفظها بلسان غاضب غادره الصبر, وصوت أمه المهزوز يكسر الصمت الثقيل:
- ليه السؤال ده ياحسن؟
وهه ساخرة، مستنكرة خرجت من بين شفتيه، جاورها من الجهة الأخرى بعينين شاخصين أمامه في الفراغ, ونبرة صوته باطنها الصدمة قبل السخرية:
- عشان شفته..
ودار لها برأسه مردفًا بهمسٍ مشتت:
- شفته زي ما أنا شايفك دلوقت.
طأطاتْ العجوز برأسِها وبسمةٌ باهتة اجتاحتْ ثغرَها, بينما أناملها تتناقلُ بين حبيبات المسبحة في حِجرها, وفي داخلها تعلمُ أن الحقيقة آن أونها حتى تتعرّى، آن للدفاتر العتيقة أن تنفض عنها غبارها وتخرج سطورها للنور..
آن للماضي أن يقتحم الحاضر..
- هتصدق اللي هقوله يا حسن؟
نطقتها بجمودٍ ليأتيها الجواب بأكثر منه:
- وإمتى ماحصلش يا أم حسن!
وجاء دور الواجمة الأخرى فدارت لها برأسها ودمدمت:
- هتصدقيني يا سماح؟
وكأنّما بعينيها المعتِمة رأتْ هزة رأسها الصغيرة لتطلق زفرة حارة, وتبدأ في سرد البداية:
- إتجوزت أبوكم وأنا بنت سبعتاشر سنة...
أضواءٌ وزغاريد ترجّ أركانَ الحيّ البسيط،
تُعلن عن اقترانِ نجلِ الأول الحاجّ (صبري عيسى)
على كريمةِ الثاني الحاجّ (إبراهيم توفيق)..
مراسِم بسيطة بدأتْ وانتهتْ خلال ساعتيْن لا أكثر ليغلقَ عليهما بابٌ واحد, ويبدأ كلاهما عهدٌ جديد. كان نِعم الزّوج لا تُنكر، سافرَ وتغرّب لأجل لقمةِ العيش، كادحَ لأجل حياةٍ كريمة يبغيها برفقةِ عائلتِه الصغيرة، يغيبُ لشهورٍ طوال ويعود لكنفهم شهرًا واحدًا في السنة ليُلملمَ بعدها متاعَه ويرحلَ من جديد, وعلى ذاك المِنوال دارت طواحينَ الحياةِ لتسعِ سنواتٍ كاملة..
- كان عيلتي اللي اتحرمت منها بدري، كنت بتقي الله فيه وفي أهله، سافر يابني وسابك في حضني حتت لحمة حمراء، فتحت بيته وصنت عرضه...
هي صانت وغيرها اعْتَدى.. غيرُها أباحَ لنفسِه الخوْضَ في الشّرف والطّعن في العرض.. ابن العم إن صحّت المسمّيات بعدَما رفضّت الزّواجَ منهُ وقبِلت بمَن مالَت له النفسُ والقلبُ, قرّر الثأر بأَرْذل الطرق وأدناها، نجح في زرعِ الشكوك ونفثِ الوساوس في نفسِ وعقلِ الزوج الغائب ليعود بعد فترة غيابٍ طالت عن سابقيها، عاد ليجدها تحمل بين ذراعيها صغيرة تناغي وتطلق الضحكات البريئة، فقبّل الولد ابنَ السّبع وتحاشاها هي والرضيعة، ظلّ على حاله لليلةٍ وأخرى وهيَ لا تعي من الأمرِ شيئًا,
تسألُ بحيرةٍ فلا تجدُ جوابًا غير نظرةٍ تشملُها
من أعلى لأسفل في استهانةٍ واضحةٍ وبعدها صمت..
صمتَ حتى تآكلتهُ الظنون وعشّشت بداخلِه وساوسُ الشيطان، صمت دهرًا وحين نطق.. نطقَ كفرًا
" دي مش بنتي شوفي أبوها مين! "
- يومها دبحني بخنجر مسموم.
ورفعت رأسها تشخص بعينيْها وبصرُها الدامسُ يستدعي صورًا قديمة ظنّت في يومٍ ما أنها ستحملها لقبرها دونَما يبصرها أيًا كان، فتيبّس جسدُها كأن الحديث لا يخصّها، تتحدث عن أخرى لا تمُت لها بصلة..
- بعدها قطع أجازته اللي مكملتش شهر وسافر.. وبعد أسبوع كانت ورقتي عندي.
وفي ليلة وضُحاها باتت مُطلقة.. مطلقة دونما سببٍ واضح يلجمُ ألسنةَ البشر، سبب يحجبُ عنها نظراتِ الاتهام من أقرب الأقربين.. وابن العم عاد يظهرُ في كادر الصورة بعد ما نال مبتغاهُ ليطلبَ القربَ فمن غيرُه أوْلى بسترِ عرضه!
ولأن تسليم مقاليدها لخسيس أمرٌ مُحال،
ولأنّها امرأةٌ خاسرة في جميعِ الأحوال حملت الرضيعة وتشبّثت بكفّ الصغير وتحتَ جُنح الظلامِ والكل نيام غادرت.
تركت البلدة والأهل..
الذكرى الحلوة قبل المرة وغادرت..
قدمتهما على نفسِها، غزَلت لهُما حياةً جديدة وسَط زحمةِ البشر وتناسَت الماضي بمَن فيه.. ولأجلِ الحفاظ على ما تبقّى فيها مِن خرابٍ حتى يشبّ الصغار مرفوعيْ الرأسِ لا يعرفُ لهما الخزي سبيل تلحّفت برداء الأرملة.. أرملة بكَت زوجها الغارق مع الغارقين في السفينة المنكوبة حتى فقدَت بصرها..
لكن في الحقيقة هي بكَت نفسها حتى فقدتها وفوقها البصر.
- بعد عشر سنين مات الخسيس بالطاعون ورجع الغايب يدور على اللي فاته.. راجع متجوز ومخلف.
وطال الصمت لساعة ربما أو أكثر، طال حدّ اختناق الكلمات وتشتّت العقول.. حتى تكلم، بجسدٍ متصلب ولسانٍ ثقُلت حروفه كان يهذي:
- وسكتي ليه! ليه ماتكلمتيش طول السنين دي؟
غلبتها الغصة, وتحشرجت النبرة بقهرٍ عاد يطفو فوق قسماتِها فماتت الحروف في عتمة الحلق قبل أن تصلَ لبر الشفاه..
ليأتي صوت الجامدة الأخرى بلا حياة, هي من عاشت طيلة عمرها تتمنى وجوده، لطالما ظنت أنه لو كان هنا لتغير عالمها كله والآن وقتما عاد...
وليته ما عاد..
- كان لازم تتكلمي.. كان لازم تنصفي نفسك.
عن أي نفس تتحدّث ابنتها بتلك الحُرقة؟ عن نفسٍ استوطنها الوجعُ حتى استعذبته فعشش فيها الخراب، عن نفسٍ غادرتها الحياة منذ زمن, وبقاؤها صامدة حتى لحظتها هاته لا يعني أنها تحيا بالفعل, نفسٌ غريبة عنها ولا تُشبه تلكَ التي تعرفها، نفسٌ نحتَتها من بينِ جدران روحها الخربة حتى تصنعَ لهما البيت والكنف والعائلة.
- ياريتك اتكلمتِ..
وكان الرجاء من بكرها بنبرة خفيضة باطنُها الحنق والغضب الذي اشتعل بغتةً فعاد يزعقُ أمام وجهها وذراعاه يلوّحان في قلة حيلة:
- دلوقتي أجيب لك حقك من واحد بيموت إزاي!
زعقته نفضَتها, فأخذَت أصابعها تهندمُ شالها فوق رأسِها دون وعي, ولسانها يتعثر في كلمات غشّاها الخزي والعجز رغما عنها:
- كنت عايزني أقول إيه يا حسن؟ أقولك أن أبوك...
قاطعها بصراخ وحرقة:
- ماتقوليش أبوك.. أنا أبويا مات وشبع موت.
قال جملتُه وغادر بعاصفةٍ أشدّ ضراوة.. غادرَ بعدما فتح أبوابَ الماضي على مصراعيها، لتتقاذفَ الذكرى المغموسة بالوجعِ من كل حدب وصوب, وتنهال فوق رأس امرأةٍ استكثر عليها الزمنُ البقاءَ أسفل رُكام النسيان.
***
إنكار كان أم استنكار؛ يبطلُ أصل الشعور حينما تجتمعُ الدلائل وتشيرُ كلها لذاتِ الشيء، مهما كرهتَ التصديق وتجاهلتَ حدّ أن حجبتَ نفسَك داخل بؤرةِ التغافل, وتلّحفت برداءٍ من اللامبالاة.. في النهاية ورُغما عنك يحاصرُك الواقع داخلَ حيّز الحقيقة..
فوق الأرضيّة الصلدة ترتكزُ بركبتيْها بينما ذراعاها
يتحرّكان بقوة تارة للأمام وأخرى للخلف،
تدعكُ الأرضية بكل ما فيها من قوة حد تسارع أنفاسها ولهاثها المتحشرج، تنبتُ حبيبات العرق الباردة فوق جبينها فتتسلّل بخبث على طول العنق، هدأت وتيرة حركتها وأخذت في التباطؤ وشردت..
شردت في كلماتٍ يستنكرها عقلها حتى لحظتها هاته؛ ماذا فعلت في دنياها حتى ينكر أبوها نسبها ولا يكتفي فيمضي قدما في الحياة تاركًا من خلفه امرأة كل ذنبها أنها فضلته على غيره، اختارت أمانه وبيته لتؤسس عائلة صغيرة؛ هادئة كانت أقصى أمانيها، ليرحلَ تاركًا إياها فوق مُفترق طرقٍ جميع سُبلها تؤدي بها لبئر الاحتياج والعوْز، تركَها تُصارع العتمة طيلة حياتِها بعدما قتلَ روحَها كمدًا وقهرًا.
عادتْ حركةُ ذراعيها تتسارعُ بغضبٍ وعجزٍ حدّ أنها فقدَت بهما الشعور، تبغي الصراخ ربما أو الانفجار حتى, علّ ذاك الثقل الجاثم فوق صدرِها يتركُها لحال سبيلها، تُريد الخلاصَ من تلك الكلاليب التي تُطبق على أنفاسها بُغية نزعِها دون رحمةٍ، تُريد...
و أزيز البابِ قطع شرودها لتتنبه للدخيل،
دارت برأسها بغتة ليقابلها زوج السيدة الراقدة
فوق فراش المرض والتي جاءت بها اليوم خصيصًا
حتى تقومَ بما تعجز هي عن القيام به فترة مرضها.. حدجته عيناها بنظرات مشتعلة أثناء نهوضها من فوق أرضية الحمام دون تتمةِ عملها, وتحركت أناملها بعشوائية تبحث عن وشاحها حتى تستر به خصلات شعرها الشاردة من عقالها فلا تجده.. خطت ناحية الباب تناشد هروبًا من نظرات الرجل الفجة ليقطع عليها الطريق بوقفته أمامها وذراعاه يحط بهما فوق الإطار من كلا الجانبين يمنع عنها أي منفذ.. وهي أدرى الناس بأمثاله ذوات النفوس الدنيئة، الطامعين في كل ما هو متاح أمام أعينهم.. وهي لن تكون لقمة سائغة لذاك الرذيل، لذا اشتعلت أوداجها وهي تواجه عينيه الثعلبية برفعة حاجبين وأحرفها الجامدة تخرج بثبات:
- عديني.
تلكأت نظراته الجائعة فوق عنقِها الطويل ويدُه تسعى لتطاولٍ على خصلاتها بهمس متبجح:
- مستعجلة ليه يا سماح.. مش سماح بردو؟
- إيدك جاك كسر إيدك.
زعقت بها في وجهه بملامح استوحشت وهي تدفع بكفه قبل أن تمسّها وتعود تصرخ فيه من جديد والنبرة أكثر وحشية:
- بقولك عديني وإلا وديني لأصرخ وأفضحك و...
- بس بس.. عدي ياختي يعني هناخد منك حتة.
التوى ثغرُه بمكرٍ وهو يُفسح لها المجال لتمرّ من أمامِه ونظراتُه تتلكّأ من جديد وتكاد تخترقُها من الخلف.. هرَعت تتناولُ وشاحها وحافظةِ نقودها ثم دارت له برأسِها قبل رحيل ترميه بسبّة تليق بأمثاله:
- راجل كلب.
وجاورتها بصقة فوق الأرض لتفر بعدها للخارج دون أن تأخذَ ثمنَ عرقها، فقط استعوضت ربها فيه ونال خبيث النفس على قدرٍ من الدعوات ليس بهين.
عند ناصية الشارع الرئيسي كانت رابضة داخل سيارتها تنتظرها وما إن لمحت طيفها حتى انتفضت من جلستها..
تقطع عليها الطريق بهتاف متعجّل:
- آنسة سماح؟
دارت بجسدها ناحية الصوت بعنف كأنها تتأهب لعراك ما والنبرة ساخطة دون مجاملة:
- مين تاني أصلها ناقصة!
وحركة رأسها التالية تحثها حتى تتعجل وتعرف بحالها ومبتغاها فلا طاقة بها لغير ذلك.. فاقتربت منها تُلبي رغبتها على عجل:
- آسفة لو جيت كده من غير سابق معرفة بس أنتِ لازم تيجي معايا حالا.
- أجي فين؟ أنتِ مجنونة يا ست أنتِ!
واستدارت بعاصفتها تنوي ابتعادًا فلا ينقصها خبال قطعه ذراع الأخرى يعيق حركتها في توسل:
- أنا ميسون.. أكيد أستاذ حسن حكى لك عن والدك مش كده؟
غامت ملامحها برفض وهي تخلع ذراعها منها بقوة، تنوي ابتعادًا من جديد والنبرة أقرب للقسوة:
- أبويا ميت اللي بتكلميني عنه ده أنا معرفوش.. عن إذنك.
لتعاجلها ميسون وهي تتشبث بها في محاولة لاستدرارعاطفة:
- لأ مامتش وأنتِ عارفة.. باباكي فاق وعايز يشوفك.. والله طلب يشوفك بالاسم.
ومع قسمها كانت تحرك رأسها بتأكيد كأنها تسأل قسماتها المستنكرة التصديق والخنوع ولأنها لم تلقَ جوابًا طرقت فوق الحديد من جديد:
- صدقيني أنا ماعرفش أصل الحكاية.. بس حتى لو عندك حق تعالي معايا شوفيه من باب تحقيق رغبة مريض بيصارع الموت.. ده مابطلش يسأل عنك من وقت ما فاق.
ولا تدري الواجمة كيف ساقتها قدماها لتلبية مطلب الرجل المدعو أبيها.. بنصف وعي كانت تجاورها فوق مقعد سيارة أنيقة تحركت بهما نحو المشفى المنشود، للقاء حانت لحظته.
***
متكومٌ جسدها فوق الفراش بتيبسٍ واضحٍ كأنما فقدت الحركة..
فقط عيناها شاخصةٌ نحو الفراغِ، تستشعر حالها مكبلةً دون قيودٍ..
حقًا دون قيودٍ؟
تسائلت في قرارة نفسها والذاكرةُ تستحضر ماحدث منذ يومين لتبقَ تدور وتدور داخل تلك الحلقة المفرغة دون جوابٍ..
فما تستشعره ناحية المنقذ الهمام ويخبرها به حدسها سيفقدها الصواب..
أفعاله الغير مفسرة تلك وتهربه الدائم من أسئلتها الغير منتهية..
إغلاقه للباب وتحذيراته المكررة بألا تتخطى حيز الحجرة..
كأنها رهينة!
وحين خالفت أوامره وتخطت الحاجز قابلها المكان الغريب من حولها ليثير في نفسها التوجس أكثر ورُغم ذلك تابعت تقدمها حتى وصلت له، كان يمارس طقوسه الرياضية ككل يوم لكن باستفاضةٍ وغضبٍ واضحٍ فسرته ملامحه المكفهرة..
جسده ممدد فوق إحدى آلاته وبين كفيه يحمل أوزانًا ثقيلةً يحركها أينما كان ويبدو غائبًا في دنيا غير دنياها..
- لو سمحت؟
وبمجرد ما لفظت أحرفها كان ينتفض من رقوده لينقض على ذراعها فجأةً ويكشر فوق أنيابه والنبرة مع النظرة كافيتان لولادة تلك الرعدة بكامل جسدها:
- أنتِ إيه اللي طلعك من الأوضة.. أنا مش منبه عليكِ ماتخرجيش مهما حصل!
ورعدتها التي وصلته تمام الوصول هي نفسها من بعثت بتجمع الدمع داخل المقل وتبعثر أحرفها:
- أنا كنت عايزه أطمن على ماما، أنت وعدتني توصلها الجواب وتطمني بس ماحصلش..
ابتعد عنها فجأة كما اقترب، يمسح عن وجهه وهو يتنفس بصعوبةٍ ورأسه تدور في المكان من حوله.. يخبرها بكلماتٍ لونها بشبه اعتذارٍ:
- معلش، حصل معايا شوية ظروف كده فانشغلت غصب عني، هوصله ماتقلقيش.
- لأ، رجعني البيت أرجوك..
حتى لو حياتي هتكون في خطر زي ما بتقول أنا لأزم أشوف أمي..
أنت وعدتني.
قالت جملتها الراجية بنبرةٍ مبحوحةٍ وهي تتلحف بذراعيها حول جسدها وتنهمر دموعها دون رادعٍ لتعود أدارجها إلى الغرفة، ترتكن في زاويتها لتغرق في قلة حيلة وتبتهل في صمتٍ.
وحتى لحظتها هاته تجهل أي بابٍ تطرق ولا أي دربٍ تسلك، تتقاذفها الأفكار المرعبة وتضيع بينها وفي النهاية لا تجد غير باب الرجاء ودروب الصابرين لدى خالقها فتركن إليهما في خنوعٍ علها تجد فيها النجاة.
***
أعلى البناية المتهالكة، تحديدًا فوق السور العريض كان يتمدد بجسده في أريحيةٍ تامةٍ.. ذراعه الأيسر يدعم رأسه بينما ساعده الأيمن يستريح فوق عينيه، صورته توحي كأنما يغط في سباتٍ عميقٍ غير آبهٍ لسقوطٍ من علو تسع طوابق قد يخلف في أحسن حال تهشم فوري لعظامه..
و في الحقيقة هو أبعد ما يكون عن السبات والراحة التامة،
فهناك داخل رأسه تقام حربٌ شعواء..
أفكاره تتصارع وتتناحر بين ضحيةٍ تسكن غرفته، تنوح ليل نهار ولولا غلقه للباب بإحكامٍ أثناء غيابه لكانت فرت منذ أيامٍ، فخيوطه بدأت في التراخي وحتمًا سيفقد زمام الأمور.. وبين صاحب النفوذ الذي يطمح لإقامة ومد جسر للتواصل معه باستغلال فرصةٍ جاءه بها على طبقٍ من ذهبٍ وذلك لن يكون سوى بتقديم فروض الطاعة والولاء أولًا؛ فينال بعدها درع حمايةٍ متينٍ ودعامةٍ جيدةٍ تقيه من شر السقوط في أي لحظةٍ وحتمًا سيسطع نجمه الباهت في علياء سمائهم.. وأخيرًا ذاك الرجل المسمى والده و الذي أتاه من حيث لا يعلم، و رغم قراره الذي اتخذه من وقتها إلا أن عقله لا يمتثل لقراره فيعيق صفاء ذهنه قسرًا.
تستشعر أقدامه تلك الهوة التي تتسع من تحتها وفقط بينه وبين السقوط ليس الكثير.
ماذا أصابه ليخطو بإرادته داخل ذاك الطريق الوعر، ماذا دهاه ليلقي بنفسه في بئرٍ سحيقٍ دون قاعٍ!
ابتلى حاله بفتاةٍ ساذجةٍ لو انفرط عقد لسانها ستطيح بهم جميعًا..
ما الحل؟
وهو ليس بقاتلٍ!
لن يلوث يديه بالدم ولن يخطو داخل الشرك بأقدامه فيسقط حينها دون قيامٍ.. ومؤكد لن يقدم حاله قربان لذوي الأمر تحت بنود الاحتمالات.
وفجأةً من بين عتمة أفكاره التمعت فكرةً ما لربما فيها يكمن الخلاص أو للدقة خلاصه.. انتفض من نومته ليعتدل جالسًا فوق السور وقد انفرج ثغره بظفرٍ، سيأتي بوثيقة ضمانه أولاً ثم يعود بالأمور لنصابها الصحيح ثانياً..
وهكذا قضي الأمر.
***
وكما غادر بها تحت جنح الظلام السرمدي..
عاد بها في ذات التوقيت
على شارع جانبي واسع يبعد عدة أمتارٍ عن الفيلا بأضوائه الخافتة من كلا الجانبين كانا يتقابلان في وقفتهما، بينما يبادلها بسمةً هادئةً لاتشيء بشيء كانت تلتمع مقلتاها في امتنانٍ واعتذارٍ لم يتفوه به لسانها
يخص سوء ظنونها..
أوقف خطواتها المتعجلة بجذبه لرسغها عنوةً وباليد الأخرى كان يحمل قلمًا حط به فوق ساعدها ليدون عليه عدة أرقام، ينهي دور الفارس في إتقان وغمغمة حروف دون أن يطالعها:
- ده رقمي.. لو أي حاجة حصلت معاك كلميني على طول.
ورفع بصره يتمعن في عينيها بنظراته الثاقبة لتسحب هي ذراعها من بين أصابعه تعدل من كم ثوبها بأناملٍ مرتعدةٍ ثم تدير ظهرها دون جوابٍ تحث الخطى على الإسراع نحو بر الأمان، لتأتيها نبرته من جديدٍ تقطع رحيلها وتجبرها على التفاتة:
- نسمة..
وصمت هنيهةً جعلتها تحرك له رأسها في استفسارٍ.. فتابع وشياطينه تصفق:
- خلي بالك من نفسك.
وكادر الصورة يحمل صدد عشقٍ لا يناسب اللحظة
نبرته أربكتها فارتفعت أناملها الرفيعة نحو حجابها تعدل فيه دون حاجةٍ، تهز له رأسها ببطءٍ و إيجابٍ قبل أن تستدير من جديدٍ
وخطواتها تتسابق في هرولةٍ ودقات قلبٍ واجفةٍ.
في منتصف الحديقة توقفت خطواتها بغتةً وتسارع لهاثها ما إن لمحت المدللة لتلتقطها عيني الأخرى فوثبت من فوق الأرجوحه الكبيرة تجحظ بعينيها
وتتسع ضحكتها ولسانها يصرخ بعلوٍ:
- نسمة!.. يا بابااا.. نسمة هنا.. نسمة رجعت..
لتحدجها نسمة بنظرةٍ أخرستها وقطعت هتافها المبتهج قبل أن تعود لهرولتها، تبغي الوصول لأمانها، ستلقي بحالها بين ذراعيها فتنسى كل ما حدث وكان في أيامها الماضية..
وانتهت هرولتها حين قابلتها في رقودها و وجهها الشاحب يعني تلحفها برداء المرض، ركعت جوار فراشها تقبل كفيها، رأسها، وجهها وجل ما تطاله منها، تهمس لها من بين شهقاتها فيفترق جفنا العجوز ببطءٍ وتلتمع دمعة فتسقط يصحبها بسمتها الواهنة ولسان يجاهد فلا يقوى على غير همسٍ متقطع باسمها..
لتتنصل بعدها الروح الطيبة عن الجسد بعد ما ارتوت واطمأنت، تغادر دنيا البشر بطيبها والآسن منها إلى الرفيق الأعلى، حيث الغائبون وبين الجنبات هم حاضرون ، حيث عدالة السماء وقانون رب البشر هو من يسود الملكوت.
![](https://img.wattpad.com/cover/373781970-288-k882364.jpg)
أنت تقرأ
الغنيمة
Romance"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...