(35)
لنا في الحياة خيارات عدة
نحيا.. نموت
نحب.. نكره
نقاتل.. نجبن
ننتصر أو نسقط الراية
لكلٍ منا طريق يمضي فيه مخير لا مسير
ويحدث أن تحيد بك السبل فتغدو واقفًا عند مفترق طرق لا تدري أيهم تسلك؟.. هذا فيه سعادة تشترى وذاك تلوح فيه أخرى لاتباع، هذا درب تكون فيه كما أنت وآخر تغدو فيه غريب؛ ضال عن موطنك بوجه مشوه لاتعرفه..
وأحيانًا تسقط بقلب متاهة!
لاتعي ولايسعفك عقلك بإجابة يستنير بها كيانك المعتم..
ماذا فعل وليده ابن البارحة ليجني ما اقترف أبيه من زمن؟
هل جاء الدنيا ليوفي الدين ويكون الثمن!
سؤال عالق بذهنه يعاد ويكرر في قسوة مهلكة.. أقام المشفى وما أقعدها ولم يجد جوابًا، فتش في كل مكان محتمل أن يكون له فيه أثر، سار بين الشوارع على غير هدى باحثا عن ضآلته ولا محصلة غير اللاجواب.. ماذا يفعل وأين يروح؟!
كيف عساه يخمد تلك النيران الآكلة لكل ذرة من كيانه حتى بات خارج نطاق الزمن، ساقط داخل هوة شديدة الحلاك لا مجال فيها غير لأفكاره المسرطنه.. أفكار تنحدر كلها ناحية ماضٍ مشوه، ملوث بالخطايا والذنوب.. هل قرر أحدهم أن يلاعبه بدناءه ويقتص منه عن طريق صغيره؟
ذلك تفسير منطقي لسؤاله؛ لكن من يكون؟ وكيف سيكون انتقامه الذي يرتضيه والصغير بين يديه!
انتفض جسده على لسعة سيجار ساكن بين السبابة والوسطى، رحلة من الأنفاس الحبيسة وحالما تنتهي تلسع بشرته فينتفض يمرغها في قلب المرمدة ويبدأ رحلة جديدة مع أخرى، رأس تثاقل من زحم الأفكار فدعمه بظهر كفه الآخر يلقي عليه بثقله وبصره الملقى فوق خشب المكتب في وجوم خاو يشير أنه لا يرى ولا يسمع الهمس المتناقل بين ثلاثتهم في الخارج بينما أعينهم تتابع جلسته الممتده منذ ساعات حتى انتصف الليل ولا تغيير.
تطلع إليه أنس في بؤس شديد ثم عاد لهما برأسه مع قسمات تناشدهم العون:
- هنسيبه يحرق في نفسه كده؟
بادلته ميسون النظر في بؤس لا يقل بينما تجيب في قلة حيلة:
- وفي إيدينا إيه نعمله ولسه معملنهوش يا أنس؟
خبر في الجرايد مع عرض لمكافئة كبيرة ونزل بالبونط العريض، وسائل التواصل تتناقل الأمر، ورجال الشرطة يبحثون ويؤدون دورهم كما يقولون..
لم يتركوا سبيل وإلا سلكوه متأملين خير، لكن عقب ثمان وأربعون ساعة على اختفاء الصغير آن للأمل أن يتقهقر عائدًا بخزي إلى جحر اليأس، آن للقلوب أن تفزع وتمضي في دروب الوجع، وصورة لأب مكلوم يرثي حالة بعبق خانق ويربت على حالة بسياط من ندم هي الأكثر تعبيراً عن معنى الوجع الذي استوطن نبرة أخيه حين نهض عن مقعده مقررًا في حدة:
- هكلمه..
ونصف خطوة استوقفته بعدها يد حطت فوق جبيرته لينبعث صوت ماهر بعد صمت طال وقد نهض بدوره:
- خليك.. أنا هكلمه.
أفسح له المجال عائدًا إلى موضعه جوار أخته متنازلًا له عن ثقل الأمر في رحابة صدر.
تقدم ماهر في تردد حتى حسم أمره ودلف عليه دون استئذان، وقف إلى جانبه وكفه المتردد يحط فوق كتفه مع كلمات لايدري من أين يبدأها ولا كيف يتمها في هكذا موقف:
- أنا عارف أن أي كلام ممكن يتقال مش هيهون عليك، لكن خلي أملك في ربنا كبير.
لم يجد صدى صوت لكلماته سوى زفرة طويلة بعبق ضبابي لوثت الرؤية أكثر بينما يتابع ماهر وقد دنا بجذعه إليه وأصابعه تشد فوق كتفه في مؤازرة لا يملك سواها:
- شد حيلك عشان مراتك على الأقل، هي محتاجه لك دلوقتي أكتر من أي وقت فات.
رفع له رأس ثقيل ونظرة خاوية لاتحمل سوى العجز، فتح فمه يزج بالحروف حتى تخرج لكنها ضاعت بين سراديب العقل المشتت فعادت تنطبق شفاهه فوق بعضها في صمت خانق ورأسه المنكس تحيطه الأصابع العشر من كل الجهات في ألم مضاعف.
صمت كسره أنس الذي ولج بصخب، كفه يلوح بالهاتف المحمول مع قسمات نبض فيها الأمل فتهللت:
- في ظابط كلمني حالًا بيقول أنهم لقيوه وعايزك تتعرف عليه.
وما كاد ينهي جملته حتى فزع حسن من جلسته، اندفع إلى الخارج يتبعه الجميع بأمل، تهرول عجلات السيارة فوق الأسفلت بأنفاس لاهثة كأنما قلبه هو من يعدو، لم يتوقف لسانه عن التوسل الخافت..
وكل ذلك انتهى حالما دلف إلى حجرة الضابط فوقع بصره على آخر!
آخر لا يشبه ذاك الذي ضمه لصدره وحفظ تقاطيعة المنمنمة بقلبه قبل عينه، بوجه كالح غادر مقر القسم يتبعه أنس الواجم، لم يحتج مرافيقهم للسؤال والخيبات كانت تملأ الوجوه.
اقترب حسن يرتكز بذراعيه فوق سقف السيارة ورأسه يعلو للسماء في عجز وقهر لا يملك سواهم في هاته اللحظة..
- هيرجع إن شاء الله، إحنا مش ساكتين أكيد هيرجع.
لفظها أنس في محاولة يائسة للمواساة لكن قابلها حسن بصراخ مدوي وكفيه يضربان سطح السيارة:
- أسكت يا أنس، أسكت أنت مش فاهم حاجة..
وبوهن استطرد بينما رأسه يميل للأسفل:
- ماحدش فيكم فاهم حاجة.
ثوان مرت دلف بعدها إلى سيارته واندفع بصرير متعال راقبته الوجوه الواقفة في صمت مشفق.
***
أن تطأ أرض جراحك لهو أمر شاق
حتى تقترب من أوجاعك من جديد يحتاج منك الأمر الكثير من الشجاعة، القوة لتحمل الأمر بل وتقديم كل الدعم المطلوب بينما يدك تضغط فوق مواطن الوجع فيك تمنعها النزف، تمنعها الأنين ولو في صمت..
وربما لم تكن ممتنة يوما لوجودة أكثر من هاته اللحظة، دارت برأسها تتطلع إلى واجهة البناية ثم عادت له في تهدج، أصابعها تفرك في بعضها بقوة و رأسها يتحرك برفض واهن:
- مش هقدر.. هزيد من وجعها مش هعرف أخفف عنها.
تنهد وكفه يحيط بكفيها في دعم لخطوة هي بحاجتها قبل أي مخلوق:
- افتكري يا غنى أنها بحاجتك دلوقتي.
حركت كتفيها في قلة حيلة وعقلها يستوعب الحقيقة المفجعة التي عرفتها منذ ساعتين لا أكثر وعينيها تناشده في توسل:
- هقولها إيه!
- مش مهم تقولي كفاية قوي تحضنيها.
تحرك رأسها توافقه الرأي في خفوت بينما تفتح بابها وتترجل من السيارة، أمام البناية استدارت إليه فدعمها بإشارة من كفه لتتابع سيرها حتى وصلت.
***
أول سقطه يتبعها نهوض
بعد الثانية نعافر
عند الثالثة نصبح أقل ضعفًا من القتال
يكون الأمر فوق طاقة احتمالنا، نصبح أضعف وأكثر وهنا من التصدي للضربات الموجعة، وتلك كانت ضربة قاسمة وليست بموجعة وفقط.
كفها الذي يسير ببطء فوق بطنها المسطح يخبرها أنها خاوية، لم يعد بين ضلوعها لتحميه من الجميع.. ليته بقي هناك لكانت حملته جوار نبضها حتى آخر العمر، كان يكفيها أن تشعر به داخلها..
كيف لصغيرها أن يختفي عن دنياها؟
كيف يحدث ذلك ولم تشبع عيناها من رؤيته بعد؟
لم يحمله ذراعيها ويضمه قلبها غير مرة واحدة..
أي ظلم يحدث!
من حولها تفترش ثيابه، تتحرك فوقهم أناملها تلامسهم كحلم..
حلم امتلكته لبرهة من ثم تسرب من بين أصابعها.. غاصت برأسها بين ركبتيها وذراعيها يحيطان بجسدها المنتفض لذكرى لحظة فقدانه، وليتها لم تصحو من بعدها..
لماذ هي؟
لماذا يكون صغيرها من بين الجميع؟
شهقت بعنف، شهقت بنفس عاجزة كسيرة..
شهقت بوجع أم مكلوم في وليدها..
استدار مقبض الباب وهي على حالها، على استحياء طلت غنى برأسها فرأتها تعتلي فراشها تضم جسدها إليها مع نحيب نافذ بينما ثياب الصغير متناثرة من حولها في فوضى مؤلمة.. خطواتها المتقدمة وازت سيل العبرات الذي انفرط فوق وجنتها دون وعي، على مهل جلست تقابلها في صمت حتى رفعت لها الأم الجزعة رأسا ترتسم فوق ملامحه صورة للألم النابض..
راقبت دموعها الغزيرة ونحيبها الذي تعالى بغصته بينما تنظر لها في قهر، في عجز وقلة حيلة تقتلها..
دون حديثٍ طوقت غنى جسدها المرتعش بكلا ذراعيها، تواسيها بنحيب مرير عنوانه الفقد.
***
نلقي بالكلمة في لحظة غضب غير مدركين أنها قد تودي بمن سلمنا مقاليد الفؤاد في درك الخيبة والخذلان..
حد أننا نفقد كل توالف كان وتصبح الروح هائمة في العراء دون ونيس أو رفيق، وحدها الوحدة رفيق الليالي والأيام التي لا تمر..
لم يأتي على خاطرها حين واربت الباب أن يكون هو الطارق، ظلت تتطلع إلى وجهه في غير استيعاب حتى جمعت شتات نفسها وإبتعدت تفسح له المجال و كفها يمتد مشيرًا له في صمت ليتفضل بالدخول.
دلف أحمد إلى حجرة الصالون ومن خلفه كان تسير، جلست قبالته فوق مقعد منفرد في صمت، راقب وجهها على مهل وملامحها الباكية رققت قلبه قبل ما ينطق بعتب:
- إزاي متدنيش خبر باللي حصل؟
أيلومها!
ابتلعت لعابها في صمت بينما عبراتها تنحدر ببطء فوق وجنتيها، قطعهم بعنف بواسطة محرمة ورقية مغمغمة في حدة:
- وأنا كنت في إيه ولا إيه!
تغاضى عن حدتها وقدر الموقف العصيب حين عاد يدمدم:
- ربنا يرده سالم لحضن أمه وأبوه، هو حسن فين مش عارف أوصل له من الصبح؟
- ابنه مخطوف هيكون فين غير بيدور ويلف عليه.
هتفت بها حانقة متهدجة بينما وتيرة بكاءها تزيد، نهض عن كرسيه وراح عندها يحط بكفه فوق رأسها، يقربها إليه وصوته الحنون يخترق ضلوعها:
- بطلي عياط وأدعي له يرجع بالسلامة.
شهقت بقوة:
- وهو بإيدي يعني.
- في حاجة ممكن أعملها؟
همس بها في قلة حيلة غير آبه بقربه الذي يطيح بثباتها، حربها الشعواء القائمة بين قلبها الضعيف وكرامتها الجريحة، وعند ذكر الكرامة استعادت تلك الليلة المشؤومة ودون لحظة تفكير أخرى حسمت القرار.. مدت كفها تدفع به بعيدًا عنها، تهدأ من حالها وتمسح دمعها:
- كتر خيرك.
قالتها ساخرة واستقامت عاقدة ساعديها فوق صدرها:
- ولو عايز حسن هتلاقيه في مكان شغله، روح اسأله لو محتاج حاجة.
لا ينكر أنها نجحت وبجدارة في إثارة سخطه، تمالك نفسه احتراماً لأصحاب الدار الغائبين ومصابهم الكبير مقررا أن يمضي حتى النهاية بأصله:
- وأنتِ مش محتاجة حاجة؟
- عمري ما احتاجت لمخلوق قبل كده عشان أحتاج دلوقتي.
كيف لفظتها باردة، سخيفة!
هل تثأر لكلمات قالها في فورة غضب؟ أليس هي من وضعت بينهما الجسور.. هل تلومه الآن؟
بوجه جامد ونبرة باردة تماثل خاصتها دمدم مع نظرة طالت كدهر:
- ماشي يا سماح.
استدار بعدها ببساطة.. ورحل.
ظلت تتبع خطواته بشفاه تنتفض باكية حتى أختفى، ألقت بجسدها فوق المقعد من خلفها وضمت وجهها بين كفيها في نحيب لم ينضب بعد.
***
الخسران..
لم يكن يومًا اختيار، لكننا دوما مجبرين على القبول فيه
آملين من بعده في شمس النصر
خسران يتبعه نضوج، وآخر يكسبك خبرات
وأخير يقتات من روحك على مهل
كم مر على سيره فوق الطرقات دون هدى؟
ساعة.. إثنان.. ثلاث، فقد القدرة على العد وفقد جسده كل ذرة تحمل حتى أنَّت عظامه وتكالب الألم فوق منكبيه.
دلف إلى بيته مثقل الخطى، قابل الجالسين بوجه جامد لا ينبأ عن شيء، كان أنس يلقي برأسه فوق حافة المقعد بنظرات جامدة بينما تجاور ميسون غنى وتتوسطهم سماح في صمت بغيض ابتلع الجميع..
تخطى مجلسهم دون حديث فأوقفته سماح بكف حط فوق ساعده، تسأله بلهف قلبها:
- غايب فين كل ده؛ قلقتني عليك!
تحرك حلقه الجاف دون حديث بينما قالت عيناه الكثير، كانت نظرته ضائعة، مشتته يحيطها السواد، بادلت عجزه بآخر وأسنانها تطبق فوق شفاها تمنع شهقات لا تنفذ، حتى قرر الهرب من تحت أنظارها والجميع بخطى مبتعدة.
إضاءة الغرفة شاحبة كحال أيامهم، كانت تحتل ركن منزو تلوذ وتلتجأ لربها في صمت، أغلق الباب من خلفه وخطى مقتربا، ترك سترته العالقة فوق ساعده للسقوط كما ترك لجسده حرية التهالك إلى جوارها فوق الأرضية المصقلة، يلقي برأسه المثقل فوق حافة الفراش ويعانق بصره السقف.. بعد حين كانت تراقب جلوسه المتهالك وقد بان عليه ظواهر الإعياء بشدة، وكل ذلك يعني أن لا خبر، لا جديد..
ضمت بكفيها إلى صدرها تبتلع غصتها وتسأل ربها لقلبها السكينة وأن يلهمها الصبر في مصابها الكبير، لم تدر أن وتيرة أنينها تعالت حين كان بصرها يرتكز عليه وأنفاسها تتهدج بحرارة، إعتدل مع تعالي النهنهات يبادل عينيها الذابلة النظر، تجافيه الأحرف وقد ضاعت منه الصيغ فبات لا يقوى على حديث يؤلمه، بل يطعنه دون رحمة، أخذ بها إلى صدره، يحد من بكاءها بربتات فوق الرأس لم تفلح بينما همسها الذبيح يتحرر من عقاله دون وعي لينفذ إلى خافقه القريب:
- مالحقتش أحفظ ملامحه.
أصابته كلماتها في عمق روحه، أطبق فوق جفنيه يمنع عبرات حارقة من هطول، فإن فعلت أراحت ووقت الراحة لم يحن بعد، شد على ضمها بينما تستطرد بوجع، تعري حقائق مفجعة يحدثها بها قلبها من بين نحيبها:
- علي هيكون التمن ياحسن؟!
وابتعدت عن مرماه تنظر لعينيه، تبحث فيهما عن أملٍ واهٍ يُطمئن قلبها النازف.. طأطأ برأسه وأنفاسه الهادرة تخبرها أنه عاجز مثلها وأكثر وليت بين يديه ما يملكه لكان قدمه قربانًا حتى تصمت وألاتزيد من سلسال عذاباته المتصل.
تابعت وأصابعها تتعلق في قميصه بقسوة جريح:
- رجعلي ابني ياحسن..
ثم هذرت وكفها فوق موضع قلبها الأجوف في كلمات واهنة تقطع لها نياط القلب:
- أنا بموت.
أحاط وجهها بكفيه، مال بجبهته فوق جبهتها بينما لسانه يدمدم بوعد وحده الله يعلم إن كان سيفي به أم...:
- هيرجع.. إن شاء الله هيرجع.
لفظ الأولى بيقين وتبعتها الأخرى بوهن مؤكد، وفي لحظتها لاتملك غير الركون إليه وتصديقه، غير التشبث بقشة وهي الغريق في بحور الألم.
لم يعِ كم مر من الوقت وهي تنتحب فوق صدره حتى اخترق مسامعهما جرس الباب المتعال ففزع كلاهما على أمل وليد، هرع إلى الخارج ومن خلفه كانت تهرول، وجد باب الشقة مشرع وأنس الواقف داخل إطاره يرمق عتبته بقسمات متغضنة، لم يحتج لبرهة من التفكير إذ أفسح المجال ليرى صندوق مربع يستكين فوق عتب الباب.
أخذ الصندوق بوجل وفتحه عنوةً ليرتج جسده مع رؤية ملابس الصغير الغائب ملطخة بالدماء!
***
هل سمعتم من قبل عن قهر الرجال؟
إذًا فانصتوا..
ينحني بجذعه فوق الأرض الترابية يحيطه ظلام موحش، ولا همس غير لنهنهات متقطعة آتية من جوف يحترق.. من غيرها سيكون ملاذ وسكن لجرحه النازف؟
أين يروح عقب ما اسودت في وجهه الدنيا وضاقت؟
ومن غيرها جنته وناره.
يلتصق جسده بقبرها وبين أصابعه تسكن ثياب الصغير، رفعها يشتم بقايا عبق يسكنها ثم أنزلها فوق فمه يقبلها هناك ويكتم بها نحيب يجرح حلقه، تولد العبرات من منبعهم لتنتهي فوقها.
هل فقده للأبد؟
أهكذا تنتهي الحكاية!
ولأن القلب المكلوم إكرامة في دفنه، هو فعل..
تحركت أظافره تنبش التربة دون وعيٍ حتى صنع حفرة صغيرة ترك فيها ثياب الصغير المعبقة بدمائه، ومع كل حفنة تراب يعود بها كانت تجاورها دقة من نابضه، أخرى وأخرى حتى انتهى.
رفع بصره للسماء الغائمة وصرخ، تبعتها ثانية ورابعة وسيظل يصرخ ويصرخ حتى يصل لنهاية كل ألمٍ مستعر عايشة منذ وقع بصره فوق ثياب الصغير وكل لحظة سيحياها من بعده.
فوق قبرها ألقى برأسه المتعب، وبكاؤه العنيف يخترق السكون الموحش كاسرًا صمت الأموات المخيف..
يرتج جسده ويبكي عمرًا ضاع عبثًا..
يبكي نفسًا غريبة تسكنه وماعاد يعرفها..
يبكي صغيرًا كان الثمن لما اقترفت يداه في حق أمه قبل الجميع..
وظل يبكي ويبكي كما لم يفعل من قبل.
أنت تقرأ
الغنيمة
Romans"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...