(27)
لكل مخطىءٍ جزاءٌ يوازي مقدار ما إقترف من زَلَل..
تلك حقيقةٌ لا يمكن إنكارها، وهو سقط بل تمرغ بشيءٍ من وحل وكان لابد من عقاب كاف، وكانت المعادلة أكثر من بسيطة..
تريد المال؟
إذن اعمل واكتسب بعرق جبينك.
أمر صدر عن أخيه لأبيه في سيطرة تامة عقب ما تولى زمام أموره وصار هو المسئول عن كل قرش يخصه ولا يطاله إلا عن طريق يده شخصيا، أمر جاء بتأييد من أمه وأخته..
الجميع وقف ضده، لكن لا بأس فليفعل مايبغون على أية حال هو لايهوى مقاعد الدراسة كثيرًا وثلاث أيام للجامعة تكفي وتزيد، أما عن باقي الأيام ها هو يحتل بقعته الأثيرة داخل معمل الألبان والذي تعين فيه كمساعد رئيس العاملين، ولأن الرئيس هو العم عبدالحميد الرجل الطيب؛ صديق أبيه الراحل لا ضرار في ذلك فهو يغطي عليه دائما ويشيد بإسمه دونما يفعل شيء يذكر سوى قضاء ساعات العمل في النقر فوق شاشة الهاتف الخاص فيه..
- صباح النور يا ريس.
إنتفض من خموله على رد التحية الخاصة بأخيه، فالعاملين يخصونه بلفظة"ريس" كما يفعلون مع عبدالحميد ويرون أنها تناسبه أكثر من الألقاب الأخرى الأكثر رقيا وتنميق.
أشار له من البعيد فتقدم ناحيته على الفور، لو رآه أحد زملاءه بذلك الحذاء طويل الرقبة والغطاء القميء الذي يحتل رأسه كسائر الجميع لكانوا اتخذوه أضحوكة العام..
لاحق خطواته حتى الخارج بعيدًا عن الضوضاء القائمة بالداخل حتى قابله ملتقطا أنفاسه:
- صباحوو
- إيه الأخبار؟
- كله إشطا.
مط حسن شفاهه في عدم رضا وبصره يحوم فوق بضعة أوراق ساكنة يمناه، رفع منظاره الشمسي فوق خصلاته التي عادت لعهدها القديم إذ زادت مؤخرًا طولا وكثافة:
- مش باين يعني يا أستاذ، طلبية الحاج سلامة متأخرة عن ميعاد تسليمها بتاع ساعتين ونص.. أفهم ليه؟
نفخ أنس في ضجر:
- ما تسأل عبدالحميد؟
- بذمتك مش مكسوف وأنت مش عارف تتابع كام طلبية لكام محل صغير؟.. أنت المسؤول قدامي مش عبدالحميد ويكون في علمك يحصل تأخير تاني فيها خصم على طول.
ثم حدجه بنظرة ظهر فيها الإستياء:
- وبعدين إنشف شوية عشان العمال يعملوا لك حساب.
تحداه حسن برفعة حاجب أن يعترض أو ينطق فأطلق زفرة مغتاظة أودعها كل ما يشعر ليستفزه أكثر بضحكة صفراء سكتا على أثرها أو بالأحرى هي رسالة وصلت الأخير الذي أخرج هاتفه منذ لحظات ليبحث فيه عن رقم ما فجاءته تلك الرسالة النصية التي وصلت للتو حد أنها أخرسته.. كانت تحمل أسمها!
لم يطق صبراً وهو يفتحها لتمر عيناه فوق مضمونها والذي لم يكن سوى ثلاث كلمات فقط، وما إن إستوعب عقله فحواها حتى سكنت قسماته وذاب عنه قناع الإستفزاز الذي كان يناوش فيه أخيه عن قصد منذ لحظات ولم يتبقى له سوى الدهشة!
تركه أنس مشغولا بالهاتف الذي يطالعه في دهشة وسار يمسد عنقه الذي تشنج من طول الجلوس منذ الصباح، عبر الأرض الفسيحة المكسوة بالعشب، ألقى بالتحية على بعض من العاملين في طريقه حتى وصل عند حوض مربع الشكل يمتلأ بالمياه المستخرجة من باطن الأرض، يعلوه جانبا آلة ضخمة يجهل إسمها لكنها تقوم بمهمة الصنبور لكن بحجم مضاعف، حرك الذراع وتلقف بكفه الحر دفقات المياة الغزيرة يقذف بها على وجهه وشعره المتوهج بصهد الظهيرة، غمرته برودة المياه في انتعاش حد أنه أغرق قميصه الأصفر الشاحب، خلع الحذاء اللعين ليترك لأقدامه الحافية حرية التمتع ببرودة العشب من تحتها لينتشي بذلك الشعور وهو يحتل حافة الحوض في جلوس مريح، ولم يكتفي بل قرر أخذ فسحة ظليلة أسفل تلك الشجرة التي تحجب عنه أشعة الشمس بالأغصان المورقة، فك أزرار قميصه واحد تلو آخر حتى إنتهى فخلعه وألقى به فوق وجهه مغمضا عيناه من أسفله لتكتمل لحظته حد الإستجمام، استوى عاري الجذع إلا من سروال كتاني يستره، تضربه النسمات في تحبب، ظل على حاله لأكثر من عشرون دقيقة لم يقطع متعة خلوته سوى شهقة فزعه خرجت من مصدر أنثوي بحت!
في تباطىء رفع أصابعه يسحب طرف القميص ليسقط عن وجهه ويكشف عن فمه المفغر ليجدها أمامه..
وشاح ذا زرقة صافية يضم وجه مليح على ما يظن فهذا ما بدى من خلف ساعدها الراقد فوق عينيها فحجب عنه الرؤية التامة، يتبعه ثوب كحلي يلف منحنيات لا بأس بها وإن كانت تميل للنحافة أكثر، بينما النصف الآخر للثوب الخفيف كان يتطاير بفعل الهواء ليكشف قليلا عن ساقين.. مغريان!
ساعدها الذي تعصب عينيها بواسطته في حرج وخجل على حد السواء منحه المجال كي يشملها في نظرة سريعة استرعى بعدها إنتباهه ليستقيم واقفا متنحنا يتصنع الحرج بنبرة تماثله:
- آسف..
ما إن صدح صوته حتى تحركت في عشوائية بعيون مازالت محجوب عنها الرؤيا منذ أن صعقها ذلك المشهد المريع!
حاولت تجاوزه بذات الوضعية فتحركت من جهة اليمين فكانت وجهته، تعثرت فيه وراحت لليسار فتبعها دون قصد وعند الثالثة زفرت بقوة وساعدها يتنحى جانبا وقد ضاقت ذراعا من ذلك المخبول، كشفت عن عينيها الكحيلة بينما الحنق يرسم نقوشه وتعلو نبرته:
- إيه التخلف ده يابني آدم أنت!
لوهلة أخذه جمال عينيها بطبيعتهم الساحرة إستعاد بعدها رباطة جأشه ورفع كفيه جوار رأسه يعلن إستسلامه مع بسمة بريئة أجاد رسمها تملكت من ثغره:
-آسف تاني.
كتفت ساعديها فوق صدرها بينما ترمقه بطرف بصرها، كان ينهي غلق آخر زر من قميصه حين طالعته في إزدراء لم يختفي بعد لكن حجمه إعتذاره على أية حال:
- حصل خير.. ممكن أعدي بقى؟
- إيه هتنزلي تاخدي غطس!
قالها بسماجة مقصودة وإبهامه يشير ناحية الحوض من خلفه لتكرمش وجهها في تهكم واضح وبصرها يرتفع لما وراءه:
- لا هدخل بيتنا يا ظريف.
رمق البيت المقصود والقابع على بعد خطوات منه في دهشة عاد بها حيث هي فوجدها تحركت بالفعل وكادت أن تتخطاه حين أوقف خطواتها بنبرة جادة تلك المرة:
- ده بيت الريس عبدالحميد!
أوقفت الخطى واستدارات تقابل دهشته بتخصر وهتاف مغيظ:
- وأنا بنته عند سعادتك إعتراض ولا حاجة؟
حقيقة لا يعلم لما الجميع يعامله بذلك الأسلوب كأنه القط الذي أكل عشاءهم، تجاوز عن سماجة نبرتها وجهله في معرفة أن لعبد الحميد ابنة من الأساس وعاد يجلس فوق حافة الحوض، يرتدي حذاءه متخذا من التسلية سبيل:
- ده عبده ده حبيبي.. وأنتِ اسمك إيه بقى؟
- وأنت مالك!
قالتها قوية متعجبة من وقاحة هذا الجالس أمامها ويرتدي حذاءه على أكثر من مهل، ليرد متابعا تسليته بنبرة بدت باردة تلك المرة:
- ماقصدش حاجة على فكرة أنا بس مش عاوزك تفهميني غلط، أنا تعبت من الشغل وحبيت أريح شوية وماخدتش بالي أن في حد موجود، ياريت بابا مايعرفش بقى يا اسمك أيه أصل دي فيها خصم..
صمت لبرهة وعاد بعدها يرسم كل ملامح الأسى فوق قسماته وقد اعجبته التمثيلية المبتذلة، استقام ململما الكرامة الجريحة بإقناع يستحق الأوسكار:
- أنا لولا أمي المريضة ماكنش همني، على كل حال أنتِ وضميرك.
وإستدار راحلا يداري بسمته العابثة بينما ظلت هي تحملق فيه برأس تمايل جانبًا في تأثر دام للحظات تحول بعدها لعقدة جبين غير مقتنعة لكن هيئته تشبه العاملين بعض الشيء إذن هو بالفعل يعمل هنا لكن كيف وهي ترآه لأول مرة!
أجابت على حالها بحركة كتفين غير مهتمة وتابعت طريقها إلى الداخل.
***
حين تكون حربك الخاصة خالية من الغنائم تتزعزع فيك رغبة الوصول، تضيع بين أن تكون المقدام الشجاع وبين تقبل الهزيمة بنفس راضية.. في النهاية المكسب والخسارة كلاهما لك سيان.
تكره أن تكون لعاطفتها الكلمة العليا، لكن منذ آخر حديث جمع بينهما وبالفعل لا يوجد غير العاطفة هي من تستلم دفتها وتحركها كيفما تريد.
كرهت أن تكون تلك الضعيفة التي ترتكن إلى جدار القلب تبكي حالها، لكنها ترتكن إلى ما كرهت؛ ليس بضعف يتلبسها أنما بروح حائرة. شق فيها يناشدها أن تمد له يد العون وتخلصه من بقايا ذلك المستنقع العالق فيه، تصدق أنه يبغي صلاح وأنها الطريق الوحيد الذي يهتدي إليه..
وشق خائف، فاقد للثقة.. يسألها كيف ترضين؟ ماذا لو خذلك وكان ذلك كله ماهو إلا وجه جديد لصاحبه سوف تختبرين تباعته فيما بعد.. وحينها حتما ستنتهي وتلك المرة ليست وحدها بل معها قطعة منه ستظل تذكرها فيه ماحييت..
كان هذا حالها منذ يومان، تحديدًا منذ أن كشف لها عن غطاء روحه وباح لها بشيء من خاطره.
من خلف مكتبها داخل حصون الجامعة كانت تستكين في شرود تام حجبها عن بقية الزملاء من حولها، رفعت كفها في تردد خفي تمسد بطنها المسطحة، كيف راودتها نفسها عن قتل روحها الصغيرة!
كانت قانطة، تعسة الروح والنفس، مرت بلحظات عصيبة فقدت فيها عقلها وفكرت في أشياء تعرف جيدًا مدى تحريمها..
"أستغفر الله العظيم"
حركت بها شفاها في صمت، بعدها أطبقت جفنيها تسأل ربها العون فيما إختارت، تسأله الرشاد في دربها الذي قدر لها منذ زمن.
فقد تراجعت عن قضيتها وقبلت بعرضه.
هذا ما فعلت عقب تفكير قتلها لليلتين، كانت قضية خاسرة على كل حال، بعد إحتضانها لطفله؛ هكذا هي..
وربما هي تعبت بحق، أجهدها كثرة الدوران في دائرة مفرغه بدايتها ونهايتها عنده و كلما ابتعدت تجدها إقتربت أكثر، تقاتل شخصه تارة وقلبها أخرى!.. لتستمع إليه تلك المرة وتوحد الجميع في درب واحد علها تجد فيه ما أضاعت.
سحبت الهاتف من داخل حقيبة يدها، عليها أن تنهي الأمر فقد طال أكثر مما يجب ولأنها لا تملك الشجاعة الكافية حتى تخبره بقرارها وعينها في عينه قررت أن تبعث له برسالة تحمل المختصر المفيد.. مضى ثلث الساعة وهي تكتب وتمحي في تردد وحيرة حتى جاءت بالخلاصة..
"أنا سحبت القضية"
وإنتهى الأمر الشاق بنقرة إرسال.
- مش ناوية تروحي يا نسمة ولا أيه؟
جاءتها نبرة زميلتها المهتمة لتنشلها من بئر شرودها الذي ابتلعها منذ صباح اليوم حتى نهايته، لا تذكر كلمة مما القت على طلابها كانت تتعامل بآليه دون تركيز فجل تركيزها تحول لصورته وهو يتلقى رسالتها، وفي حالهما كيف سيكون؟ كيف تألف ذلك الغريب القاصي عن نفسها القريب لنبضها!
نفضت رأسها تقطع السيل المنهمر دون توقف واستقامت تلملم أغراضها بينما تهز برأسها للزميلة المنتظره في إيجاب صامت.
خرجتا سويا وعند البوابة الخارجية ودعتها بضمة وقبلة روتينية لتبتعد بالخطى عدة أمتار صدمت بعدها برؤيته!
بسروال سكري يعلوه قميص شديد البياض يرتكز على جانب السيارة عاقدا ساقيه ويدس بكفاه داخل جيوبه، يتطلع جانبا ويحجب بصره عن الجميع بمنظار شمسي وإن لمحت فيما ظهر من قسماته شيء من شرود.. دار بصرها من حولها في قلق، كيف تراها العيون ولا أحد يعرف بأمر زواجها!
اقتربت بجسارة، تصارع شعورها المتضارب بنبرة حادة:
- أنت بتعمل أيه هنا!؟..
استدار لها برأسه فخرجت أنفاسها مضطربة، حانقه من حضوره الغير مرغوب فيه في هاته اللحظة وبين هذا المنظار اللعين الذي يعيق لها رؤية نظراته التي تشعر بها تخترفها من خلفه.
- ماحدش هنا يعرف إني متجوزه.
أنهت جملتها المغتاظة وصمتت بعقدة حاجبين أودعتها حنقها بينما ظل هو يتطلع إليها في صمت دام لثوان شعرت بها كدهر حتى هتف أخيرًا بنبرة لا تشيء بشيء وإن ظهر فيها بعض الجفاء:
- اطلعي العربية.
وتحت نظراتها المشدوهه فتح الباب ثم إستقر خلف المقود، لحقت به عقب لحظات تخفي ضيقها من صلافته بزفرة طويلة، تحرك بذات الصمت حتى سألها بعد حين عن وجهتها دونما إلتفات:
- على الشغل؟
- على البيت.. خلاص مافيش شغل.
قالتها بفتور دونما تلتفت بدورها ليدور برأسه ناحيتها وقد استرعت انتباهه، يسألها بنبرة بانت مهتمة:
- حصل إيه؟
- صاحبة المحل هتبيعه.
ظل يراقب صمتها وهدوئها المعتاد، يعلم بمكانة ذلك العمل من لدنها، يتذكر جيداً خطابها الذي أخبرته فيه كيف تحب ذلك العمل لأنه يشعرها بروح أمها من حولها حتى أصبحت تجد فيه شغفا يسعدها.
- متضايقه؟
حركت رأسها تنظر له في صمت ثم أجابت دون إهتمام:
- شوية.. بس عادي هتعود.
لا يدري سبب ذلك العبوس، هل لأجل العمل الذي كان يجهل بأمره أم علها تشعر بالندم!
ندم على ثلاث كلمات أرسلتهم ببساطة ولا تعلم كيف كان صداهم في نفسه، كيف لها أن تعلم إن كان نفسه يجهل عما يدور بين ضلوعه، أراد رؤيتها لم يكن لينتظر المساء حتى يفعل، حمل حاله وبدالا من الذهاب للعمل جاء إليها، لحظة وقع بصره عليها ود لو ضمها إليه، رغبة شديدة ألحت ليفعها لكن حين أتمت جملتها التالية جمدت فيه كل شعور.
كيف عساه يذيب تلك التلال من الثلوج التي تفصلهما عن بعضهما وتقطع كل تواصل مشروع؟
توقف أسفل البناية وهمت بالنزول فجمد حركتها بجملته الهادئة وقد زينها بمكر خفي:
- مش هتأخر بالليل.
دارت بجسمها في بطء وقد جمدتها جملته المبطنة للحظات حتى استوعبتها، نجحت في رسم وجه لامبالي مع خلفية باردة قابلت بها نظراته التي يخفيها خلف منظاره المستفز مثله:
- براحتك.
قالتها مختصرة ثم ترجلت وخطت بثقة أمام نظراته التي ظلت ترمقها حتى إختفت ليتبعها بزفير طويل تحرك من بعده.
***
- عاوزينك تمسك قسم التسويق للشركة في المقر الجديد.. أيه رأيك؟
حول المائدة المستديرة كان يجتمع ثلاثتهم في إجتماع مصغر تحت طلب منه، بحماس كان يتحدث ويفند الأمور ليأتيه الجواب على لسان ماهر البغدادي في تردد:
- بصراحة أنا توقعت حملة جديدة..
وتنهد حائرًا:
- مش عارف أقولك إيه يا حسن بس أنت عارف أني مستحيل أتخلى عن شغلي الخاص بعد اللي وصلت له، وحقيقي شاكر لعرضك وثقتك.
وافقت ميسون مبدأه في صمت بينما اضطجع حسن في جلسته مدمدما:
- شوف يا ماهر أنا محتاج لك الفترة الجاية، إسمنا رجع يسمع في السوق بشكل كبير بس أنا عاوز أوصل للمحافظات والخطوة اللي بعدها هتكون أوسع بإذن الله.. واحنا جربناك وماعندناش وقت ندور على حد تاني يكون بنفس الكفاءة.
تناولت منه ميسون طرف الخيط لتتدخل في نوع من الإقناع:
- ولو على شغلك الخاص عادي يفضل زي ماهو، أنت تقدر تقسم وقتك بين الأتنين، احنا واثقين في قدراتك.
تلاعب بالقلم بين أصابعه في تفكير لم يطل وبصره يتنقل فيما بينهما حتى غمغم:
- طيب يا جماعة؛ محتاج أتكلم مع التيم بتاعي عشان لو اتفقنا هيكون جزء منهم معايا هنا، أنا مش هعرف أشتغل مع حد جديد.
هتف حسن متفائلا:
- خد وقتك يا باشا.
- ربنا يوفقكم.
وغادرهم مستئذنا.
كانت تحرك قدمها في حركة رتيبة بينما بصرها يرتكز فوق حسن الذي يجري مكالمة مستعجلة، تلك الطاقة من الحماس التي يطلقها منذ أيام على قدر تفائلها على قدر ما زرعت فيها بعض التوجس، دائرة العمل تتسع والمسؤولية تزيد الضعف وهي تسير من خلفه موافقة على كل ما ينتوي فبالرغم من توجسها إلا أن لثقتها النصيب الأكبر.
- بتفكري في إيه؟
- حاسه موضوع المقر الجديد ده مش وقته وهيكلفنا كتير.
- إسمنا بيكبر وطبيعي يكون لنا واجهة تشرف قدام الاسماء اللي بنتعامل معاها واللي لسه هنتعامل.. في السوق عشان تخطفي العين مهم تكوني بتلمعي من بره زي من جوه والمكان هنا صغير وناقصه كتير.
- هو فعلا ناقصنا كتير.
قالتها بإيماءه لتستطرد بعد حين:
- شفت أنس النهاردة؟
كان يدقق بعض الأورق حين أجابها دونما يرفع بصره مهمهما:
- همممم شفته في المزرعة الصبح، حصل منه حاجة تاني ولا إيه؟
- لأ خالص بالعكس ده ماشي زي المسطرة، بيرجع من الشغل هلكان ويترمي على السرير مايحسش بنفسه.. أنا بس مش عايزه نشد عليه جامد فيجي وقت وينفجر فينا كلنا، أصلك ماتعرفهوش؛ أنس ده مش بتاع شغل.
- سيبي أنس عليّ وركزي معايا هنا، الفترة الجاية محتاجين ضعف المجهود.
وافقته بإيماءه صغيرة وقد زارها حماسه.
***
ولج بهدوء ينافي شعوره الداخلي لتقابله جلستها المتحفزة داخل عباءة فضفاضه بلون زاهي وأكمام قصيرة.. وكأنها في انتظاره!
لا ينكر تمنى أن يجدها في انتظاره بالفعل لكن بصورة مغايرة بعض الشيء، على الأقل تكون خالية من ذلك القناع الجامد الذي ترتديه منذ الصباح وكأنها تعاقبه على موافقتها التي أثلجت بها صدره.
- مساء الخير.
ألقى بها بينما يتقدم ناحيتها داخل البهو الفسيح في خطوات وئيدة حتى ارتاح فوق المقعد المجاور وحينها وصله ردها الخافت.. الجامد:
- مساء النور.
راقب جلوسها المتحفز وهي تضع ساق فوق الأخرى وكفيها يرتاحان أعلاهم بينما بصرها يرتكز أمامها عند نقطة وهمية، تهتف بذات الجمود:
- محتاجين نتكلم.. ممكن؟
حاول كتم ضحكته بعضة شفاه جانبية إلا أنها أبت لتطفو فوق ثغره، لقطتها عيناها من فورها:
- في إيه يضحك معلش!
رفع حاجبه الأيسر ساخرًا من تفكيره الضحل:
- أصل تخيلت حاجة وطلعت..
وأشار بإبهامة المقلوب ناحية الأسفل، نهضت من جلستها المتحفزه وقد كسى الغضب لهجتها:
- طيب عن إذنك ولما تعرف تتكلم جد نبقى نتكلم.
لاحق خطواتها وهو يمسك بذراعها يحثها على التوقف حتى فعلت وحينها دمدم أمام وجهها بأعصاب جاهد ليتحكم فيها حتى لا يكسر لها عنقها في هاته اللحظة تحديدًا:
- عايزه تقولي إيه؟
أزاحت كفه عنها وهي تلملم عبائتها من حولها في حدة، عقدت ساعديها فوق صدرها وهتفت بنبرة واضحة:
- عايزه أحط النقط فوق الحروف، أو ممكن تعتبرها شروط زي ما تحب..
دونما انتظار للرد فردت إبهامها معددة ونظرتها تخترق نظرته بأنفاس حبيسة:
- أول حاجة لآزم تعرفها أن موافقتي مالهاش أي سبب غير أني مش عايزه أظلم روح مالهاش أي ذنب في كل اللي بيحصل ده وأنك مسؤول عنها زيي تمام فمش معقول هشيل الليلة دي لوحدي وحضرتك مرتاح.. وطبعا دي موافقة مرهونة بفترة الحمل بعد كده هيكون ليا حرية الإختيار زي ما وعدتني.
والثاني جاء بالسبابة في تجلجل خفي:
- ثانيًا وده الأهم.. شغلي مالكش دعوة بيه خالص، وحياتي الخاصة مش مشاع للغير فياريت اللي حصل النهاردة مايتكررش تاني.
صمتت لبرهة غضت فيها الطرف عن صمته العابس لتتابع في تردد ظهر جليًا:
- ثالثًا، بحب يكون ليا مساحتي الخاصة يعني مش لآزم كل حاجة تخصني تعرفها.. وآخر حاجة أنا محتاجة وقت عشان أتعود على وجودك فياريت تقدر ده وماتفرضش عليّ أي حاجة عارف أنها ممكن تضايقني.
- حلوة.
- نعم!
- العباية اللي أنتِ لابساها حلوة.
قالها بنصف إبتسامة متسلية بينما صمتت هي تلتقط أنفاسها اللآهثة زاوية مابين حاجبيها من الخط الساخر الذي يتبعه في حين نكس برأسه وأصابعه تتلاعب في سلسلة مفاتيحه ليصدمها بتجاهله واستخفافه لحديثها الجاد، زفرت بحنق تنوي إبتعاد فباغتها بقبضة أحكمت حول معصمها ثبتتها في مكانها، حين رفعت بصرها قابلتها نظراته القاتمة:
- طالما فيها شروط يبقى تسمعي مني أنا كمان.
ولم ينتظر كما فعلت ودمدم بجدية تامة مستهلا الشروط خاصته:
- أولًا؛ مش مسموح لك تقلبي في القديم حتى بكلمة، إحنا ولاد النهاردة لحد ما تاخدي قرارك وأنا عند كلمتي.
تابع وضغط أصابعه يرتخي وقربه يزداد:
- ثانيًا؛ جو تصرفي على نفسك والأكل الدليفري ده تنسيه، شوفي واجباتك كست واعمليها زي ما أنا عارف واجباتي كراجل ومش ناوي أقصر فيها.
وصلته إرتعاشة جسدها تحت أنامله التي لامست ذقنها بخفة، يقترب لحد خطير مغمغمًا في هدوء:
- ثالثًا؛ أنا هنا راجل البيت وراجل البيت مايحبش مراته تتشرط عليه بس هسامحك عشان دي أول مرة.
حررها ما إن انتهى واستدار من أمامها، غاب داخل دورة المياة ليصلها صوت رشاش الماء ينبعث على مهل، ظلت ترمق مكانه الفارغ بعيون محدقة حتى إستقر كل حرف من حروفه داخل رأسها الصلد الذي أبى النوم قبل ما تقذف بشروطها في وجهه حتى لا يظن أنها رضخت لأجله.. لا تعلم سببا لتلك النزعة الغاضبة التي استقبلته فيها غير أنها متوترة، منذ أن جاء بها في منتصف النهار وهي على حالها متعثرة الأفكار والمشاعر، وحين تأخر في العودة وقد ظنت أنه لن يفعل اشتاطت غضبا وأشهرت في وجهه أسلحتها ما إن حضر.
تحركت في قنوط أبدلت ملابسها بأخرى خفيفة وإندست داخل الفراش، لا طائل من الحديث معه لكن لا بأس إن كان لا يأخذ حديثها على محمل الجد سوف تعيد وترغي وتزبد فوق رأسه حتى يصمه عن ظهر غيب وستعلمه لاحقًا كيف يستهين ويستخف بها ذلك المستفز.
أطبقت جفنيها في إرهاق ويدها تمسد ذراعيها على طوله بالدهان المرطب في محاولة لاسترخاء خلاياها المتحفزة.. خطوات لها وقع هادىء هي من أجبرتها على فتحهم ببطء لتتضح لها صورته المشوشه وهو يتوسط غرفتها بسروال مريح وكتفين عاريين تعلوهما منشفة بينما يقطر من شعره الماء. مال بجذعه حتى قابل المرآة خاصتها، بعثر خصلاته بالمنشفة حتى بتر تقاطر مائها ثم ألقى بها جانبا تحت مرآها وفمها المفغر، تحرك في صمت ليغلق الضوء ثم عاد بهيئته المشعثه وانسل إلى الفراش بكل هدوءٍ وكأنه ما يفعل غير المعتاد!
عدلت من إضطجاعها المرتاح في قوة إرتج لها سائر الجسد ونظرتها توازي استنكارها الذي شق السكون:
- بجد أنا في حياتي ماشفت بني آدم في برودك!
تنفست بتعثر، ترغي وتزبد:
- أنا مش لسه بقولك...
أطبق فوق شفاهها بلثمة مباغته وازت استدارته السريعة وهو يحكم من حولها الوثاق، حين حررها بعد حين كان جسمها يختض وأنفاسها تتناحر فوق وجهه القريب في ضراوة ولسانها الهارب بالكاد يهمس:
- أنت.. أنت..
وتاهت منها كل التعابير مع إهتزاز بؤبؤيها الجامدان في محجرهم
ومع تهدج أنفاسها كان يميل إليها من جديد في إيقاع هادىء يناسب الدفء الزاحف..
دفء تملكه رغبتها الناعمة ويشعله إشتياقه المختزن.
***
كانت الشمس الغاربة تفترش بشفقها الأحمر صفحة المياة الرقراقة فتتلألأ الأجواء في شيء من سحر..
تراقب المنظر الخاطف أمامها في متعة بينما الموج يداعب أقدامها الحافية في خجل كل حين، استشعرت عودته فدارت تتناول قدح القهوة خاصتها وهي تشد على وشاحها الخفيف من حول كتفيها هامسة بثغر باسم:
- ميرسي.
تطلع إليها في إعجاب حقيقي مشيداً بما فعلت:
- كنتِ هايلة النهاردة.
رحلة عمل إلى أحد المنتجعات بشرم الشيخ وإتفاقية جديدة تولتها هي منذ البداية وحتى تزيل العقود، أظهرت فيها براعة وطلاقة نالت إستحسان من لدن الجميع، وإن كانت كذلك حقا فذلك كان بفضله.
- كله بتعليماتك يا بوص.
قالتها بزهو سعيد وهي ترتشف من كوبها الساخن ليدور ويقف قبالتها تماما ونظراته الثاقبة عن عيناها لا تحيد، أنزلت الكوب برفق وقسماتها تتسائل عما يريد..
كان منظر البحر من خلفها وملامحها القلقه أكثر من كافية حتى تتسلل أصابعه وتعانق أناملها برفق خفي مع همس أودعه مكنون قلبه بما يناسب شاعرية اللحظة:
- بحبك..
ولم يمنحها المساحة الكافية حتى تستوعب ماهية ما نطق إذ عاجلها من جديد وكفه يحتضن كفها بكليته:
- تتجوزيني يا غنى؟
أنت تقرأ
الغنيمة
Romance"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...