الفصل الـ ١٤

250 7 0
                                    


(14)

حتى تتخلصَ مِنْ بواطنِ الألمِ عليكَ بكشفِ جرحك، تُنظف ثمَّ تُطهر وتُضمد فتطيب أوجاعك، تركها مفتوحة لنْ يجلبَ سوى القيح والألم المضاعف..
وهي قررت بثوب ذهبيّ لامعٍ وتسريحة شعرٍ خاصة أنْ تغلق باب وجعها للأبد..
ستراه يُزف لأخرى وينتهي الأمر!
ستتألم وقتها، وربما يحتاج الأمر لأيامٍ وقد يمتد لأسابيعٍ وشهورٍلكنها ستنتصر في النهاية..
يجب أنْ تنتصر..
تقدمت تطرق الأرض بكعب حذائها العالي، تكفلت ببسمة واثقة، فاتنة كما كانت دائمًا في نظره وستكون.. تهنئةٌ بهمسٍ لا تعي كنهه، وكفٌ ممدودةٌ صاحبها ضغطة خائنة بواسطة أنامله جعلت أنفاسها تتعثر أكثر وهي تسحبها وتتحرك بها ناحية العروس بذهنٍ مشوشٍ، لتبتعد بعدها حتى ارتكنت في ركنٍ قصيٍّ بعيدًا عن صخب الزفاف القائم، اكتفت بمراقبة الحفل العظيم بصمتٍ خارحيٍ يصحبه ثورة داخلية. بعندٍ فيها وإصرارٍ ظلت على حالها تُراقب حتى منتصف الليلة..
رأته كيف يراقصها، يتمازحان ويلتقطان العديد والعديد من الصور تخليدًا للذكرى، حتى أنها رأتهما يتبادلان القبل!
لحظتها افترت شفاهها عن بسمةٍ باهتةٍ لا تُدرك لها معنى سوى أنها كانت تبادل نظرته المصوبة نحوها بقوةٍ عقب قبلته الشغوفة بعروسه.. هكذا رأتها!!
غادرت بخطواتٍ مثقلةٍ، شاردةٍ.. كأنَّها مُنومة مغناطسيًا لم تستفق إلا عندما شعرت بقطراتٍ ساخنةٍ ألهبت بشرتها، تأوهتْ بخفوتٍ وتغضن جبينها لتدمدم بعدها بحنقٍ وليدٍ:
- مش تفتح!
نفضتْ كفها لتسقط عنها القطرات الساخنة وهي ترفع وجهها ليقابلها الوجه المتهكم وهو يقول بنبرةٍ مشتعلةٍ بغضبٍ بينما يطالع كوب القهوة خاصته وقد انسكبَ كله فوق سترته الرمادية ولوثت بعضًا من بياض قميصه:
- والله ياريت تقولي لنفسك!
عقدة حاجبيه تشير بمدى الأذى الواقع عليه إثر المسكوبة، بينما هي لم تطلها سوى بضع قطرات فوق كفها الأيسر لذا دفعت نفسها لاعتذارٍ سريعٍ حين أيقنت أن شرودها كان سبب ذلك الصدام:
- سوري ماخدتش بالي.
أشاح بذراعه في وجهها ماضيًا في طريقه غير آبهٍ لإعتذارها، ارتفع حاجبيها رفضًا لقلة ذوقه وأخذت تتابع طريقها بدورها لتجد حالها فوتت مكمن سيارتها الرابضة على بعد أمتار دون انتباه.
***
ما إنْ ولجت من داخل البيت حتى تناهى لمسامعها أصوات مابين غاضبة وأخرى تطالبها بالصبر والتروي لتقتحم خلوتهما متسائلةً في قلق:
- في إيه!
وكأنها النجاة.. ما إن رآها حتى صاح بلهفةٍ:
- حسن يا ميسون.. حسن.
وصمت في جزع لتكمل عنه أمها وهي تطالعها بقلق:
- عنده مشكلة وبابا مصمم ينزل دلوقت لوحده.. وهو في حالته دي!
هدأتها ميسون بتربيتة سريعة وتحركت ناحية أبيها الذي كان ينهض بدوره مستعينًا على ضعف بدنه بعكاز، جاورته وهو تقول برجاءٍ:
- فهمني بس يا بابا حصل إيه.. ومن فضلك اهدى الإنفعال غلط على صحتك.
تحرك وهو يهتف فيها بضيق جل:
- ابني واقع في كارثة.. أهدا إيه!
أشارت لها أمها بأن تتبعه ولا تتركه في هكذا حالة.. استجابت سريعًا بقطع طريق وهمهمة سريعة:
- خمس دقايق بالظبط أغير فيها هدومي وأنزل معاك.. مش هتأخر.
وجدته في انتظارها قرب سيارتها يأمرها بالتعجل لتذعن له، عقب ما جاورها وما إن أدارت المحرك حتى صاح بقوةٍ مستنكرًا ما يحدث:
- حسن متهم في قضية سرقة.. تخيلي!، محجوز في القسم من إمبارح.. أنا كلمت المحامي يسبقنا على هناك.
هزت رأسها في رأفةٍ على ذلك الذي يجاورها وقد شابه التوتر والخوف، لا تدري لِمَ كلماته لَمْ تكنْ صادمةً لها وكأنَّ ما يقر به شيء متوقع سلفًا وهي لا يربطها بالمعني بالأمر سوى مقابلتين وبضع مكالمات غير مكتملة وجميعها مبتوره من قبله.
هل تخبره أنَّ ابنه ليس بتلك النزاهة التي يتخيلها، ليس كما يصوره خياله المتمني، هل تخبره ببساطة أنها بمجرد ما بحثت وراءه وجدته بالفعل مثير للشكوك.. ليتها تستطيع قول ذلك لكنها تخاف عليه من مرضٍ متربصٍ له لذا تنهدت وهي تربت فوق كفه في محاولةٍ فاشلةٍ لطمأنة قلبه:
- إن شاء الله الموضوع يطلع بسيط، وعامةً لو اضطرينا هكلم خالو عاصم له معارف كتير في الداخلية أكيد هيساعدنا.
بادل تربيتتها بأخرى أعقبها تنهيدةٌ قويةٌ دون حديثٍ.
***
لم يكن يومًا الاقتراب من القمة يضمن سلامة البلوغ
ربما بحصاةٍ صغيرةٍ يتقلقل طريقك فتتعثر دون سابق إنذارٍ
وحينها وجب السقوط لا محالة!
- إيه ده؟
قالها ضابط لجنة المرور باستنكارٍ بينما يرتاح داخل كفه قطع الحُلي التي عُثر عليها داخل عربة الماثل أمامه والذي جاءتْ نبرته تمثل الدهشة تخفي قرع الطبول القائم بداخله:
- معرفش!
- أنت هتستظرف يا حليتها!
- أقصد يا باشا ماعرفش دي حاجة مين، أنا راجل شغال على عربيتي بالأجرة وبيركب معايا ناس أشكال وألوان أكيد يعني حاجة حد من الزباين ونسيها ولا وقعت منه معرفش.
ضيق الضابط عينيه محاولًا سبر أغواره ليدمدم بعد حينٍ وذراعه رفعها يحط بها فوق كتفه في ألفةٍ بغيضةٍ:
- ده شغلنا بقى يا معلم.. تشرب شاي يااا....
قلب البطاقة الشخصية بين أصابعه وعاد له مستطردًا ببسمةٍ سمجةٍ:
- أبو علي.
أرغي وأزبد الأخير محاولًا بذلك فض الأمر بشكل ودي والوصول إلى نقطة ترضية لكلا الطرفين، لكن الضابط اللعين لسوء حظه لم يقبل أي تفاوض أو نقاش إذ أمر في الحال بالتحفظ عليه وعلى ما وجد بحوزته من مصوغاتٍ ثمينةٍ لحين القيام بالتحريات اللازمة وقد ساورته الشكوك.
شكوكٌ سرعان ما تأكدت حين تم التبليغ عن المفقودات مِنْ قبل مالك الشاليه وقتما تأكد من وقوع جريمة السرقة بالفعل، إثر تفقده للمكان كما اعتاد بين حينٍ وآخرٍ وكان هناك عقب رحيل السارق بساعتين.
وها هو مُلقى خلف قضبان زنزانة عفنه منذ يومين.. هو حتى لا يدري كيف ظهروا أمامه من العدم، هو يحفظ خارطة الطرقات عن ظهر قلب ويعلم جيدًا أين يكمن الخطر من الأمان.. باغته ظهورهم فلم يتسن له التفكير حتى يتخلص مما تبقي معه من آثارٍ للجريمة..
و ياليته دفنها كما فعل مع تلك الأوراق وقتما قرر قلب الأمور لصالحه فاستأثر بها لنفسه في باطن الأرض لبعد حينٍ يقرره هو..!
لكنه لم يفعل ولم تفلح حيلته في إخفاء المصوغات أسفل المقعد الخلفي للعربة إذ تمكن ذاك المحنك من العثورعليهم في غضون دقائقٍ معدودةٍ، ولم يملك حينها سبيلًا غير الإنكار.
- حسن فريد صبري.
طالع الجندي ذو الوجه الغاضب بقسماتٍ باردةٍ وهو يصيح باسمه فلم ينبث ببنت شفه ليستطرد بغضب جم:
- طرشت ولا عجبتك قعدة التخشيبه؟.. قوم ياخويا حضرة الظابط عايزك.
نهض من جلسته بذات الصمت وتحرك أمامه بهدوءٍ حتى انتهى به أمام مكتب وكيل نيابة القسم الذي قابله بهدوئه البغيض مشيرًا بكفه نحو الجالس قبالته:
- تعال يا حسن أما أعرفك على منصور بيه السعيد..
رفع حسن بصره متوجسًا يطالع الرجل الخمسيني الذي يتوسد المقعد الوثير بأريحية وتعلو شفتيه بسمة جانبية، يرتشف قهوته ببطءٍ وتلذذٍ لا يناسب نظرته الضائقة بوعيدٍ صريحٍ لدرجة اقشعر لها بدنه.. استطرد "أكرم نعمان"_ضابط القسم_ متلاعبًا بالكلمات موجهًا إياها ناحية الواقف على جانبه وهو يعبث بسيجاره الغير مشتعل بين أنامله:
- شفت اللي حصل يا أبوعلي!
ثم تابع بسرد حكاية من البداية، بأسفٍ مصطنعٍ:
- الراجل المحترم ده أخد ولاده قالك إيه يغير جو اليومين دول في الشاليه بتاعه في شرم.. يشاء القدر تحصل حالة وفاة فيضطر ينزل فجأة.. وزي ماتقول كده مع الكركبة والاستعجال المدام نسيت مجوهراتها.. فيييين؟.. في الشاليه..
دار بجسده بعض الشيء يواجه حسن الماثل أمامه في استسلامٍ و صمتٍ، رفع بعدها ذراعه محركًا بالسبابة والوسطى أمام عينيه مردفًا بتعجبٍ ماكرٍ:
- تخيل يا مؤمن بعد يومين يروح مايلاقيش الدهب مكانه!
ازدرد حسن لعابه ضاغطًا فوق نواجذه ليستطرد أكرم من جديدٍ، وأصابعه تعبث في ذقنه الحليقة مستمتعًا بنظراته المتذبذبة:
- وشوف الصدف يا أخي مواصفات المسروقات متطابقة تمامًا.. تمامًا مع الدهب اللي لقيناه في عربيتك!
ثم أمال رأسه بعض الشيء كأنما يخوض وضع التفكير سائلًا إياه باستفهامٍ خبيثٍ:
- إلا أنتَ قلت لي كنت بتعمل إيه في شرم يا أبو علي؟
سريعًا جاء جوابه، محتفظًا بأقواله السابقة التي توالت منذ تم احضاره قسرًا إلى هنا.. وإن شابت نبرته الفتور:
- ما أنا قلت لسعادتك قبل كده كنت بوصل زبون.
همهم أكرم ببعضٍ من صرامةٍ تنذر بفقدان صبر:
- همممم أيوه صح قلت لي زبون.. وماتعرفش مين الزبون ده ولا حتى اسمه؟
- لأ يا باشا هي مصلحة حلوة قضيتها وأخدت عرقي، مافكرتش الصراحة أفتح مع الزباين سين وجيم.
- طيب إيه رأيك في حكاية منصور بيه؟
- وأنا مال أهلي يا باشا بالحوار ده كله مش فاهم يعني؟
بشبه نهوضٍ خبط أكرم بكفيه فوق سطح مكتبه بقوةٍ و صاح بغضبٍ  أفلت لجامه للتو:
- أنت هتصيع عليّ بروح أمك!
- أعصابك يا أكرم باشا مش كده.
قالها منصور بهدوءٍ مغيظٍ ليزفر أكرم بقوة عائدًا لموضعه السابق:
- في حاجة تانية عايز تضيفها يا منصور بيه؟
ترك منصور فنجان قهوته وقد فرغ ليدمدم بتمهلٍ متنقلًا ببصره بينهما:
- خالص يا باشا.. أنا يهمني أخد حقي بالقانون.. أتفضل شوف شغلك.
عاد أكرم لعيني حسن المتربصة قائلًا بصرامةٍ وقد تخلى عن ثوب الحليم الماكر:
- اسمع يالا أنا قدامي قضية كاملة بأدلتها وحبشتكاناتها يعني شغل لوع وحوارات صدقني هتزعلني منك و مش هيفيدك في حاجة فخليك حلو كده عشان نقفل القضية ونخلص.. ها قلت إيه؟
- قلت من حقي أطلب محامي.
علق أكرم ساخرًا:
- ومالو مش عيب بردو..
والتفت ناحية كاتب النيابة الرابض جواره آمرًا إياه:
- اكتب يا بني...
وهكذا قُضي الأمر بالحبس أربعة أيام على ذمة التحقيق مع مراعاة التجديد في الأسبوع المقبل.
***
حالة من القلق تحيط بثلاثتهم..
ثمان وأربعون ساعة ويزيد بهاتفٍ مغلقٍ دون محاولةٍ واحدةٍ منه لطمأنتهم، كل ذلك جدير بإثارة الخوف الذي سكن الأم القابعة فوق أريكتها بملامحٍ متجهمةٍ، تتنقل أصابعها فوق حبات المسبحة بلسانٍ يلهج مستغفرًا طيلة الوقت بينما ذاك الراقد بين الضلوع بدقاته المضطربة يحدسها أن في غيابه المقلق هذا سوء واقع لا محالة، أم علها غريزة الأمومة تقوم بدورها لا أكثر!.. أضناها كثرة التفكير وكبلتها قلة الحيلة.
وبينما أمه شاردة بذهنها المشوش كانت هي تجوب الردهة الصغيرة ذهابًا وإيابًا في محاولة اتصالٍ آخرٍ بعدما توقفت عن عد مرات اتصالها به، لن يجدي ما تفعل فكل مرةٍ تكاد تصرخ فيها عاملة الهاتف أن الجهاز مغلق..
- وبعدين يا نسمة هنعمل إيه؟
توقفت عن السير ما إن وصلها صوتها المرتجف وقسماتها المشدودة، حاولت ضبط نفسها كي لا تزيد من قلقها فتكفلت بنبرةٍ هادئةٍ وهي تربت بكفها فوق فخذها وتهمس لها مهدئةً من روعها:
- خير يا ماما، احتمال كبير تكون مشكلة شبكة.. إن شاء الله خير.
لفظت آخر جملتها بخفوتٍ مرتجفٍ رغمًا عنها لتفزع ياقوت من جديد ترفض الانتظار بحججٍ واهيةٍ:
- عمره ما عملها يا نسمة.. وقت ما أطلبه كان يرد في ساعتها.. أنا قلبي مقبوض يابنتي!
مع آخر كلماتها ترآى لكلتيهما خيالاتٍ مفجعةٍ تصب كلها في خانة حادثٍ مروعٍ على الطريق، لتنهض نسمة بتخبط ناحية غرفة شقيقته والتي ما إن رأتها حتى بادلت قلقها بآخر يوازيه.. أخيرًا غمغمت سماح بقلة حيلة:
- مقدمناش غيره.. هكلمه وربنا يستر.
جاءتها الموافقة بإيمائةٍ سريعةٍ وعينين غائرتين بدمعٍ حبيسٍ، كانتا ترفضان ذلك الخيار خوفًا من أن يعود في أية لحظة ويسخط عليهما بسبب فعلتهما لكن بما أنه لم يظهر حتى اللحظة فليس أمامهما سوى اللجوء وطلب العون.. من أبيه!
ربما سيغضب ويزعق بهما ويزيد في العقاب، هي باتت تعرفه بل تحفظه عن ظهر قلب ومدركةً تمامًا لخطورة الاقتراب من خطه الأحمر.. لكن لو تلك كانت الوسلية الوحيدة حتى تطمئن قلوبهم.. فليكن!
هكذا فكرت نسمة قبل ما تخطفها كلمات سماح التي تعالت وتيرتها بغتةً مع محدثها ونهوضها الفزع من أعلى الفراش بملامح متجهمة:
- قسم!.. قسم إيه؟.. أنت فين طيب؟.. أطمن إزاي وأنت بتقول مقبوض عليه!
على إثر كلماتها الأخيرة تحررت شهقة نسمة بينما صياح ياقوت من الخارج جعلهما تتحركان بالخطى ناحيتها لتهتف سماح بغضب وصرامة في محدثها:
- كلامك ده مش هيطمني.. قول لي هو فين دلوقت.. تمام مسافة السكة وأكون عندك.
أغلقت الهاتف وتركت جسدها يسقط فوق الأريكة من خلفها، تحيط رأسها بكفيها، ثم تطالع أمها بشفقة، تخبرها بهدوء عكس ما يموج بداخلها من قلق بينما عقلها يبحر حائرًا في أي مصيبة ورط شقيقها نفسه:
- اهدي يا أمي مش كده، على الأقل اطمنتي أهو أنه بخير.
- أخوكي حصله إيه يا سماح؟!
كان سؤالها أجوف متعثرًا ببكاء تلك المراقبة لهما بصمت إلا من نهر عبراتها لتخبرها سماح بإيجازٍ بعد سحب شهيقٍ وطرد زفيرٍ:
- محجوز في القسم.. ماعرفتش ليه بس هو معاه دلوقت وقال لي ماتقلقوش.. أقصد فريد.
ضربت ياقوت فوق صدرها وهي تبكي بدورها:
- يا حبيبي يابني.. خديني لأخوكي ياسماح.. وديني عنده.
هدأتها سماح بربتاتٍ متتاليةٍ قبل نهوضٍ متعجلٍ:
- أخدك فين بس يامه.. أنا هروح أفهم الحوار وأبقى أطمنك.
تركتها ترثي حالها ببكاءٍ مريرٍ انخرطت فيه، وسارت ناحية غرفتها تجلب عبائتها السمراء وتلف وشاحها على عجل، قاطعتها نسمة بإصرارٍ متحشرجٍ وهي الأخرى تستكمل لف حجابها:
- أنا جاية معاكي.
نهرتها بحنقٍ:
- تروحي فين أنتِ كمان؟!
لتصيح فيها بإنهيار ونبرة صاحب الحق:
- اللي ماعرفش حصله إيه ده يبقى جوزي يا سماح!
زفرت سماح واكتفت بهزة رأسٍ في إيمائةٍ موافقة دون حديث.. وهمتا برحيل فور ما تركتا ياقوت المفجوعة في ولدها تحت رعاية الجارة.
***
ولأنه خسر السنوات الماضية عليه بالقتال لأجل الأخرى المتبقية.. لأنه قطعة منه رغمًا عن أنف ماحدث وما سيحدث يجب أن يكون بجانبه، بل يجلس أمامه في هاته اللحظة وعيناه معلقة فيه وقد احتجز غصته في حلقه.
- شوية وراجع.
كانت تلك نبرة أكرم نعمان الذي نهض بكياسة موجهًا حديثه للجالس قبالته بينما نظراته تتنقل بينها..
حرك له فريد رأسه شاكرًا ولزم الصمت حتى غادر، حينها دار برأسه يتتطلع لابنه الواقف قربه ولا يفتر عنه سوى أنفاسه الهادرة بينما بصره مُلقى للأمام نحو الفراغ حد أنه لم يحاول خطف نظرة ولو عن طريق الخطأ ليتقابل مع بصره..
أي لقاءٍ ذاك الذي يجمعه مع بِكره لأول مرةٍ!
سحب شهيقًا طويلًا قبل ما يهمس له بهدوءٍ يخفي وراءه ضيق لا يقدر:
- أقعد يا حسن.
وكأنما يحدث أصمًا لا يسمع ولا يرى، بينما هو في الحقيقة ما إن وصلته نبرته حتى تشنجت عروقة بقوةٍ آلمته بالرغم من ذلك الصقيع الذي يطفو عليه من الخارج ومع ذلك تابع فريد بذات الهدوء فالوضع لا يحتمل أي ضغوطات، وفي النهاية هو هنا لأجله:
- أقعد يا بني لازم نتكلم.
- مافيش بينا كلام.
هكذا لفظها باردةً.. جافيةً حد القسوة
ليصمت فريد هنيهةً دمدم بعدها:
- أستاذ إبراهيم محامي كبير وله اسمه في النوع ده من القضايا وإن شاء الله هيخرجك من القضية بس عشان يعمل ده ضروري يتكلم معاك الأول.
ضحكة ساخرة أسفرت عنها شفاه، صاحبها جلوسه فوق المقعد المقابل، ليواجهه أبيه في جلوسه بحاجبٍ مرفوعٍ في استنكارٍ.. جاء ليتكرم عليه ويكون صاحب فضل، الأب العظيم جاء أخيرًا ليقف فوق منصة الأبوة ويؤدي دوره بكل إجلال وعظمة!
يا الله!.. أكثر من ممتن هو على حضوره، فلولا ذلك ما عرف كم يبغضه!، يكرهه بكل ما تحمل هذه الكلمات من معنى.
مال بجسده للأمام حتى بات لا يفصل بينهما سوى القليل من السنتيمترات، وحينها خرج سؤاله كفحيحٍ خافتٍ:
- عايز إيه يا فريد يا صبري؟
كانت عيناه تطلق الشرر ولا تناسب واجهته الباردة تلك والتي يتقنها بشدة، اتكأ فريد بذقنه فوق عصاه، يعلم أنَّ الطريق وعرة، ولن يصل إلى ما يتمناه من أول جولةٍ، وحتمًا عليه بذل مجهود مضاعف، ترك لكفه حرية التحرك حتى تستريح فوق كتفه القريب:
- مش عايز غير أقف جنبك يابني.
نفض عنه كفه بفظاظةٍ وقاطعه بحدةٍ:
- ماتقولش ابني!
حدة صياحه ألجمت لسانه، وذراعه التي دفعت بكفه بعيدًا يبست جسده وجحظت ببصره الذي بهت من تلك القسوة والكراهية المرسلة من بين عقيقه الأسود.. ولم يكتفِ لذا سرعان ما وجده يستطرد بغضبٍ فقد سيطرته وهو ينتفض من فوق المقعد، يدور في المكان بهياجٍ:
- إياك تكون فاكر أني زي سماح بكلمتين عبط هاخدك بالحضن؟.. ولا تكونش فاكر هتشعبط فيك وأقولك والنبي لتنجدني!
واقترب من جديدٍ بينما كلمات أمه السابقة تطن بأذنيه، ينحني بجذعه لينفث في وجهه حرارة أنفاسه ويتمتم بشراسةٍ منهيًا الحوار:
- مش محتاجلك.. سمعت؟.. اللي باعنا زمان بالرخيص مشتريهوش دلوقت بمليم.
- حسن!
هدر باسمه في عنفٍ حتى يصمت، لكنه لم يفعل بل زاد من نثرِ الملح فوق الجراح:
- واجعك قوي تشريفي في السجن فجاي وساحب وراك محامي؟.. إيه خايف لتتفضح يا باشا.. يا كبير..
ارتفعت شفاه في بسمةٍ جانبيةٍ، وسبابتاه تلتصقان أفقيًا أمام وجه أبيه مع كلماته الساخرة.. اللاذعة بفظاظة:
- ده أنا خليفتك في الوساخة ياجدع.
نكس فريد برأسه فوق عكازه، وقد أغلق جفنيه بقوة يمنع عنهما هطول دمعات تجرح كبرياء رجولته بشدة.. بينما خطوات الآخر المبتعدة كانت تعني شيءٌ واحدٌ، أنه قد ذيل النهاية وأنزل الستار على بداية لقاء لم يكتب له التتمة كما كان يبغي ويتمنى.
في لحظتها فُتح الباب ودلف أكرم الذي طالعهما في صمتٍ ران لثوانٍ ضغط بعدها على زر فوق مكتبه ليحضر أحد الجنود يلقي له بالتحية فيأمره برزانةٍ بأن يعيد المتهم لمحبسه.
- فكر كويس في كلامي، ولو إن غيرت رأيك المحامي موجود.
قالها فريد يقطع عنه خطواته بنبرةٍ أبويةٍ، فاترةٍ وهو مازال على وضعه الجامد.. ليأتيه الجواب كما توقع قبل ما يختفي:
- مش عايز أشوفك تاني.
***
ألقت بوجهها داخل وسادتها تكتم شهقاتها وتصم أذنيها عن العويل والنواح القائم بالخارج منذ أن لفظ قاضي المحكمة بكلماته الأخيرة قبل ساعاتٍ..
"حكمت المحكمة حضوريًا على المتهم حسن فريد صبري بالحبس أربع سنوات مع الشغل"

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن