(21)
تروي الأسطورة الأرجنتينية أنه قد خُلق يومًا بشكلٍ خاطيءٍ من قبل الحياة رجل أحب امرأة واحدة ولم يشتهِ سواها حتى مات..
وقد رفعته الآلهة في الأسطورة لتتباحث عن مصدر هذا العيب الخلقي الذي عانى منه هذا الرجل..
ومنذ ذلك الحين تجتمع النسوة في عيد الوفاء موافقًا ذكرى مولده ليقمن الذبائح ويقدمن القرابين للسماء لكي تقذف روحه يومًا في زوج إحداهن!شهر ونصف الشهر وهي على ذات الوضعية حبيسة غرفتها، من خلف زجاج النافذة تحتل مقعد هزاز كان أثيرها قبل الزواج، تراقب بزوغ الفجر وتودع غروب الشمس بروح خامدة..
فقدت جنينها..
هكذا ببساطة في ذات اللحظة التي تأكدت فيها من وجوده أخبرها الطبيب بفقدانه، وبدلًا من فرحتها بقدومه أخذت تستقبل كلمات المواساة وكأن ببضع كلمات سوف تهون وطأة الوجيعة..
وجيعة فقدانه على يد أبيه!
تلك هي الحقيقة التي لا تعترف بسواها، وكان عقلها يبحث عن إجابة واضحة طيلة تلك الأيام..
لماذا؟
صحيح أنها لم تكن شغوفه بالأطفال يوما لكنها لا تكره أن تكون أمًا!
نعم لم تسعَ للأمر ظنًا منها أن هناك في الوقت متسع لكنها ماكانت لتحزن لقدومه أبدًا..
ومن المؤكد أنها كانت تتمنى أن تحمل في أحشائها روح منه، منه هو حبيبها وزوجها..
إذن بأي أحقية يمنع عنها هذا كله؟
بل لماذا يفعل!
أغمضت عينيها تعتصر جفنيها بقوة ولا قطرة واحدة، جف ينبوع الدمعات قهرًا وكمدًا على قلب ذبل وخفت وهج شغفه.
تعالي الدقات المتباطئة فوق الباب أجفلتها لثوان، بسرعة كانت تستعيد أنفاسها الهاربة، وصل أخيرًا بعد طلب منها في رؤيته.. فعقب ماحدث في المشفى وشاء الله أن يكشف سره حين أخبرها الطبيب مستغربًا وهو يحمل بين كفيه نتائج تحاليل وفحوصات خاصة طلبها بعد أيام من إجهاض، متسائلًا بشك إن كانت تتناول أي من الحبوب المانعة للحمل في فترة قريبة، تشتت ذهنها في لحظتها فهي لاتذكر أنها لجأت لذلك يومًا وحين أوشكت على اعتراض كان صوته الهادىء يسبقها مؤكداً حقيقة ما أخبر به الطبيب!
وحينما سألته مستنكرة؛ أطرق برأسه يدلي بجرمه..
يدس لها العقار في المشروب وتتناوله هي جهلًا، ولم يأتِ في خاطره أنه قد يحدث الأمر لأجل نسيان بضع مرات وهو مستمر في فعلته هذه حتى حدث ماحدث وكانت القاصمة، من يومها غادرت المشفى عائدة إلى بيت أبيها بقلب كسير.
ابتلعت لعابها العسير وهي تهمس بصوت قد بح دون حديث:
- اتفضل.
وقع أقدامه التي تحفظها عن ظهر قلب كانت تدهس روحها كلما اقترب حتى وقف إلى جوارها، حط بكفه فوق كتفها، يهمس بأسمها ويسألها دون حديث عن نفحة من غفران:
- شهد..
استغرقت دقائق تستعذب اسمها من بين شفاهه حتى سالت دمعتاها بطول وجنتها، رفعت وجهها يقابل وجهه القريب ورغم علامات الأسى التي تحتل ملامحه بوضوح ما كان منها إلا ان تسأله.. هي تبغي جواب واضح قبل السقوط من أعلى هاوية الجنون:
- ليه؟
وأبى صوتها أن يخرج بأحرف أكثر إلا أن الثلاث السابقة كانت أكثر من كافية ليدرك رغبتها، ربما التوقيت مناسب لإختلاق أكاذيب أو تجميل بعض الحقائق بزيف الحديث، كان ليفعل هذا لأجل هذه المسكينة التي لم تجد من وراء عشقه غير الخديعة والهوان لكن في الحقيقة هو مل إنقسام بين مشاعر وأفعال، بين ما يتمنى وما يجب عليه أن يكون.. فليخع عنه ثوب المثالية الكاذب ويحطم قالب الإستقامة المزيف، ليجهر مرة واحدة بما يشعر، ليصرح عن رغباته دون مراعاة لصورة إجتماعية تفرض عليه كيف يكون..
ليفند أخطاءه وسقطاته أمام الجميع دون خشية..
ليبرز نقصه ويكف عن إدعاء الكمال!
هبط لمستواها وبصره يدور في نقاط وهمية، يهرب من لقاء عينيها المعذبة في محراب عشقه، فهو على وشك تهشيم قلب امرأة كل ذنبها أنها أحبته:
- حبيتها..
واستطرد بأحرف مثقلة:
- ظهرت في حياتي فجأة، قلبتها.. مع الوقت لقتني بحبها.
غصت بشهقة بكاء وهي ترفع كفها تكبحها قسراً وعينيها تتطلع إليه في صدمة متوقعه من خلف ساتر الدموع:
- اتجوزتني ليه؟
- عشان ماينفعش أسيبك وأنتِ كنتِ على ذمتي!
- قصدك ماينفعش نديم نصار يظهر بمظهر الندل!
جاءه ردها يلاحق دفاعه الأقبح من ذنب، ثم استطردت بحقيقة أقرتها لنفسها قبلًا منه:
- أنت أناني يا نديم، أناني وندل.
لم ترحم إهتزاز حدقتيه وهي تزيد بمرارة وقسوة:
- أناني لدرجة قتلت ابنك!
طفر من عينيه بعضًا من ندم وهو يميل برأسه فوق كفها يلثم ظاهره بقوة ويهمس بأسفه في صعوبة:
- عارف أني أذيتك جامد وظلمتك معايا كتير.. ماكنتش عايز أجيب طفل وأظلمه معايا هو كمان، بس والله العظيم ماكنت أعرف أن ده ممكن يحصل، لو كنت أعرف بوجوده كان مستحل أفكر أأذيه!
إهتز جسدها الضعيف وبصرها يحيطه كله بنظرة بينما لسانها يهذي بعذاب:
- كان صعب تحبني يانديم؟!
ظل يبحث عن جواب تتمناه وعيناه تلتهم تفاصيلها المتألمة.. قد تظن فيه الجنون لكنه يحبها بحق، كصديقه وقريبة عرفها منذ الصغر، فتش بقلبه عن شيء آخر.. فلم يجد!
كان صمته أكثر من كافٍ لتحرر كلمة أخيرة تشبه طعن الروح:
- طلقني.
امعن النظر فهاله ما رأى.. ماذا فعل بها!
أين تلك الصبية التي كبرت أمام عيناه وهي تشع حياة وصخب ينعكس على رقة وجمال ملامحها، أين تلك التي كانت تفيض له عشقًا بكل نظرة، همسة ولمسة..
أين راحت لتغدو بذلك الذبول دون وهج و روح..
نادم هو..
والله نادم على كل ما إقترفت يداه، نادم على وجعها الذي يراه معكوس في هاته اللحظة من خلف مرآة روحها..
كيف يخبرها أنه يحبها، يحبها بطريقتة الخاصة، من الجحود أن يتجرد قلبه من مشاعر تخصها.. قلبه الذي خفت شغفه على مر السنوات فلم يبقى له سوى خواء كبير تزيده شهد برحيلها.
هز رأسه رفضا لهذي كلامها، يضم يديها بين كفيه ويتوسلها باسمها أن تمنحه الغفران بكل ظلم اقترفه في حقها، ولم يقدر على أكثر من هذا، هربت عيناه من جديد إلا أنها كانت أكثر ثبات حين خلصت يديها من بين أصابعه وإبتعدت ببصرها عنه، تكرر الطلب بإصرار وصلابة تنافي إنهيارها السابق:
- طلقني يانديم.
ظل للحظات يراقب فيها جانب وجهها ودمعاتها المنسابة دون إرادة منها وقد اخبرته نبرتها أنها النهاية ولا مجال للتفاوض.. نهض بعد حين بجسد مثقل، مال بجذعه وشفاهه تطبق فوق خصلاتها، يلثم أعلى رأسها بقبلة طويلة ثم أطلق سراحها بكلمات:
- أنتِ طالق يا شهد.
وازى سرعة خطواته الراحلة تلاقي جفنيها المتألم مع إنحدار دمعات جديدة، فهنا في هاته اللحظة كتبت النهاية لحكاية منقوصة لم يكتب لها الكمال.
***
داخل أحد الأروقة الطويلة الخاصة بالجامعة كانت تسير بهدوئها المعتاد، هدوء مناف لخوفها حين وقفت أول مرة أمام عدد كبير من الطلاب كأستاذة ذات قدر وشأن، فمنذ تم قبولها كمعيدة جامعية وهي تشعر بشيء من الرضا والسعادة الخفيه، أسلوبها السلس الرقيق جعل علاقتها مع الجميع مرنه لا تخلو من الإحترام والمحبة الخالصة، إحترام ومحبة طالتهم من الغرباء ولم تجدهم بين كنف أقرب الأقربين..
تنفست بعمق تطرد هموم العودة، فعلى الأقل هي نجحت في نصف حياتها العملي وليبقى النصف الآخر على خرابه، ومع ذلك لديها يقين أن تلك المهزلة سوف تنتهي يومًا، ربما حين تجد محام غير مرتش يخلصها منه أم عله يزهدها ويطلق سراحها من تلقاء نفسه، في النهاية كل شيء سيمضي ويكون على مايرام إلا أنها لن تسمح له أن يحط من قدرها، يخرب نجاحها ويتلف نظرة الآخرين لها مهما كان الثمن.
وصلت البيت لتجد سماح كحال كل يوم تزم رأسها بوشاح صغير وتنكفأ على حالها تنظف وترتب وكأن لا شيء يشغل بالها إلا ذرات التراب اللعينة وإعداد أصناف من الطعام!
تجاوزتها في صمت تتخذه منذ أن جاءت معه قسرًا لتستكين بعدها بإرادتها الحره، باتت تعلم أن مخالفته والوقوف له بالند لن يفلح مهما حاولت..
وكأنما خيالها استدعاه فظهر لها من العدم يقطع طريقها ويقف قبالتها كطود عظيم لا يهتز، وكالعادة نبرته لم تكن أقل أمرا وفظاظة:
- ماتنزليش الشغل النهاردة..
وأردف بفك تدلى ساخرًا:
- في ضيوف جايين.
صحيح أنها فشلت أن تكون له ندا لكن ذلك لا يعني أن تخضع وتخنع لأوامره الفذه، فزمن الخنوع ولى..
رفعت له عينيها في تحدٍ وثبات:
- وأنا مالي بضيوفك!
إقترب بوجهه يزمجر أمامها بوعيد مبطن:
- أنا قلت اللي عندي.
رمقته بإستهانه مقصودة قبل ما تتجاوزه بكلمات حادة:
- وأنا قلت ماليش دعوة بأي حاجة تخصك.
جذب معصمها فجأة يوقف خطاها فترنحت، بل كادت أن تسقط وهي تصرخ في الحال:
- سيب إيدي وبطل إستفزاز!
كانت تلهث وقد إنتفخت أوداجها في نوبة غضب لا تفارقها كلما إجتمعت وإياه، ظل يرمقها بحده صامتة حتى جاءت سماح تهرول، تحشر نفسها بينهما حتى تنهي إشتباك آخر من سلسلة إشتباكات لا تنتهي..
صاحت فيه بقوة آمرة:
- سيب دراعها يا حسن.
حدجها بسخط قبل ما ينفض ذراعها عن مرمى أصابعه موجها حديثه لأخته، قائلًا بجفاء منهيا الحوار:
- لو نزلت ليلتها مش هتعدي.
وتحرك عنهم إلى غرفته التي يحتلها منذ خروجه من المشفى صافقا من خلفه الباب بقوة إلا أن صراخ نسمة إخترق كل الأبواب حتى وصل مسامعه:
- عايز مني أيه يا مجنون أنت!
ما إن رمت جملتها الغاضبة حتى فتح الباب، يرمقها شذرا وينشب أصابعه في باطن كفه كلا يتهور ويدق عنقها في الحال بينما أسنانه تضغط فوق شفته السفلى في غضب، يكبح لجام لسانه عن لفظ ما لا يصح النطق به وهي لاتتزحزح من خلف كتف سماح بل تجابه نظرته بأخرى حتى عاد وصفق الباب في وجهها من جديد.
انتفضت إلى غرفتها مبتعده عن مرمى سماح التي لاحقتها بالكلمات:
- عشان خاطري يا نسمة ماتزعليش.
كانت أصابعها تتعارك في فض حجابها بينما صورتها المعكوسة في المرآة قبالتها تظهر لأي مدى هي مشتعلة:
- أسكتِ يا سماح أنتِ مش فاهمة ولا عارفة حاجة.
إقتربت منها حتى جاورتها، ترفع كفها بالخرقه المبللة تمسح عن إطار المرآة في تلكأ وقد شملتها عبرها في نظرة، هتفت بعدها في خبث مبطن:
- مين قال؟ ده أنا أكتر واحدة فاهمة أخويا وعارفه كويس قوي هو عايز أيه.
أطبقت نسمة عيناها تتوسل الصبر، فتلك وأخيها حتما ستصل بفضلهم إلى حافة الجنون، ملأت رئتيها بنفحة هواء كبيرة قبل ما ترفع كفها أمام وجهها في صرامة توازي الكلمات:
- شوفي يا سماح أنا قلت لك قبل كده وهقولها تاني وعاشر، أخوكي أنا هطلق منه، بمزاجه أو غصب عنه مش مهم، بس لحد ما ده يحصل ياريت تبطلي كلامك إللي مالوش أي لآزمه ده عشان بدأت أتضايق منك فعلا.
مصمصت سماح شفتيها بغير رضا وهي تشملها في نظرة أخرى قبل ما تبتعد خطوة قطعتها نبرة نسمة الجافية:
- صحيح.. أنا كلمت مدام مارجريت ومعندهاش مانع تبدأي شغل معانا.
تهللت أساريرها في لحظة، تستدير لها بسعادة:
- بجد!! ده أنا كنت هطق من قعدة البيت..
وأضافت سريعًا بجذل:
- ماتحرمش منك يا مرات أخويا ياغالية.
قالتها وهرولت للخارج قبل ما تطالها مقذوفة تطيح برأسها، وبالفعل صدحت صرخة قوية بأسمها ظلت تلاحقها بغضب مستعر حتى ألجمته صاحبته حين صفقت بابها عليها كي تهدأ من وتيرة أنفاسها اللآهثة..
يا الله!..
أي شين فعلت لتكون تلك حياتها؟..
عادت ترتكز بكفيها فوق طاولة الزينة، تبادل حالها النظرات عبر الجسم العاكس..
ما بالها؟
لِمَ لا تخرج له الآن ولا تهدأ حتى يلقي عليها يمين الخلاص، أوتحمل حالها وترحل بعيدًا حتى يفقدها.. بأي حق يتحكم بحياتها؟.. بأي حق يجبرها لتعيش معه تحت سقف واحد!
نكست ببصرها لتجيب على نفسها بنفسها..لست مجبرة، لا داعي لذلك الإطار الدرامي المثير للشفقة، ربما تكرهين العيش معه بمكان واحد لكنك لست مجبره، عبرت باب بيته بقدميك أي بشيء من إرادتك في النهاية..
رفعت كفيها تغطي وجهها في تعب، رباه أي خبال ذاك الذي تحياه، ماذا تريد وإلى ماذا تسعى؛ ماعادت تعرف؟!.. كأنما ضلت السبيل فما عادت تدري أي باب تطرق ولا في أي طريق تمضي..
تبغي الحصول على محام جيد لكنها تبحث بهمة مزعزعه ليست تحمل من الإصرار شيء، تتعهد أنها سوف تتجاهله حتى لو وجه لها الحديث لكن ما إن تراه حتى يتلبسها ألف شيطان وشيطان، تقول أنها ستتركه وتغادر وليضرب رأسه في كل حائط يقابله لكنها تعود وتخاف الفضائح منتظرة أن يزهدها من تلقاء نفسه..
ماذا تفعل وإلى من تلجأ؟
ماعادت تعرف ولا تدري في أمرها شيء!
وحينما كانت هي تخوض حربًا شعواء مع نفسها كان هو يفرك جبهته في إرهاق واضح، يعود جالسا فوق حافة الفراش وسؤالها الغاضب يقصف كل ذرة داخل كيانه..
" عايز مني أيه؟"
سؤال تكرر فوق لسانها عدة مرات إلا أنه يتلحف برداء الصمت في كل مرة تاركًا إياها تشتاط بغضبها فهو لا يملك جواب..
كاذب!
كان هذا صدى صوته الداخلي يقف له بالند عما يهرب منه..
تريدها بجانبك؛ وتلك هي الإجابة الصحيحة.
مال بجذعه مطرقا برأسه للأسفل محتجزًا إياها بين كفيه، كيف إنحدر هكذا نحو الهوة المحظورة وبسرعة فاقت البرق، حد فقدانه السيطرة على نظراته، فما إن تراها عيناه حتى تنحدر فوق قوامها تباعًا، تراقب كيف إكتسب عودها النحيل منحنيات أنثوية فبات لا يشبه ماكان عليه في السابق، ولا يعلم هل أصابت سنون السجن عيناه بالعته فأصبح يرى كل مافيها جميل أم هي بالفعل تثير كل خلية يمتلكها؟!.. أما عينيها فهاتان لهما قصة أخرى لم يدري منذ متى وهو يعجبه خضارهم المتقد بغضب طيلة الوقت، وهل من الجنون أن يحب نسختها الجديدة تلك التي تتمرد على أي أمر يلقي به في وجهها ثم تمتثل له في النهاية بقلة حيلة، تجذبه بجنون هالة الثقة التي تمتلكها حين تخبره ببساطة أنها ستتخلص منه عما قريب فما يزيده ذلك إلا تشبثًا..
اللعنة عليه ماذا يفعل!
متى يتخلص من هلاوسه هاته ويحشر في رأسه شيء واحد بدلًا من تلك التفاهات:
أنه رجلٌ لا يصلح للحب..
ولا تليق به حكايا العشاق
***
قد تفرق السبل بين هذا وذاك لكن ذوات الدم الواحد كتبت لهم المشيئة قدر التلاقي حتى وأن رحل الأصل وغاب عن الحياة..
في تمام الثامنة مساءً كان أربعتهم يتقابلون في جلستهم، يتبادلون حديث رتيب عن الصحة وكيفية الحال والأحوال، سماح تقدم ضيافتها في زهو ووجه بشوش ثم تعود لتجلس جوار أنس الذي رأته عدة مرات قليلة وقت مرض أبيها الأخير وكانت أكثر من كافية لتنشأ من ناحيتها حبل وصال:
- قلت لي دخلت كلية أيه؟
ضحك أنس بقوة وهو يدس بفمه قطعة كبيرة من الطبق القابع بحضنه:
- جورجيا يا سماح..
وضم كفه يضرب فوق صدره بفخر، متابعًا:
- بصي دي كلية مش بيدخلها غير العباقرة اللي زيي.
ورغم جهلها لمجال دراسته الذي أفصح عنه للتو إلا أنها كادت أن تكلل ملامحها بالفخر لكن جاءتها نبرة ميسون مدمرة لجبهته:
- متصدقهوش يا سماح ده بيشتغلك، اللي قدامك ده أكبر فاشل ممكن تقابليه.
- التشيز كيك تحفة يا سماح تسلم إيديك.
ضحكت سماح على تبديله لدفة الحوار بمرح معتاد:
- لأ أنا عملت أم علي إللي نسفتها من شوية، ده عمايل نسمة مرات حسن.
ضحك أنس وهو يرفع رأسه يلقي نظرة فوق تلك المعنية والتي تحتل ركن آخر داخل البهو الواسع وتكاد أن ترديها نظرات زوجها التي تصيبها في الخفاء كل حين، إكتفت فقط بإلقاء تحية عابرة لتبتعد عنهم ليس بالكثير، تحتل مقعد آخر بالكاد تطاله الأنظار ويعتلي ساقيها حاسوبها النقال وتغرق في دوامة نقر لا تنتهي دونما تلتف لهم مرة واحدة.
- وأنت بقى يا حسن دارس أيه؟
قالها أنس ببساطة مخترقًا صمت حسن الذي يجالسهم بجسده فقط دون الإنخراط في أي حديث أو مشاركتهم المأكولات الطيبة التي تأتي بها سماح تباعاً في ترحيب حار خصتهم فيه، والجواب خرج دون مرح.. ملول:
- ثانوية بنين.
تظاهر أنس بالضحك في محاولة لتلطيف الأجواء التي توترت فجأة، في حين كانت ميسون تزجر أخيها بعينيها على وقاحته، فبالرغم من كل تحذيراتها الكثيرة في عدم تدخله في أي شيء يخص حياته السابقة إلا أنه لا يرتاح حتى يكسر كلمتها.. التقط حسن نظراتها الزاجره فاستطرد بهدوء مزيلًا حاجز الحرج:
- سبيه عادي، حقه يتعرف على أخواته.
تبسمت ميسون في حرج عجزت عن مداراته بينما تخطت سماح الموقف ببساطتها المعهودة وهي تربت فوق صدرها أسوة بأنس:
- أنا بقى معايا دبلوم تجارة، حاجة كده مش بياخدها غير الفاشلين اللي زيي.
تبسمت لها ميسون وقهقه أنس في جذل:
- والله أنتِ سكر.
- الله يجبر بخاطرك.
قالتها وهي تعدل من ربطة وشاحها حول رأسها في خجل واضح من إطرائه البسيط مما جعله يهز رأسه ضاحكًا من جديد، بينما وجهت ميسون حديثها اللين إلى حسن الصامت:
- مش عيزاك تقلق من موضوع الشغل، كل حاجة صعبة في أولها بس هتيجي بالخبرة والممارسة وعامة أنا هكون معاك خطوة بخطوة.
تكفل بشبح إبتسامة بينما يردد:
- كنت بفكر أنزل خلال اليومين الجايين.
- طالما وضعك الصحي تمام المكان كله هينور بوجودك أكيد.
نهض أنس تاركاً إياهم يتبادلون بقية الحديث عن العمل وأموره اللآمتناهية، تحرك بخطوات وئيدة تحت أنظار حسن المتربصة حتى وصل عند نسمة فتنحنح وحياها بهدوء رافعًا كف متوجس:
- إزيك؟
رفعت رأسها ببطء عن شاشة الحاسوب، رمقته للحظات قبل ما تعود لوضعها السابق قائلة بخفوت:
- أهلًا.
احتل مقعد مجاور دون دعوة وهو يقاطعها من جديد:
- التشيز كيك تحفة، تسلم إيديك.
همهمت شاكرة دون حديث، رفع حاجبيه خائب الأمل وهو يهمس متسائلًا:
- أنتِ مش فاكراني؟!
أطلقت سراح تنهيدة وهي ترفع رأسها تلك المرة تمعن النظر فيه وتهتف بهدوء تام:
- وأنا هنسى أول سيكشن ليا وأنت داخل فيه تشقط عيني عينك.
حك مؤخرة رأسه في حرج:
- ماهو حضرتك قمتي بالواجب يا دكتور وطردتيني شر طردة.
- عشان تحترم نفسك بعد كده.
قالتها بإقتضاب خافت قابله بضحكة صغيرة وحاجب مرفوع في تحدٍ عابث:
- المرة الجاية هاجي عشان أشقط المعيدة ذات نفسها.
لم تستطع كبح طيف إبتسامة لاح فوق ثغرها وهي تحرك رأسها يائسه:
- أنتو كلكوا كده مش طبيعين!
مال أنس بجذعه بعض الشيء، راقبها عن كثب للحظات، سأل بعدها بخفوت جدي:
- طيب إحنا وعيلة مجانين في بعض أنتِ بقى؛ جيتي هنا إزاي؟!
تحفزت في جلسها بينما تضم حاسوبها لصدرها وتجيب في غباء مقصود:
- هنا يعني أيه؟
في تردد:
- يعني معيده شاطرة.. وجميلة.. تكون متجوزة، يعني أقصد..
وترك جملته معلقه دون تتمة ليصلها مقصده تمام الوصول، رفعت بصرها في الحين إلى ذلك المعني بالحديث المبطن ليصدمها بصره الراكز عليها بقوة وغضب قرأته في ملامحه، عادت برأسها لأنس المترقب بفضول كاد أن يقتله وقد رسمت بسمة جذابة وهي تجيب حيرته:
- شكرًا يا أنس ده لطف منك بس أفضل الحوار بينا مايتعداش حدود الجامعة.. عن إذنك.
ونهضت تغادره بهدوء زاد من حيرته وفضوله، لتنتهي زيارتهم بعدها على وعد قريب بأخرى.
لملمت سماح الأكواب والأطباق تاركه إياهم داخل حوض المطبخ لحين تنتهي من تنظيف المكان بالأول، أطفأت المكنسة الكهربائية حين لاحظت وقفته المتصلبة التي طالت عند النافذة العريضة.. وقفت خلفه ومست كتفه متوجسة:
- في حاجة يا حسن؟
أجفل من لمستها ثم دمدم بحنق شاب نبرته:
- مافيش.
قالها باقتضاب وضيق لتغمغم بإبتسامة عريضة:
- شفت أنس!.. جميل مش كده، وميسون أخته كمان تقول عليها بنت ناس بحق من كتر ماهي مؤدبة.
هتف بفظاظة:
- مش ناوية تبطلي أسلوبك ده مع اللي يسوى ومايسواش؟
مطت شفتيها وهتفت معترضة:
- أسلوب إيه؟ ده أخويا وأخته!..
واستدارت تستكمل وصلتها السابقة بتجهم احتل قسماتها بينما هو ظل يراقبها للحظات دار بصره بعدها وإستقر فوق باب الأخرى المغلق منذ فترة، تحولت عينيه لجمرتين من لهب وإختنقت أنفاسه ليقرر ترك المكان بأكمله صافقا الباب من خلفه.
***
كان ينكفأ على حاله وأصابعه تخط شيء ما حين استشعر قربها البطيء، دون النظر يتخيلها تقترب وتقترب، ازدرد لعابه في عسر ورفع بصره ليقابله جلدها المجعد بقوة تثير الإشمئزاز في نفسه كلما نظر إليها، عاد بجذعه للخلف من فوره ملقيا بالقلم فوق المائدة هادرا بحنق:
- شيلي الزفته دي من هنا!
رفعت رأسها من فورها بوجه غاضب، تصيح فيه بدورها:
- اسمها لولي وبالراحة خضتني!
أنهت كلماتها ومدت أناملها تلتقط سلحفاتها الكسول من أعلى مائدة الإجتماعات، تضمها لصدرها برفق وتداعب رأسها ببنان سبابتها بينما هو يراقبها بقرف، كيف تلامسها وتضمها إليها دونما تفرغ معدتها!
- لا والله!
قالها وقد أثاره وضعها العجيب، لكن على مايبدو أن العجيب كله قادم عبر بحتها الرقيقه:
- أنا مسمحلكش تهين السلحفاة بتاعتي.
توعد بنظرة شريرة:
- ده أنا هحدفها من الشباك بس اصبري.
شهقت بعنف:
- للدرجة دي ماعندكش ضمير!
- مع البتاعه دي لأ.
- قلت لك اسمها لولي، عيب قوي تقول بتاعة..
وأردفت موضحة:
- على فكرة الحيوانات كائنات حساسه جدًا.
نفخ في سأم، من يجادل؟ فتلك السلحفاة التي تحضرها معها بشكل يومي منذ أسبوع مضى وهي تعاملها كإبنة لها بل وتلزم على الجميع مراعاتها، ألم يقل أنها صغيرة.. قصيرة.. عابثة!
- طيب اعتذاري الشديد للآنسة لولي، بس ممكن بعد إذن سيادتك تحطيها بعيد عن هنا خلينا نعرف نركز في شغلنا؟
ملامحه المكفهرة بشدة جعلتها تنفجر ضاحكة، رفع لها حاجب شرير بينما لم يفلح ذلك في تهدأت ضحكاتها حتى هتف:
- ممكن أعرف بتضحكي على أيه؟
تنحنحت تجلي حنجرتها، تكتم ضحكاتها قسرًا وتزيد من غيظه عن قصد:
- يعني واحد في سنك وخايف من حتة سلحفه.. مش شيء مضحك شوية!
- اسمها مقروف ياماما مش خايف.
زمت شفتيها في اعتراض فتنهد يائسًا وعاد يرتب أوراقه أمامه من جديد قائلًا:
- طيب شوية جد بقى..
تركت لولي جانبًا وإقتربت بمقعدها حتى جاورته تمامًا، تلقي بجل تركيزها فوق ما أشار..
تطلق سراح خصلاتها الناعمة مع ثوبها الأصفر الشاحب، فمنذ أن علق لها ساخرًا على طريقة ملبسها وهي تتفاني في إظهار أفضل مالديها، بضع شعرات متطايرة لامست جانب وجنته إثر قربها الخطير ليستدير برأسه غير مسيطر على بصره الذي تحرك ببطء من أعلى رأسها وسار بتلكؤ حتى وصل لعنقها المكشوف، بقي هناك لثوان يراقب الشامات الصغيرة المتناثرة كلا على حدا..
- أنا شايفه العرض التاني أفضل ولا إيه رأيك؟
مع نبرتها استعاد رباطة جأشه وعاد بتركيزه معها ليجد السلحفاة اللعينة تقترب مرة أخرى ودون تفكير تلك المرة، مد يده بالقلم ودفعها، يلقي بها بعيدًا حد أنها تعثرت وانقلبت فوق ظهرها بشكل يثير الشفقه والشهقة لصاحبتها التي أسرعت تعدل من وضعها في لهفة وأصابعها تجذب قلم آخر قريب ودون تفكير كانت تطعن ظاهر كفه بقوة تآوه لعنفها، عينيها تنظر له في تشفي بينما يصيح:
- يا بنت ال...
عض فوق شفتيه يمنع ما ينبثق عن لسانه دون إرادة منه إثر ألمه النابض، رفعت له حاجبا متحديا:
- بتقول حاجة حضرتك؟
من بين ضروسه:
- بقول العرض التاني أفضل فعلا.
ظهر انتصارها الخفي فوق ثغرها:
- يبقى اتفقنا.
- آنسة غنى مدير فندق... في إنتظار حضرتك.
جاءت نبرة مديرة مكتبها لتقطع حرب النظرات القائمة.. نهضت بخيلاء، تربت فوق خصلاتها وتهندم من ملبسها دون حاجة بينما تهتف لها بأنف مرفوع:
- دخليه مكتبي وجاية حالًا.
أومأت لها المرأة في طاعة وإستدارت مغادره ليميل بصرها ناحية ذلك الذي يرميها بشر النظرات، اقتربت بقسماتها المختاله تلملم أوراقها المبعثرة وما إن انتهت حتى ضمت بهم لصدرها ومالت برأسها إليه، عيناها تتحداه وسبابتها تشير نحو السلحفاة:
- لو قربت منها...
وبسيف يدها نحرت رقبته من البعيد في تهديد صريح للقتل ثم أبتعدت من أمام عيناه الذاهلة؛ المتحوله لمتوجسة وهو يرى العجوز الشمطاء تقترب ناحيته من جديد في إصرار شرير يشبه صاحبتها.. الشهية!
***
انتهت من تغليف العلبة المربعة بين يديها وأرسلت بها للخارج مع إحدى العاملات بالمكان.. مضت عدة أيام منذ أن بدأت عملها برفقة نسمة، ولأنها إعتادت تقديم أفضل ما لديها كانت تبلي جيدًا فنالت على إستحسان وثناء من صاحبة المكان، أكثر ما يعجبها بعملها الجديد؛ خلو المكان من الرجال مما أعطاهم جميعًا مساحة من الحرية خاصة والجو يميل للحرارة كل يوم أكثر عن ذي قبل.
فتحت باب الفرن تتناول مافيه بحذر، تركته يبرد فوق الرخامة العريضة وراحت تساعد نسمة في تزيين قوالب الكب كيك الخاصة بطلبية اليوم..
- حبيتي قبل كده يا نسمة؟
جاء سؤالها المباغت بجرأه لم تتوقعها يقطع صمت الأجواء ليحل محله صمت من نوع آخر.. صمت عبث بعروق قلبها الجافة، قلبها اليتيم بدنيا العشق التي تسألها عنه، عشق رسمته بخيالها ولونته بأحلامها لتصحو على حقيقة مرة شطرت قلبها بعشقه إلى نصفين.
تخطت سؤالها بسؤال، فما يدور في مخيلة سماح مكشوف حد السخرية:
- ليه؛ أنتِ حبيتي قبل كده؟!
لم يخيب ظنها إذ مطت شفتيها في حركة مفتعله و تدمدم بالقرب منها خوفًا من أن يسمعها أحدهم:
- كان أسمه عادل..
وأطلقت ضحكة صغيرة تهديها للذكرى بينما تردفت:
- يلا الله يجحمه مطرح ما راح.
ضحكت نسمة حتى ظهرت نواجذها على سلاسة ما تقر به:
- أنتِ مشكلة بجد..
- أعمل إيه؛ فضل معشمني وآخرتها استندل ابن صفية العمشة.
- ده عشان ربنا بيحبك.. أنتِ تستاهلي كل الخير ياسماح.
- والنبي أنتِ عسل.
ولم تنتظر منها رد بينما تتابع بنبرة باطنها الخبث المفضوح:
- حتى حسن له ماضي عاطفي..
- ده أنا محظوظة على كده.
علقت بنبرة ساخرة دونما ترفع وجهها عما تفعل، لتهتف سماح من جديد بعد مصمصة شفاه:
- طيب اللى مش عاجبك ده كان مطمع لبنات الحارة كلهم.
- مطمع!
هتفت مستنكرة لتهز سماح رأسها في تأكيد ولسانها يسرد بداية القصة بكل بساطة:
- كنا في يوم قاعدين أنا وأمي الله يرحمها ولقينا ده داخل علينا وساحب وراه واحدة.. طبعًا أمي ماقدرتش تمسك لسانها وقالت لها أنتِ مش خايفه ياخدك في شقة فاضية ويعمل فيكِ حاجة وحشه يابنتي؟ يدوب قالت لها الكلمتين دول ودي وشها جاب ألوان وقامت تجري على الباب...
إبتلعت لعابها تراقب نسمة المستمعة في ترقب رغم تظاهرها بعد الإهتمام، لتكمل في حماس بقية الحكاية:
- يدوب دي مشيت من هنا وده ركبه عشرين عفريت، دب خناقة لرب السماء وهو يصرخ ويقول بحب رحاب ومش هتجوز غير رحاب.. يهديك يرضيك طيب ركز في شهادتك الأول، كان وقتها في ثانوية عامة وده أبدًا صمم على رأيه وعايز يروح يخطبها من أبوها ولما أمي وقفت له وقالت له على جثتي غضب و ساب البيت، فضل مقاطعنا شهر بحاله لحد ما رجع لوحده واتاريه صرف نظر عن الموضوع بعد ما عرف أنها ماشية مع شباب الشارع كله.
إرتفع حاجبي نسمة في صدمة لم تفلح في إخفاءها لتتابع سماح:
- لكن الحق يتقال البت كانت زي فلقة القمر ولا يبان عليها، بس كسرت نفسه منها لله، من بعدها وحاله اتشقلب كره المذاكرة والمدارس حتى الكلية بعد كده دخلها كام شهر وقال مش عايز علام.. وياما تحايلنا عليه عشان يتجوز وهو راكب دماغه لحد ما ظهرتي أنتِ وقلبتي حال الواد وأم الواد.
ختمت قصتها بمكر باتت تجيده وهي تضربها بكتفها في مرح لم تجد له صدى وهي تراها تتابع ماتقوم به في صمت مطبق وملامح عابسة وما إن فتحت فمها تنوي الثرثرة من جديد قاطعها صوت دخيل:
- سماح في واحد عايزك بره؟
رفعت كلتاهما حاجبيها وحين تقابلت النظرات جاء نفيها السريع ردًا على نسمة التي تبدو كمن ضبطها في وضع تلبس:
- والنعمة ما عرفت وحايد من بعد الندل!
أفلتت من كلتاهما ضحكة صغيرة لتهتف فيها نسمة على عجل:
- طيب روحي شوفي مين وأنا خلاص خلصت.
تركتها وراحت تضبط من وضع حجابها وترتدي عبائتها التي تخلعها وقت العمل.. وجدت رجلًا بملامح مألوفة وبيده تتشبث فتاة صغيرة لا تتعدى الخمس وعلى ما يبدو أنها ابنته لشدة مابينهما من شبه واضح.. حثت الخطى حتى قابلته في وقفته بملامح مستفهمه قابلها بإيماءه صغيرة ونبرة مهذبة للغاية:
- تسمحي لي أخد من وقت حضرتك دقايق؟
والله تسمح لها بعمرها كله عقب تلك النبرة المهذبة، قطعت تفكيرها وهي توميء برأسها في تعجب لم يغادرها بعد:
- طيب اتفضل هنا..
وأشارت بكفها نحو طاولة صغيرة تحتل ركن جانبي طاله أعين صاحبة المتجر وكل العاملين بالمكان.. جلس وأجلس ابنته إلى جواره دونما يفلت كفها، وما إن جلست حتى تسآلت في تردد وهي على ثقة تامة أن تلك الملامح مرت عليها من قبل:
- هو أنا شفتك فين قبل كده؟
توجس خفيه من تلك العيون المصوبه عليهم إلا أنه مال بعض الشيء محاولا إنعاش ذاكرتها بكلمات متفرقه لكنها أكثر من كافية:
- الشط.. سندوتشات الجبنة.. العشرين جنية!
طالعته في ذهول وهي تتذكره بالفعل وفي اللحظة أدركت سبب مجيئه، فعلى مايبدو أنها أخطأت في تقدير الأمور فبعد إلقاء نظرة شاملة على ملبسه وهيئة ابنته أدركت كم كانت حمقاء وأنها هي أولى منه بكرمها الحاتمي.. كعادتها غمغمت ترفع عنه الحرج، وببساطتها المعهوده:
- يعني حضرتك جاي عشان ترجع العشرين جنية؟.. على كل حال هي طلعت من ذمتي خلاص ومش هينفع أخدها.
فتح فمه ينوي الكلام إلا أنها قاطعته بكف مرفوع لا يقبل التفاوض:
- والله أبدًا خلاص، إديها للأمورة الصغيرة.
- ممكن أتكلم!
هتف بصرامة أخرستها وهي تومىء برأسها بوجه عابس وماكاد يفتح فمه حتى قاطعته نسمة التي جاءت بطبق فيه قطعة كعك شهية، وضعته أمام الصغيرة بعد ما لاحظت نظراتها الجائعة لها إلا أن كف أبيها منعها بسرعة أقرب للفظاظة:
- شكرًا بس مش هينفع..
وإستطرد بخفوت:
- أميرة مريضة سكر.
تجمدت أصابعها وعادت للخلف آسفة على حال الصغيرة بينما ترفع بصرها ناحية سماح التي لم تكن أقل منها أسفا إلا أنها قررت تجاوزه سريعًا:
- اتفضل حضرتك كنت بتقول إيه..
ألقى نظرة على صغيرته التي تبسمت له في براءة فبادل بسمتها بأخرى لها وقع ساحر ثم عاد لها يستهل حديثه في تردد و تلعثم لم تخلو منه كلماته السريعة:
- أحمد زين الدين.. سبعة وتلاتين سنة.. مدير حسابات في شركة مقاولات محترمة.. ميسور الحال بفضل الله ويشرفني أطلب إيد حضرتك؟
أنهى حديثه ملتقطًا أنفاسه وقد زين ثغره بإبتسامة هادئة تحولت لمتوجسة وهو يرى الأفواه الفاغرة من أمامه وخلفه!
أنت تقرأ
الغنيمة
Lãng mạn"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...