(39) والأخير
كلٌ منّا يخوضُ حربَه الخاصّة, وما بين منهزمٍ ومُنتصر تبقَى الغنيمَة هي الحقّ المكتسَب لمن ظَفر
مساء خريفي هاديء وصمت ناسب كوب الحليب الدافىء الساكن كفيها مع صحبة مسلسل تلفزيوني يعود لحقبة التسعينات، عيناها تتناقل بين التلفاز تارة وأخرى بين الصغير المفترش بألعابه السجادة الوثيرة، هادئة كورقة شجر هجرتها الخضرة ومازالت تتشبث بغصنها في محاولة للبقاء حتى يأتي ربيع يعود لها بأنفاس الحياة.
تعالَى جرس الباب يقطع اندماجها بينما تنهض من جلوسها تفتش عن وشاحها وصوتها ينهر الصغير الراكض ناحية الباب:
- استنى يا علي!..
لم يستمع لتحذيرها وجذعه يشتد في محاولة فاشلة لفتح الباب، لفت وشاحها كيفما اتفق واقتربت تعاونه على فتحه حتى فعل، ما إن توارب الباب حتى صاح الصغير في سعادة:
- باباااا.
- حبيبي.
ورفعه بين ذراعيه فتعلق الصغير بعنقه كما يفعل كلما حمله، غمغمت نسمة من خلف الباب الموارب:
- اتفضل يا أنس.
ولج حاملا الصغير بين ذراعيه مؤنبا إياه بأصابع تقرص أرنبة أنفه المنمنمة:
- مش قلنا نعرف الأول مين بيخبط قبل مانفتح؟
حرك الصبي رأسه عدة مرات مع ضحكة شقية جعلت منه فريسة لقبلات أنس القوية، تدخلت أمه الباسمة إثر ضحكاته بينما كتفيها يتحركان في قلة حيلة:
- بقى شقي بشكل مش ممكن.
جلس أنس فوق المقعد وأراح الصغير فوق ساقيه موجها إليه الحديث:
- همممم شكلك عامل بلاوي.
ثم اوقفه على قدميه حتى يقابله بوجه شرير، ضاحك:
- قولي بقى عامل إيه؟
وظنه الصغير يسأل عن حاله فصاح بإجابته المعهودة في بهجة أبرزت كرمشة عينيه وصفي أسنانه المنمنمة:
- كويسة.
جلجلت ضحكات أنس كاسرة الهدوء من حوله بينما ينكب فوقه يدغدغه بمرح:
- برده كويسة! ده أنت محتاج سمكري يظبط كلامك المشقلب ده.
وظل المرح قائما حتى انتهت من توضيب السفرة، جلس ثلاثتهم يتشاركون البيتزا الشهية ومن بعدها جاور الصغير فوق الأرضية، يلاعبه تارة ويستمع لثرثرته الغير مفسرة تارة أخرى، بعد حين استغل انشغاله بفيلمه الكرتوني الأثير ونهض عن الأرضية، احتل مقعد مجاور لزوجة أخيه، يسألها في توجس:
- ساكتة ليه؟
كانت تراقبهم بصمت وابتسامة هادئة ترتسم فوق ثغرها لم تدر أنها شردت بعيدًا حتى وصلها همسه الخافت، رسمت ابتسامتها بينما تجيب:
- مفيش، يمكن إرهاق شغل بس.
بادل البسمة بأخرى متوترة وازت يده التي خرجت برزمة أوراق نقدية:
- اتفضلي.
- إيه ده؟
أجاب ببساطة:
- فلوس الشهر.
تقهقرت بسمتها المتكلفة واحتدت نبرتها بينما تجيب:
- وأنا قلت لك يا أنس مش هاخد فلوس تاني، المحل شغال كويس الحمد لله والمكسب بيغطي مصاريفي أنا وابني..
وصمتت لبرهة تبتلع فيها غصتها المسننة، تتشابك أصابعها في اضطراب بينما تغمغم في خفوت وبصرها يرتكز فوق صغيرها اللاهي:
- مش محتاجين حاجة من حد، قول له متشكرين.
مسح عن وجهه بكفيه مع تنهيدة كبيرة بينما جذعه يميل ناحيتها مدمدمًا برجاء:
- أرجوك يانسمة ماتقوليش كده، أنتِ عارفه غصب عنه و..
قاطعته بوجه محتقن:
- أرجوك أنت بطل تقول غصب عنه.. مش بإيده.. اصبري ومعلش.
ارتجفت شفتاها بينما تخفض من صوتها وتسأله بغضب مدفوع بكبت السنين:
- لحد إمتى يا أنس هيستمر الوضع السخيف ده؟ سنتين أهو ومفيش جديد.. لحد إمتى؟
وتغضن جبينها بسؤال يكاد يسقط بها فوق حافة الجنون:
- هو عارف أن علي بيقولك بابا؟
وهه ساخرة أجابت بها على سؤالها بينما تعقد ساعديها فوق صدرها، تعود بجذعها المشدود إلى الخلف بدمدمة خافتة:
- ولا مايعرفش مش هتفرق.
يمنحها كل العذر حتى تغضب، تثور، لم تكن امرأة غيرها لتقبل بوضع كهذا، ليت بيده حل تلك المعضلة اللعينة، ليته يستطيع..
خلَع عويناته الشفافه زافرا، مسد أعلى أنفه ببنان أصابعه بينما عقله يبحث عن كلمات تهدئ من نيران صدرها، حين عاد بعويناته قابل وجهها الواجم بيقين يصدقه رغم كل شيء:
- أخرتها هيرجع.. صدقيني.
لم تبدِ أي رد على كلماته فترك المال فوق منضدة صغيرة تفصل بينهما وتأهب للرحيل، قاطع نظرتها الرافضة وأوقف كلماتها:
- عشان خاطري خليهم.
ثم طبع قبلة فوق رأس علي المتثائب وغادر.
أخذ يلوح له الصغير بكفه حتى اختفى من خلف الباب فاعتدل يلقي بجسده فوق أمه الشاردة وبينما يده تدعك عينيه همس لها بنعاس وتعثر حروف:
- عايزة تنامي.
تبسمت على لفظة التأنيث التي يخص بها نفسه وحملته بين ذراعيها حتى وضعته بالفراش، دقائق قليله وكان يروح في نوم عميق، بسمتها لاتغادرها طالما تنظر إليه، أصابعها تتحرك فوق جبهته وخصلاته دون كلل، تزداد شقاوته يوم بعد يوم، ويتضاعف تعلقها فيه أكثر، حتى تكاد تشعر أنه النفس الذي يربطها بالحياة، فحياتها بلاه دون قيمة تذكر.. حياة أصبحت لاتشمل على شيء غير وليدها وعملها بمتجر الكعك الذي تتشاركه وسماح بعد تركها العمل بالجامعة، كان عليها اختيار واحد فالاثنان مع الصغير محال، وقت الموازنة رجحت كفة المتجر، لم تجد تفسير تقدمه لنفسها آنذاك غير أن ذاك الدفء والحميمية التي تشعر بها بين جدرانه لا تضاهيها أخرى، روح أمها التي تحوم حولها وتذكرها بحالها يوم كانت صغيرة ولا تكف عن اللعب من حولها وقتما كانت تقوم بعملها داخل مطبخ القصر.. راح القصر وساكنيه وبقيت الذكرى عالقة بسراديب العقل والروح.
تبسمت بحنين للماضي ولذكرى الغائب بينما تسير بأناملها فوق قسمات النائم..
"أين أنت ياحسن ترى ابنك كم كبر؟ كم صار يشبهك!"
تساءلت داخلها بمرارة بينما أروقة الذاكرة تجتر ذكرى البارحة لتحل ضيف الليلة كما الأمس وقبل الأمس بل منذ رحل ولم يعد..
ذكرى آخر ليلة قضاها بين ذراعيها بحال غير الحال، ومع أول خيوط الفجر كان المكان البارد يعلن عن غيابه، ترك البيت وترك الحياة كلها من خلفه..
اتخذ من بيت المزرعة ملجأ لشتاته، عزلة اختارها بملء إرادته، انطوي عام وها هو يتبعه آخر ولم يكتفي بعد، قاس حتى بعقابه..
ولم تكن لتجلس بصفوف المتفرحين وهي ترى كيف تبتلعه دوامات الندم، يندثر داخل بوتقة الذنب دون رحمة، ذهبت إليه حيث يلوذ، تستنكرعزلته وتسأل حائرة:
- بس ربنا مقالش كده، بتقسى على نفسك ليه؟
سأم مداراة عرجه فألقى بحاله فوق الأريكة مدمدمًا باختصار:
- محتاج أكون لوحدي فترة.
- فترة أد إيه؟
- مش عارف.
حوار ثقيل، مغموم، اقتربت من جلسته تهادن وتطيب بصبر:
- خد الفترة اللي تكفيك بس وأنتَ في بيتك.
كان يرمق الأفق بصمت طال، ظنته لن يتحدث حتى قال بنبرة بدت قاسية رغم هدوئها:
- مرتاح هنا.
كان كاذب وكانت تعلم، ظلت ترمقه بصمت كئيب قطعه من جديد بغمغمة بينما يتكئ بذقنه على رأس عصاه وبصره يعانق الأرض في هروب من لقاء عينيها المنذرة بغيث قريب:
- أنا محتاج وقت طويل عشان أقدر أرجع وأقف على رجليا من تاني، ووقت أطول عشان أحس إني تطهرت من ذنوبي..
حاولت التخفيف عنه بهمس خافت، مختنق:
- بس أنا سامحتك.
- وأنا مش قادر أسامح نفسي!
صاح بها منفعلا ثم صمت لبرهة تابع بعدها بحروف مثقلة:
- لوعايزه ترتاحي من كل وجع القلب ده أنا مش هلومك، بالعكس هحترم قرارك.. وأنفذه.
لِمَ يظن أنها قيد من ذنب يلتف حول عنقه؟
ألا يشعر بعشقه الساكن ضلوعها والوله عينيها؟ لم لا يلقي بأثقاله فوق رحابة صدرها وهي كفيلة بدحرها!.. لو هناك ذنب بينهما فهو ذاك الشعور العذب حد المرارة، الجميل حد الألم، الحي حد الموت، الذي يسكنها وإياه.
هتفت تعانده وتضرب عقابه اللعين هذا في مقتل:
- طيب فكرت في علي؟
وكأنها تخبره ألا مهرب، لن ينفصم مهما حاول، لكن جوابه الهادىء كان حاضر:
- هيفضل في حضنك.
ظلت تراقب وجهه الجامد دون تعابير واضحة بينما عيناها تفك أسر العبرات في صمت، حتى لو كان حديثه هذا بدافع من ندم لكن يكفي قلبها أنه قالها وفكر بها حتى يجزع وينوح في صمت..
حين طال صمته شدت من نفسها ونهضت ترحل عنه ومنه، تهرب من كلماته البغيضة ومن درب يريد الزج بها فيه ظنا أنه يريحها ويرفع عنها كل مكروه، لايدري أن الشقاء كتب عليها رفيقا على طول الحياة.
قرابة عامين كان فيهم نصف حاضر نصف غائب، تشعر بطيفه ولا تراه، من البعيد يسخر كل السبل لراحتهما، وليته يدري أن ذلك كله لن يجدي، سوف تظل الصورة منقوصه بغيابه أبد الدهر ولن تكتمل إلا به.
عادت من الذكرى البعيدة على عبرات تغرق وجهها دون شعور، استعاذت من شيطان يسعى لتقييد روحها بالهموم، فرغم غضبها وألمها لا تملك غير الدعاء له بالهداية والصلاح.. وعودة عاجلة غير آجلة.
دنت من الغافي تطبع قبلتها الطويلة فوق جبينه ثم انسلت بجسدها تجاوره، تضمه إلى صدرها، قطعة منه ستظل جوار قلبها العليل حتى يشفى أو تفنى هي من الوجود، أخذت تردد وردها من فوق رأس الصغير حتى تلاقت أجفانها على مهل..
والنفس الصابرة الراضية؛ حتمًا هي مفتاح اليوم لغنائم الغد.
***
تنحني بجذعها فوق الأرضية تلملم المياه بقطعة قماش، تعتدل تعصرها بقوة وتمسح بظهر كفها عرق جبينها ثم تعود تعيد الكرة، في الثالثة توقفت تلتقط أنفاسها وتستكمل وصلة حديثها:
- أول ما وصلها خبر أنه متجوز عليها فضحته وحلفت مية يمين ماهو معتب باب البيت تاني وحصل.. الولية القادرة غيرت الكالون وحدفت له هدومه من البلكونة زي مابنشوف في الأفلام.. بس إن جيتي للحق يستاهل ماهو اللي طفس.
كانت تصغي إليها بتركيز كبير، تقضم قطعة من التفاحة، تلوكها ببطء وتفكير سابح مع حكايات أم شلبي الغير منتهية:
- كملي ياولية حصل إيه بعدين؟
- ولا قبلين ياستي، العيال معاها وهيموت ويشوفهم وهي أبدًا.
غمغمت سماح بانفعال مع حكاية الجارة التي لاتعرفها:
- بصي هو قليل الأصل صحيح بس دول عياله برده، وحرام يتحرم من شوفتهم.
- ماهو ده نفس اللي قولته والله يا ست سماح، يلا هنقول إيه ربك يهدي عبيده.
فضت من مسح الأرضية ثم عادت بكل قطعة إلى مكانها وبذلك تكون انتهت جولتها التنظيفية لليوم، عند الباب ناولتها أجرتها المتفق عليها وجادت فوقها بالمستطاع، قلبت المرأة بصرها فوق المال والحقيبة البلاستيكة الكبيرة لتهتف بسعادة ورضا:
- كتير ده ياست سماح.. والله كتير..
ربتت فوق ساعدها بحنو:
- لا كتير ولا حاجة أنتِ تعبتي النهاردة.
- روحي ياشيخة ربنا يجبر بخاطرك ويقومك بالسلامة ياست الستات.
امرأة طيبة أم شلبي لكنها تجيد بشكل ما نقل حكايا البيوت، تحتاط من لسانها وتأخذ منها دونما تعطي، ولولا وضعها الصعب في شهور الحمل الأخيرة ما كانت لتقبل بعرض أحمد في مساعدتها مهما كلف الأمر من إصرار.
استوطنت مطبخها على عجل، ضاع الوقت في التنظيف وحكايات أم شلبي ولم تبدأ في إعداد الغذاء وقد اقترب عودة الغائبين.
بعد حين وصلتها طقطقة الباب وماهي لحظات حتى كانت تقتحم خلوتها بصخبها المعتاد:
- هموت من الجوع..
تلقي بالحقيبة المدرسية عن ظهرها وتقتحم المبرد بينما يصلها هتاف سماح ويدها تقلب ما بداخل الطنجرة:
- غيري هدومك يكون الأكل جهز.
سألت أميرة ويدها ترتفع بالزجاجة لتشرب منها مباشرة:
- بابا جه؟
- لسه، واشربي في الكوباية يا مقرفه.
حطت بالزجاجة فوق المنضدة واقتربت بفكر مشغول.. متردد:
- ماما..
- همممم خير؟
اقتربت أكثر ترسم المسكنة:
- بكرة عيد ميلاد رؤية صاحبتي وعايزة أروح.
تركت مابيدها وقابلتها تتفاهم وإياها بلين:
- ما أنتِ عارفه بابا مش بيوافق على كده ياحبيبتي.
عقدت الصغيرة ساعديها في سخط واعتراض بين:
- بس صحابي كلهم رايحين وأنا عايزه أروح ماليش دعوة.
- طيب وأنا في إيدي إيه بس؟
- اقنعيه ياماما بالله!
- ده على أساس أنه بيسمع لي وكده؟.. ده أنا ماشفتش أنشف من دماغ أبوكي.
- يعني كده خلاص مش هروح!
- طيب ماتزعليش، نحاول معاه مش هنخسر حاجة.
وحول سفرة الغداء كانت تتشارك وإياها الهمزات والغمزات الخفية، تمنح كل منهما البداية للأخرى حتى زفرت أميرة وصاحت بصبر طفلة وقد فرغ:
- بابا عايزه أروح عيد ميلاد رؤية!
التهم اللقمة الساكنه أصابعه يمضغها على مهل بينما يسأل بتقطيبة جبين:
- رؤية مين؟
- رؤية صاحبتي يا بابا هو فيه غيرها!
يوما ما سيقتلهم بهدوئه اللعين هذا:
- معلش مش مركز، على العموم مش هينفع.
تركت الطعام بينما ترمق سماح في توسل للتدخل، وكانت لها خير معين:
- مش هينفع ليه بس يا أحمد، خليها تخرج وتتبسط مع صحابها.
صاح في تصميم حاد:
- لما أقول لأ يبقى خلاص انتهينا.
استغلت سماح انشغاله بالطعام من جديد وأشارت لها بأن تبدأ في الهجوم المعاكس وتشهر سلاح الأنثى الفتاك، أومأت لها موافقة واعتصرت جفنيها قبل ما تطلق صياحها المتهدج وتبدأ وصلة الابتزاز العاطفي:
- كل صاحباتي رايحين اشمعنا أنا؟ ولاااا أنا مريضة سكر صحيح المفروض تتحبس ماتشوفش الشارع! ليه ياربي مكونش زي باقي البنات.
فاجأهم بضحكة شريرة مصطنعة هدمت مخططاتهم السابقة:
- شفتكم على فكرة، ومش هتأثر لأ..
- يا بابا!
قاطعها في صرامة:
- خلاص يا أميرة.. متجادليش.
هنا بكت عن حق ونهضت دونما تستكمل طعامها وقد تكهرب الجو.
في المساء صنعت له كعك البرتقال الذي يحب، يجاوره قدح من الشاي الخفيف وفوق أريكة التلفاز جاورته على مهل، راقبت قسماته الجامدة منذ حينها، أخذت نفس طويل قبل ما تخبره بثبات وهدوء نافس هدوءه:
- أميرة هتروح عيد ميلاد رؤية يا أحمد.
لم يكن سؤالاً بل إقرارًا أكيدًا لايقبل الطعن أو الشك، التفت لها برأسه في توبيخ:
- أنا عارف محدش غيرك بيقويها وينشف دماغها.
- مش هيحصل حاجة لو راحت يعني.
- أنتِ هتجننيني!.. عيد ميلاد يعني تورته وجاتوه وليلة حلو في حلو، عارفه ده معناه إيه مع حالة أميرة؟ ماهو لازم تبقي عارفه وإلا دي كارثة..
ختم حديثه وحدجها بنظرة جانبية لم تفقه إن كانت مستهينه أم ساخرة لكنها اقتربت تربت فوق كتفه وتهادن بلطف:
- قبل ما تتنرفز وتتعصب افهم، دلوقتي البنت بتكبر وبتفهم كل يوم عن اللي قبله ولما تشوف نفسها ممنوعة من حاجات غيرها بيعملها ببساطة حقها تتعقد.. عاوز تعقد لي بنتي يا أحمد!
لم يرد فالتصقت فيه أكثر تطرق فوق الحديد الساخن:
- وبعدين متخافش أميرة واعية ماشاء الله وهتصون نفسها.
- مش عايز بنتي تتعود على كده.
- البنت نفسها تفرح، سيبها الله يخليك.
بدا عليه الاقتناع بينما التراجع عاد يزحف فوق محياه حين لفظ باقتضاب:
- أنا ورايا شغل بكره مش هقدر أوصلها.
- متشغلش بالك أنا هوديها وأرجعها.
- تودي مين؟ ده أنتِ بتمشي بالعافية!
- ميجراش حاجة ده الحركة حلوة للحوامل.
- مش بقولك بتقويها عليَّ.
- واحنا لنا بركة إلا أنت يا عسل.. أما أقوم أفرحها بقى.
ثوان فقط وكانت ابنته تغرقه بقبلاتها امتنانا وسعادة لا توصف، بالكاد هدأت من روعها لتبسط له كفها:
- إيدك بقى على الفلوس لزوم الهدية.
- اوووبا وصلنا بقى للكلام الماسخ وده متفقناش عليه.
- يا بابا أنجز.. شلتني!
- لا فعلا يازين ماربيت، روحي يامؤدبة خدي فلوس من الدرج واعملي حسابك مفيش زفت تاني.
هرولت للغرفة تحضر المال وقبل ماتختفي خلف بابها هتفت في سماح بحماس وابتزاز تجيده:
- موحا هتعملي لي شعري استشوار.. اتفقنا؟
أومأت لها باسمة فقفزت تصفق بجذل وغابت بعدها مع دولابها تنتقي ملبسها وتغرق بين أكوامه.
بينما سماح ترفع كفيها، تدعو في جدية رهيبة:
- ربنا يفرحك ويراضيك زي مافرحتها وراضتها كده.
قربها إليه بذراع أحاط به كتفيها مناغشا إياها بكلمتها الأثيرة.. ضاحكا:
- تسلمي ياعسل.
وامتزجت ضحكتها بخاصته، حد التوالف والألفة، المودة والرحمة، السكن والملاذ.. حد بساطة الصورة وعظيم الجوهر.. وكل ذلك في حد ذاته غنيمة.
***
صباح نادي بنسمات منعشة أقرب للباردة، حلاوة الجو كانت تدب فيه جرعات نشاط إضافية، اطفأ السيارة وترجل أمام المزرعة، ولم يكن يدر أنه يوم من أيام سعده، قفزت نبضاته داخل ضلوعه بمجون، عليه أن يخبرها ذات يوم أنها تصيبه في مقتل حين ترتدي الأزرق، فاجأها برؤياه كما فاجأته، يفرق بينهما إطار البوابة، هي من داخل المزرعة وهو خارجها، أما آن الأوان ليجتمعا بنصف واحد!
- صباح الخير؟
صوته هو من انتشلها من بؤرة التحديق الشاردة، خطفها لوهلة، منذ متى لم تره؟ أيام زهدت إحصاءها، كادت تفلت ضحكة على منظره بالعوينات الطبية، تمنحه وقار وعمرا فوق عمره، لكنها حتمًا تزيده جاذبية، هكذا قالت عيناها وأكد قلبها.
- صباح النور.
همست بها سريعًا ما إن استعادت سيطرتها وهمت برحيل جمعها بنصفه، لم يشعر إلا وخطوته تتبع خطوتها قائلا في تردد واضح:
- عيشة!
توقفت ترمق باب المزرعة وتعود إليه بهزة رأس متسائلة همس على إثرها:
- عاملة إيه؟
تجاهلت لهفته وأجابت بعملية بحتة مقطبة قسماتها حتى لاتفضحها:
- الحمد لله يا أنس بخير، وأنتَ؟
غمغم بحرارة نافست برودة نسائم الصباح:
- الحمد لله، دلوقتي كويس.
بالكاد دارت بسمتها المنفلتة وخلصت أنفاسها المتعثرة بينما تستدير عنه، تبتعد بسرعة أقرب لهرولة، تهرب من قيد مشاعر لاتملك أمام سيطرتها سوى الخنوع بكل عشق ممكن..
يرفض أبيها أن يجمع بينهما ميثاق حتى تتم دراستها أولاً، تقدم لخطبتها بعدد مرات يؤهله لدخول موسوعة جينيس باءت كلها بالفشل وإن كانت لاتخلو بعضها من أمل والوسيط قلبها بالطبع، تبقى عامان بطولهما ولوع قلبيهما حتى تبطل حجة السيد عبدالحميد.
ظل واقفًا حتى اختفى طيفها من أمامه، حينها فقط حمل حاله وتابع طريقه على أمل بلقاء آخر قريب متسلحًا له بصبر زاده عشق ساكن بين الضلوع..
هو باتَ يدركُ جيداً أن كلّ نفيس يستحقّ المعافرة حتى به تغنَم.
***
ضرب الفأس بالأرض اللينة مرة وثانية وعاشرة حتى تألم ذراعاه فتوقف يمسح عرقه عن جبينه ويلتقط أنفاسه، تخترق أشعة الشمس عينيه فيغيب البصر للحظات سرعان ماتنقشع من بعدها العتمة ويعود ضوء النهار يفرض سلطته، كان الجو بديعا، ناوشه حتى طرد عنه ثوب الكسل فقام ممسكا بفأسه وغرس بذوره، بفضله تحول الفراغ المحيط بمنزل المزرعة في غضون شهور منبعًا للرياحين والخضروات، رفع ذراعه ينوي عودة للعمل حين جاءه صوت العم عبدالحميد يناديه وبصحبته قدحين من الشاي الثقيل:
- قلت مش هشرب الشاي غير معاك.
أنزل الفأس عن كتفه وتحرك يجاوره فوق الدكَّة المحتلة لجزء من واجهة البيت:
- ده يزيدنا شرف ياريس.
ربت عبدالحميد فوق ساقه مدمدما:
- الشرف لينا يابني.
ناوله كوب الشاي وأخذ يرتشف خاصته ببطء بينما يخبره بنبرة غلبها الحنين:
- تعرف ياحسن..
دار برأسه يوليه جل اهتمامه فتابع:
- دي كانت قعدتنا أنا وأبوك، المصطبة مع كوباية الشاي المعتبرة وحكاوي من الشرق وحكاوي من الغرب تفوت بينا الساعات ولا نحس.. هيه؛ سبحان من له الدوام كل شيء فاني، القعدة والصحاب.
راح حسن ببصره حيث الأفق الواسع ورشفة جديدة بددت الغصة الوليدة بينما يهمس:
- الله يرحمه..
ترحم الصديق على الراحل بدوره ثم استطرد، فعلى مايبدو أنه قرر فتح صندوق ذكرياته وحينها يجود بالكثير كما يحب أن يفعل:
- لما كنت أشكي له همي كان دايما يقولي اتجوز ياعبدالحميد ده اللي مالوش ولد يسند شيبته يعيش ويموت غريب، وأنا أرد عليه إن عيشة عندي بمية ولد، يقوم ضاحك وساكت.
لم يكن يدري أن عبدالحميد حامل أسرار أبيه، يعرف كل صغيرة وكبيرة وكل تفاصيل الماضي، حتى الجزء الذي يخص أمه، تحاشى الخوض فيه لكنه أشار بما فيه الكفاية ليدرك أنه على دراية كاملة بما كان.. غمغم بشجن هو وليد اللحظة:
- يظهر أن الغربة مكتوبة علينا نصيب ياعم عبدالحميد.
ترك عبدالحميد كوبه ورفع أحد كفيه يحط به فوق كتفه بينما الآخر سكن فوق فؤاده يخبره بأبوه ولدت فيه لأجله:
- الغربة في القلوب يابني، طول ما ده عمران بالخير فأنت ونسان.
ربت حسن فوق كفه الساكن فؤاده شاكراً، باسما:
- تعيش ياراجل ياطيب.
عاد عبدالحميد للوراء وقد افترق مبسمه في رضا بينما يربت فوق ساقه من جديد، كم تشابه اليوم بالأمس، فمنذ سنوات جاءه أبوه بحال يشبه الذي جاء فيه ابنه الجالس جواره قبل عامين، تائه فوق رقعة الحياة دون دليل، بروح مختنقة داخل جسد خاو، لم يمنح الوقت للوالد حتى يعود، انتهى به العمر دونما يصلح ما أفسد، لكنه راح نادما ولعل بذلك تكون النجاة.
كان يدري عن أسباب الراحل لكن هذا الذي يجاوره لايدري عن حاله شيء ومع ذلك فعل كل مايمكن لعجوز مثله أن يفعل. طيب ذكر صاحبه الراحل كأب وعطر سيرته، منح ابنه حبل وصال حتى وإن لم يعد له أثر، يكفيه أن يترحم عليه ما ان يحضر طاريه، ظل ينتقي بكلماته الطيبة كل مايحمل بداخله من ضغائن حتى خلت نفسه من شوائبها العالقة.
وحتى لايكون له نفس المصير، فحسب ما استنبط كان أمره عسير، كان كلما يقترب منه مهونا ينأى بحاله عنه طالبا منه الدعاء فحسب، حتى مرت الشهور وبدأ يخرج وحده من قمقمه، يتابع أعمال المعمل ويشغل وقته المتبقي في زراعة الأرض التي لاتتعدى حدوده المزرعة..
قطع حديث النفس وأنهى آخر رشفة شاي حين لاح له طيف أنس يقترب، تعكرت قسماته بينما ينهض عن جلسته قائلا بغيظ لايليق بسنوات عمره الستين:
- أهو جالك فرقع لوز أمشي أنا بقى.
امتزجت ضحكات حسن مع حضور أنس الذي قطع خطوات عبدالحميد بكلماته الثقيلة قاصداً إثارة حنقه قبل مايفعل هو:
- إيه ياعبده إذا حضرت الملائكة ولا إيه؟
رده بتكشيرة وغلظة:
- لا إذا حضرت الشياطين ياخفيف.
تشدق أنس ضاحكا قبل ما يهتف متصنعا الجدية:
- ياراجل عيب عليك ده أنا هبقى جوز بنتك..
وأضاف كلمات فقدت جديتها من كثر ما تم استهلاكها عبر لسانه:
- هتجوزهالي إمتى بقى؟
والرد رغم مزاحه المبطن ساخط، غيور:
- وأنا برده أرميها الرمية المقندلة دي، ليه من قلة العرسان!
غمزه أنس بوقاحة:
- القلب ومايهوى بقى ياعبده.
أزاحه عبدالحميد عن طريقه متأففا، يلقي من خلف كتفه جملة أخيرة يرفض أن يكون لخصيمة النصر، ألا يكفي أنه ظفر بقلب ابنته!:
- الله يسامحك يافريد على دي خلفه.
هتف أنس من خلفه بعلو حتى تصله الكلمات بوضوح:
- مقبولة منك ياحمايا.. ياغالي.
تدخل حسن يوقف أخيه ويقيد سلاطة لسانه:
- يابني إخرس بقى هتخليه يحلف ماتشوف ضفرها.
ضحك واثقا بينما يجاوره:
- عيييب عليك إحنا مسيطرين برده.
حرك حسن رأسه ممتعضا لشدة ثقته:
- طيب ياعم الحبيب أما نشوف أخرتها.
ونهض يعود لسيرته الأولى فتبعه أنس قائلا بجدية:
- كنت عايز رأيك في حاجة تخص الشغل؟
وكالعادة كان رده جاهزا بينما يضرب بالفأس ضربتة الأولى:
- أنت بقيت أدرى مني.
تابع أنس وكأنه لم يسمع ماقال:
- وكمان عايزك تبص على جرد الشهر، شوف هتكون فاضي إمتى وأجي لك.
أخبره من بين لهاثه:
- الشركة مسؤوليتك أنت وميسون، أنا كفاية عليّ المعمل والمزرعة.
زفر أنس في حنق بينما كفيه يحيطان بخصره:
- أنت ماصدقت ولا إيه؟ مكانك في الشركة فاضي ومستنيك.
- البركة فيك.
- ومين قالك أني موافق أخد مكانك؟
- خلاص يا أنس.. اعمل اللي يريحك.
قالها منهيا الحوار زافرًا، لكن صدى لقاء الآخر بزوجته المسكينة منذ أيام يرن في أذنيه ولا يملك غير أن يكون بصفهم:
- وأخرتها ياحسن؟
توقف حسن عن العمل يرمقه بحدة، يحذره من الخوض في حديث تحته ألف خط أحمر.. لم يأبه لنظرته المحذرة وهتف بإصرار أكبر، يدفعه أخوة:
- هتفضل سايب مراتك وابنك لحد امتى؟ المعمل مش محتاجك وعمي عبدالحميد اصلا قايم بيه، أما بقى شوية الزرع اللي دافن نفسك وسطهم فده عشان تهرب مش أكتر.. أنت مكانك مش هنا!
بانت إمارات الغضب جلية، تركه خلفه وسار الخطوات القليلة التي تفصله عن المنزل الصغير، دفع ببابه بعنف ومنه إلى دورة المياة، الرذاذ البارد هون من سخونة رأسه، دون تجفيف ارتدى ملبسه وخرج ليجد أنس مازال هنا، تجاهل وجوده وراح ناحية البراد يروي جفاف حلقه بماء بارد، قبل مايتمم شربته كان أنس يقابله مدمدما بلجهة أهدأ:
- مش قاصد أضايقك بكلامي، بس ده لازم عشان علي..
وعلى ذكر اسم الصغير انتفض قلبه فزعا:
- ماله علي!
لم يهدئ من فزعه على الفور، تركه بضع ثوان تجرع فيها سموم الأفكار حتى هتف أنس بجدية.. قاسية:
- علي بيكبر ومن حقه عليك تكون جنبه، ليه تحرمه منك وأنتَ موجود؟.. مفيش حاجة في الدنيا تساوي أنك تاخده في حضنك وتشوفه بيكبر كل يوم قدام عينيك.. أنتَ قاسي ليه كده يا أخي؟
تركه وراح عند النافذة المفتوحة، تتصارع الأحرف ضد الصمت وبالنهاية لم يستطع مقاومة السؤال:
- هي اللي قالت لك كده؟
اقترب أنس يراقب جانبه للحظات غمغم بعدها:
- مش محتاجه تقول، أنا شايف كل حاجة قدامي.
مرت الدقائق ولم يصله حرف، شعر بشيء من غضب يجتاحه فهتف باقتضاب قبل رحيل:
- أنا عندي شغل.. سلام.
ظل على حاله يرمق الأفق في صمت ثقيل تتقاذفه الكلمات من كل حدب وصوب حتى تنتهي فوق رأسه، ليت الأمر بيده كما يظن أخيه، ليته بتلك البساطة.. يشعر بالاختناق يزحف نحو عنقه، حارب شبحه بأصابع مرت حول عنقه تمسده وقد انعكس فوق ملامحه كل ضيق.
ليتهم يفهمون أن العزلة بروحه، لا يستحي أن يعترف لحاله في هاته اللحظة أنه صار لايحبذ الاندماج بين البشر، لم يعد يملك قناع يحجب به الأعين عن عري نفسه، يشعر بحاله عاجز عن المنح لأيّ كان.. وأول هؤلاء زوجته وابنه!
لم يكن لديه غير ذنوب تقصم الظهر وجسد اختل ميزان ثباته فبات أعرجا.. ماذا يقدم وهو عليل النفس والجسد!
هل اخطأ حين جنبهم أذى قربه؟
اخطأ حين اشترى ستر نفسه بعزلة؟
تحرك بضع خطوات ارتاح بعدها فوق أحد المقاعد، شارد عند لحظة الإياب، حين تلقت جسده المثقل بعظيم الذنب فوق صدرها، تضم وتحنو، تمد نحوه طوق النجاة وترشده حيث طريق الصواب، أضاءت دربه المظلم، شدت بعجز إيمانه نحو القوامة، بسببها طفت نفسه الغارقة بين لجة الظلمات إلى نور الحق الذي أضاء سريرته.
بعد فجر تلك الليلة الفارقة كان يجلس القرفصاء أمام رجلا يحسبه من الصالحين أتاه يربت فوق كتفه عقب صلاة الفجر التي شارك فيها بنفس مهزوزة وعين أشبعها فيض الدمع حتى تألمت كسائر جسده المنهك، أراد مؤازرته ظنا أنه قد فقد عزيز..
وما أعز من نفس فقدها فوق أرض البغي!
وجد حاله يقص على الرجل ما اقترفت يداه، كل حرام استساغه حد بلغ منتهاه وعاش فيه كأنما لم تعرف نفسه حلالًا قط، سأله عن طريق الإياب؟ أهناك توبة لأمثاله؟ هل يوجد من يقبله بكل آثامه؟
استمع له الرجل حتى سكت، تركه يخرج كل ما استوى داخله واستبد به حينها فقط دمدم له بصوت أجش يحمل اللين بقدر القوة، مازالت تطن بداخله الكلمات كلما تذكرها..
"طول ماتوبتك نصوح، ندم صادق وعزم مافهوش رجوع يبقى أنتَ كده على الطريق الصح.."
"وعشان تكتمل توبتك رد الحقوق لأصحابها واستحل من ذنبهم، واللي متقدرش عليه ولاتوصله عوضه بالصدقة"
"هون على نفسك يابني، ده ربنا سبحانه وتعالى يحب من عباده التوابيين والمتطهرين، وخليك فاكر أن مهما تعاظم الذنب بابه دايما مفتوح ورحمته واسعة"
طرق الأبواب ورد الأمانات لأصحابها، أخرج الصدقات لنفسه مرة ولأبيه مرات، ظل عاما كاملاً على هذا المنوال حتى هدأت نفسه واستكانت بفضلٍ من ربه.
عامٌ كان فيه مثقل النفس بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، كمن شاخ قلبه وزهد الحياة حتى أمطره الله بسكينة ملأت روحه فطاب وبرأ وجعه.
ومع هذا كله لم يستطيع العودة، يوم بعد يوم يرتكن تحت جدار العزلة فتنطوي الأيام والشهور ومازال على حاله، يشعر أن كل شيء سيتهدم لحظة ماتلتقي عيناه بعينيها!
هي ذنبه الذي انتهى بتوبة..
هي امرأته وأم ابنه، خليلة الفؤاد ورفيقة أيام الشدة والظلمات، من شدت على يده بكل لين وأخذت به نحو الطريق، هي التي تضاعف رصيدها بقلبه حد بلوغ عنان السماء، وهو الذي لم يقدم شيئا مقابل كل هذا غير خذلان تلو آخر، وجاء في النهاية عرجه ليزيد من تشوه صورته المنقوصة..
استغفر ربه عدة مرات قبل ماينهض تاركاً أفكاره المتضاربة ببعضها وقد أرهقته، توضأ ثم أدي فرضه، تعلم كيف يلجأ إليه بالدعاء متضرعا فيصبه سحر السكينة، مأخوذا بعطفه وكرمه الذي لاينفذ.
في المساء كان يطرق بابه صديق إحتل مرتبة المقرب عن استحاق، كان رفيق لأيام طوال دون زهد أو ملل، يسمع له كما لم يسمع أحدٌ من قبل ثم يهديه بضع كلمات تريح باله وتهدئ من انتفاضة نفسه، يوم بعد يومٍ وجد لسانه يفضي له بمكنون صدره دون خزي، ولم يخيب ظنونه، كان على قدر الثقه التي منحها إياه فلم ينظر له مرة بشكل يسيء، على العكس كان دائما حاضرا، ناصحا..
- أهلاً ياماهر.
- إيه يابني فينك؟ بقالي ساعة واقف..
بعد حين كانا يجلسان حول منضدة مستديرة، يحتسيان الشاي في صمت أثار شكوك الضيف فهتف بحديث مستهلك لأجل كسر الصمت المفروض:
- مضينا عقد السالمي إمبارح، دي خطوة كبيرة للشركة الحمد لله.
- كويس.
إجابته الفاترة باقتضاب أكدت على شكوكه، حينها سأله دون موراة:
- مالك ياحسن؟
مسح عن وجهه بكلا كفيه، متنهدا.. قائلا بفتور أكبر:
- مش عارف ياماهر.. مش عارف.
بفطنة صديق أدرك فحوى مقصده، في الحقيقة هو شيء واحد يؤرقه ويقلق مضجعه وفقط يكابر لذا من الجيد أنه أهداه أول الخيط ليجابه إياه بقوة:
- مش عارف ولا مش قادر؟
أبعد كفيه عن وجهه، يرمقه للحظات دمدم بعدها في استسلام شاب نبرته:
- الاتنين.
تنهد ماهر قبل مايريح ذراعيه فوق سطح المنضدة ويهتف بصوت أجش:
- طيب خلينا نمشي واحدة واحدة.. مش عارف إيه بالظبط؟
صمت لم يرد فأجاب عنه:
- مش عارف أنك تعبت من العزلة اللي فارضها على نفسك؟ ولا مش عارف أن غياب مراتك وابنك مأثر فيك وده هيوصلنا لتاني نقطة اللي هي مش قادر..
صمت هنيهة راقب فيها قسماته المتغضنة فأدرك أنه أصاب، تابع على الفور:
- مش قادر تنسى أنك السبب في أذيتهم فبتحرم نفسك منهم، مستني قرار الانفصال ييجي منها عشان تريح ضميرك، على أساس كده هتريحها..
قال آخر جملته ساخره مما أجبر مستمعه على النظر إليه فعاجله من جديد عله يستجيب تلك المرة وتنفذ كلماته عبر رأسه الصلد الذي لايسمع ولا يقتنع بغيره:
- هاريحك أنا وأقولك اللي فيها يمكن وقتها تبطل غباوة.. أيوه اللي يبقى عنده ولد زي علي ويحرم نفسه منه يبقى غبي ومبيفهمش كمان، زي بالظبط اللي عنده زوجة بتحبه وشارياه لحد آخر لحظة وفي المقابل هو بيفكر إزاي يحط بينهم ألف حاجز وحاجز..
واستقام واقفا، انحنى بجذعه إليه مغمغما بلوم مشيرًا نحو رأسه ثم نزلت السبابة واستقرت عند موضع القلب:
- ريح دماغك شوية وسيب ده يتصرف، دلوقتي وقته..
وارتفع كفيه يحط بهما فوق كتفيه، يشد عليه كصاحب يدري عن خبايا صاحبه المثقلة، ولا يملك غير أن يهديه جملته المعهودة بآخر كل زيارة:
- هون على نفسك ياصاحبي.
عند الباب سأله حسن بنصف تركيز شاردا مع كلماته:
- رايح فين، لسه بدري؟
اتسعت ابتسامته مطلقا سهمه الأخير:
- رايح لمراتي وبنتي أخدهم في حضني، دي لحظة بالدنيا ومافيها.
ونفذ السهم.. فأصاب.
***
تقف خلف النافذة بكامل أناقتها، تراقب الطريق العام في انتظار بينما تقضم أظافرها في توتر، انتصف الليل منذ ثلاثون دقيقة ولم يعد بعد، حائرة بين اتصال يطمئنها لكنها تخشى أن تخرب مفاجأتها لليلة الأكثر من مميزة..
قرعت طبول قلبها حين ظهرت سيارته تلوح بأول الطريق، شدت البرادي سريعا وركضت ناحية الشموع المتناثرة بتناسق فوق طاولة الطعام، أشعلتها ومنها دارت ناحية المرآة العريضة من خلفها، تتأكد من هيئتها، شعرها استطال حد تخطيه لكتفيها بكثير، ثوب كريمي قصير دون أكمام أبرز مفاتنها وحلاوة ملامحها المنمنمة، نثرت رذاذ من عطرها فوق جيدها ثم أرسلت لحالها قبلة رضا وراحت تستقبله.
ولج من الباب متثائبا حتى أخذته رائحة العطر النافذة، بعدها استطاع رؤية طاولة العشاء المجهزة على ضوء الشموع والورود المتناثرة.. رفع حاجبيه لوقفتها المغوية جوار الطاولة، ترك حقيبة الحاسب تسقط عن كتفه وتبعتها سترته بينما تتقدم خطواته وثغره يفتر عن بسمة أخذت تتسع شيئا فشيئا حتى ملأت وجهه.. أحاط خصرها بكفيه مطلقًا صفير إعحاب، همس بعده:
- أنا دخلت شقة غلط ولا إيه!
استجابت لمزحته بضحكة صغيرة وضمة شفاه نبيذيه لمعت لها عيناه:
- تؤ.. تؤ
ثم اقتربت أكثر تلتحم بصدره وتحيط عنقه بكلا ذراعيها، تهمس برقة ومشاعر فاضت بها عيناها بينما شفاها تمس ثغره بقبلة خاطفه:
- كل سنة وإحنا مع بعض ياحبيبي.
وجوابه كان قاطع للأنفاس، تركها لآهثة بوجنتين تخضبتا خجلا حاولت مداراته بهمس متسائل:
- مش هتاكل؟
كانت أصابعه تتسابق فوق أزرار قميصه حينما أجابها بعبث:
- هاكل طبعا.. ده أنا واقع!
وحملها بين ذراعيه بخفه أثارت ضحكتها فأطاحت بلب عقله، تحركت أقدامه ناحية غرفتهما بينما مال رأسه يرتوي من نهر شهدها ويغرقها بدوره في بحره الواسع..
فالليلة الذكرى الأولى لزواجهم، لذا حسب قوانين البشرية والمفاهيم المستهلكة هما يقضيان أجمل أيامهم.. وهما بالفعل كذلك!
كيف لايكون وروحها البالية عادت بفضله إلى أنفاس الحياة؟ بفضله التحم شتات نفسها واختفت نتوءاتها.. كانت حربا قاسية انهزمت مرة وانتصرت أخرى حتى ربحت في الختام غنيمة أمانها المفقود..
عام جمعهم تحت سقف واحد، يبذل كل طرف جل مايستطع في سبيل سعادة شريكه..والنهاية؟ بيت وعائلة والكثير من السعادة الحقيقية.
سعادة بدأت تتصدع وتتلآشى مع صرخات الصغير التي صدحت بغتة من غرفته المجاورة فأربكت أمه التي أخذت تزيح بجسده عنها ببطء حتى قابلت اشتعال نظرته بأخرى قليلة حيلة، فكلاهما على يقين تام أن هادم اللذات يحتاج لثلاث ساعات على أقل تقدير حتى تنتهى مناحة كل ليلة ويعود مدلل أمه ليغفو من جديد، عضت فوق شفتها السفلى بأسف ورفرفة أهداب دليل برائتها:
- شهاب بيعيط.. معلش يامهند.
- معلش يامهند!
همس بها من بين طواحين ضروسه، استغلت صدمته وقفزت من فوق الفراش تلبي نداء وليدها الذي لا يهدأ، وعن أبيه المسكين مازال مبهوتا مما يحدث رغم عدم غرابته:
- بتستهبلي أنتِ وابنك!
كانت قد وصلت عند الباب فاستدارات تمنحة ضحكة فشلت في دحرها مما أثار عصبيته مع حركة كتفيها البريئة وكأنها مخلوق مسكين لا يملك في الأمر شيء.. قذف ظلها بأحد الوسائد وأخذ بأخرى يطبق بها فوق وجهه، يكتم أنفاسه الثائرة لاعنا الزواج ومريديه.
***
نحن ننضج بمرور الأيام والتجارب، خسارات ومكاسب، كلها أشياء تساهم في نضج بقعة ما فينا، لكن كل هذا لن يجدي إن لم تكن طموح، لحوح، تعاند الصعب وتحفر اسمك داخل الصخر.. وهي أكثر من يعاند ويتشبث بأحلامه حتى وصلت لمرتبة ترضاها نفسها الطموحة، كانت كنجمة ساطعة وسط طاولة بأحد أشهر المطاعم وقد ضمت معها رجلين.. تناقش وتفند، تبدي آراء تحترم وتعرض مايناسب، تبدو دوما محطة التقاء لأعين النساء قبل الرجال باتزانها وطلاقة لسانها التي أكسبتها ثقة كبيرة بالنفس..
ولايدري أي صدفة عجيبة تلك التي جمعته معها بذات المكان لتخطف بصره كما فعلت أول مرة حين رآها قبل سنوات.. لم يستطع منع حاله عن مراقبتها خفية حتى استقامت تنوي الرحيل، لم يفكر مرتين وهو ينهض سابقا إياها عند البوابة الرئيسية.
نجحت خطته الصغيرة فكادت أن ترتطم فيه عند خروجها ودخوله المشغول بالهاتف الساكن يده.. تصنع الدهشة راسما ابتسامة متفاجئة بدت متقنة:
- ميسون؟.. معقول الصدفة دي!
احتاج منها الوضع لبضع ثوان حتى وعت لمن يقابلها بوقفته متفاجئًا لرؤيتها، حمدت ربها لحظتها على وجود منظارها الشمسي الذي حجب الكثير:
- نديم!..
ودرات ربكتها بسؤال سريع:
- عامل إيه؟
تحرك جانبا يفسح المكان للمارة مانحا اياها الفرصة لإطالة البقاء بينما يخلع منظاره عن عينيه مغمغمًا بسعادة لم تخفها عيناه:
- تمام الحمد لله، أنتِ أخبارك إيه؟
ردت تحيته بابتسامة رزينة بادلها إياها وعاد يهتف سريعا:
- عندك مقابلة شغل؟
قالها بينما يشير للخلف بإبهامه ويمرر بصره على طولها الفارع داخل بذلتها العملية بجاذبية إعجاب ذكوري عكسته نظرته المفضوحة حتى استقر بصره فوق حلقتها الذهبية المحيطة ببنصرها الأيسر، حينها رفع بصره وقبل ماتجيب كان يسبقها بعذوبة حروف:
- طول عمرك طموحة وناجحة.. وجميلة!
انقبض قلبها مع جملته المتمهلة ونظراته المتفحصة، لاتدري لمَ, لكن هذا مافعل بها لقاء هذا النديم بعد كل ما مر من سنوات.. لم تبدِ أي رد فعل غير حديثها الهادىء باقتضاب:
- فرصة سعيدة يانديم، عندي معاد مهم ومضطره أمشي.. عن إذنك.
ولم تنتظر رده، خطت خطوتها نحو سيارتها تناشد الابتعاد، لم تلتف نحو الخلف ولو مرة، ما بالخلف يجب أن يبقى كما هو، كحال نديم الذي لم يتغير.. فهو رجلٌ وقع في اشتهاء الممنوع، زهد المضمون فطلب اللامتاح!
أسفل البناية التي يوجد بها شركته الخاصة توقفت، كانت خطواتها تسابق بعضها حتى استقلت المصعد وتوقف بها حيث تناشد, استقبلها الموظفين باحتفاء يليق بزوجة الرئيس، قابلتهم بابتسامة عريضة بينما تسير بطريقها نحو غرفته، تطرق الباب وتدلف دون انتظار.
كان يرتكز بجسده على حافة المكتب من خلفه عاقدا ساقيه، جل تركيزه مع الملف القابع بين أصابعه متلاعبا بالقلم بين أسنانه في تفكير عميق قطعه ولوجها المفاجىء بابتسامة واسعة عكست صداها على الفور فوق محياه:
- مدام ميسون عندنا!.. ده حلم ولا علم؟
ألقت بحقيبة يدها فوق مقعد مجاور واقتربت تحيط عنقه بذراعيها وشفتيها تطبع قبلتها الهادئة فوق وجنته اليمنى.. وهمست:
- علم ياحبيبي.
وابتعدت تبادله النظر في تمعن طال.. موجة متضاربة من المشاعر تجتاحها، كانت بحاجة أن تطيل النظر إليه هكذا، حتى يقارن قلبها بين من سكنه قبل سنوات وبين ساكنه هذا الذي احتل حجراته واحدة تلو أخرى حتى أخلاه من كافة شيء إلاه.. وحده استطاع أن يمتلك كيانها وقلبها فكانت له منذ عام، عام عرفت فيه كيف تكون امرأة لرجل لايرى سواها.
- ماهر أنا بحبك جدًا.
قالتها بينما تضم نفسها لصدره ورأسها داخل عنقه، تشتَمّ عبقه فتتعثر الدقات عشقا.. أحاط بخصرها يشد على ضمتها وقد انتابه بعض القلق، يده تمسد ظهرها مع همس خافت طال أذنها:
- أنتِ كويسة؟
ابتعدت تعود ببسمتها لسيرتها الأولى حتى تزين محياها وارتفعت بسبابتها تداعب عقدة حاجبيه بدلال:
- هو عشان بحبك أبقى مش كويسة؟
شدها إليه يقرب ما ابتعدت وثغره يلامس ذقنها بهمس دافىء:
- حبيت اطمن بس.
- ربنا يخليك ليا.
واستطردت بغنج تجيد إظهاره وقتما تريد بينما أناملها تداعب أزار قميصه الأبيض:
- ماهر، امممم إيه رأيك تعزمني على العشا الليلة وممكن نخلي فريدة بايتة عند ماما؟
ضحك حتى بدت نوجذاه قبل ما يجيب:
- أنا قلت الدخلة دي وراها مصلحة.
لكزت كتفه في مرح:
- تصدق أنا غلطانه عشان بفكر إزاي أعوض احتفال عيد جوازنا اللي باظ بسبب الشغل..
دار بوجهه جانبا وقد تغضنت قسماته للحظات لم يستطع اخفاءها بينما يدمدم:
- ماهو شغلك اللي مضيع علينا لحظات كتير.
هتفت له بأسف واضح:
- أنا آسفه ياحبيبي، والله عارفه أني مقصره معاك ومع فريدة الفترة دي بس أنت أكتر واحد عارف الظروف، قولي أعمل إيه؟
- خلاص ياميسون اقفلي على السيرة عشان مش طالبه خناق دلوقتي.
يعلم عن أمر عملها من البداية، ويدري كم يعني لها وتعني له، ورغم كل مساحات التفهم التي يفترشها يبقى رجلا، رجل يبغي زوجته في انتظاره لحظة عودته، تدفء جدارن بيتها وفراشها بصوتها ووجودها الدائم، أنانية الرجل فيه تريدها له ولابنتهما كاملة دون عمل يأكل من وقتها الكثير وتفكير يشرد بها بعيدًا عن مرساهم، ومع ذلك لاينكر أنها تقدم على قدر المستطاع، لاينكر كل الحب الذي منحته إياه فبادله بآخر أكثر شغفا، وحدها استطاعت عبور المسافات وهدم الحواجز حتى أخذت من قلبه مستوطنا.. منذ عام؛ تحديدا يوم زفاف أخيه كانت فرحته مضاعفة بعقد قرانه عليها وبعد شهور اكتملت فرحته حين أهدته أجمل فتاة بالعالم.
عادت بوجهه إليها تسترضيه وقد ضاعت بسمتها بين غيمات الضيق الذي حلقت من حولهم:
- لما بنشغل عنكم صدقني بيكون غصب عني، بس أنتَ عندك حق.. وعد هحاول أنظم وقتي بحيث مفيش حاجة تيجي على حاجة.. أنتَ وفريدة حياتي ياماهر ومقدرش أشوفك أبدًا متضايق بسببي.. فك التكشيرة دي بقى، دي مش لايقه عليك أصلا!
سألها بجبين متغضن وجدية أجاد إتقانها:
- هي فريدة بايته عند ماما؟
انفرج مبسمها بينما تجاريه في عبثه برفعة حاجبين متسائلة:
- ده لو وافقت تعزمني؟
حرك كتفيه بلا مبالاة:
- هفكر.
ضربت صدره بلكمات متتالية نجح في صدها بينما يضحك بقوة زادت من غيظها حتى شملها بضمته القوية المحكمة فلا تجد حينها غير رفع راية الاستسلام..
استسلام أباحه القلب الذي لم يرتضِ لكليهما عقب خسارة البدايات إلا بغنائم النهايات.
***
صباح مبهج يشبه إصرار أشعة الشمس على اختراق الغيم معبرة عن وجودها، صباح مميز ذا نكهة أشبه بقطع المارشميلو الشهية، يتقافز كحبات ذرة داخل طنجرة دون غطاء فتناثرت شقاوته وضحكاته تعبأ المكان الخالي إلاه وأمه التي تصر على أن يكون اليوم كله من صنع يديها، جاءت المتجر منذ باكورة الصباح تصنع قالب الكعك بخبرة اكتسبتها من سنوات العمل وبموهبة أدركت أنها ورثتها عن أمها الراحلة ذات يوم، انتهت من أمر القالب وتركته لوقته داخل البراد وشرعت بإعداد بعض الحلوى الأخرى وقد تركت أمر الفطائر لسماح كما طلبت وأكدت.. مع اقتراب الظهيرة كان يحضر الجميع تباعا، أولهم سماح التي ما إن دلفت حتى حملت الصغير بين ذراعيها غير آبهة لبطنها المنتفخ وجنينها الساكن، تقبل وجنته بقوة وتهلل ببشاشة:
- كل سنة وأنتَ طيب يا غالي يا ابن الغالي.
دقائق وكانت تتبعها زوزو ناشرة أريج البهجة من حولها:
- ياخلاثي عريسي كبر وكمل سنتين، نكتب الكتاب بقى.. طب دبل طيب.. براحتك بقى هبوسك في الحرام.
ومن بين ضحكاتهم يلج أنس حاملاً صندوق كبير، تقابله نسمة بكل امتنان:
- بجد مكانش له لزوم تتعب نفسك، كنت هتصرف وأجيبهم.
- ياستي اتعبيني براحتك أنا راضي.
ويجذب علي المتقافز بجانبه، يرفع جسده نحو الأعلى ويدغدغه بمرح:
- عندنا كام علي يعني؟
في المساء اكتمل الحضور، يتحلقون حول المائدة المستديرة ويشاركون الصغير حفل ميلاده الثاني، صخب وضجيج خلفته الضحكات بينما ترتسم على الوجوه السعادة.. وحده الصغير كان منبهرًا بقالب الكعك الكبير الذي تزين بصورته في المنتصف.. كان كل شيء بسيط دون عقد كحال العام الماضي حتى أضاءت زوزو الأضواء بعد إطفاء الشمع فظهر عند الباب كغريب عاد للتو بعد غياب طال!
يراقب الصغير المتشاغل بفض هداياه بشوق فضحته العيون، بينما أعين الجميع كانت مثبتة عليه.. كان أول من تحرك شقيقته، تضمه لصدرها وتطلق زغرودة فرحة غادرت أرضهم وحلقت في أبعد سماء، بعدها بادل النظرات من حوله ببسمة هادئة وخطواته العرجاء تخطو إلى الأمام في ثبات حتى مر بالصديق فشد على كتفه بعزم فشكره بطرفة عين، حين وصل عند صغيره توقف، جثا على ركبتيه وأمسك به يوقف قفزاته اللامتناهية، وما إن فعل حتى شهق الصغير بانبهار زاد عن الأول وكفيه يغطيان فمه بينما بصره يتحرك يمنة ويسرة حتى استقر فوق أنس الواقف جانبا وعاقدا ساعديه فوق صدره يعلو ثغره ابتسامة هادئة حولها الصغير لضحكة قصيرة حين سأله ببراءة هو من نحتها بعقله الصغير وأكدها الآن بإيماءة من رأسه:
- ده بابا الكبير؟
أخذ بالتاكيد وعاد إليه يتخلل لحيته بأصابعه ضاحكا فيشده أبيه إلى صدره، يضمه بشدة ولين، بشوق واشتياق، يبتعد يقبل رأسه معتذرا عن غياب طال، ويعود يحشره بين ضلوعه متنفسا براحة..
وهذا كله كثير عليها، تنزوي جانبًا محيطة جسدها المنتفض بذراعيها، حتى جثا يضم الصغير إليه حينها تهدم كل ثبات كان لديها، لجأت إلى دورة المياة تخفف من وطأة اضطرابها.. هل عاد!
اغمضت عينيها تستعيد لحظة رؤيته، لحيته التي استطالت كثيرًا وقد غزاها الشيب المبكر فتلونت شعراتها مابين الأسود الكثير والأبيض الأقل مع فودين كانا لهما من الشيب نصيب، وكأنما سنوات الغياب زادت صفرا عند اليمين..
خطواته المترددة ثم المتقدمة في ثبات قاهرة كل عرج أو خزي يثقلها، كانت تتساقط عبراتها الممزوجة بشتى المشاعر حتى ماعادت تدري أي شعور عليها يسيطر.. اقتربت من المغسلة تبرد نار وجنتيها برشق الماء البارد سحبت بعدها أنفاسها وقررت الخروج، فاليوم حفل صغيرها ومكانها إلى جانبه، دائما هي إلى جانبه.
شكرت سماح بداخلها فقد أمطرته تهليلا ودعوات حتى تشاغل برفقتها عن الصغير التي استغلت وقوفه وحيدا وراحت تجثو أمامه، تعدل من هندامه وتهرب بقربه عن كل شيء سواه. بعد وقت لم يطل كان قد انصرف الجميع وكأن بينهم اتفاق مسبق فوجدت حالها وحيدة بصحبة ابنها النائم.. وأبيه.
تحركت تلملم بقايا الأطباق الفارغة وعينها تخطف نظرة سريعة منه، منذ أكثر من نصف الساعة وهو يجاور الصغير النائم متأملاً إياه في صمت، حملت مابيديها ودلفت إلى المطبخ تحط بهم داخل الحوض، فوق الرخامة العريضة ارتكزت بكفيها في محاولة منها لدحر انتفاضة أطرافها وقلبها..
والانتفاضة تملكتها بحق حين شعرت بكفيه يلامسان كتفيها عنوة.. استدار جسدها بغتة بقسمات فزعة، تبادل نظرته المثبتة عليها بأخرى مذبذبة.. في النهاية ألقى القلب بأثقاله أسفل الأقدام وتبقى فقط حلاوة اللحظة، كما سقط الماضي حين بادلها النظر..
وكان بعينيها الربيع!
وكل ربيع مهمته أن يصلح ما كان من خراب، لم تسأل، ولن تفعل.. فقط تحركت شفتاها بهمس، بالكاد عبر السكون:
- رجعت؟
اقترب خطوة أخيرة ينهي مابينهما من مسافات، والجواب صادقا بيقين من صاحبه:
- رجعت.
وسبحان من أمال الجسد ليستقيم الوِجْدان!
أنت تقرأ
الغنيمة
Romansa"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...