الفصل التاسع

139 7 0
                                    

(٩)

ماذا عن صعودِك لقطار آخر؟
قطار لن يصل بك حيث وجهتك.. محال أن تكون نهايته فوق أرضك
لكن؛ ماذا لو كان صعودك بجهل ليس إلا!
مالت برأسها فوق إطار النافذة وإنعكاس صورتها فوق الزجاج القاتم كان يستدعي بعضًا من ذكرى الأمس.. ذكرى كلما ظنّت أنها انغمست تعود وتطفو فوق سطح ذاتِها في كل مرة تراه، في كل مرة يكون فيها بذات القرب..
اجتماع خاص انتهى بتوقيع عقدٍ جديد جمع بينهما في دنيا الأعمال، فقد تمّ للتو إبرام صفقة رابحة لكلا الطرفين..
الأول (فريد صبري) اسم بات له بصمته في تجارة المواد الغذائية الخاصة بشركته والثاني (نديم نصار) رجل الأعمال الذي سبقت خبرته سنوات عمره، فهو يُعَد فرعٌ هام من فروع المجموعة التي باتت تتوسع مؤخرًا في مجال الاستثمار حد الوصول لافتتاح عدة قرى سياحية وسلسلة فنادق شهيرة..
وهي سيدة الأعمال حديثة العهد كانت أكثر من سعيدة بهذا الاتحاد،
فدائرة عملهم الخاص تتوسع أكثر عن ذي قبل عقب ما حفر اسمه داخل خارطة العمل..
- مبروك.
بابتسامة مشرقه كانت تبادله التهنئة:
- مبروك لينا.
- إيه رأيكم في احتفال صغير بمناسبة الحدث السعيد؟
إقترح نديم وأجاب فريد:
- اقتراح عظيم لكن اعفيني أنا، السهر للأسف بيتعبني مؤخرًا.
التفّ بجذعِه ناحيتها بغتة يسأل بابتسامة خاطفة :
- طيب والآنسة ميسون رأيها إيه؟
حرّكت كتفيْها في تفكير لثوان ثم أعقبت بوهج خاص:
- ليه لأ.
والاحتفال كان عشاءًا فاخرًا يُشبه المكان الذي يجمعُ بينهما فقط، وبداية أحاديث كانت تخص العمل وامتدّت واستمرّت عن كل شيء إلّاه، حتى النهاية التي ذيّلها القلب بنبضاته.
قربٌ ارتوى من كليهما بالمقابلات المكررة باسم العمل ومهاتفات أخرى لا تمت له بصلة..
سقط بها أم سقطت فيه لا فارق!
حتى جاءت اللحظة التي كانت بها القشة الأخيرة في ذات المكان والطاولة التي جمعت بينهما أول مرة، وما كانت تظن به عرض زواج سينتهي بقبلة وخاتم يتوج ما نمى بينها وازدهر كان المسمار الصدِئ في نعش العشق ذي الميلاد القريب.
- أنا متجوز.
هكذا نطقها ببساطة!
حد أنها ظنته يمزح أو يلقي دعابة سمجة لا تناسب اللحظة، لكن متابعته للحديث بتلك النبرة اليائسة أزاحت كلّ الظنون جانبًا:
- وعشان أكون دقيق؛ هو كتب كتاب.. اسمها شهد.. قريبتي.
وتابع بعد لحظة صمت:
- صدقيني ماعرفش ده حصل إزاي ولا إمتى.. فجأة لقيتك جوه حياتي وفجأة اتغيرت بوجودك!
تنهّد وقد هربت منه الكلمات فاختارَ أن يُلقي باعترافه..
أسوأ اعتراف قد يمرّ على أنثى:
- أنا بحبك.
دارت صدمتها بكياسة, وتلحّفت بصمتٍ دام لدقائق, وحين عادت كان وهج عينيها يحتضر واندفعت الكلمات في قسوة واتهام:
- أنتَ خدعتني!..
وأردفت بحرقة:
- رسمت حدوتة تناسبك ومشاعري كانت الضحية!
زفر ببطء والنبرة احتلتها قلة الحيلة:
- ماكنش قصدي أخدعك بس الموضوع زي ما هو صعب عليكِ، كان عليَّ أصعب مليون مرة.
حدجته بنظرة نحرت بها ما بينهما بسكين ثالم، فأسرع يتشبث في أناملها يمنع كل نهاية آتية لا تناسب مبتغاه:
- ماعنديش استعداد أخسرك.. مافيش مجال للخسارة أبدًا.
التوى ثغرها في سخرية مريرة:
- طيب عندك استعداد تخسرها؟..
وسؤالها رغم سخريته الواضحة, إلا أن النبرة كان يلونها هزيمة أتت دون سابق إنذار.. وصمته طال حد الوجع.. فنهضت بكبرياء تلملم ما تبعثر من ذاتها، تخط آخر سطور عشقهما بل تمزق وريقاته قبل رحيلها، لكنه قاطعها بمبررات لن تقدم ولن تؤخر في نظرها:
- معنديش استعداد أأذيها.
في لحظتها جابهت بغضب:
- وأنا!.. مفكرتش قبل ماتأذيني؟!
أجبرها على مواجهة عينيه الثائرة بشتى المشاعر:
- عمري ما أفكر أأذيكي!
ارتدت بعنف خطوتها للخلف تبحث عن جواب يخلصها من دربِ الجنون الذي تحياهُ في لحظتِها:
- أنت عايز إيه يا نديم بالظبط.. جننتني!!
- عايزك تعرفي إني بحبك.. وعايزك مراتي حلالي.
ضحكة مفتعله، ساخرة، متشنجه بينما تردد:
- قصدك زوجة تانية بقى!..
وهزت رأسها في تتابع نتيجة ما تستمع من خبال، ثم ارتفعت سبابتها في وجهه قبل رحيلها تقطع به محاولاته وتسدل ستار الحكاية قبل البداية:
- إياك تفكر تقولها تاني، لا الأولى ولا التانية.
ومن بعد تلك الليلة كل مرة تلاقيه فيها بشأن العمل تستحضر في قربه شيئًا من صقيع.. صقيع تسرّب لما بينهما فتجمّد شتى ما كان، علّه يفقد كلّ أملٍ ومُبتغى, ولتُبقي ما في القلب وما تخفيه بين حجراته طي الكتمان.
لكنه على العهد ما زال باقيًا، يتشبثُ بأذيال كل شعورِ بهتت ألوانه, وضعُف عنفوانه, فبات هشًّا أقلها نفخة هواء تُبعثره كالهباء المنثور.
وعلى هذا الحال عالقة حكايتُهما فوق أرجوحة العشق دون أرضٍ ثابتةٍ يغرسُ بها أساسًا متينًا يقوي بها الصرحَ المُختَل.
...
- الجميل سرحان في إيه؟
قالها بصوتٍ واهن يوازي وهنَ الجسَد, لتفيق من بؤرةِ الذكرى على بسمته الحانية، اقتربت تجلسُ بقربِه وتتشابكُ أناملُها مع أصابعِه وهمس هادىء:
- مفيش يا بابا.
أحنى بصره يرغمها على مواجهته في عتاب مُحبّب:
- هتخبي عليَّ؟
استكانت فوق صدره ببطء مراعاة لحالته الصحية.. بحاجته هي، تبغي مساندتَه التي لطالما كانت تنعم بها جواره:
- أنا محتاجة لك.
قالتها بتنهيدة ضعف ليبادر هو بمدِّ جسور التواصل ويده تمسد رأسها الساكن صدره:
- مش غلط أننا نضعف من وقت للتاني، إحنا بشر في النهاية.. المهم نعرف إمتى نقوم وإلا هنفضل الباقي من عمرنا تحت في القاع.. بس انا مش قلقان عليكِ، أنا عارف بنتي قوية كفاية عشان تواجه أي صعب.
رفعت رأسَها تواجه عينيه وتنصت لكلماته بعقلها..
يؤازرها بنفسِها..
يريدها القوية التي لا تُقهر لأنه مُدرك لبذرةِ الضّعف التي زُرعت فيها بجهلٍ منها، يخشى أن يكون جُل حصادها الخيبات والآثام.
طرقات هادئة فوق باب الحجرة قطعت النظرات وجذبت بصرهما معا.. لتطل عليهما بملامح وجهها الساكنة دونما تنبس ببنت شفه، لكن قسماته المهللة بحضورها كانت لها الصدى المتعال:
- سماح!.. تعالي يا بنتي.
ورحبت ميسون بدورها:
- نورتي يا سماح إتفضلي.
ثم دارت له بوجهها مع غمزة صغيرة وهمس شفاه استنبط منه رحيلها حتى تترك له مساحته الخاصة برفقة ابنته، وعقب إغلاقها للباب كانت الأخرى تتحرك ببطء حتى انتهت فوق المقعد ذاته بقربه، تتشابك أصابعها في بعض دون حديث، كسر الصمت بعدما تشبعت بها عيناه:
- كنت عارف أنك هتيجي.. كنت مستنيك.
وتابع بابتسامة شفاه حانية:
- أصلك أخدتي منها طيبة القلب.
وكان يقصد أمها لذا عند ذكرِها تجعّد حاجبيها في امتعاضٍ وهمسَت بضيق حانق لمس فيه الصدق:
- جيت عشان اتبرأ من ذنبك مش أكتر.
ورغم نبرتِها الجافة لم تغادر ثغره البسمة بل بادر بتربيتة كف لم تنفر منها تلك المرة:
- المهم أنك جيتِ.
***
ولحياتنا محطات ومحطات..
تتقاذفنا الأيام كمنجنيق يرمي بنا بعيدًا عن كل حلم كانت تراوده النفس، فتتحول اللوحة السريالية المحفورة بأعماق الروح لأخرى باهتة لا لون فيها ولا معنى..
في قلب عربة القطار السريع كانت تستكين داخل أحد المقاعد في هدوء يشبه الأموات، ترمي ببصرها فوق النافذة الزجاجية فترى الصورة تمرق سريعًا أمامها كحياتها مؤخرًا، حياتها المبعثرة تمامًا كعقدٍ انفرطت حبّاته وسط رمل صحراءٍ قاحلة, ولجمعه من جديد هي بحاجة لعُمر جديد تعود فيه بمن كان في فراقهم الضياع.
ساعتان زمن رحلتها التي انتهت داخل محطة_طنطا_ترجلت من القطار وداخل عربة مستأجرة كانت تجلس جوار حقيبتها الكبيرة.. فبعد رحيل المرأة عقب ما نالت منها على شر طردة دون شفقة أو أدنى شعور، استحوذ عليها صمت لفترة طويلة حتى وعت تمامًا لأي نهاية وصلت، استأنفت بعدها إعداد حقيبة تشمل على عدة قطع من ملابس وعدد من الأشياء التي تفوح منها عبق الذكرى، ألبومات صور تذكارية، مقتنيات خاصة وهدايا حظيت بها في عهد والديها الراحليْن. ومع إشراقة الصباح كانت تغادر المدينة بأكملها دونما تحمل معها فلسًا واحدًا من أموال السيدة المتروكة فوق المائدة كتعويض.
وهل يشترى نسيان الماضي بالمال؟
أو نضمن المستقبل ببضع وريقات!
تنهدت بقوة وهي تستعد لانتهاء رحلتها، فقد أوشكت على بلوغ مقصدها بعدما هاتفت عمها عبر الرقم المنسي في مذكرة أمها وتبليغه بخبر قدومها.
آخر مرة رأت عمها هذا كان في عزاء أبيها أي ما يقارب العشر سنوات.. تملكت القشعريرة من جسدها وهي تضغط فوق جرس الباب فسحبت شهيق طويل تهدئ به توترها، دقائق وكان الباب يوارب لتظهر من خلفه امرأة ذات طول مهيب وعرض لا بأس به لكن قياسًا بجسدها النحيف وطولها الطبيعي كانت لها كعملاق يطالعها من أعلى ببسمة لم تتضح معانيها بعد:
- أهلاً وسهلاً، اتفضلي يااا.. نسمة مش كده؟
حركت رأسها ببطء لتعاود المرأة الحديث بشبه صراخ ومازالت تحملق فيها:
- سعيد.. يا سعيد بنت أخوك وصلت تعالى استقبلها.
ظهر من خلفها رجلاً ببنية أضعف من خاصة امرأته يستقبلها بمصافحة يد تحمل شيئا من ود:
- أهلا ببنت الغالي.. ادخلي يا نسمة أنتِ مكسوفه من بيت عمك!
دلفت ببسمة هادئة ترد تحيتهم بهمس خفيض ليعاجل العم بتعريف وسبابته تشير لثلاث فتيات بمفترق أعمار يقفن بتجاور يطالعن ضيفتهم الخجول:
- دي داليا الكبيرة، ودي ريهام، والصغيرة دي هاجر.. سلموا على نسمة بنت عمكم يا بنات.
بضع قبلات طالتها من الثلاث صبايا بكلمات ترحيبيه متفرقة ردتها بأخرى مختصرة.
وعقب وجبة غذاء متواضعة ومتابعة لوصلة التعارف من قبل عمها الذي أمر كبرى بناته:
- خدي نسمة يا داليا خليها ترتاح في أوضتكم..
وتابع حديثه مديراً الدفة ناحية نسمة:
- ارتاحي دلوقت وبالليل نتكلم.
ثم أردف بأسف على الراحل لمست فيه بعض الاصطناع:
- فكرتيني بالغالي، ألف رحمة ونور عليك يا رفعت يا خويا.
انصاعت لكلماته بذات الصمت وبداخلها تُجاهد تلك الغصة التي تملكتها منذ أن وطأت بقدمها هذا المنزل الغريب عليها قولاً وفعلاً.
***
- حرام عليكِ.. معقول أنتِ يسرا تعملي كده؟!
قالها شهاب بقسمات أقرب للصدمة عقب ما استمع لجرمها كاملاً عبر لسانها منذ باكورة الصباح، كانت مازالت تتدثر بالشرشف في جلستها فوق الفراش، أمسكت برأسها بين كفيها بقوة تمنع صداع يشقه لنصفين وهي تدمدم في علو عّلها تمحي تلك الصورة التي زينها لها بالقسوة والجفاء بمبررات لن تغني أو تسمن:
- أستحمل أي حاجة وكل حاجة لكن عند أولادي لأ يا شهاب، فاهمني لأ.. ماقدرتش أشوف بنتي في حالتها دي وأسكت.
صمتت هنيهة ثم تابعت برفعة رأس وعيناها تلتقط لوم عينيه القاس:
- علشان خاطر غِنَى كان لازم ده يحصل.
رفع رأسه للسماء في نفاذ صبر هامسا بضيق:
- مش بالطريقة دي، مش بالظلم يايسرا!
عادت تمسك رأسها بصياح مختنق:
- أنت ليه مش عايز تفهمني ولاتقدر موقفي! هو ظلم إني أخاف على بيتي وبنتي؟ ظلم عشان اختارت راحتكم على حساب مبادئي! طالعها في صمت انتهى برحيله، تركها وحيدة تتصارعها الأفكار، تقاتلها الآثام، حتى سقطت في النهاية صريعة الندم.
***
ليلة جديدة هلت وهي في دار ليس بدارها، برفقة أناس ظنت لوهلة أنه سيكون بينهم المستقر، لكن كافة الظنون تلاشت منذ أول ليلة بعد ما أفصحت عن سبب مجيئها وقصدها لمنزل العم عقب ما ألقوا بها خارجًا ولم تجد سبيلا غير اللجوء لمن هو أولى وأقرب.. الأقرب الذي لم يتنازل ويقدم فروض التعازي في أمها ولو بالكلمات، الأقرب الذي كشفت حقيقة معدنة الصدأ، فقد ظن أنها آتية محملة بالمال جراء عيشها مع أصحاب القصور وحينما وضحت له الصورة كاملة دون نقصان ألقى بثوب المرحب المهلل برؤيتها وتدثر برداء الطامع الذي يناسب قياسه، وعن زوجته فهي من البداية لم تطِق وجود ضيفة ثقيلة تشارك بناتها فراشهن، بناتها الغارقات كل في موالها الخاص دون رقيب.. فالكبرى لا تفتأ تترك هاتفها حتى تعود له بذات الهمس وكلمات الغزل التي تمطر بها في كل مرة شاب جديد غير سابقه.. وعن الوسطى فهي ساقطة في دوامة من الضياع تناشد مستقبل أوشك على الضياع بطاقة مفرطة لا تقوى على جمعها، أما الصغيرة فهي تمتثل لكلمات أمها تمامًا وتسير على ذات النهج.
وكانت لتتحمل وتحفر لحالها حياة بينهم فقط لأجل البقاء بين من هم يحملون نفس الدماء، البقاء جوار عائلة حقيقية وإن كانت جدرانها من حجر.
لكن حين يصل الأمر أن يتناهى لمسامعها صوت عمها وهو يضاجع زوجته ليلة وراء أخرى ذلك فوق احتمالها!
أفرغت جوفها في المرة الأولى وصمت أذنيها في الثانية وعند الثالثة كانت تلملم حاجياتها وتخط يدها لهم خطاب تشكر فيه حسن استقبالهم وفوق منضدة تتوسط الردهة تركته قبل الرحيل.. وذات القطار الذي غادرت فيه عادت به.
خلعت سوارها وباعته لأجل دفع إيجار الغرفة بالفندق فقير الخدمات، حتى عثرت على شقة متواضعة تناسب ظروفها وتسد حاجتها بعد مهمة بحث مضنية، ومهمة بحث أخرى لأجل الحصول على عمل تجد به لقمة العيش، وقد كان في مكتبة متواضعة بالحي المجاور وصاحبها العجوز الذي رأف بحالها وجاد بكل مستطاع.. وكانت لتتجنب كل تلك العقبات التي خاضتها لو استجابت لأمر السيد شهاب الذي جاء عبر الهاتف عقب رحيلها عنهم بساعات، يطالبها بالعودة على وجه السرعة إلا أنها فضلت الاحتفاظ بما تبقى من ماء الوجه فاكتفت بشكره وإخباره أنها سعيدة بوجودها في كنف العائلة.
أزيز الهاتف جوارها جعلها تترك ما بين يديها من كتب عتيقة
وتجيب من فورها ما إن لمحت اسمه يعلو الشاشة المسطحة:
- ألو.. أهلا إزي حضرتك.. أنا الحمد لله بخير.. بجد!.. ربنا يكرمك يارب أنا مش عارفه أشكرك إزاي.. أكيد طبعا هكون هناك في الميعاد إن شاء الله.. ربنا يخليك.. مع السلامة.
أغلقت الهاتف وعلى ثغرها ترتسم ابتسامة راحة جعلت عجوز المكتبة يهتف بسؤال:
- خير يا نسمة يا بنتي فرحيني معاكي؟
ضمت الهاتف لصدرها وتقدمت ناحيته تهلل بفرح:
- ده شهاب بيه كان بيبلغني أن المحامي كلمه وقال له أنهم تقريبا وصلوا للناس اللي خطفوني وإن كلها ساعات ويتقبض عليهم.. وإني لازم أروح عشان أتعرف عليهم.
هلل العجوز بدوره:
- الحمد لله يا بنتي، ربك مايضيعش حق مؤمن أبداً.
ابتسمت في شجن وقد التمعت عيناها بالدموع تؤكد على كلماته:
- ربنا كبير قوي يا عم أحمد ومايرضاش بالظلم لعباده.
- روحي يا نسمة صلي ركعتين شكر لله وادعي إن ربنا ينتقم من كل ظالم وينصف كل مظلوم.. ادعي يا بنتي دي دعوة المظلوم مجابة.
هزت رأسها وهرعت تفعل مثلما قال ولم يتوقف لسانها بل ظل طيلة النهار يلهث همسا بالدعاء والشكر.. ومساءً عقب ما انتهى وقت العمل قصدت شقتها المستأجرة، وما إن حركت المزلاج وانفتح الباب حتى شهقت بهلع وهي ترى المكان مقلوبا رأسا على عقب، الأشياء مبعثرة وقطع الأثاث القليلة مهشمة ومتناثرة بالأرجاء، حتى ملابسها لم تسلم وقد كومت فوق بعضها على هيئة خرقات بالية.. فزع جسدها وكتمت صرختها بينما أصابعها المنتفضة تبحث عن الهاتف في تعثر فربما يكمن فيه الأمان!
***
ضغط أكثر فوق المكابح مخلفا وراءه صريرا يؤذي السامعين، لم يفت الكثير وكان يقف فوق رأسها يطالع جلستها المرتعبة فوق الدرج المتهالك وأمام باب الشقة المفتوح على مصراعيه، كانت تنتفض فعليًا وصوت اصطكاك أسنانها يصله بوضوح، تضم جسدها بذراعيها وبصرها يرتكز فوق نقطة وهمية بنصف وعي.
تخطاها وتقدم لداخل الشقة، في وسط الردهة توقف يراقب جلستها من الخلف بملامح مبهمة، حسنا.. لم يكن يدري أنها ستختاره هو دون الجميع لتستنجد به!
هو من أقام هذه الفوضى بقصد إخافتها!
نوع من التهديد حتى تتراجع عن أمر القضية بل وتنسى أمرها تماماً، لكنها حقاً فاجئته حين هاتفته.. بل أدهشته!
مسح عن وجهه وتحرك، يجب أن ينهي الأمر كما بدأه دون ترك ثغرة شك واحدة، كاد أن يتجاوزها مرة أخرى إلا أن نبرتها المبحوحه وهي تنهض من جلستها بغتة أوقفت خطوته وألزمته نصف استداره:
- رايح فين!
قالتها في ذعر أثار ريبته وهي تقترب منه دون شعور حد أن أناملها كانت تلامس ساعده.. تابع بصره تذبذب عينيها والرعب المنقوش فوق قسماتها؛ فقررتهدئتها ببضع كلماتٍ بعدما أجلى حنجرته:
- هشوف لو في حد بره وجاي.
تشبث بصرها فيه وهي تتوسله صمتًا ألا يتركها ويرحل في لحظتها، فظهوره حتى ينتشلها من بين ألسنة اللهب كما فعل من قبل بمثابة طوق نجاة التفّ من حولها بعد ما هاتفت السيد شهاب تسأله الغوث لكنها لم تتلقَّ منه أي رد فتضاعف رعبها وجاء تصرفها التالي دون تفكير حين لجأت إلى هذا الأخير الذي لم يخيب ظنها ولم يفت الكثير وكان يقف فوق رأسها.
رعبها قرأه في عينيها بوضوح، دار بكامل جسده وتركيزه وترك ما كان ينوي جانبًا، وقف قبالتها يستمع لما تبقى من حديث وكان همسها المتحشرج بمثابة طنين يدوي عبر أذنيه:
- هيقتلوني؟.. أكيد عاوزين يقتلوني!
كانت تثرثر بجحوظ عينين و دون وعي حقيقي, حالتها تلك أثارت حنقه، لما لاتفهم تلك الغبية وتستمع لما يقول وتنأى بحالها عن هذا الجحيم الذي تخطو إليه بكامل وعيها!، من تظن حالها بالله؟ لو تركها لأيوب لنهشها بأسنانه دون سابق تفكير، وهنا لعن أيوب رأس المصائب ولعن نفسه ولعنها قبل الجميع.. خرج غضبه المكبوت عبر صراخه فيها وهو يخترق خضرة عينيها بأمر مشتعل:
- أول ما النهار يطلع تروحي تتنازلي عن أم دي قضية هتوديكي في ستين داهية!
انتفض جسدها من نبرته وملامحه المكفهرة بغضب، فتلحّفت بصمتٍ ونشيجٍ خافت، قطعَه جذبه لها من كفها دون مقدمات، سحبها خلفه نحو الخارج بينما هي لا تقوى على اعتراض لذا تبعته دون حديث، دقائق مرت فلم تمنعْ حالها من الهمس بخوف:
- أنتَ واخدني على فين؟
اللعنة لما تنظر إليه هكذا ببراءة!
وكأنه بالفعل منقذها!
حرر رداً سخيفا وبصره يبتعد عن مرماها:
- تحبي ترجعي؟
ظلت تتطلع إليه بدمعات مازالت تتساقط فأطلق سبة خفيضة لم تصل لمسامعها..
وبعد حين..
كانا يقفان أمام بيت قديم متهالك، دار بصرها في المكان من حولها في ريبة مع همس متوجس:
- إحنا فين؟!
أدار المفتاح ببط داخل المزلاج وأجاب بنبرة خاصة لا تمت غضبه السابق بصلة :
- في مكان ماحدش يقدر يقرب لك فيه.

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن