(25)
لكل امرأةٍ سحرٌ يخصها..
تمتاز فيه عن غيرها من بنات جنسها، وامرأته تكمن جاذبيتها بين ذراعيها وفي مقولة أخرى.. في دفئها.
تقلب جسده ذات اليمين وذات الشمال في تكاسل، الدبيب الهادىء من حوله أقلق نومته الهنية، افترق جفناه ليخترق نور الصباح عقيقه اللامع، تحرك جذعه العاري يعدل من وضعه حتى بات شبه جالس في مكانه، ليجدها أمامه مباشرة تعدل من وضع حجابها أمام المرآة، ارتفع جانب ثغره وذكرى ليلة البارحة تحوم في خاطره..
كانا سكارى بخمر الشغف، مسحوران بحمى التوق..
كانا آخران دون ماضٍ..
اتخذا معًا من الليل ساتر لوجيعة اللهفة والإحتياج وما عجز اللسان عن بوحه فاضت به الجوارح واستفاضت به الروح..
- صباح الخير.
قالها ويده تعبث في شعره في استفاقة ليرد صباحه الصمت القاتل.. زفر ببطء وناداها من جديد في هدوء يليق بصباحه:
- نسمة..
لم تلتفت..
وكان جوابها حمل حقيبتها وخطواتها تتسابق إلى خارج الغرفة، ثوان أخرى وكان يصله صوت باب الشقة لينفخ تلك المرة في قنوط وجسده يتراخى من جديد لداخل الفراش.
في حين كانت تلقي هي بجسدها داخل أول عربة أجرة قابلتها.. ساكنة الروح والجسد تتطلع لخارج النافذة والعربة تسير، حركة أهدابها الرتيبة تبدو مزعجة لذلك الصمت كله الذي يبتلعها منذ أن وعت على حالها وهي بين ذراعيه ساكنة مستسلمة لليلة حافلة قضياها سويًا، لم تكن مجبرة بل بادلت شغفه بشغف، كل خلية فيها سلمت له الراية مع أول لمسة، كيانها كله رضخ لقربه وخنع، نست حالها فيه وتناسى هو حاله حتى بات كلاهما بلا هوية..
أغمضت عيناها بقوة تمنع العبرات قسرًا..
فإن سمحت أراحت..
وهي لن تريح نفسها ببضع دمعات، يحق لها العذاب جزاء ضعفها وغبائها الذي جعلها صغيرة، صغيرة جدًا في عين نفسها، كيف إذ تراها في عينه!
عليها اللعنة، بل كل اللعنات تصيب قلبها الخائن الذي هزمها وربح جولته.
توقفت العربة تقطع سيل أفكارها القاس، نقدت الرجل وغادر ليدور بصرها بحثًا عن العنوان المنشود حتى توقف فوق لوحة كبيرة تضم اسم محامي ذا سيط جيد حصلته من الشبكة العنكبوتية ليكون معينها الفترة القادمة..
فإن ربح قلبها جولة..
لا يعني أن يغادر عقلها ساحة النزال دون عراك.
***
عند طاولة الزينة كانت تنهي آخر اللمسات قبل خروجها للعمل ككل صباح حين وصلتها طرقات ثلاث ثم طلت لها برأسها وكان ينير وجهها ابتسامة صبوح:
- صباح الورد.
جلبت بسمة باهته وهي تومىء برأسها لترد صباحها في صمت، دلفت أمها للداخل واقتربت منها في تردد حتى جاورتها عند المرآة، فردت ذراعها حول كتفيها وعينيها تبادلها النظر عبر السطح العاكس، كانت لا تزال ترسم فوق ثغرها ابتسامتها الأنيقة حين قالت برجاء خفي:
- هتكوني موجودة الليلة مش كده؟
عادت غنى بخصلاتها لخلف أذنها وهي تبتلع لعابها في عسر بينما رأسها يتحرك في بطء وصعوبة، تنفي في تردد ونبرة بالكاد خرجت:
- سوري يا ماما..
اكفهر وجه يسرا في الحال، تستدير ناحيتها وقد امتلأت عيناها بالدموع الحبيسة، ظلت ترميها بالنظرات العاتبة حتى قابلتها الأخرى متظاهرة بالتماسك وضحكة صغيرة مصطنعة:
- صدقيني أنا مبسوطة لسعادتك لكن بجد مش هقدر أكون موجودة الليلة.. ياريت ماتزعليش مني.
دارت يسرا ضيقها بعقد ساعديها فوق صدرها في صرامة وأشاحت بوجهها جانبًا، حتى جاءت نبرتها وقد غلفها البرود المتألم:
- براحتك يا غنى.
ظلت ترمقها غنى للحظات مالت بعدها فوق وجنتها تقبلها هناك قبل ما تسحب حقيبتها وتغادرها في صمت.
***
كان يستقل سيارته الخاصة حينما لمحها، طالع ساعته فوجدها تخطت موعد رحيلها بساعة ونصف الساعة، كانت جليسة المقهى المجاور للشركة، تميل بجذعها فوق المائدة وبصرها ممتد نحو الأفق وكأنها تحيا بعالم آخر ساكن، راكد دون حياة، لم تعد تلك الفتاة التي عهدها سابقًا حد أنها باتت تثير في نفسه الفضول ومن قبله حميته الرجولية التي تلح عليه ما إن يقع بصره على صمتها المزعج ذاك.
لم يحتج الكثير من الوقت أو التفكير وهو يعيد إغلاق باب السيارة ليتحرك ناحيتها، اقترب ولم تشعر فيه حد أن حاجبيه ارتفعا في توجس وقلق:
- أنتِ كويسة؟..
انتفض جسدها وارتفع رأسها بغتةً تقابلها عيناه القلقة.. ظلت تلك العبرات المتعلقة بأهدابها ثقيلة مع الصمت الذي ران على كليهما حتى همست أخيرًا باختناق:
- أنا مش كويسة خالص يامهند.
قالتها بضعف..
بوجع يستعمرها ولم تعد بها طاقة له، وجع ألقت به بين يدي أول مهتم طرق بابها.. وكان هذا بمثابة نغزة أصابت قلبه التائه بقربها، وجد حاله يسحبها برفقٍ يُجبرها على نهوضٍ، يهمس بالكاد وعقله يتخبط حائرًا في أمرها:
- تعالي..
بنصف وعيٍ كانت تسير من خلفه، تبعته بصمتٍ انتهى داخل سيارته التي توقفت بعد وقت قصير على جانب كورنيش النيل، النوافذ مفتوحة على آخرها، يضربها الهواء من كل حدبٍ وصوبٍ بينما هي ساكنة في جلوسها قربه، رأسها منكس وبصرها زائغ مع أناملها المعقودة داخل حجرها في تشابك معقد يشبه حالها..
- مالك ياغنى؟..
جاء صوته البعيد يخترق شرنقة صمتها، تنفرج شفتاها تنوي الحديث فتتعثر الحروف وتهطل العبرات، ابتلعت لعابها بحشرجة بينما صوتها المبحوح يصله في تهدج واضح:
- الليلة كتب كتاب ماما..
قالتها وانفجرت باكيةً، تشهق، يعلو صدرها وينخفض بقوةٍ آلمته داخليًا.. كانت هيئتها مثيرة لكل مشاعر يمتلكها، ألجمه انهيارها بينما يداه تصارعان عقله في سحبها لصدره، ومن بين حيرته صدحت نبرتها الذبيحة بزعيقٍ مكبوتٍ:
- ميستاهلش كده.. ميستاهلش منها هي بالذات كده!..
حاول تهدئتها بكفٍ لامس ساعدها بتردد:
- إهدي...
قاطعته صارخة بينما تضرب بيده بعيدًا:
- مش ههدأ، بطلوا تقولوا إهدي!.. ماحدش فيكم حاسس بيا، ماحدش فيكم حاسس بيه!..
وانخرطت في نوبة بكاء جديدة، شديدة.. بكت ذكريات شابها العطب كلما لاحت بخاطرها، فمنذ اللحظة لن تكون بذلك الرونق الذي اعتادته، هذا إن تجرأت واجترتها مرة أخرى، فالصورة تبدلت وبات يقتحمها آخر، آخر اتخذ مكان أبيها الراحل وأدلت هي بموافقتها فقط حتى تريح أمها..
تركها تفرغ كل مابها تلك المرة حتى هدأ نشيجها..
عمَّ صمتٌ ثقيلٌ إلا من أنفاسها الحارة ونهنهات خافتة تطلقها كل حين.. بطرف عينه كان يلتقط حركة أهدابها الرتيبة، لم يكن يدري أن القصيرة ذات اللسان المستفز لديها كل هذا الحزن بقلبها، أحزنته دونما تشعر، أظلمت شيئًا مابنفسه..
- هو ليه الفراق بيوجع قوي كده؟
وجهتها له خصيصًا تسحبه من شروده والدموع ملء عينيها، تطالعه بأنفها المحمر وتزوي مابين حاجبيها في انتظار جوابه المتعثر.. تنهد بعد حينٍ يفك عقدة ذراعيه ويخبرها بحنين أشعلته كلماتها:
- يمكن عشان اللي فارقونا غيابهم يوجع قوي.
صدقت على جوابه بإيماءة صغيرة بينما أناملها تقطع سير عبرة جديدة جرحت وجنتها، ألقت برأسها المثقل للوراء ودارت برأسها تلاقي صفحة الماء الهادئ.. تشعر بحالها متعبة، منهكة، وجيعة يوم فراقه تطاردها منذ الصباح، حاولت الفرار ولم تنجح، سقطت فريسة لأنياب الذكرى والاشتياق، طوال اليوم تتخبط بين لوم وخذلان حتى ماعادت لأقدامها قدرة على حملها..
- ممكن تاخدني عند نسمة؟
سألته برجاء خافت ومازالت على وضعها، أخبرته بعدها دونما تتحرك أو تسمع رده عن عنوان المعنية ثم طوقت نفسها بذراعيها وأغمضت عينيها في سكون قسري.. ظل يراقب سكونها الحزين للحظات فقد فيها كل معاني الكلمات، كل شعور كان يمتلك له مسمى من قبل بهت وتلاشى أمام مافعلت به الليلة هاته القصيرة.
***
يطرق فوق بابها بعنف وزعيقه يشاركه الحنق:
- افتحي يانسمة وكفاية شغل عيال!
لم يصله أي رد فضرب الباب بقدمه حتى تألم، حين فقد الأمل عاد إلى غرفته شاتمًا حظه التعس، لم يفت الكثير وكانت تتعالى الطرقات المتتالية تخترق النعاس المتقطع، نهض متوجسًا وفتح الباب دون سؤال.. كانت قصيرة بملبس أنيق تقف متلحفة بساعديها في انتظار بينما يملأ عيناها الخجل، قطب حاجبيه مستفسرًا عن هويتها وعما تريد في هكذا توقيت، أخيرًا حررت نبرتها المجلجلة يقتلها الحرج:
- أنا عارفة الوقت متأخر.. بس يعني.. هي نسمة موجودة؟
- غنى!
صدح صوتها ولهفتها من العدم وقد انتابها القلق بحق بينما تردف:
- بكلمك من الصبح موبايلك مقفول؟!
أخذت بجسدها المتجمد أمام الباب إلى الداخل فما كان من الضيفة غير أن تلقي بحالها بين ذراعيها هامسةً:
- هنام عندك الليلة.
ربتت فوق ظهرها في تفهم لما تمر فيه، وبينما تفعل ما تفعل ارتفع بصرها ناحية الجامد في وقفته كأنه تحول لتمثال من الشمع منذ أن شق الاسم مسامعه..
ترميه عيناها بإتهام صريح، بل تأتيه وتنبش ذاكرته بخط البداية، حيث كان هناك بشحمه ولحمه يخطط للنيل من تلك الساكنة بين ذراعيها.. ليصفعه القدر بمسار جديد كانت هي فيه الضحية الوحيدة.
وهي لا يمكنها لوم القدر لكنها تستطيع إيلامه، والبداية مع قضيتها التي اتخذت فيها أولى خطواتها اليوم.
***
لم يكن ليتركها حتى يطمئن..
ظل واقفًا يراقبها على بعد عدة درجات حتى أخذت صاحبة البيت بيدها فاطمن قلبه وارتاح باله، بعدها عاد إلى بيته بجسد متعب بل يستغيث من شدة الإرهاق..
ارتاب جسده وصوت التلفاز يعلو من وسط السكون، تحرك متوجسًا في المكان الخالي أو هكذا ظن قبل ما يقع بصره على شقيقه الأكبر الذي يعلو الصوفا العريضة بجسد ممد بكل أريحية وبين يديه طبق عامر بقطع من الفواكه متابعًا للشاشة المسطحة في اندماج قطعه ما إن أبصره:
- إيه يابني كل ده شغل، وبعدين قافل موبايلك ليه؟
ارتمى مهند على المقعد المجاور بجسده المنهك والسبابة برفقة الإبهام تمسد أعلى أنفه:
- لا أبدًا ده أنا كنت مع واحد صاحبي والسهرة خدتنا، والموبايل أكيد فصل شحن وماخدتش بالي.
هز الشقيق رأسه متفهمًا وعاد بصره إلى التلفاز في حين سأله مهند:
- هنا من بدري؟
- يعني من ساعتين كده.
أجابه دون التفات، ليتنهد الأصغر في إقرار سريع:
- امممم خناقة جديدة مع إنجي طبعًا؟
- المرة دي إتفقنا على الطلاق.
صعق مهند من وقع الخبر، صحيح أن زواج أخيه الذي أتم عامه الأول منذ أيام كان صاخب بشتى المعارك متخذًا فيه دور المصلح الإجتماعي لكنه لم يظن أن أمر الطلاق فيه من المحتمل!
اعتدل في جلسته بغتة وهو يهتف بصدمته:
- هنهرج يا ماهر!
أطفأ ماهر الشاشة بضغطة زر وهو يعتدل في جلسته بدوره حتى ارتاح مشبكًا أصابعه العشر في بعضهما متحدثًا ببعض الجدية:
- لأ ده مش تهريج يا مهند، أنا وإنجي اتفقنا على الطلاق فعلًا، أجلنا بس لحد ما باباها يخرج من المستشفى، وطبعًا أنا مقيم هنا لحد ما الموضوع ينتهي.. تمام؟
- أنت مالك بتتكلم كده كأنه عادي!
- عشان هو عادي فعلًا، لا إحنا أول ولا آخر إتنين قرروا ينفصلوا عن بعض.
- ببساطة كده؟
- مين قال أنه ببساطة!
صمت كلاهما، شرد الكبير في آخر مشاجرة حدثت بينه وزوجته مساء اليوم وحطت بهما حيث خط النهاية، بينما ظل الأصغر متأسفًا لما آل إليه زواج أخيه قصير المدى..
وضع مهند يده فوق فخذه مقترحًا:
- طب إيه رأيك أتكلم مع إنجي يمكن..
قاطعه ماهر بنبرة جادة، حادة:
- إوعى يامهند.. إياك!
لم يعقب فنهض ماهر ملقيًا بكلماته الآمرة في إقتضاب:
- هنام بقى مش عايز دوشة، والصبح تنزل من سكات عشان نومي خفيف.
- هنبدأها بجاحة ولا إيه!
- بس يا بابا.
وكان آخر ما فعلاه أنَّ تشاركا الضحك.
***
- إلحقني يا حسن!
صاحت ميسون في وجهه ما إن رأته بقسمات كساها الهلع، انتقل إليه رعبها على الفور سائلاً في فزع:
- حصل إيه؟
والجواب تلخص في كلمة واحدة:
- أنس.
قطب جبينه بينما تدلف للداخل في خطوات متخبطة عاونتها فيها نسمة التي جاءت فزعًا على نبرتها المستغيثة، أجلستها فوق أقرب مقعد ثم جاءتها بكوب ماء التقطت بعدها أنفاسها الهاربة لترفع بصرها نحو الواقف من فوقها في انتظار لتكملة:
- موجود مع شلة شباب في شقة ومعاهم بنات.
ارتفع حاجبيه في ذهول بينما يبادل نسمة النظرة المتوجسة عاد بعدها إلى الجالسة في محاولة للفهم:
- يعني إيه في شقة ومعاهم بنات؟
فركت جبينها وأطرافها مازالت ترتعد:
- بنات ياحسن ولوحدهم هيكون إيه، وكمان بيتنيلوا يشربوا..
ثم وقفت بغتة تردف في رجاء:
- تعالى معايا نطلعه من هناك حتى لو غصب.
- ثانية واحدة بس أفهم عرفتي إزاي كل ده؟!
- محمد صاحبه جاني البيت وقالي دي مش أول مرة يروح هناك وأنه نصحه كتير لكن مافيش فايدة عشان كده اتصرف وبلغني.
- مش يمكن صاحبه ده بيكدب؟
- لأ يا حسن أنا أعرف محمد وواثقه في كلامه، دول صحاب من زمان وأكيد مجاش وقال كده غير لما فقد الأمل فيه.
- طيب إهدي وماتقلقيش، هاتي العنوان وأنا هتصرف.
قالها وهو يبتعد بالفعل، بدل ملابسه خلال دقائق، عند الباب هتفت فيه:
- أنا جاية معاك.
- لأ إستني هنا، مش هتأخر.
أوقفها بكلماته المقتضبة في حزم وغادر بعدها، لتعود لموضعها السابق ويملأ صدرها الخيبة، وربما لأول مرة تلح عليها الدمعات لتبكي فأراحت نفسها وتركتها تنساب في صمت فوق وجنتيها بينم نسمة تقف على بعد خطوات تستمع إلى الحوار الدائر في صمت والذهول حالها..
أنس!.. معقول؟
لم تظنه هكذا يومًا، صحيح لم تعد تراه كما السابق حتى لو من باب المصادفة إلا أنها قطعًا ظنت فيه التهذيب رغم فضوله المقيت وأنفه المحشور في أمورها الخاصة، حركت رأسها في يأس فعلى ما يبدو أن كل فرد من هذه العائلة له حقيقة مغايرة تمامًا عن تلك التي يظهر فيها أمام البشر.. اقتربت من الأخت المصدومة تربت فوق كفها في مؤازرة صامتة هي جل ماتملك، لتهمس لها الباكية بنبرتها المتحشرجة ومازالت صدمتها تعبر عنها نظرتها:
- مش عارفه إيه جرى له الولد ده يانسمة، أنا بجد مصدومة فيه.
ربتت فوق كتفها تلك المرة والكلمات تأخذها لنفسها في تفكير ساخر؛ لتسألها هي عن تغير النفوس وتبديلها من حال إلى حال.
***
وصل العنوان المقصود وبصره يحوم من حوله مخترقا سرمدية الليل، فالمنطقة الحديثة هادئة حد السكون المقبض.. رفع يده يدق الجرس مرة ويضرب الباب مرات، انفرج بعد حين بواسطة شاب نحيل تفوح منه رائحة المشروب، دفعه بيده دون مقدمات حتى ترنح و كاد أن يسقط بينما يتجازوه مفتشًا بعينيه عمن يخصه، وجد مجموعة من الشباب يتوسطون الآرائك، يحتضن كلا منهم الزجاجات المسكرة بيد واليد الأخرى تضم فتاة تكشف عن جسدها أكثر ماتستر، لم يجد لأخيه أثر بين الجالسين بوعي غائب فراح يفتش ويدفع بالأبواب المغلقة حتى وجده هناك خلف واحد منهم..
حاله كحال الآخرين بين يديه فتاة والفارق أنه كان خالع لقميصه ويحمد الله أن الفتاة مازالت ترتدي ثوبها الفاضح.
اقتحم خلوتهم يجذب الفتاة من ذراعها ملقيًا بها نحو الفراش من خلفها ثم تناول قميص أخيه المحملق فيه وقد كساه الذهول، رماه فوق صدره بقرف وأمره بحدةٍ:
- إلبس.
لم يأتِ أنس بفعل ظل يتطلع إليه مشدوهًا بينما نهضت الفتاة من رقودها تمسد ذراعها المتألم، ترمقهما بغيظ وتدمدم لهما في تذمر:
- مين هيحاسبني دلوقتي؟
تضاعف قرفه أكثر وهو يخرج محفظته لينقدها أمام نظرات الصامت التي تباعدت في خجل وقد تم ضبطه بالجرم المشهود، حاول إرتداء قميصه لكنه تعثر فصاح فيه من جديد وإمارات الغضب تطلق الشرر:
- إخلص!
انتهى منه كيفما اتفق ثم سار من خلفه دون حديث حتى غادرا سويًا ذلك المكان الذي تفوح منه رائحة الفحش على أشتى ألوانه. كانت خطواته بالكاد تلحق فيه حينما وصلته النبرة الساخرة من خلف ظهره:
- طب كنت إستنضف ولا البيه غاوي رمرمة؟
فارت الدماء في عروقه ولم يجد وسيلة خير من الهجوم في هكذا حال:
- خدوا النصيحة من أفواه السوابق.
استدار له من فوره قابضًا على مقدمة قميصه وقد استوحشت نظرته، رطم جسده في سيارة ساكنة من الخلف، قبضته تزيد الخناق والهسيس مخيف:
- يا بجاحتك يا أخي.
هتف أنس بالكاد متبجحًا أكثر بالكلمات:
- أنت هتعمل فيها شيخ جامع ده إحنا كلنا عارفين ماضيك الوسخ.. ونقول ماضي ليه مش يمكن المرة دي بتسرق مالنا ماهو كل حاجة بقت تحت إيدك!
جاء رده في صفعة مدوية اهتز لها سكون الليل، رفع أنس كفه وحط بها فوق وجنته الملتهبة وعيناه تطلق الشرر بينما ظل حسن يرميه بنظرات من لهب وأنفاسه الهائجة تتناحر في حرارة وتنتهي فوق وجه الصغير.. فجأة تعالى ضجيج وأبواق سيارات الشرطة معلنة عن وصولها، دفع بجسده في خشونة وأمره أن يستقل العربة في صمت ففعل، جلسا يراقبان من على بعد أمتار الجمع الغفير الذي تجمهر والفضيحة التي طالت كل مرافقيه والجنود تزج بهم زجا إلى داخل صندوق السيارة حتى رحلوا وعاد الصمت يفرض وجوده.
- كان زمانك معاهم..
ومال جانب ثغره ساخرًا بينما سبابته تدور في الهواء بسخرية تشرح الوضع:
- معاهم أيه ده أنت كنت هتطلع ملفوف في ملاية.
ما إن صمت حتى نكس أنس برأسه وأخذ يشهق باكيًا..
تركه دقائق خفت فيها صوته ثم دمدم له بنبرة تخلو من الحياة:
- ﻵزم تحلل وارد تكون إتعديت لو كنت..
وترك التكملة معلقة ليأتيه الهمس بعد حين وقد بح صوته:
- ماعملتش حاجة.
- ولا قبل كده؟
سأل بذات الهدوء المقيت ليجيب عليه بهزة رأس تنفي، كانت أول مرة يتجرأ ويفعلها بعد تخبط وحيرة سكنت أفكاره، يشاركهم السهر والقليل من الشرب كل ليلة ولم يصل به الحال لأكثر من ذلك حتى قرر الليلة أن يخوض التجربة كاملة.. وليته مافعل.
تقدم حسن أولًا ثم تبعه أنس في حين وقفت المنتظره فوق جمر اللهب تتطلع إلى أخيها الواقف من خلف أخيه الأكبر برأس منكس خزيًا، رفعت كفها إلى فمها تكتم أي كلمات تنتوي الخروج وهي تراه بتلك الهيئة الرثة وعيناه المحمرة ظهر فيها أثر البكاء بينما وجنته تفضح عن أثر صفعة قوية، وكل ذلك يعلن ببساطة عن صدق صاحبه.
فقدت سيطرتها وكادت أن تهدر فيه لولا أصابع نسمة التي نبهتها عبر ضغطة خفية أن الوقت غير مناسب فأستجابت وبدلت الكلمات بأخرى مختصرة:
- يلا بينا.
سبقه حسن حازمًا:
- هيبات هنا الليلة.
وأشار له بيده ناحية غرفته ليتحرك لها صاغرًا بينما بقيت ميسون تنظر إلى حسن وتجهم ملامحه، فلم تدري ولسانها يستفهم، فعقلها يعجز عن التصديق:
- يعني فعلًا...
قاطعها بنبرة حادة بعض الشيء:
- الموضوع ده إتقفل خلاص، مش عايز حد يكلمه فيه تاني، ياريت تنبهي على والدتك.
ظلت ترمقه للحظات في صمت مطبق، غادرت بعدها دون تعقيب.
ظل هو وهي وحدهما واقفان وقد خلت الساحة وتبقت لهما معركتهما الخاصة..
منذ أن علم بأمر قضيتها التي عادت وفتحت أمرها وعن خطوة حقيقة تلك المرة وهو يعتزلها، لم يهدد ولم يزعق، إكتفى برفع بيان المحكمة الذي تلقاه أول أمس أمام وجهها وعيناه تحدجها بنظرة صامتة لا تشي بشيء حستها دهر من كثر ما طالت آنذاك ومنذ حينها وهي لا تراه ولا يراها إلا لماما.
ظل يرمقها بذات النظرة التي حدجها بها منذ يومين لكن تلك المرة كان هناك شيء من ألم يسكن نظرته، ألم قتله سريعًا حين ولى الدبر عنها واختفى بدوره خلف باب موصد.
زاغ بصرها في أرجاء المكان المتسع الذي يطبق فوق صدرها، لم تكن تريد سوى حياة هادئة، رتيبة ومملة لا تلك التي تحياها، عليها أن تجهز على الخطوة الثانية في أقرب وقت، يجب أن تتدبر بعض المال لأجل قضيتها وسكن مناسب تعيش فيه علها تنال قسطاً من الراحة التي تأبى أن تزورها.
***
إن لم يكن قاربك المشرع على قدر كاف من الحماية حتما ستهزمه العاصفة.. حد الغرق.
بأصابع مرتجفة رفعت الشريحة البلاستيكية الخاصة بإختبار الحمل المنزلي، تفصد جبينها عن العرق وهي ترى الخط الأحمر يرتسم سريعًا تبعه خط آخر لكنه باهت، تعالت وتيرة الدقات حتى كاد نبضها أن يتوقف، دقائق وكان جسدها ينزلق ببطء لتفترش أرضية الحمام بثوبها غير آبهة لذلك وقد زاد الخط الباهت وضوحًا مخبرًا إياها على مهل أن في رحمها ينمو جنينه!
![](https://img.wattpad.com/cover/373781970-288-k882364.jpg)
أنت تقرأ
الغنيمة
Romansa"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...