(38)
الاعتراف بالحق فضيلة
والاعتراف بالذنب هو بداية الطريق نحو الفضيلة
تلك اللحظة التي تتطلع فيها إلى صورتك دون خداعٍ أو تجميل زائف، ترى ذاتك بخطاياها وخطيئتها، سقطاتها وكل جرمٍ طوته الأيام في غياهب الجهل والنكران، حتى تحين لحظة وعيٍ، استفاقة، ضوء ينتشلك من بين وحشة السواد..
واستفاقته كانت صيحة ألمٍ جاورت رصاصة أطلقها مأجور السيدة قبل رحيله لتستقر بفخذه الأيسر، اختل ميزانه وسقط فوق الفراش من خلفه برفقة الصغير الذي سكن صدره بمعجزة وذراع واحد، على صرخات الصغير الفزعة ارتوى من قطرات ألمه على مهمل وابتلع الغصص المسننة على مضض ليفترق جفنيه على فراغ يحويه وابنه.
كان الصمت القاتل من حوله الممزوج بصياح بُحَّ له صوت الصغير كفيلًا أن تتشبث أصابعه الملوثة بدمائه بحافة السرير ليعتدل على مهل، يتحامل على حاله وعلى كل شعور يثبط من وعيه ورغبته في الابتعاد عن المكان الموبوء بالمخاطر، وكاد أن يسقط لولا جدار من خلفه ارتكن إليه في لحظة ضعف، لحظة وجع استجار على أثرها سائر الجسد، بذراعٍ واحدٍ كان يحمي الصغير داخل لفافته المبعثرة من السقوط، يشد عليه خوفًا وهلعًا من أي خطر قريب يتربص فيه بينما تزحف أنامله نحو موضع إصابته النازف للدماء بغزارة فتتغضن قسماته ويتضاعف الألم محررًا تأوهات موجعة.
أخذ من ذات الجدار مسارًا، يلقي عليه بثقل جسده وكأنما يزحف على جانبه ومع أول خطوة حقيقية كان يطلق صيحة مكتومة ورأس قابل الجدار يتمرغ فوقه بألمٍ عصي، غزت حبات العرق جبينه وضاقت أنفاسه في عجز هو حليفه في هاته اللحظة، فبحسبة صغيرة يحتاج أي معين للوصول إليه مايقارب الساعتين حتى يجتاز زحمة الطرقات هذا إن تمكن من عبور كل تلك الأزقة والشوارع الفرعية، ولا يدري أي أذى آخر سيلحق به وصغيره لو بقي هنا لدقيقة تالية، بدفعة أدرينالين اجتاحت عروقة خطى خطوة، وثانية.. فلا سبيل غير الغلبة والوصول حيث السيارة الرابضة على بعد أمتار، علَّ تكتب لهما النجاة.
بأنفاسٍ لاهثةٍ ووعيٍ يصارع غياب عانق مفتاح بيته قلب المزلاج، وبخطواتٍ مترنحةٍ أقرب للسكارى كان يقتحم الغرفة المغلقة يُمني نفسه بلحظة راحة، أول ماقابله جسد زوجته المسجى فوق الفراش وكأنما فارق الحياة بسكونه الرهيب، ترك جوارها الصغير يرج بصرخاته الأركان وعلى طرف الفراش ألقى بجسده المُتْعَب.
***
لاتدري أهي الحقيقة الخادعة أم كابوس مفزع تلون بنغم وريح وَلِيد يشبه صغيرها الراحل، انتفض جسدها مع شهقةٍ طويلةٍ قطعت هلاوس النعاس بالصحو القاطع، لكنه لا يبدو صحوًا على قدر كونه حلمًا منمنمًا يقاتل الهواء بأطرافه الهشة وصرخاته المبحوحة، حلمٌ تخشى ملامسته فيتضح أنه سرابٌ على الرغم من عينيها التي تثبت العكس وحدسُ أمومتها الذي تهتك وتمزق لألف قطعةٍ لكنه عاد وتجمع في ديباجةٍ واحدةٍ شملت كل شعورٍ ممكنٍ في لحظتها.
بلهفة أمٍ مدت كفيها تحوز على نصيبها من زينة الدنيا، تسد وجيعة قلبها بشعورها لحقيقة وجوده، تتفجر ينابيعها وقد ظنت فيها الجفاف، تُقبل جبينه، وجنتيه، بنان أصابعه، شعراته.. وكل ما تطاله شفتاها.
تتحرك شفتاها فلا تسمع لها صوتًا من أثر الصدمة، فقط نحيبها وشهقاتها تشارك الصغير بكاءه الذي على مايبدو شعر بضمتها الحانية لضلوعه اللينة فأخذ يهدأ ويستكين إليها بعد طول غياب.
لم تكن تريد معرفة ماهية ماحدث وكان، يكفيها أنه فوق صدرها يستكين، لكن صوت الأنين المكتوم المنبعث من قريب أجبرها على قطع وصال اللحظة و رفع بصرها عن معانقة الصغير للحظات.. يحتل الفراش بنصف جسده بينما النصف الآخر يتدلى من خارجه، تطحن ضروسه بعضهما ويكتم أنين واضح نقشته قسماته بينما ساعده يطبق فوق عينيه يحجب عنه ومنه الرؤيا، ولم يكن هذا كله ليقبض روحها لولا بقع الدماء التي اتخذت لها مسارًا ابتداءً من باب الغرفة وسارت فوق الأرضية حتى انتهت عند موضع أقدامه.
كانت شهقتها لقلبها تلك المرة وهي تتمتم بكلماتٍ غير مفهومة، يميل جسدها إليه وتزيح عن عينه عصابته، قابلتها عينان حمراوتان، غائرتان، تكشفان عن مدى الألم الواقع فوق صاحبهما..
تحشرجت أنفاسها وانعقد لسانها بينما كفها يسير فوق وجهه.. كتفيه.. صدره.. تفتش عن مصدر النزف، حتى لامس بنان أصابعها الجزء النازف وقد اختلط قتامة الدماء بقتامة النسيج فلم ترَ الصورة واضحةً إلا عندما أطلق صرخة تعني أنها وطأت موطن الوجع، بارتجاف شمل كيانها مالت ببصرها فترآى لها هيئة الجرح الغائر، شهقت على أثره بينما تعود بكفها المنتفض بدمائه، تركت الصغير جوار أبيه وأخذت تهرول إلى الخارج بعقلٍ غائبٍ، تفتش عن شقيقته في تعثر ولا تجدها، عادت إليه بشتاتٍ مضاعفٍ وعقلها لا يسعفها على تصرف سليم، دارت حول نفسها ثلاث قبل مايلتقط بصرها هاتفها الساكن فوق منضدة الزينة، تناولته برؤيا شوشها الدمع الغزير، تعبث في لائحة الأسماء بنصف عقلٍ حتى قابلها اسم "أنس" بحكم أبجدية حروف أو قرابة دم ربما، لم تفكر وأجرت اتصالها في الحال ولم يحتج الأمر لأكثر من ثوانٍ قليلةٍ حتى وصلها الطرف الآخر فما كان منها غير أن تجهش في بكاءٍ متقطعٍ بالكاد تحشرجت من بينه الحروف الصارخة:
- أنس.. حسن بينزف!
وضاعت باقي حروفها مع صيحة أنس، والذي جاءتها بنغم العارف:
- خليكي جنبه، أنا على وصول.
عادت بالهاتف إلى موضعه بأصابع مرتجفة فسقط، تقترب وتجثو بالقرب من جرحه فانكشف لها أكثر، غصت بغصتها وتغضن جبينها لشدة ما رأت، استقامت على وجل ومنظر الجرح لا يفارق عينيها، تجاوره وبصرها يتنقل بين صغيرها الباكي وزوجها طريح فراش الألم، هدهدت الرضيع بهزة صغيرة وعادت تمسح عن جبين الراقد عرقه بأصابع خرقاء ولسان بالكاد يتمتم بحروف اسمه التي لم تجد لها صدى من لدنه، كان يقاتل الألم بطحن ضروسه وجفنين تغضنا بشدة مع قبضتين جعدتا الفراش من تحته في محاولة يائسة للمقاومة..
- هتبقى كويس..
لفظتها مذبذبة من بين نحيبها بينما تأخذ إحدى قبضتيه بين كفيها، تبثه صبرًا مفقودًا ويبثها ألمًا يفتك به وما عاد يحتمل.
***
عطايا القدر لاتُرد
هي ربتة الخالق بعد طول لهاثٍ، هي المنح التي تشعرنا أننا ذوو قيمةٍ ومعنى، من يدفعنا حتى نواصل العيش ونسج خيوط الحياة.
تخبطت بين أروقة مشفى بقلب أم، حتى لولم تكن كذلك في شرع القانون لكنها كذلك بشريعة قلبها، بأحقية الأيام والأسابيع الماضية التي عرفت فيها الصغيرة كما لم تعرفها وقتما جمعهما سقفٌ واحدٌ، دفعت بالباب فقابلها وجه "أميرة" الباكي بهيئتها المشعثة، تلقفتها بين ذراعيها، زرعتها فوق صدرها تدحر خوفها، حتى تكلمت بعد حين بنفس كسيرة:
- هو أنا هموت يا سماح؟
شدت على ضمها بقوة بينما تنفي قولها بهزة رأس قاطعة:
- لأ ياقلب سماح، بعيد الشر عنك، ألف بعد الشر.
"غيبوبة سكر" هكذا صرح الطبيب الشاب والمعلمة الأربعينية التي رافقتها إلى المشفى ما إن سقطت بفناء المدرسة وقت الإستراحة فتم نقلها إلى أقرب مشفى على الفور.
أخبرتها المعلمة من بين ثرثرتها قبل رحيلها أنها هاتفت أبيها لكنه لم يُجب فبادرت بمكالمتها وتبلغيها عن وضع المسكينة الصغيرة، كما أخبرها الطبيب متممًا تصريحه أن السبب يؤول لعدم تناولها للطعام عقب أخذها لجرعة الأنسولين..
ربتت فوق رأسها تأثرًا على حالها وعقلها يسب أبيها الذي أهملها ولم يتمم على فطورها قبل نزولها فحدث ما حدث وحينما طلبوه لم يجدوه.. تبًا له!
وعلى إتيان ذكره في خاطرها حضر أمامها بملامح مكفهرة امتزج فيها القلق بالهلع، اقترب من الصغيرة يخلعها من بين يديها عنوةً ويضمها لرحابة صدره متمتمًا بسؤال لاهث هو كل ما استطاع:
- أنتِ كويسة؟
عانقته الصغيرة وطمأنته ببسمةٍ صافيةٍ فتمتم بحمد وقد انفرج لها ثغره نافثًا بذلك تنهيدة راحة، تركت لهما المجال واستقامت تلملم طرف عبائتها السمراء وتعدل من وشاحها دون حاجة، تستجمع بضع كلمات تلقي بها قبل الرحيل، كانت الحروف عصية وهي تغض الطرف عن صورته وتوهم حالها أنها لاتسمع صوته، وحين جاهدت ونوت تتسلح بالشجاعة قاطعتها ابنته وكفها الصغير يجذب كفها:
- سماح تعالي روحي معانا..
استقام أحمد بدوره يتطلع إلى رأسها المنكس ناحية الصغيرة وبصرها الهارب عنه في صمت كسره من جديد استطرادة ابنته:
- عايزة أكل شوربة.. مش الدكتور قال لك تأكليني!
وضعتها هي والطبيب والمعلمة في قالب الأم، ظن الجميع ذلك وهي لم تصحح المعلومة بل أكدتها، مست شغاف قلبها وهي تتوسلها الذهاب ولو لبضع دقائق بينما أثارغيظها حين تلحف بالصمت وتصنع بالتشاغل بالتحدث مع الطبيب، ترك لها حرية القرار، وهي لأجل الصغيرة ستفعل، وإن كانت ابنته هذا لا يعني أن تردها فيما تشتهي نفسها وتبغي وهي بهكذا حال.
بعد ساعة ونصف الساعة كانت تضيف رشة بهار كلمسة أخيرة لحساء الدجاج المفضل لدى الأميرة الصغيرة، ساعة ونصف قضتها بين جدران بيتها وبقلب مطبخها، دار بصرها بين جنباته فهذا غطاء الطاولة المستديرة هي من صنعته بيديها، مجموعة الأطباق تلك لا توضع هنا، ولماذا تتجمع كل تلك العلب الفارغة بتلك الفوضى وهاته القذورات ماذا تفعل فوق أرض مطبخها!.. كيف يفعل ذلك بأكثر مكان تشعر فيه بالانتماء لذاتها؟
بجبين متغضن سحبت شهيقًا طويلًا ثم طردته بزفيرٍ أطول تدحر به لوثة أفكارها، حملت طبق الحساء الساخن وتوجهت إلى غرفة الصغيرة.
مرت دقائق على وقفتها خلف الباب الموارب، تراقب ضمته الحانية للصغيرة الغافية بين ذراعيه، كيف يمسح عن رأسها وتتحرك شفاهه بآيات قرآنية يتلوها بصوتٍ خفيضٍ، عادت إلى الخلف تجر أذيال الخيبة، لم يبادلها حرفًا، طوال طريق العودة كان صامتًا، واجمًا، وما إن وصلا حتى شارك ابنته غرفتها وأسكنها ذراعيه، بأصابع مرتجفة تركت الطبق الساخن على طرف مائدة الطعام وأخذت تهندم من حالها تأهبًا للرحيل، لم يعد لها مكان في بيت رجل لايبغيها، جاءت لأجل الصغيرة متغافلة عن كل ما لايجوز، وسترحل حفاظًا على ماء وجه هو آخر ماتبقى لديها.
لم يكن يتبقى على الباب سوى خطوة واحدة حين شعرت بقبضته تلتف حول ذراعها بقوة أرهبتها، استدارت فزعةً تبادله النظر الجامد للحظات لم تسمع فيها غير هدير أنفاسه وترى عقدة جبينه.. لا تدري إن ترقرق الدمع بالفعل داخل مقلتيه قبل مايجذبها إليه عنوةً، يودعها كل مايعتمل فيه من ضعفٍ واحتياجٍ، يشكوها حاله في صمت، كم مرة عليه أن يتحمل لحظات كتلك!
كانت أنفاسه الثائرة تهدأ وتستكين فوق كتفها رويدًا، شردت ذاكرتها إلى أول مرةٍ رأته فيها فوق رمال البحر وقد أخبرها ذات ليلةٍ دافئةٍ أن يومها عرف بحقيقة مرض ابنته وحين ضاقت عليه الدنيا بما رحبت راح هناك يبحث عن أنفاس تبث فيه الحياة لمواجهة أمواجها العاتية فقدر لهما اللقاء.
كسرت تيبس جسدها بربتة طالت كتفه، هي جُلَّ ما استطاعت تقديمه في لحظة تخبطها، وكانت كافيةً حتى يبتعد ويقابلها بنظرةٍ لونها بعتب صريح:
- رايحة فين؟
ابتعدت عن مرمى أنفاسه تضبط من وضع وشاحها وتهمس بمرارة ترجمتها خبو نظرتها:
- همشي.
وبررت وجودها سريعًا في اقتضاب:
- جيت علشان أميرة متزعلش، عملت لها الشوربة لما تصحى أكلها على طول.
وتهدج صوتها بعدها ودار بصرها في كل مكانٍ إلاه، تلجم عبرات عصية فأبت إلا تهطل فوق وجنتيها، قطعتها بحدة وازت اقترابه لما ابتعدت، يتمسك بكفيها ويخبرها بصدق قلبه:
- وحشتي بيتك.
لوقع الكلمة تأثير أرجف قلبها قبل شفتيها وفجر فيها ينابيع العتاب، بنظرةٍ ذبيحةٍ قابلته وبلوم قاتل همست:
- حكمت من غير ماتسمع، كسرت نفسي بكلام...
تلعثمت لبرهةٍ استطردت بعدها بمرارة أكبر وعبراتها تغرق صفحة وجهها فلم تأبه تلك المرة بمسحها:
- كلام عمري ماهنساه.
ضم رأسها بين كفيه وقربها يلقي بها فوق صدره، يقبل أعلاها مدمدمًا بأسفٍ:
- حقك عليَّ، كانت لحظة غضب، أنتِ غالية قوي يا سماح، وكل كلامي وغضبي عشان عاوزك متصانة في كل عين.
صمت هنيهةً ثم ردد على نغم نحيبها الساكن صدره:
- عمري ما أقصد أجرحك..
ولم يكن ليصمت بل تدفق قلبه بالمزيد:
- ده أنتِ آخرة صبري وعوض ربنا ليا.
زادها بكلماته بكاءً فوق بكاءٍ، ولا تملك لحظتها غير التشبث فيه والتمسك بعطايا القدرالرحيم، تركته يمسح عن قلبها كل غبارٍ عالقٍ، يهدهد روحها الحزينة ويبث فيها بعضًا من فرحٍ غاب وشح عن أيامها..
وكان ليغمرها في بحور الشوق سارقين من الزمن بضع لحظات لولا رنين الهاتف الذي صدح مخبرًا إياها عن كارثة جديدة تنتظرها بالمشفى.
***
كل شيءٍ انتهى..
عاد الصغير بخيرٍ، خرجت ميرال الدقاق من القضية كما يخرج الشعر من العجين وذلك كان المنتظر، متى كان القانون يعاقب أمثالها!. لكنها حتمًا تستحق الفضيحة التي طالتها وستحتاج دهرًا حتى تنظف ماعلق فيها من وسخ.
وعن إصابته من المفترض أنها في طور الشفاء بعد غض الطرف عن الآثار الملحقة التي أكدها الطبيب البدين.. لكن كل شيء انتهى.
كل شيءٍ يمر ببطءٍ قاتلٍ!
لايوجد أقسى من محاسبة النفس، محاولة تطهيرها من شحوم الذنوب، بل سلخها عن كل دنس عالق..
وكان عقابه قاسيًا، يعتزل الجميع منذ عشرة أيام، تحديدًا منذ غادر المشفى، ينأى بحاله داخل غرفة على مايبدو ستظل مكمن لأزماته الصحية، حتى عن صغيره الذي كان على استعداد لتقديم روحه فداء لسلامته..
شارد طوال الوقت لا يتحدث إلا لمامًا، لم تفلح كل محاولاتها في كسر عزلته بل باتت تشعر أن قربها لا يزيده إلا بعدًا.
حتى زيارة شقيقته وزوجها قبل حين قابلها بصمت قاتل أثار قلق الشقيقة وحين سألتها لم تجد غير العجز جوابًا. تنهدت في قلة حيلة وولجت إلى صومعة عزلته، بين يديها مايلزم لتغير ضماد جرحه ككل يوم تفعل، اقتربت بروتينية تزيح عنه الشرشف فعاجلها بقبضة التفت حول رسغها، يبعد كفها عن مرماه ويدمدم في اقتضاب حاد:
- خلاص مالوش لزوم.
اعترضت بهدوء:
- جرحك لسه مخفش، ماينفعش نهمله.
قاطعها بسخريةٍ لاذعةٍ بينما يرمي بوجهه بعيدًا عن مرماها:
- وده هيرجعها زي الأول يعني؟
- إن شاء الله وأحسن من الأول كمان.
عاد إليها بوجه محتقن:
- أنتِ بتكدبي على نفسك ولا عليَّ!
قالها بزعيقٍ حادٍ، تتحمل مزاجه العكر منذ حينها وتمنحه كل المبررات لكن ليس وحده من يعاني! هي الأخرى تعاني وبشدة، لاتتحمل رؤيته طريح فراش المرض مقيد بفكرة عجز قد تصاحبه طيلة حياته، كل تلك الأمور التي حدثت ومازالت تصغط فوق أعصابها حد الهلاك، نهضت من جواره تناظره من علو، تهتف فيه بحدة وتأنيب:
- أنت غاوي تعذب نفسك وتعذبنا معاك ليه؟
نفض عنه الغطاء بوجه محتقن أكثر عن ذي قبل، استقام بدعم من عصا طبي هو رفيق أيامه الماضية والقادمة وحتى الأبد على مايظن، يعاند نفسه وجرحه وهي من قبلهم، يقابل وقوفها بصرامة طاردًا عجزه تحت نظراتها القلقة بسؤال آخر ماكانت تتوقع:
- أنتِ أصلًا قاعدة تعملي إيه! مخدتيش ابنك ومشيتي ليه؟
تقتله بقربها، تهتم فيه كما لم تفعل من قبل، تتجاهل الحديث وكأن ماحدث مجرد عابر ليس له ماض، ماض أسود يتذكره كلما قابل عينيها.. لِمَ لاترحم خزيه كلما تطلع بوجهها ووجه ابنه وكراهيته لحاله حينما ينظر لنفسه.. لِمَ لاترحمه وترحل فحسب!
تقابل حاجبيها في عدم فهمٍ، فاستطرد لها بذات القسوة موضحًا:
- ولا ده درس من الأستاذة الجامعية عشان تعرفني قد إيه هي إنسانة عظيمة قادرة تنسى، تغفر وتسامح!
بادلت نظراته المشتعلة بأخرى شحنها الصمت الثقيل، تشعر بحروبه الداخلية، تستمع لصليل السيوف المتناحرة فوق ضميره، لكنه لا يعي بعد أنه معركتها الخاصة وستقاتل فيها حتى آخر رمق، بل حتى تظفر بالنصر.
قالت بعد حين بنبرة جاهدت لتخرج سليمة.. هادئة حد البرود:
- لو ده هيريحك فأنا منستش ياحسن، ويمكن مقدرش أنسى طول عمري لكن اخترت أكمل معاك وأنا مصدقاك، أكمل مع الراجل اللي بحبه مش اللي بتتكلم عنه ومصمم تحيه مابينا.
صمتت لبرهة تابعت فيها حركة حلقه العسرة، ثم قالت وعينيها تخترق قتامة عينيه بينما كفها يحط فوق موضع قلبه على مهل:
- غضبك موجه لمنطقة غلط.
غض الطرف عنها وأخذ يهدر بأنفاسه للحظات حتى استدار، يوليها ظهره ويخطو دون اتزان حتى ألقى بحاله فوق الفراش، يحيط رأسه بكلا كفيه ويأمرها في صرامة لاتلين:
- اقفلي الباب وراكي.
وحين ظلت على وقوفها الواجم شيعها بنظرة قاتلة فلم تجد غير الامتثال لأمره الطاغي وتركه وحيدًا، يستحضر دفاتره القديمة ويقرأ مادون فيها عبر السنون برؤيا جديدة وفطرة نفض عنها غبار البَغْي.
***
القلب.. طفلك العاق!
لا يمتثل لأوامر العقل مطلقًا، دومًا لايبالي بما حدث وسيحدث، الأهم مايريد فحسب، أناني معظم الأحايين ويقدم مصلحته عن باقي الجسد دون تأنيب..
في حوارٍ صامتٍ مع طفله العاق أخبره بلوم وتقريع: لم نتفق!
لم نتفق على نبضات تغادر السرب وتحلق في سماء العشق الخاطفة، لم يكن هذا أبدًا ما تعاهدنا عليه ياخائن!
من فوق حافة كوب القهوة كانت تراقبها عيناه بتمتع لذيذ يشبه مذاق القهوة الذي ترتوي فيه عروقه، تنكفأ فوق مكتبها وفوضى الأوراق تملأ سطحه، وكأنها تعاند طبيعتها المنظمة بفوضى تشبه فوضى طالبة ثانوية تلملم منهجها آخر العام، تجتهد وتمنح كل طاقتها في سبيل الوصول، لا ترتضي سوى بالقمة ولا يرضيها غير النجاح الساحق.
لاينكر قلقه حين يراها مفرطة الأمل، يخشى عليها أن تمر بها السبل ولا تزال تبحث عن قممها الخاصة فلاتجد بعد تسرب العمر من بين الأنامل غير السراب.
- تفتكر حسن هيقدر يرجع قريب؟
انتشلته من شروده بسؤالها المباغت، ترفع له عينين حائرتين مؤطرتين بمنظار طبي ذي إطار أحمر يليق بها حد.. الفتنة ربما.
- محتاج وقت أكيد، لكن الأكيد أنه هيرجع.
كان جوابه يحمل الغموض بقدر الوضوح، فحسن الذي عاشره خلال محنة الأيام الفائتة لايشبه حسن الذي يعمل معه، ولا حسن الذي يعرفه الجميع، بئر أسرار يطفو منه بضع كل حين، وعلى قدر امتلاكه لكل شيء يبدو هذه الأيام كرجلٍ خاو الوفاض يسير بغابة دون دليل.
- بصراحة سايب فراغ كبير، ربنا يشفيه.
قالتها وهي تتنهد وتنكب فوق أوراقها من جديد، لم يمهلها تغوص تلك المرة، تجرع آخر رشفة بفنجانه سريعًا وغمغم في تسلية:
- ميسون.. لو فرضنا أنك وقعتي بين اختيارين، الأول تصحيح غلطة كبيرة عملتيها، والتاني أمنية نفسك تحققيها.. تختاري إيه؟
عادت بظهرها للخلف وقد جذبها بقسماته المرتاحة حد المرح، تعقد ساعديها فوق صدرها وتهمهم بتفكير بدى عميقًا رغم تسليتها الواضحة حتى هتفت بامتعاض لطيف وكفها يشير نحو حاسبه المرتاح فوق ساقيه:
- أنت شكلك فاضي مش كده؟
- متهربيش.
جارت جديته الكاذبة:
- بما أن الغلطة عدت واللي كان كان، يبقى طبيعي أختار أمنية نفسي أحققها.
رفع أحد حاجبيه لاختيارها المتوقع وهتف لها بنبرة مبطنة أغاظتها:
- متوقع من دماغ عملية زيك.
- ده تفكير أي حد عاقل، عشان ده الصح.
- الصح اللي يناسبك مش شرط يناسبني والعكس صحيح، يبقى كده مفهوم الغلط والصح في الأساس معتمد على الفرد.
- يا سلام!.. يعني فرضنا اتنين اتفقوا وأنت خالفتهم يبقى كده هما غلط وأنتَ صح!
- إطلاقاً، كل واحد فينا هيبقى صح بتفكيره وغلط بتفكير التاني.
- ماهر!
رفع لها حاجبيه منتظرًا التتمة ففاجئته بكفين انفرجا عن بعضهما في عجب مستنكر لهوية الحوار الدائر دون داع يذكر:
- أنت فاضي بجد؟
قهقه في جذل على قسماتها المتغضنة دون فهم بينما يعود لحاسوبه القابع أمامه متظاهرًا بالعمل، يرتسم فوق ثغره ابتسامة خبيثة تليق فيه حد تعثر الدقات، عادت أناملها تعانق القلم الملقى تخفي اضطراب بين، طالعت أوراقها بذهن مشتت وهمس نهرت فيه الدقات المتقافزة بلوم وتقريع لن يغادر جنباتها قط: لم نتفق!
***
العشق نضج من نوع آخر
مسئولية لا يحملها إلا رجلٌ كتب له أن يكون للعشاق وريثًا
وحبها في قلبه مسئولية، وبكيانه نضج، رغمًا عن أنف المسافات، أبيها والتقاليد البالية، رغمًا عن كل الأبواب التي تسكرت بوجهه منهيةً بذلك حكاية لم تبدأ بعد..
بعيون كئيبة أعاد قراءة الرسالة الواردة منذ ساعة للمرة التي ملَّ من إحصائها..
"أرجوك يا أنس متضغطش عليَّ بزيادة، مش هقدر أرد عليك، أنا أخدت عهد على نفسي أني مش هكلمك ولا أشوفك، سامحني مش هقدر أخون ثقتهم تاني.. مش عايزه حاجة غير أسمع أنك بخير وسعيد حتى لو ده معناه نفترق للأبد.. ربنا يوفقك"
رد وصله عقب عشرات الرسائل ومثلهم مكالمات لم يجد فيهم جوابًا حتى جاء وليته مافعل، حمقاء.. تظن أنها ببضع حروف تراصت وكونت كلمات خرقاء سيتخلى عما يريد ويبغي، هو لعنة أبيها التي سترافقه منذ اللحظة وحتى يعلن قبوله بل ويقدم مباركته.
على خطوات أمه الدانية دس بهاتفه بين الشراشف واعتدل في اضطجاعه يشق مبسمه بابتسامة صغيرة.. بدت متكلفة:
- منزلتش يعني؟
تساءلت بينما تجاوره وتحيط كتفيه بذراعها، ترك لرأسه حرية الغوص بأحضانها بينما يجيب بملل:
- ماليش مزاج.
- قلت هتروح لحسن؟
- اطمنت عليه في التلفون.
تركت كتفه وراحت تسرح أناملها بين خصلات شعره في حنو، يكتنفها الفخر حين تراه ينضج ويعي يومًا بعد يوم، لاتنكر قربه من أخيه لأبيه الراحل كان يقلقها حد محاولاتها لقطع أي وصال ينبغي، لكن ماترى فيه من صلاح خيب ظنونها وآمنت أنه كان بحاجة لمن يشد من أزره حتى يشتد عوده الأخضر، كان لحاجة من يفهمه ويهذب من أفكاره المندفعة دون لجام.
- ماما..
- نعم؟
ناداها في تردد واستجابت على الفور، ابتعد عن دفء أحضانها، ينظر لها عاقدًا حاجبيه في تساؤل يقتات على تفكيره كل حين:
- ليه بابا خبى علينا حقيقة وجود مراته وولاده؟
- بس بابا مخباش يا أنس، أنا كنت عارفه بوجودهم من البداية.
- ولما هو كده مظهروش في حياتنا من بدري ليه؟
قالها بحدة تغضن لها جبينها بينما تسأله في حيرة:
- أنت عاوز توصل لأيه بالظبط؟
- عايز أوصل لنقطة إيه يخلي أب يسيب ولاده سنين، أنا لما بفكر أني مكان حسن وسماح بقول عمري ما أقدر أسامحه أبدًا!
لم يهتم بذلك الأمر من قبل، والآن يقف بين فضوله لمعرفة تفاصيل الحكاية إلا أنه يخاف من تتمة فيها خسران لصورة أب لطالما كان له نبراسًا يفتخر فيه، لكن حادثة حسن الأخيرة أضاءت بذهنه الكثير من النقاط، يجتاحه شعور بالشفقة نحوه حين يراه غارقًا في لجة بحر عميق ولايقوى على فعل شيء غير التفرج في صمت، ظن أن الأمور سوف تسير على خير مايرام ما إن يعود الصغير سالمًا لكن أخوه لم يعد أبدًا كما كان..
تبادلا النظر للحظات بدت كدهر حتى غمغمت له منهية الحوار:
- جواب سؤالك ملك لأصحاب الشأن ودول بين ايدين ربنا، ريح نفسك يا أنس وأقطع أي أفكار خبيثة مهمتها تزرع بذور فاسدة جواك.. اقفل كل باب ومتسمعش غير صوت قلبك، مفيش حد مبيغلطش، مبيذنبش، بس ربنا غفور رحيم وبابا لو كان أتمنى حاجة فهي أن يشوفكم أحسن حد في الدنيا، أفتكر ده كويس وبلاش تقابله بجحود.
وغادرت تاركة إياه أسير كلماتها وأفكاره المتناحرة.
والآباء دومًا لهما من الشفاعة نصيب، رغم قسوة الأفكار إلا أن جزء من زوايا الفؤاد مهمته نفي كل تهم ملتصقة ودوافع باطلة.
انسل بجسده داخل الفراش ينهي ليله بقطع تيار الأفكار الصاعق في حين على الطرف الآخر كان يبدأ تيار من نوع آخر..
تُقدم قدم وتؤخر أخرى على نغم ترتيله لآيات الذكر الحكيم، اقتربت تجثو فوق ركبتيها عند جلسته الأرضية في زاوية هي ملجأه ومكمنه لكل ثلث أخير من كل ليلة، تركت مشروب الينسون بالقرب منه وعادت بكفيها لحجرها، تنكس برأسها وتستمع لحنو نبرته المتعطرة بشذى الحروف، ظلت على حالها تنتظر فروغه من القراءة حتى تنهي أمر قطيعتهما، طال الوقت والعقاب قاس، قاس لحد عبراتها التي هطلت ما إن سكنت حروفه وابتلعها جوف الليل ليلفظ همسها المتحشرج:
- سامحني..
رفعت له عينين نادمتين، فيهما وعد لن تخونه أبد الدهر:
- عقابك القاسي طول، سامحني عشان خاطر ربنا.
لا تتحمل خصامه، نبذه لها ومعاملتها كهواء لايراه، لاشيء يعوض وجوده، لا شيء يساوي بريق عينيه حين يتطلع إليها بفخر.. قطيعته مع شقيقته الوحيدة هي سببها، ولوكان هذا ما سيعيد الذي كان سوف تقدم حياتها وقلبها قربانًا لرضاه:
- موافقة أتجوز هاني لو ده هيرضيك ويرضي عمتي ويريحكم كلكم.
ونكست برأسها، تجهش في بكاء مرير تقطع له نياط القلب بينما أبوها على حاله، تعانق نظراته صفحات المصحف و كلماتها النادمة تخترق مسامعه.. تحدث بعد حين وقد ظنته لن يفعل:
- ركزي في مستقبلك ياعيشة، اعملي لنفسك قيمة واتعلمي إزاي تغليها، الرخيص يابنتي مالوش تمن..
صمت هنيهة ثم استطرد بلين صبغ نبرته:
- ده اللي يرضيني.
استقر كل حرف من حروفه بداخلها وفاح بشذاه، وافقته بإيماءة صامتة بينما تلقي بحالها فوق صدره، تصل ما انقطع بعبرات أغرقت ثيابه ويعيدها لكنف قلبه بكف حان مسح به عن رأسها.
***
هزائمك الصغرى هي الطريق نحو انتصارات كبرى، وليس هناك أروع من هزم مخاوفنا..
فذاتك هي عدوك اللدود!
كانت تتقافز فوق فراشها بجنون، تطلق صيحات مبتهجة منبعها ذاتها وقلبها، بل كيانها بأسره، تمسك بالجرو الصغير بين يديها وتقلبه يمنة ويسرى في سعادة، فذلك الجميل بلونه فراءه السكري وعينيه البريئتين هو هدية عيد ميلادها الثالث والعشرين، والذي صادف أن يكون الليلة.
أطلقت صيحة جديدة فتح على أثرها باب غرفتها وطلت أمها برأسها توبخها بلين، فقد طار عقل ابنتها منذ أن وصلها هذا الجرو مقترنًا باسم رجل.. والمبرر؛ شريك العمل:
- اتجننتي يا غنى، الصوت ياماما مش كده!
قفزت من أعلى الفراش تهرول نحوها، تقرب الجرو منها غير آبهة بنفور جسدها بينما تصيح:
- يجنن ياماما يجنن، شوفي بيبص لي إزاي!
وأخذت تداعب جسده بينما أمها تضرب كفًا بآخر، كأي أم تحتاج لتفسير منطقي لما تراه وتستشعره منذ فترة، لكن أي حديث يجدي الآن وابنتها تعد في عداد المخبولين!
وبالرغم من هذا كله لم تستطع منع ابتسامة شقت طريقها وعبرت ثغرها حين رأت سعادتها ترتسم من جديد، سعادة تشبه آخر حفل عيد ميلاد شهده هذا المنزل قبل رحيل صاحبه، ترحمت على ذكراه وغادرت تاركة ابنتها تتجرع سعادتها على مهل وعن الغد؛ مؤكد لهما حديثًا يعد.
أوصدت بابها ما إن غادرت أمها وتحركت تفتش عن هاتفها، هل سعادتها الكبيرة هاته لأنه تذكر يوم مولدها؟ أم لأجل اختياره لهدية يعلم أنها ستطير بلب عقلها؟.. أم لأنه يهتم فيها وبكل تفاصيلها الصغيرة تمامًا كما كان يفعل حبيبها الأولي!
أخبرته ذات حديث عابر أنها كانت تملك كلبًا ربته منذ كان جروًا صغيرًا، كان هديتها من أبيها في ميلادها الثامن، لكنه لحق به عقب وقت قصير، أخبرته عن عشقها للحيوان بجميع صنوفه وكيف كان يشاركها شغفها في ذلك ولكم كرهته من بعده فتخلت عن كل ماكانت تملك واكتفت فقط بسلحفاتها العجوز.
تربعت فوق الفراش تستجمع أنفاسها الهاربة، تضع الهاتف فوق أذنها وتستمع للرنين بلهفة، اتسعت ابتسامتها حتى شملت وجهها ما إن لامس بنبرته شغاف قلبها، وجدت حالها تصيح في بهجة عجزت عن ترويضها:
- كوتي خالص يا مهند ويجنن، فظيع بجد!
- عجبك؟
- عجبني وبس! ده أنا وقعت في غرامه.
سؤال أحمق من أحمق آخر ابتهج لصوتها الذي يقطر فرحًا فلم يجد غير التأكيد على سعادتها بل ومشاركتها إياها:
- هتسميه إيه؟
همهمت بتفكير ثم همست بشقاوة عابثة:
- همممم إيه رأيك في.. مهند؟
كتمت ضحكتها بالكاد بينما تستمع لصياحه المستنكر:
- تصدقي أنا غلطان، أمشي ياغنى مش عايز أعرفك تاني.
جلجلت ضحكاتها السكون وهتفت تلاحقه بالكاد من بينها:
- ده تعبير عن إمتناني وكده.. طيب خلاص سوري، سوري بجد.
لم يرد فتوقفت ضحكاتها قسرًا، توبخ حالها على تماديها وقلة تهذيبها بينما تتابع بجدية وشفاه مقلوبة كأنما يراها:
- خلاص بقى!
وصلتها تنهيدته الحارة تتبعها كلماته المعبقة بدفء غريب رغم جديتها:
- كل سنة وأنتِ طيبة ياغنى.
لاتدري كل تلك الحرارة التي شملت المكان منبعها ذاته أم ذاتها، همست برزانة وقد هدأت عاصفتها واستكانت:
- وأنتَ طيب يامهند، ربنا يخليك ليا.
أهدت الجرو قبلة صغيرة ثم حررته من أسرها بينما جسدها يتمدد فوق فراشها وكل ذرة في كيانها تولي محدثها جل إهتمام، أخذهم سمر الحديث والضحكات النابعة من الفؤاد حتى انتصف الليل دون شعور، وكان يسهب في حديثه عن حكاية من زمن الطفولة حين قاطعته بغتةً، دون سابق إنذار:
- مهند يلا نتجوز.
نبضها أسرع أم أنفاسه التي رفضت الرضوخ لهيمنة الصمت البغيض، صمت طال لدقائق توترت على أثرها، فركت جبينها بحرج وقد وعت للتو عن فداحة ما لفظ اللسان، عضت فوق شفتها وتجلجلت حروفها بينما اعتدل جسدها لتهتف من جديد في محاولة مخزية لرفع الحرج وتصليح ماحدث:
- ياربي، أنا بجد مش عارفة مالي النهاردة، أنااا..
- ماما صاحية؟
- أفندم!
- مش مهم، بلغيها أني عايز أقابلها دلوقتي.
- دلوقتي إيه! مهند اعقل الساعة واحدة.. مهند.. مهند.. مهند رد عليَّ متهرجش!
ظلت جامدة في جلوسها تناديه عبر الخط المفتوح بغضب ولد إثر شعورها المتضارب بين رهبة، سعادة، خوف، توتر، ونبض فقد مساره من شدة الدقات.. بعد حين وصلتها غمغمة حروفه الهادئة حد إثارة الجنون:
- أنا في الطريق.
وكانت لتكذبه لولا صرير العجلات الذي عبر أذنيها قبل انقطاع الخط!
***
"إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)"*سورة يونس
كان الليل قد انتصف حين ترجل من عربة الأجرة، يدعم خطواته بصعوبة متوكئًا على عصاه، يخطو ببصر شاخص يراقب الجمع المتجمهر في هذا الوقت المتأخر ليزداد يقين الخبر..
مكالمة وصلته عبر الهاتف من رقم غريب قبل انتصاف الليل بقليل، أخبره فيها محدثه بخبر وفاة أبيه!
صعق لوقع الكلمات للحظات أخبر بعدها الرجل أنه مخطىء بالرقم فأكد له أنه على صواب وأتبع ذلك بعنوان طالبًا منه المجئ على الفور.. وهنا كانت العقدة وحلها، فعنوان البيت الذي أطرب مسامعه عن لسان الرجل.. يعود لأيوب!
لم يلبي نداء زوجته التي تفاجئت برحيله، لم يرد على توسلها له بالعودة وألا يؤذي نفسه.. ألن يؤذها بعد!
تقدم يخترق الصفوف وريح عفن يزكم أنفه مع ضرب كفوف صدرت عن ستيني أشيب أتاه يقول:
- لاحول ولا قوة إلا بالله عاش نجس ومات كافر.. خرجنا منها على خير يارب.
وتطوع آخر يجاوره بسرد ذروة الحكاية:
- ده بقاله تلات تيام ميت ومحدش عرف غير لما ريحته طلعت.
وزاد ثالث بقسمات إشمئزازها جلي:
- بيقولوا اللهم احفظنا لقوه مكلبش في إزازة الخمره، ربنا يعافينا ويكفينا سوء الخاتمة يارب.
ورابع أسقط حديثه فوق رأسه عن قصد، بلهجة الشامت:
- سايب تلفون ابنه مع عم سعيد البقال وكان موصيه يكلمه لو حصلت له حاجة.. أهو شرف بسلامته، طبعا عايش حياته وسايب لنا أبوه يقرف اللي جابونا، يلا الواحد هيقول إيه.. الله يجحمه مطرح ماراح.
عاتبه آخر بلين:
- اتق الله يا محسن الراجل خلاص بين ايدين اللي خلقه، وبعدين كل واحد بيتحاسب عن عمله، محدش بيشيل شيلة حد.
- عمله أسود ومنيل ياعم إبراهيم، هو في حد سلم من أذاه؟ يلا أهو راح للي هيخلص الحقوق.
تلتف من حوله الرؤوس وتحدجه النظرات مابين مشفق وممتقع، يبادلهم النظر بينما لسانه مكبل بسلسال من حديد، يحرك لهم رأسه وينفي بصوت لايسمعه من شدة صخبه الداخلي:
- مش أبويا..
تعالت الهمهمات الممتعضة دون تصديق فصرخ فيهم بعلو أخرس الجميع للحظات:
- أيوب مش أبويا!
ازداد بعدها ضرب الكفوف ببعضها وأخذت الهمهمات تعلو من جديد، تحرك بصره دون دليل حتى توقف عند مدخل البيت، جسد أيوب المشوه مسجى أمامه، رائحة العفن تثير النفوس، بقايا ضمير هي من دفعت بهؤلاء للإقبال عليه حتى يحملوه لمثواه الأخير، كفنوه كيفما اتفق ولايدري هل قاموا بغسله أم غطوه بذنوبه متأذيين! لا أحد يود مسه كطاعون، تغطي أنوفهم الكمامات ومع ذلك لايطيقون الرائحة ككلبٍ ضال أجرب تعفن على قارعة الطريق ولولا حرمة الموت ماكان أقبل عليه مخلوق، خرجوا به نافرين، مستائين، تتسابق أقدامهم حتى يتخلصوا من أذاه، يذهبون به جوار أمثاله، يلقون فيه داخل ظلمة قبر موحش زادتها ظلمة الليل وحشة، يسكرون القبر في الحال وكأنه حمل ثقيل أراح الجميع.
لم يتذكره أحد بدعاء، ولا حتى ترحموا من باب الشفقة.. ساقوه كشيء بخس عاش ومات دون قيمة تذكر.
سار خلفهم كهلام، تابع آخر طريقه فوق أعتاب الحياة.. لطالما أخبره أنه بحسبة ابنه، كان يأخذ الحديث على محمل المصلحة لكن أيوب كان له رأي آخر وأراد الليلة أن يذكره بأنه مثله، يشبهه حد الدم.. صاحبه وعلمه، أسقاه من ينابيع البغي فارتوى حد التخمة، حد الظمأ الذي يشعر به الآن ولا يدري بمن يعتصم!
ولج إلى بيته بأطراف مرتجفة، تعثر في سيره فسقطت مزهرية كبيرة تحتل الأرضية فزعت على أثرها الغافية بغرفتها.
***
انتفضت فزعةً على صوت الحطام، تتطلع إلى وليدها النائم فوق صدرها بشيء من نعاس، بعض من وعي جعلها تمرر بصرها فوق ساعة حائط لتجدها قد تخطت الثانية فجراً، عاد وعيها الغائب ليذكرها بخروجه عند منتصف الليل، لحقت فيه صارخةً تستجديه العودة لكنه كان كتمثال شمع لايسمع ولا يرى، ظلت تتنقل بين الباب والنافذة حتى تعبت، حملت صغيرها وجلست تطعمه وتهدهده ويبدو أنها غفت بجلوسها دونما تشعر، رمقت الصغير الساكن صدرها بشفقة على حاله وأبيه، تركته برفق ودثرته جيدًا قبل ما تغادره.
أجفلها الحطام المتناثر فوق الأرضية، زحف الخوف لقلبها بينما تتجاوزه حتى باب غرفته الموصد، ما إن اقتربت حتى وصلها صوت نشيج مكتوم، لم تفكر في طرقة إذن لقطع خلوته، دفعت بالباب وولجت تنير ظلام الحجرة السابح بشعاع من نور، كان يجلس عند طرف الفراش بجذع منحني من عظيم الذنب، يضم رأسه بين كفيه ويبكي.
تستشعر انتفاضة جسده بوضوح، هوى قلبها صريعًا لرؤياه بتلك الحالة، كما هوى جسدها إلى جواره، تشق العبرات طريقها فوق وجنتيها تشاركه ثقل اللحظة، كان بكاؤه لمهموم ضاقت به سبل الحياة، كمن يحمل فوق ظهره آثام الدنيا بعد أن ضل الطريق..
جلست تأخذ به إليها، وكأنها طوق نجاة، ذراعاها يشتدان من حوله بينما لسانها يتعثر ببسملة وحوقلة وبعض من رقيا علها تدحر بها الفزع وتهدأ من انتفاضة الجسد، أخبرها ثقل رأسه الساكن فوق رحابة كتفها أنه متعب، سألها دون حديث عن مكمن الراحة فمسحت بكفها عن ظهره وهمست جوار أذنه بصوتها المتحشرج في شجن:
- روح له يا حسن..
زاد بكاؤه وتشبثه فيها فشدت على ضمه، تهدهده كما تفعل مع صغيرها وترشده حيث النجاة:
- خبط على بابه وقول له يارب جيت لك ندمان، اطلب توبة وغفران، ده سبحانه وتعالى بيقول:
"فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39)" *سورة المائدة
ثم مسحت عن رأسه بكفها، وعن روحه بخير الكلام:
- مفيش غيره يقدر يشرح صدرك ويمسح عن قلبك كل ضيق وهم.
وقتما قالت الأخيرة انتهى كل شيء..
أم تراه ابتدأ!

أنت تقرأ
الغنيمة
Romance"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...