الفصل الـ ٣٠

107 5 0
                                    

(30)

الثقة..
وثيقة أمان تمنحها لذاتك قبل الآخر
لم يكن الأمر يحتمل التأجيل، بين جدران حجرتهما الخاصة بإضاءة هادئة احتجزها أمامه فوق الصوفا القاتمة، يقابلها في جلوسه ويبدو عليه التحفز، وجيد أنه مجرد تحفز فلولا رؤيتها ببيت أمه تجالس ضيوفها ببسمة هادئة فور عودته لربما كان انتهج شعور آخر، وبالطبع كان سيتبعه فعل آخر، لا يدري سببًا لشجار الصباح لكن بصرها الهارب من حصار عينيه مع قسماتها المقتضبة تخبره أن في جعبتها الكثير، وهو سيهديها البداية اللآزمة بنبرة هادئة تناسب رزانته المعهودة:
- اتكلمي يا سماح.. سامعك؟
رعشة طفيفة عبرت جسدها المتيبس، تشعر بحالها طفلة مذنبة ووقت الحساب حان، تكره أن تبدو كساذجة تلاعبت بها بضع كلمات صدرت عن طفله، وإن كان هذا ماحدث!
بعد صولات وجولات قضتها بين أروقة الفكر الشارد طيلة اليوم استشعرت خطأها، لم يكن ذلك التصرف السليم ولا الوقت المناسب للحديث، لكنها كعادتها حين تفقد الصبر ويغلق العقل أبوابه تترك للسانها حرية التصرف.
تجعد جبينها ولسانها الثقيل بالكاد يتحرك بنبرة مقتضبة فضلت بها الصراحة عوضًا عن لف ودوران ليس به داع.. ومازال بصرها يتذبذب بين لقاء وهروب:
- أنا حاسة أن دوري بيخلص في خدمة البيت ورعاية أهله.. وياما بسأل نفسي لو قصرت في دول هيبقى ليا لازمة؟
- ممكن أعرف سبب الإحساس ده؟
لم يمنحها الوقت حتى تجمع بقية كلماتها المبعثرة حين فاجئها بسؤال ثابت جاء جوابه بعد حين باقتضاب مضاعف لكنه خافت.. كاذب:
- مافيش.
- طيب أنا قصرت معاكي؟.. صارحيني يمكن قصرت فوصل لك الإحساس مني!
لا تدري هل كانت نبرته قاسية أم تخيلت ذلك، لكنها في جميع الأحوال حركت رأسها نفيًا بهدوء وبصرها يتجرأ على مواجهتة لتقابلها عينيه الناظرة إليها في تمعن.
فقيرة الثقة بنفسها، تحصر حالها في دور اعتادته وتبغضه في ذات الوقت، ترى نفسها تلك القليلة في عين الجميع.. تسعى لكسب القلوب بكلمة وفعل حتى تنال مرتبة أعلى ترضي بها نفسها الشريخة.
وكان يعلم..
يدري أنها لا تثق بحالها مثقال ذرة، لا ترى في نفسها شيء يستحق، دوما تتطلع إلى الغير بعين المتمني.. ليس حقدًا وحسدًا فلم يكن ذلك من شيمها هي فقط تغبطهم وتتمنى لو كانت تشبههم.. هي الغبية بطيب قلبها وطبع "الجدعنة" التي يمنحها أحقية التميز بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
تنهد بصوت مسموع وكفه يرتفع إلى وجهها، يجبرها على ملاقاته قاتلًا كل اقتضاب يعلنه الجبين المكرمش بخطوطه العريضة بينما يذيب كل هذا برق الكلام وحنو اللمسة:
- تعرفي أنا الصبح خرجت من البيت شايط بمعنى الكلمة وطول الطريق وأنا راجع كنت واقف على تكة مستني أنفجر، لكن للأسف لما وصلت لقيتك لميتي الليلة.
نصف ضحكة خافته رسمت بضع تجاعيد طفيفة ازدان بها محياه الوقور كسر بها الشحنات المتطايرة مستتطردًا بعدها بنبرة جادة مستغلًا تركيزها الكبير:
- شوفي يا سماح أنا وبنتي كانت حياتنا ناقصة وإختارتك أنتِ بالذات عشان تكملي النقص ده، أنا بسميها حياة وأنتِ بتقولي عليها خدمة، المعنى واحد لكن الفرق في العين اللي بنشوف بيها.. وآه بقول أنا وبنتي عشان هي جزء مني ماينفعش يتقسم.
هتفت سريعًا بدفاع وحدقتيها تتسعان في استنكار:
- أنا عمري ما فكرت أفرق بين أب وبنته!
أمسك بكفيها يمنح إرتعادتهما دفئه بينما يتنهد من جديد:
- والله عارف يا سماح، بس كمان مابتعمليش حاجة عشان تعرفيها، أنتِ لحد اللحظة مقربتيش من أميرة عشان عايزه تقربي منها، بتتعاملي معاها كواجب مش أكتر.
سحبت كفيها من حصار كفيه لتهمس في تردد وبؤبؤ مهتز:
- أنت مطلبتش، وهي.. هي ماحبتنيش!
عدل من وضعه ونكس برأسه نحو الأسفل مشبكا أصابعه مع قول فاتر:
- دي حاجة أستناها منك لكن مطلبهاش، وهي طفلة محتاجه اللي يعوضها عن غياب والدتها اللي لحد اللحظة لسه مأثر فيها.
دارت إليه مع همس حرج.. متعثر:
- أنا...
قاطعها:
- أنتِ بنت حلال يا سماح وأنا ربنا كرمني لما كنتي من نصيبي، لكن يا بنت الناس مافيش حد مجبور أنه يعيش في وضع غصب عنه لو شايفه أنك تستاهلي حياة أفضل تقدري...
- ماتنطقهاش الله يخليك!
كانت تلك مقاطعتها اللآهثة وأناملها تطبق على شفتيه، تمنع عنه التكملة أو النطق.. أشفق عليها من نظرتها الدامعة؛ المرتعبة ليضمها إليه مانحًا أعلى رأسها لثمة طويلة هتف بعدها بصوت أجش:
- ماكنتش هقولها.
عادت أنفاسها تهدأ وتيرتها بينما تنعم بين ذراعيه، ترتوي من ذلك النبع الذي لا ينضب لاعنة كل شيطان عبث بها باغيًا تفرقه لها عن زوجها.
أبعدت حالها بعد حين، أصابعها تمر فوق خصلاتها في ترتيب لفوضى وهمية تداري به خجلها بينما تتعثر بالكلمات:
- طب في حاجة تانية كمان عايزه أقولك عليها.
أسبل أهدابه وفتر ثغره عن بسمة هادئه منحتها حق الموافقة و كان في داخله شبه يقين أنها ستفصح في هاته اللحظة تحديداً عن ماض أخيها التي تفلح في مداراته ظنا منها أنه لا يعلم!
لا تدري أنه على معرفة بالأمر ومن البداية ومع ذلك إستخار ومضى قدما فيما إنتوى تاركاً لها حرية المصارحة رافعاً عنها كل حرج يخص الأمر، فقط إنتظر أن تفتح له أبواب قلبها الصغير وتمنحه كل الثقة حتى تفضي إليه بمكنونها لكن خاب ظنه لأنها ببساطة لم تفعل.
كيف لها أن تمنح ما تفتقد!
غامت نظرته مع تسلل نبرتها إلى أذنيه معلنا في داخله هزيمة تنبئاته:
- أنا عايزه أشتغل.
و تلك نقرة أخرى.
***
تبقى الثقة سلعة باهظة لا تمنح إلا لمن أثبت أنه يستحق بالفعل، لذا هي تشبه المفتاح الساقط في القاع قليلون من يصلون إليه..
وهو يسعى لكسب ما فقد..
- يعني إيه!
قالتها بينما تتطلع إلى مابين أصابعها بعين المتعجب، عقد ملكية يخص المتجر التي كانت تعمل فيه سابقًا واسمها يجاور اسم شقيقته، وما إن استوعبت الأمر حتى جاءت نبرته متأملة، باسمة:
- هدية..
واستطرد:
- مبروك عليكم.
افترت شفاهها عن نصف ضحكة مفتعلة بينما أصابعها تتخلى عما بينها، تنهض من جلوسها وتهتف بنبرة خالطتها بعض الحدة:
- أنت عارف أني مش هقبل.
- ليه؟
تبعها بسؤال وجبين متغضن لتستدير مقابلة إياه وكفيها يتحركان في عشوائية:
- يعني دي حاجة كبيرة أنا ماقبلهاش من أي حد، ده غير أن يوم ما أفكر يكون لي حاجة ملك أحب تكون  من مالي الخاص.
- حد!.. أنا جوزك على فكرة لو كنت نسيتي.
قالها بانفعال ساخر لتغمغم منهية الموضوع:
- وأنا آسفة هديتك مرفوضة.
وكان رفضها بمثابة فتيل أشعل غضبه ليصيح في انفعال وذراعه يزيحها عن طريقه:
- قولي أنك خايفة يكون من فلوس حرام على الأقل رفضك هيكون معقول.
واندفع إلى خارج الغرفة تاركًا إياها من خلفه تنفث زفيرها، إلى متى ستظل وإياه فوق سطح متأرجح؛ غير متزن؟.. فركت جبينها في تفكير متخبط وما هي دقائق إلا وكانت تتبعه.
راقبت وقفته من خلف النافذة المفتوحة بقسمات متجهمة، جاورته وبصرها يسبح برفقته مع الليل السرمدي وسحابة من الكآبه تظلل فوقهما، لحظات مرت كسرت بعدها الصمت الثقيل بهمس خافت:
- أنا لو عندي شك واحد في المية كان مستحيل نكون واقفين سوا دلوقتي.
وأسبلت أهدابها متنهدة، ربما هنا تكمن المعضلة.. تخلى عن ماضيه حين وجد البديل بينما هي تريده تائبًا مستشعرًا عظيم الذنب يسعى بكل ما أمكن ليمحي أثره، أن تعرف روحه طريق الهدى والإياب، تريد لقلبه أن يتذوق حلاوة الإيمان.
لم يبدي أي فعل حين تابعت ورأسها تدور ناحيته، تراقب جانب وجهه وتهمس من جديد:
- أنا متأكدة أنك بطلت..
تلكأ بصرها مع حركة لعابه المتعسر داخل حلقه بينما تعود من جديد يصحبها إصرار أكبر في التطرق فيما سبق وحذر عن الخوض فيه:
- بس في فرق بين أنك تبطل عشان لقيت البديل وبين أنك تندم وتوب عن كل ذنب عملته.. وجايز ده اللي عامل حاجز مابيننا، أنت إرتاحت للأول وأنا مش هيريحني غير التاني.
رفعت كفها إلى جانب وجهه تجبره على إلتفات، فكه متصلب والصمت حليفه، نظرته القاتمة بادلتها بأخرى متوهجة بسحر الأمل بينما حروفها تتسربل من جديد وثغرها يتكفل ببسمة صغيرة:
- أنا هقبل هديتك يا حسن، لكن هديتي اللي بتمناها أديك عرفتها.
وابتعدت تاركة إياه بوجه كالح يجتر ماضيه قطرة قطرة، قسرًا تبحر الذاكرة نحو الأمس دون كوابح فتبدو الصورة قديمة، باهتة مضى عليها زمان فغدت بمنظر سيء أقرب للبشاعة بينما العقل يقف عند الناصية من البعيد يتطلع إلى ما اقترفت يداه بغير تصديق.
***
النهايات.. بدايات جديدة
كصفحة طويت داخل كتاب ذاخر بالأوراق، ليس كل الأمور تستحق السقوط من بعدها في بئر رثاء للذات نخسر بعدها الكثير، هي فقط تحدث وتمر ويتلاشى مع الوقت الأثر.
صباح اليوم انتهى زواجه رسميًا، أخذ الأمر وقت أطول من اللازم لكنه حدث في النهاية.. قصة حب كان ركيزتها الإفتتان، إفتتان سرعان ما ذاب ما إن واجه رياح الحياة العاتية لتظهر حقيقة الطرفين دون رتوش تجميلية، وليس من الضرورة أن يكون أحدهما سيء المعشر، هما فقط لم يجمع بينهما وفاق فكان الإختلاف على كل صغيرة قبل الكبيرة هو الإتفاق الوحيد لينتهي الزواج المكلل بالفشل سريعًا.
بحضوره الشارد كان يراقب بعض التجهيزات الخاصة بالإفتتاح الوشيك للمقر الجديد، فالأمر أصبح أكثر من وظيفة عمل جيدة عقب ما وتد روابط صداقة ربطته بأصحاب المكان، شخصه الإجتماعي بإمتياز ينجح دائمًا في توسيع تلك الدائرة..
- لااا ده أنت مش هنا خالص.
إستفاق ماهر على نبرتها وإشارة كفها الملوح أمام وجهه، أشرقت إبتسامته بينما تناوله قدح القهوة الخاص فيه فدمدم كمن منح للتو على كنز ثمين:
- في وقتك.
والقهوة بينهما ذات نكهة خاصة، نكهة بعبق الذكرى التي تجبرهم على إبتسام عابر ما إن يتذكرا ذلك اليوم وذاك الحدث. جاورت وقوفه بآخر، تتطلع من خلف حافة الكوب إلى العاملين على قدم وساق ومع ذلك لا تكف عن إصدار توجيهات لا تفذ، كل شيء يجب أن يكون متكاملًا؛ مميزًا وفريدًا، هي لا يرضيها غير ذلك بل هو طموحها الذي لا يرضيه غير النجاح الساحق وهاهم يسيرون على دربه بخطى ثابته والجميع يشهد.
أطلقت ميسون تنهيدة متحمسة لليوم المرتقب بينما الهادىء جوارها على غير عادة شتت فكرها و جذب بصرها.. وجسر الصداقة الممتد يمنحها حق السؤال لذا هتفت دون مقدمات:
- أنتَ كويس؟
لم يكن شاردًا تمامًا هي فقط لحظات صمت قطعها بإجابة باسمة وإلتقاء:
- أنا تمام.
وعاد كلاهما إلى موضعه السابق، فقط لحظات وعاد لها برأس مائل يصحبه عرض جاء من حيث لا يدري:
- تروحي سينما؟
***
أجمل ما في الحكاية لحظة انقلاب السحر على الساحر
تلك اللحظة التي لا تعد فيها كما كنت، حين تفقد خاصية الجاذبية لكيانك فتغدو هائمًا دون أرض تحمل ثباتك.
بعقل شارد يتطلع إلى صورته المعكوسة داخل المرآة وذات الحدث يعاد ويتكرر بين أروقة الوعي، يجتره العقل مرة بعد مرة حتى فقد القدرة على العد..
كان نهارًا مشمسًا يناسب الطقس الحار حين لمحها تترجل من عربة الأجرة أمام بوابة المزرعة، لا يعلم أهي الصدفة تلعب دورها بحرفية أم هو القدر من صنع له لقاء دون ترتيب من قبله، تقدم وقطع المسافات وكالعادة قدم فروض العبث دون انتظار:
- صدفة حلوة دي يا أنسة عيشة.
ولفظ اسمها أعقبه ضحكة مبطنة اشتاطت منها حنقًا فحاولت المناورة والمرور مفضلة التجاهل عن تبادل السخافات مع الكائن اللزج كما تلقبه في نفسها إلا أنه لم يمنحها منفذ للهرب حين وقف أمامها وأعاق سيرها بهتاف جديد:
- إستني بس..
طفح الكيل، إنتفخت أوداجها بينما ترفع سبابتها في وجهه وصيغة التحذير لا تخطأ طريقها نحو أذنيه:
- إسمع يا جدع أنت أولا إسمي عائشة فمش ناقصة إستظراف، ثانيا لو ماحترمتش نفسك وبطلت وقاحة هقول لبابا على كل حاجة وصدقني مش هيعجبك تصرفه.
وكادت أن تتجاوزه حين صدحت نبرته ببحه خاصة جاورت أذنها:
- عااااش يا شوشو.
دارت برأسها بغتةً ترميه بشرر النظر بينما تهتف دون تفكير والحنق يقطر من بين حروفها:
- عيب عليك على فكرة أنا مخطوبة.
لم يدري متى إختفت من أمامه ولا أين تلآشت الضحكة وخبا العبث، ماسبب ذلك الجمود وتلك الغصة؟
كلها أسئلة مر عليها قرابة الشهرين ولم يجد لها جواب بعد، حتى بعد ما نجح في كسب مودة العم عبدالحميد وسحبه في حديث مطول كان ختامه معرفة شاملة بكل التفاصيل العجيبة الخاصة بخطبة إبنته المصون.
- وأنت مال أهلك يعني تتخطب ولا تتحرق!
زعق بها لنفسه القابعة داخل المرآة ليستفيق على علو نبرته متطلعًا من حوله في غباء ثم نافخًا في قنوط..
لم يقف لها في طريق ولم يلمح لها طيف منذ ذلك اليوم، شعور خانق يتملكه ما إن يتذكر سخافة أفعاله، لم تكن تلك ظنونه اعتقد أن الأمر سيكون مجرد مزاح عابر والآن لا يعلم ماهية مايحدث معه..
الأمر أشبه بمطرقة هوت فوق رأسه دون سابق إنذار!
فاق من جديد على الرنين المنبعث عبر الهاتف الساكن فوق المنضدة ليشارك اسم المتصل في إعادته إلى الوعي التام، تطلع إلى هندامه سريعًا فطالت بذلته الزرقاء الأنيقة عين الرضا، رتب خصلاته على عجل وأصابعه تسحب الهاتف، تتسابق الخطوات إلى الحفل القائم تصحبها زمجرة الطرف الآخر المنبعثة عبر الشبكات.. والرد جاء كالمعتاد:
- في الطريق ياحسن.
***
أن تكون في الخلفية متسللًا لا أحد يراك، مغتنمًا ماليس لك به أحقية..
مؤكد ذلك لا يشبه أن تكون محتلًا للصدارة، كل العيون تنظر إليك وتبادلها أنت النظر بكل ثبات وكبرياء عتيد.
تفخر بنجاحك وتزهو بالنصر بين أقرانك، فسطوة المال والنجاح  حين تجتمعان تكون محطة إلتقاء لإحترام وأنظار الجميع.
لا يعلم لما شبه اليوم بالبارحة في هاته اللحظة تحديدًا، ربما تشابه الأجواء والوجوه الأرستقراطية ذكرته بتلك الليلة، ليلة شابهت أخريات لكنها كانت ذات نكهة جنونية مختلفة.
مجرد تشابه فرض نفسه لكن مؤكد ماعاد هو صاحب البارحة، هو ملك اليوم والغد ومابعد غد، إصرار شديد من خلفه دافع أشد أن يكون هو صانع المجد لنفسه، لا يريد أن يبقى طيلة عمره رهن مقعد أبيه ومكانه، في الأصل لايريد أن يشبهه ولا يبغي لشيء من حوله أن يذكره فيه وكان ذلك السبب الخفي والأقوى ليسعى إلى إقامة مكان آخر تكون منه الإنطلاقة ونجاحه هو من سيحفره بيده ولن يرضى إلا أن يكون من بين صفوة الصفوف الأولى.
مال بصره إليها فوجدها تبادله النظر بعين الرضا وفوق ثغرها ترسم بسمة دافئة غطت على ذبول وجهها الشاحب، وحده يستطيع رؤية البروز الطفيف لبطنها الصغير داخل ثوبها الداكن الأنيق، منذ بداية اليوم ويداهمه شعور اللهفة لذلك الكائن الصغير، يشتاقه دون رؤيا وينبض فيه عرق حماس المنتظر.
عبر بين الحضور وراح يشارك أربعتهم اللحظات، وكانت أول دعابة ثقيلة من نصيب أنس المتململ من رسمية الأجواء والحضور:
- فكرني أعمل لك خصم على التكشيرة اللي تجيب الفقر دي.
لم يصلها رد أنس وفكرها راح مع ذراعه المرفوع تلقائيًا حول كتفيها في أحقية تخصه وحده، كما منحها حقها من قبل حين قدمها بفخر أمام الجميع أنها زوجته وذراعه يقربها إليه بحميمية محببة.
ضحكاته العذبة التي تنبع من روحه وتراها لأول مرة، رائق النفس رقراق حد الشفافية وقد خلع عنه درع الغموض الذي يحجب فيه شخصه بعيدًا عن الجميع فيظهر منه مايريد وقتما يريد، ذلك الصفاء كله ذكرها بتلك الطيبة ياقوت فبات الشبه بينهما إلى حد كبير.
ترحمت في خاطرها على الراحلين بينما تعود بوعيها إلى الوجوه الحاضرة فلم تجد غير زوجها وأخيه يتبادلان الحديث الجدي بينما البقية كلًا لليلاه راح يغني.
***
شهية ونضرة تسر النفس قبل النظر، بدت كدمية جذابة بقامتها القصيرة داخل الثوب الأزرق الجذاب.. لا يعلم سبب وجودها بين هؤلاء لكنه منذ أن سمعها تتحدث عبر الهاتف نهار اليوم عن حضورها لحفل الليلة والذي جاء مصادفة مع ذات الأمسية الخاصة بعمل أخيه الجديد، ودون ذكر بقية التفاصيل قرر المجيء وقبول دعوة الشقيق عقب رفض سابق.
وعلى ذكر الشقيق مال بصره إليه فوجده برفقة تلك الزيتونية يبادلها الكلمات والضحكات في تناغم واضح كما هو الحال منذ فترة.
فضل كبح حدسه والخيال السارح وترك الأمور تسير على طبيعتها دون أسبقية بينما يتحرك ناحية الواقفه بمفردها وكأنها على يقين أنه لن يمر دون سلام فمنحته فرصة الإختلاء.. وهو لا يحب أن يخيب الظنون:
- مساءك سعيد يا غنى.
همسها بلطافة ما إن قابل وقفتها، يرفع الكوب الخاص فيه متجرعًا رشفة عصير علها  ترطب من عروق القلب الجافة.
"من الجيد أنها إبتعدت عن نسمة وزوجها"
هذا أول ما همست به لنفسها وهي ترى الإصرار على الإقتراب يملىء نظراته منذ أن صدمها بحضوره، لم تخبر نسمة عن أمره بل في الحقيقة لم تخبر أحدًا قط، تتعامل مع الأمر كحدث عابر لكنه لايبدو كذلك والدليل هو إصراره وإرتباكها الداخلي حين ردت تحيته:
- مساء الخير يا مهند.
بدت ديناميكية للغاية، هي كلها تتعامل بآلية منذ آخر لقاء جمع بينهما وكان ختامه طلبه لرحيلها، وهي إستجابت لمطلبه ومنذ حينها ما بينهما لا يخص غير العمل يبدأ فيه وينتهي به.
- بتعملي إيه هنا؟
أضاف لنبرته بعض الدهشة لتبدو مفاجئة رؤيتها متقنه، بعفوية ارتفع كفها يشير ناحية الزوجين مع نعومة همس أطربت أذناه:
- معارف، قرايب، صحاب.. كل دول ممكن.
ابتسم تلقائيًا فبدت أكثر إرتباكًا وتململًا في وقفتها بينما تسأل في تردد:
- وأنت؟
تحرك حتى جاور وقوفها بشكل خطير بينما يميل برأسه إلى أذنها وسبابته تشير إلى الشقيق من البعيد:
- ماهر البغدادي.. أخويا.
تجهل ماهر هذا ولا تعلم ماهية دوره بالضبط لكن هو عرف على أنه أخيه وذلك أكثر من كاف لتوميء برأسها في صمت وتتبع ذلك بنية إبتعاد وهمس بدت فيه ثلجية، مقيته:
- عن إذنك.
فلاحقها بهمس ساخر عبر مسامعها:
- جبانة.
وبين هروب هذين وإندماج آخرين
عم الظلام!
ستون ثانية
دقيقة كاملة مرت
عم فيها الصمت المباغت ثم تعالى الهرج والمرج
ليعود بعدها التيار المنقطع بغتة فهدأت الأصوات وعادت الوجوه تستأنف الأحاديث والبسمات.
وحدهما ظلا عالقين داخل بؤرة الظلام، أصابعها الناشبة في لحم ساعده وحدقتيها المتذبذبتان في تحديق طال عقيقه الداكن بخطورة في هاته اللحظة، نظرتها المرتعبة تلك كانت أكثر من كافية لتقتل فيه الكثير، تطعن فيه رجولة ودون قصد تذكره يوم سلمها بيده لأيوب ملقيًا بها كاشفًا سترها فوق أرض صلدة عفنة ثم استلمها من بعده لتكون تسليتهما تباعًا وكل منهما يتفنن ويبتدع مستغلًا ما وقع مابين يده عن طريق الخطأ خير استغلال فلا يخرج خاسر من تلك المسرحية الهزلية غيرها هي..
هي زوجته وأم إبنه!
ما بال الذكرى اليوم تسقط فوق رأسه من كل حدب وصوب؟ ماذا يريد منه الماضي بعد؟ ألم يطوي صفحته وللأبد لما لا يتركه إذن وكلا يمضي في حال سبيله؟
بحسابات المنطق السريعة ذلك العطل غير وارد وحسابات العقل تخبره أن الأمر مفتعل عن قصد والغرض منه تخريب فرحة النجاح، وبعيدًا عن كل الحسابات فقد انتصر الغرض.
وفي تلك الأثناء لا يملك غير سحبها معه والإبتعاد عن كل عين.. فلا قبل له بضوء يفضح ما سترته النفوس.

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن