الفصل الرابع

480 19 0
                                    

(٤)

تأتي الصدماتُ أحيانًا مثالًا للسخرية.. لوثة، محضُ خبال أو خرَف, لا فارِق، تعدّدت المُسمّيات والنهايةُ واحدة!.. في جميعِ الحالاتِ لا يستوعبها عقلٌ وعادةً يكون ردّ الفعل مساوٍ لمقدارِ ما استمع من هراء..
وهو ضحِكَ وتهكّم ونالَت الضّيفة نظراتٍ لخّصها الجُنون..
- نعم ياختي!
زجاجات المشروبِ الفارغة المرتكنة في جميعِ الزوايا, وأعقاب السجائر الملقاة بكثرةٍ فوقَ الأرضيّة جعلتْها تستعيدُ رعشةَ جسدِها وقتَما وطأتْ بقدميْها داخلَ الحارةِ الضيقة, فقابلتْها الأبنيةُ الأقربُ للمهجورة والمتهالكة مع الهدوءِ المريب والمخيم على الأنحاء، كأنّما المكان برُمّته اجتُثّ من حِقبةٍ ما وجارَ عليه الزمن؛ فبات لا يناسب سوى السّكارى وقطّاع الطرق..
تناهى لمسامعِها صوت خربشاتٍ من خلفِ البابِ الموارب فتسابقَت أناملُها في إخراج ورقةٍ مطويّة من حقيبتِها الأنيقة، قدّمتها بأنامل مرتعشةٍ وكلماتٍ مقتضبة:
- ده عنوان المستشفى الموجود فيها، ممكن تتفضل حضرتك تيجي تشوفه بعدين نتكلم؟
ودون إضافةٍ ولّت الدبُر مع تنهيدةٍ كبيرةٍ, وعرقِها البارد تستشعرُه يهطلُ على طول عمودِها الفقريّ بموازاة ساقيها المتخبطتيْن والمتعثرتيْن فوق الدرجاتِ الأقرب للحُطام، لتُقابلها امرأةٌ متخصرة بتحفّز في وقفتِها أمام بابِ شقّتها غير آبهةٍ لما ترتدي من ثياب ملتصقةٍ بحناياها, وفُتحت من كلا الجانبيْن على طول ساقيْها ففضحت أكثر ما سترت، تُمشّطها بعينيها النجلاويْن وبين شدقيها تلوك علكة بطريقة مقززة.. تجاوزتها بتنهيدةٍ ثانية وداخلُها تقسم أنّها لن تطأ مكانًا كهذا مرة أخرى.
بينمَا في الأعلى كان يُقلّب بين أصابعه تلك الورقة, وعيناهُ تضيقُ فوقَ الحروفِ المنقوشةِ وتمرّ بتمهّل, ليمطّ شفتيه ممتعضا في النهايةِ وهو يرفعُ بصرَه في إثرِ الراحلةِ :
- يخربيت الصنف..
ثم مالَ برأسِه بعضَ الشيء, وهو يُمرّر إبهامَه أسفلَ شاربِه مع ابتسامةٍ خبيثة مُردفًا لحاله:
- بس الحق يتقال.. وتكه!
لفظَ حروفَ كلمتِه الأخيرة بتمهّل واضِح قطعَه ظهورَ صاحبةِ العِلكة بملامح مستنكرة، وبالسبابةِ والإبهامِ كانت تُحيط جانبَ وجهِها وتهزّ رأسَها بهتافٍ محتدّ:
- ودي كمان تطلع مين يا سي حسن؟
حدّجَ بابَ الغرفةِ الموارِب بسرعةٍ قبلَ أن يقتربَ من تلكَ الدّخيلة، ويعودُ بها للخلفِ مُتَوارٍ بها عندَ أولى الدّرجات، يلتصقُ بجسدِها مرتكزًا فوقَ الجدارِ.. ويعنّف بأنفاسٍ ملتحمة:
- مش قلنا يا ميمي رجلك ماتخطيش السطوح ولا لازم نعيد ونزيد في المحكى؟
بشهقةٍ ونصف شفاه ممتعضةٍ كانَت تُجابه:
- لو سكت عن اللي جوه أوضتك بقالها كام يوم  مش هسكت عن آلافرانكه اللي  لسه نازله.
فركَ بإبهامِه شفتيْها المصبوغتيْن بحمرةٍ صارخة ذات ثمنٍ زهيدٍ وهمسَ بتحذير:
- شششش وطي صوتك.
انتصبَتْ في وقفتِها وحطّت بكفّيْها فوقَ صدرِه، تسبر أغواره بنظرة متفحصه:
- ايه حوار البت اللي جوه عندك دي يا حسن؟
عاد يرطمُ جسدَها برفقٍ في الجدارِ مُجيبًا بهدوءٍ وثغٍر التَوى بمَكر:
- الحوار مالكيش فيه يا ميمي.. وانزلي من فوق وداني عشان مابحبش الزن وأنتِ عارفة.
جعّدَت جبهتَها وغمغمَت باستنكار مبالغ فيه:
- يوووه أنا خايفة عليك.
وأعقبَت كلماتها بمصمصةِ شفاه ليحيطَ خصرَها بذراعِه في إقرارٍ أخير:
- أصيلة يا ميمي بس بردو الحوار ده بالذات ملكيش فيه.
زاغ بصرُها لثوانٍ في تنهيدةٍ مُفتعَلة, وهي ترفعُ ذراعيْها تُحيط عنقَه لتُدير دفّة الحوار مُرغمَة:
- جاي الكباريه النهاردة؟
- تؤ.
وازَى أناملًه العابثَة فوقَ مفاتنِها تملّصها منهُ ودَفْعة مدلّلة:
- بشوقك.
ليقطعَ دلالَها قُبلة قويّة أسكرَتْها لثوان, قبلَ أن تدفعَه بعيدًا, وتشهقُ قبلَ رحيلٍ متعجّل:
- يالهوي زمان الحاج صحي.
- والله الحاج ده له الجنة.
أوقفَتها كلماتُه الساخرةُ بعبثٍ لتزجرَه بعينيْها, ومن ثمّ تابعَت قفزاتها فوق الدرَج و..
ميمي امرأةٌ في آخر عقدِها الثالث بملامح لم ترتقِ لمرحلةِ الانبهار, لكنّها حتمًا تملكُ شيئًا من أنوثةٍ جعلتْها محطّ لبعضِ الأنظار، تزوّجت من الحاجّ فاروق الذي تخطّاها في العمر بأكثر من ضِعف عُمرها,
لكنّه يمتلكُ من العقارات ثلاثة؛ أوّلهم هذا الذي يقطنان فيه،
ويمتلكُ سيارة الأجرة التي يعمل عليها الجار العازب كواجهة جيدة لخلفية وحدَه يُدرك تفاصيلها..
لتنتهيَ أخيرا داخلَ شقّتِها تتنفّسُ الصُّعدَاء, ويعودُ هو أدراجَه لتلكَ القابعةِ فوقَ الأرضيّة تُسطّر خطابَها المُطمئن, بعدما ضبطَ هندامَه, وبصَق العلكَة من بين شدقيه!
*  *  *
أعلى الفراشِ تضُمّ لصدرِها دُمية ضَخْمة تَدفنُ فِيها وَجهَها وأنفاسَها الحارّة، تتَململُ في ضجرٍ من جهةٍ لأخْرى ثمّ تنفثُ بحرارة، افتضحَ الأمرُ ومزحتُها السخيفة باتَت مَشاع على مَرأى ومَسمعٍ من الجميع.. لاحَت الذكَرى في أفُقِ الذّاكرة فعضّت فوقَ شفتِها السّفلى وخنقَتْها الغُصّة..
اقتحامُ والدِها لغرفتِها بعدَ دقائق قليلةٍ من اختفاءِ شقيقِها المُتلصّص على ثرثرتِها، ولجَ وفي عينيْه وعيدٌ إن لم تُفصحْ عمّا تُكِنّ بداخلِها من أسرار، وهي لم تكُن لتخفيَ الأمرَ أكثر, لذا استقامَت في وقفتِها,
واستكانَت بطأطأةِ رأسٍ,
ولسانُها يسردُ ما في جوفِها من كلماتٍ بصوتٍ مهتز:
- والله يا بابا كان صغير ومش سام..
اقتربَ يرفعُ وجهَها, ويسألُ محاولًا ربطَ الخيوطِ ببعضِها دون أن يفقدَ أعصابَه, ويهدرُ بغضبِه في الواقفةِ أمامِه والخوف يغشَاها:
- غِنى احكي لي حصل إيه من البداية.. وماتخافيش يا حبيبتي.
رفعَت عينيْها, والكلماتُ تقطرُ من بين الشّفاه في استرسالٍ كامِل لما حدَث، كلمات جعّدت جبينَ الواقفِ قبالتها، لتُنهيَ اعترافَها المُخزي بما يصولُ ويجولُ في دهاليز عقلِها, وكاد يُفقدها الصواب:
- ماعرفش إزاي خرجت والباب مقفول؟.. أنا هتجنن يا بابا ومش فاهمة ده حصل إزاي، نطت من التراس مثلا!
راقبَ قسماتها المذعُورة لبُرهة قبلَ أن يضُمّها لصدرِه’ وبصرُه يرتفعُ تلقائيًا ويحُط فوق الشّرفة عقبَ كلماتِها’ وفي عقلِه بدَأت تتّضحُ بعضًا من النقاطِ المشوشة:
- خلاص اهدي وأنا هتصرف.
- بس دادة أنيسة تعبانه قوي وأنا السبب..
صمت حين لم يجد جوابا، فالأمر أعقد بكثير من شعور الذنب الذي يجتاح صغيرته!
وها هي مضَت أيّام تلوَ أخرَى ولا جديدَ؛ الغائبَةُ مازالت غائبةً والأمّ المكلومةُ تتلحّف بفراشِ المرضِ, ولا تقوَى على نُهوض, وفقط تهمسُ كلّ حينٍ في توسّل بعودةِ ابنةِ قلبِها قبل أن يأخذَ الله أمانتَه برجاءٍ خالِص من خالقِها, بعدما فقدَت الأملَ في من حولَها من بشَر.
***
من خلفِ مكتبِه العريضِ كان ينكفئُ على حالِه ورأسُه بين كفّيه، يدورُ في حلقةٍ مُفرغة منذ أن أدركَ الأمرَ أو بالأحْرى خطورةَ الأمر.. ولَجت زوجتَه تجلسُ أمامَه’ وفي عينيْها ألفَ سؤالٍ قطعَهم هو باستفسار :
- عاملة إيه دلوقت؟
هزّت رأسَها بأسفٍ وهمسَت:
- الست تعبانة قوي.. مفيش أي تحسن في حالتها.
نهضَ من جلستِه, وجلسَ قبالتها يمسحُ فوقَ ملامحه القلقة
بكلا كفّيه:
- يسرا مش عايزك تخرجي خالص لا أنتِ ولا الأولاد من غير حراسة.
عقدت حاجبيْها, وتحفّز جسدُها بغتةً, وهي تتذكرُ طاقمَ الحرّاس الجديد الذي انضمّ للقديم فباتَت الحديقةُ الأماميّة والخلفية تعجّ بهؤلاء ضخام البنية..
- فيه إيه يا شهاب قلقتني؟
- نسمة ماختفتش يا يسرا.. نسمة اتخطفت!
دمدم دون مقدمات، رفعت أناملها فوق فيها المفغر تكتمُ شهقةً صامتة, ولسانٌ كأنما أصابه الثقل فبات لا يقوَى على حِراك، ليُتابعَ هو سرد ما توصّل له في نهاية المطاف:
- وكانت المقصودة غِنى مش نسمة خالص.
تحرّرت شهقتها فباتت مسموعة بهلعٍ زيّن قسماتها الهادئة ولسان تلجلجت حروفَه:
- أنت بتقول إيه يا شهاب؟! أنا.. أنا مش فاهمة حاجة.
نهض من جلستِه يتمسّك بكتفيْها يحاولُ بثّ أمانٍ
لا يمتلكُه في لحظتِه هاته:
- اهدي يا حبيبتي واطمني محدش يقدر يئذيكم أنا أمنت الفيلا كويس، المهم دلوقت أوصل للبنت المسكينة قبل ما حد يئذيها.
- أيوة بس..  مين قاصد يئذيك بالشكل ده!
في وجومٍ رفعَت له رأسَها تُطالع ملامحَه المتجهّمة, ليأتيَها الجوابُ بنبرةٍ أكثر وجومًا, وعقل لا يتوقّف عن العمل والتفكير:
- حبايبنا في المجلس كتير.
وشردَت عيناهُ تفنّد وتُعيد القطع المنقوصة لمحلّها في تناسق لتبرزَ في النهاية عدة صور جميعها تطيح بأمانِ بيته واستقرارِه.
*  *  *
وقتما تتحالفُ الشياطين.. نقولُ على الدّنيا السلام
تشبّ ألسنةُ اللهبِ وتتكاتفُ الأدخنةُ السامّة, فيتبدّل النقاءُ لقتامةٍ تسقطُ كل منشودٍ في لظَى السّعير..
من خلف مكتبه الأبنوسي الكبير كان يستكين فوق مقعده بأصابع متشابكة أمامه، يحاول سبر أغوار الجالس قبالته فتقابله سياج من فولاذٍ غرزها في أرضه الصلدة فلا تبصر عينٌ ما يواريه خلف قناعِه المبهم..
يراه يجلس أمامه بأريحية تامة، يضع ساقًا فوق الأخرى بنزقٍ لا يناسب اللحظة.
عطر نسائي اقتحم السكون وقطعَ النظرات الصامتة في خطوات ناعمة تشبه صاحبتها، قدمت واجب الضيافة كما طلب رئيسها مع ابتسامة هادئة وغادرت.
- اتفضل يا حسن.
قابل حسن نبرته الهادئة بهزةِ رأسٍ صغيرة تناول عقبها الكأس من فوق المنضدة، تجرّع العصير البارد دفعةً واحدة, وعادت نظراته تقيم الحجرة من حوله, يترك البداية لصاحب الدعوة والمكالمة الهاتفية غير المتوقعة, مكالمة على إثرها ترك حديث الضيفة المخبولة جانبًا وطوَى داخل جيب سترته القاتمة ورقتَها برفقة خطاب الساذجة الأخرى وترك كليهما لحين إشعار آخر.
- ناوي على إيه مع البنت؟.. مش معقول تفضل حابسها عندك على طول!
وكانت تلك البداية..
استقر بصره فوق نظرات الرجل الجادة، والمفأجاة لم تكن من نصيبه،
هو يعلم أن حلمي الجمال ليس كأيوب، نظراته الحادة كعيني صقرٍ وهيبته الطاغية يؤكدان ما يجول في خلده, وإن ترك له البداية ذلك لا يعني أن بيادقه خاسرة..
- ناوي أأمن نفسي.
واللعب بالأوراق المكشوفة أفضل لكليهما..
- ومش خايف كل ده يتقلب ضدك؟ دي جريمة خطف مع سبق الإصرار والترصد مش هزار.
بقسماتٍ تبدو مرتاحه تشبه هدوء الآخر أتى جوابه الواثق:
- ماتشغلش بالك الموضوع عندي.
صمت الرجل للحظاتٍ بينما يدُه تجذبُ من أعلى المكتب
علبة السيجار خاصته، تناول واحدة وقدم لضيفه أخرى:
- الثقة الزيادة أحيانا بتغرق صاحبها بس..
أشعل التبغ ونفثَ دخانه في تمهّل مدروس مُردفًا:
- أنا واثق فيك.
رفع حسن رأسه للأعلى يسحبُ شهيقًا طويلًا وينفثُ دخانه بدورِه, وبسمة مبهمة اجتاحت ثغرَه قبل أن يعودَ له, ونبرتُه الجادّة تتربّع فوق عرش الحديث تلك المرة:
- مش أعرف بقى الباشا طالبني ليه؟
غمغم في الحال:
- عايزك تكمل اللي ماكملش، ومن غير أيوب، المرة دي الحكاية بيني وبينك.. لأ.. من هنا ورايح الكلام هيبقى مني ليك وبس.
عدة نقرات من أصابعه طالت سطح المكتب بعد صمتٍ دام لبرهة يُدير في عقله ما استمع من كلمات متلذذ بفحوها:
- بس كده أيوب يزعل.
وبإقرارٍ أخير من حلمي تنصب هذا وانتهى آخر:
- أيوب خلاص راحت عليه.
صمت حسن ينتظرُ منه البقية.. فمالَ الرّجل بجذعِه للأمام كأنّما تلك المرة يرفض الوقوع في الخطأ أو الإتيان بالأمر منقوص:
- الإنتخابات على الأبواب.. عاوز شهاب كارم يلف حوالين نفسه، أقل خبطه توقعه..
عاد للخلفِ من جديد وأردف ملقيًا بالكرة في ملعب الآخر:
- أنه يكون فايق ده مش في صالحنا بعد الكارثة اللي عملتوها.
ضيّق حسن حدقتيه محاولاً تفنيد كلماته والحقد الذي يقطر منها ليدمدم بعدها في تساؤل بدا منطقيًّا:
- بنته بردو؟
- ممكن نجرب سكة تانية.. مراته مثلاً.
لفظ حلمي جملته بهسيسٍ مدروس وصمت الآخر هنيهة التقط فيها بداية الخيط وألقاه من فوره للجالس قبالته:
- خطيب سابق ندخله على الخط طعم كويس..
وأتبع جملته بصفير خفيضٍ يعي اختمار الحكاية في عقل الداهية، مردفًا:
- ننخر في الأساس فيقع المعبد على اللي فيه.
قهقه الرجل وجلجلت ضحكاته في أركان الغرفة قبل أن يسحب شهيقًا آخر من تبغه الثمين و ينفث دخانه من جديد في وجه محدثه وهو يشيد بقدراته:
- مذاكر كويس يا حسن.
وبهزة رأس صغيرة وتلاقي جفنيْن بأمر مسلم به:
- من بعض ما عندكم يا باشا.
والعقد تم إبرامه والتحالف قد كان، والمقابل لم يكن فقط بضع حفنات مالية لا تنقص من الأول شيء و تغوي الآخر، بل كانت مكانة حظيَ بها جوار سيده فينالُ بقربه الصيت قبل الغنى.
* * *
وبينما تتحالف أرواح وتتآمر بمباركةٍ من الشياطين نجدُ أرواحًا أخرى أصبحت معلّقة في الحياة بحبالٍ واهية، ربّما في رقودها الساكن تنسج خيوط الوصال مع خالقها في رجاءٍ خالص حتى يتقبّلها في واسع رحمته ويتغمدها في جنته..
من خلفِ الزجاج الكبير لغرفة الإفاقة كانت تتطلع بعيونٍ كساها الحزن، زفرة حارة أطلقتها قبل أن تتحرك لأقرب مقعدٍ تجاور والدتها ذات الملامح المتعبة, تُربت فوق فخذها بمؤازرة وتمنحها بسمةً رغم هوانها عنوانها الأمل فتردها لها بأخرى يائسة، لتنهض بعدها تتطلع بدورها على الراقد بلسان يبتهل في الدعاء.
حركت رأسها للجهة الأخرى تُراقب أخاها ذا الخمسة عشر عامًا، بين يديه هاتفه الحديث ينقر فوق لوحتِه ولا يفتأ يفارقه حتى يعودَ للعبث به من جديد، تنهدت في قلة حيلة وهي تسحبه من بين أصابعه وتهمس له دون رضا:
- كفاية يا أنس.. عينيك هتوجعك.
تمطّى في جلسته وهو يخبرها من خلف عويناته الطبية المؤطرة:
- أنا زهقت..
وأردف بكتفين متهدلين:
- هو بابا مش هيفوق بقى!
عبثت أناملها في خصلات شعره الكثيفة في محاولة لطمأنة الصغير
وإن كانت الحقيقة عكس ذلك:
- هيفوق ويبقى كويس.. مش أنت بتدعي له؟
ببسمة ملاطفة وأنف مكرمش داعبته، ظل يقف بالجوار جعلها تتوقف عما تفعل، ولم يحتاج سوى نظرة منها حتى تعرف من يكون، اقتربت من أذن أخيها بهمسٍ خافت:
- أنوس إيه رأيك تحاول مع ماما تروحها ترتاح؟
نفخ وهو يتحرك يلبي ما طلبت في ضجر مُدمدمًا:
- مش هتوافق.. ومع ذلك حاضر هحاول.
أطبقت جفنيها وأخذت شهيقًا طويلًا قبل أن تنهض وتتحرّك ناحية الواقف وفي عينيه نظراتٍ تشي بالكثير، تستعد لمواجهة كانت على يقين بحدوثها.. واجهت تحفّزه في وقفته ما إن دنت خطواتها منه لتعاجله بالقول:
- خير يا نديم في حاجة؟
في ثوان كان يقترب بغتة منهيًا ما بينهما من فراغ ليهدر فيها من بين ضروسه بغضبٍ يجاهد لمداراته احترامًا فقط للمكان من حوله:
- هييجي منين الخير وأنتِ مصرة تتصرفي من دماغك!
تظاهرت بالجهل لما يرمي إليه وحرّكت رأسَها بعدم فهم، لكنه لم يمررها:
- أنتِ مجنونة يابنتي؟..
- نديم!
- إزاي تروحي له يا ميسون رغم أني حذرتك؟
- أنت بتراقبني!
نطقتها باستنكار ليجابه استنكارها بقبضة التفت حول رسغها بقوةٍ هادرا فيها بلوم:
- أنتِ مش عارفة ممكن يحصلك إيه في منطقة مشبوهه زي دي؟ افرضي حد اتعرض لك، ازاي أصلا تثقي في واحد زي ده وتروحي لحد عنده برجليكي!
أبعدت أصابعه عن رسغها وأخذت تمسد موضعه بينما تحدجه بنظرات لائمة ثم هتفت بعناد وإقرار أخير:
- أنا علشان بابا فريد أعمل أي حاجة.
عاد خطوة للخلف يمسح وجهه بكفيه، يطلق أنفاسَه الحارة علّ ثورته المشتعلة تهدأ قبل أن يعود لها بنظراتٍ حازمة:
- ميسون من فضلك ما تكرريهاش.
- نديم من فضلك أنت...
قطع جملتَها الصارمة رنين هاتفها المتعالي لتستلّه من داخل جيب بنطالها ترمقه لثوان وتعود تطالع الواقف قبالتها وتتمّة جملتها يبطنها الكثير:
- بلاش تتدخل في حاجة ماتخصكش.. حاجة ماكنتش هتعرفها لولا إصرارك.
أنهت جملتها وتحركت بالخطى تهمّ بهرب سريع
ورغم ذلك جملته المقتضبة وصلتها
بوهج متملك:
- أي حاجة تخصك يبقى تخصني.
بأحقية عاشقٍ يضعُ القوانين ويأمرُ بالخنوع..
بأحقية شرقيّ يسعى لتملك صك معشوقةٍ وإن كان سبق وتملّكته أخرى!
* * *
الفضول من أهم السمات التي يمتاز بها بنو البشر..
و ربّما هو تطلع لما هو أكثر, ولم يكتفِ بفضولٍ  ناوش عقلَه,
فحملَ حاله عقب ما انتهى من مقابلته التي باتت هامّة
مع رئيس عمله الجديد, ليقف أمام بوابة المشفى التي تحمل العنوان بالورقة بين أصابعه، ورغم أن الأمر محسومٌ من ناحيته, فهو على يقينٍ أنه مجرد سوء فهم وبضعة أمور مغلوطة من قبل صاحبة شذرات الزيتون لكن ذلك لا ينفي مظهرها الذي يبدو عليه الثراء الفاحش، فثيابها الباهظة تحكي هذا و يشيد على ذلك ساعة معصمها الثمينة.. لما إذا لا يهديها قربًا هي من سعت له لربّما نال من ورائها أي طائل؟
في النهاية هو رجلٌ حتى في عبثِه يتبع قانون المنفعة قبل المُتعة!
دقائق قليلة مرت عقب ما هاتفها على الرقم المدون أسفل العنوان
حتى ظهرت أمامه فجأة، تُقابله بقسماتٍ قلقة وتمد له يدها في مهمة تعريف آن أوانها:
- ميسون الجندي.
هزة رأس صغيرة جلّ ما نالت لتُعيد خصلة شعرِها الشّاردة خلفَ أذنِها في توتّر بثّه فيها  ذاك المتملك، جاهدَت لتتغلّب عليه بتنهيدةٍ قوية وعادت تُردف لمقابلها بهمسٍ ثقيل مشتت:
- ممكن نتكلم الأول؟
وأردفت بإيضاحٍ سريع:
- علشان الصورة توضح لك أكتر.
ونبرتها المتوترة لم تعجبه بل أثارت توجّسًا ما بداخله، ورغم ذلك اتّبع حدسه الذي يسعى لما هو أكثر..
وبملامح لا تشي بشيءٍ تركَ لها القيادة..
بعدها كانا يجلسان حول طاولةٍ مستديرةٍ في كافتيريا المشفى، تبلّل شفتيها بطرف لسانِها وتسحبُ شهيقًا طويلًا قبل أن تبدأ في الحديث وأصابعها تشاركها الوصف:
- جايز بتقول عليّ مجنونة، أنا بس مش عايزه منك غير تسمعني للآخر من غير مقاطعة.
ضاقت حدقتاه مع هزة رأسٍ صغيرة في إشارةٍ منه حتى تبدأ..
وتحدثت..
تحدثت عن رجل عانى الأمرّين في مهمة بحث
دامت لسنواتٍ طوال حتى عثر على ما فقدَ وأضاع في النهاية،
تحدّثت عن سوء حظٍ صادفه فحين وجد مبتغاه تعرقلَت حالتُه الصحية, فسقط داخل هوة المرض والعجز.. تحدثت وتحدثت حدّ أنها استحدثت له شقيقًا من العدم تخبره عنه ببساطة، بل استفاضت في الحديث حتى وصلت لشقيقته وأمّه تتحدث عنهما كأنها تعرفهما بحق!
ظلت تتحدث حتى تملكه الوجوم للحظات
وبكلماتها لم تتضح أي صور؛ بل تضاربت جميع الصور في بعضها,
فبات لا يميز الخبال من الحقيقة، ولأنه لا يمتلك مخزونَ صبرٍ لهكذا حديثٍ و قد ضاق ذرعًا من الأمر برمّته، نهضَ بغتةً يقطعُ حديثها المسترسل دون توقّف بهتافٍ أشبه بزعيقٍ صارم:
- عايز أشوفه.
وعقب كلماتِه نهضَت دون أن تنبسَ ببنت شفه تتقدّمه بالخُطى, ولحقَ هو بها بذات الصمت حتى انتهى بهما الأمر خلف الزجاج العريض.. ولمحة أولى خاطفة, تبعتها لمحة أخرى أكثر تركيزًا, ليزدردَ لعابه وتضيق حدقتاه في استهجان لملامح الراقد من خلف الزجاج دون حراك، ولولا حضور تلك الذكرى البعيدة المشوشة
والصور المهترئة الملقاة في قعر الصوان المتهالك بغرفة شقيقته, لما كان وجودًا لذلك الشبه الذي يبصره الآن ويراه رؤي العين المجردة.
كانت تُتابع تحوّل قسماتِه من متفحصةٍ لأخرى متعجبة ثم أقرب للصدمة.. وبعد حين أيقنَت أنه أخذ مساحته الخاصة, فاقتربت تستكملُ الحديث بإجابةِ سؤال ربما هو يدور في دهاليز عقله الآن:
- جلطة.. الدكاترة قالوا الوضع صعب لكن عندنا أمل الأزمة دي تعدي على خير.
ربما بكلماتها أرادت بث شيء من طمأنينة ففي النهاية هو والده وإن مازالت ملامحه تستنكر ذلك.. أما عنه فآخر ما قد يرغب في معرفته في هاته اللحظة هي حالة والده الصحية.. والده المتوفي منذ قرابة العشرين عامًا!
لذا ودون الاستماع  لكلمةٍ أخرى كانت خطواتُه تنهب الأرض، تتقلص المسافات وهو على حاله يحيَا في دربٍ من الهوسِ والجنون حتى انتهى أمامها، هي وحدها من سترسو به فوق ميناء الحقيقة.. وحدها سيصدقهُ القول.

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن