(29)
في قانون القلب كل شيء مباح..
يكون المنطق بالي والمُفْتَرَض محض خرافات..
نغدو مسيرين بإرادة عظمى لا قَبِل لنا بها ولا سُلْطان.
تستعذب النفس كل ما عليها يجود في استسلام صامت، بينما تنتفض فيك النوازع وتتقاتل في احتدام ولا تعلم أنك فاقد للهوية فوق أرض الهوى، تمضي تائها متعثرا لا تبصر ولا ترى غير الشعاع الضعيف المتسربل من بين حجرات القلب تخطو إليه في الخفاء خائفاً من لوم وتقريع سوف يطالك ما إن تصحو لتجد حالك فوق أرض صلبة؛ قاسية تدعى الواقع.
بذهن شارد كانت تحرك كفها بالفرشاة على طول خصلات شعرها الرطبة، تتطلع إلى صورتها عبر المرآة بعيون ثابته دون رؤية حقيقة..
هل حقا احتجزها قسرًا لليلتين كاملتين بعد ما فرض عليهما عزلة تامة قررها من تلقاء نفسه ليجود عليها بما لم تتصوره يوماً.
رباه!..
لم يترك فيها شبرا واحد لم يغازله تاركاً عليه صك ملكيته، ترى نفسها لأول مرة في عينيه ولأول مرة تراه هو.. متلهفا شغوفا كأي رجل يهيم بامرأته التي يعشق دون قيود.
كان لينا عطوفا على غير عادته، يسترضيها بنظرة وكلمة علها تبادل اشتعاله المتقد بما يماثله.
لكنها لم تملك غير الاستجابة الصامتة، تتلقى موجات عاطفته فتغرق فيها دون مقاومة، دون رفض بجسد مخدر وحواس فقدت سيطرتها.
ربما لم تكن بنفس وقوده لكنها تشعر بحالها محمومة فيه وبقربه، تشعر بجسدها الذي يخونها ما إن يفعل فلا تجد حالها غير مغمورة غارقه من رأسها حتى أخمص قدميها ولا عزاء للعقل المستغيث.. تشعر بذلك القلب العليل الساكن بين ضلوعها ولا يكف عن التبرير والتهوين من طاريء يجتاحه ويقلقه فيقف له بالضد كأنه محاميه الخاص الذي باتت تحمله أينما راحت فلا يتراجع ولا يبدل موقفه بل يظل باقيا على نضاله.
رفعت كفها الآخر تمسد بطنها المسطح، حتى اللحظة عقلها الباطن لا يستوعب بشكل تام حقيقة حملها بجنينه حد أنها تنسى ذلك في بعض الأحايين.. هل لطفله دخل فيما تمر به من تقلبات.. هل هو من يضعفها أمام سلطانه؟
حقيقة لا تعلم متى انقسمت إلى نصفين..
تعجز عن إيجاد نفسها الكاملة لتعود بها حيث عهدها القديم، لكن هل تريد العودة حقا؟ ذاكرتها لا تسعفها إلا بذكراه الطيب منها و.. المشين!
لكن كل ذلك يتغير، بات يجيد دحر الماضي البعيد وإبقاءه أسفل ركام النسيان، تراه يعيد تشكيل كل ماسبق بما يناسب اللحظة ولا يكتف بل يلونها بزهو الألوان فيخطف بصرها دون إرادة ويزلزل كيانها دون شعور.
أطبقت جفنيها يائسة، هاهو القلب العليل يتخذ دوره فوق منصة الدفاع قائما بعمله كما يحب أن يكون_عليها الحذر فربما يغدر بها عما قريب وينضم إلى صفه كاملاً وتصبح في النهاية هي المدانة والمجرمة في حق علته_
قالتها لنفسها ساخرة لتتعثر بقية الحروف مع رعشة جلدها بلمسة أنامله التي تغزو جانب جيدها في بطء كأنما عن قصد يتلاعب على أوتار أنوثتها المهملة التي ظنت أنها أصبحت بالية وقد عفا عليها الزمن لكن ولعجبها وجدتها تترنم معه بكل تناغم ممكن. بشق الأنفس حررت أنفاسها مقاومة التأثر بلثمته المتباطئة في حرارة فوق كتفها وقد أزاح عنه دفء المئزر القطني ليبدله بحرارة شفتيه هامسا بنبرة أجشه وكأنه يقاوم ليقاوم نفسه:
- يلا عشان نفطر..
وأتبع كلماته بأخرى ألبسها ثوب الفكاهة بينما يرفع بصره ليقابل افتراق عينيها عبر السطح العاكس:
- عملت فطار ملوكي.
وغمزها بعبث، فالساعات الماضية التي قضتها بين ذراعيه بحلاوة دفئها تستحق ذلك التدليل وأكثر من باكورة الصباح.
هربت ببصرها عنه وكفها يعود لتمشيط خصلاتها التي قاربت على الجفاف من طول ما شردت بينما ملامحها تتخذ من الجمود طوق تطفو به بعيدًا عن عالمه الجديد:
- مش عايزه اتأخر على الكلية، كفاية غياب إمبارح اللي مش عارفه هبرره إزاي.
التقط جمود نبرتها فلثم جيدها بقبلة صغيرة كان تأثيرها سريعاً وهو يستقيم بجذعه المحني ويتقدم خطوتين لا أكثر ناحية الجارور المجاور يعبث فيه ثم يغلفه عائدا ناحيتها من جديد حاملا بين أصابعه علبة مخملية.
ارتكز بجسده فوق حافة طاولة الزينة من خلفه وكل تركيزه على ما بين يديه، فتح العلبة وأخرج منها حلقة معدنية رصعتها الماسات الصغيرة جداً فغطت معظمها، دون مقدمات سحب كفها ودس بالحلقة داخل بنصرها الأيسر، أبى تحرير كفها من بين أصابعه وحينها فقط ارتفع لها بصره ليجدها تبادله النظر في ترقب صامت لهيئته، خصلاته التي يتركها مشعثة بعد كل حمام مكتفيا بتجفيفها وملابسه التي تتلخص في بنطال بيتي خفيف يعلوه في بعض الأحيان فانلة داخلية تكشف عن عرض منكبيه بينما بياضها الناصع ينافس سمرة بشرته وتقاسيم ملمحه فلا تجد حالها غير أنها مفتونة بطلته وتفاصيله الفوضوية.
قطع حملقتها المفضوحه حين هتف ببساطة:
- طبيعي الكل يعرف أنك على ذمة راجل خاصة أن كلها كام شهر والحمل هيبان.
جاهد حتى تبدو نبرته لينة، يغالب بها شعوره بالضيق الذي غلبه ما إن وقع بصره على شرودها ونظرتها التائهة، وكأنها تتبدل لأخرى ما إن يبتعد عنها فتطيح بكل آماله التي يشيدها حين تكون بصحبته فتغدو مجرد ركام منثور، نظرتها تلك تخبره أن جسدها فقط هو من معه بينما روحها تسبح بعيداً عنه، أنها مازالت عالقة في لجة ماضيه وهو ليس بقادر على إخراجها وقد أثقلت خطاه نحو ذلك الاتجاه يرهب الاقتراب ويخشى المواجهة.
لا يريد تشويه الصورة التي عاشاها معا، يريد لها ختاما رائعا يليق بالبداية الأكثر روعة على الإطلاق.
استقام في وقفته وأصابعه مازالت تداعب كفها المستسلم ليقول بابتسامة بدت حيوية:
- يلا نفطر عشان أوصلك قبل ما أروح الشغل.
وتذكر إغلاقه لجهازه النقال وإخفاء خاصتها عقب ما أغلقه بدوره ليتابع بشقاوة ذكرته بنفسه القديمة:
- زمان الدنيا مقلوبة علينا.
شهيقها الذي سحبته ببطء وازى سحبها لكفها من بين أصابعه، تنهض من جلوسها في هدوء محاولة جمع شتاتها المبعثر بينما أصابعها تحكم التدثر بالمئزر من حولها و نبرتها الجامدة تصله من خلف كتفيها:
- مافيش داعي، هاخد تاكسي زي كل يوم.
لم تشعر إلا بكفيه وهما يعتصران كتفيها من الخلف يجبرها على استدارة حتى اصطدم ضياعها بقسوة نظراته.
كان يكافح.. لأول مرة يكافح لأجل امرأة، يسعى لقربها ويسترضيها كمل لم يفعل مع غيرها من قبل، وليتها فقط تشعر بغربته فلا تزيد من وطأة الألم ببرودها اللعين هذا بعد ما شملته بكل ذلك الدفء حين آوته داخل مسكنها فتلاشت وحشة غربته رويداً رويداً وأشرقت بضيائها فوق أرضه الجدباء المتعطشة.
- ماتبعديش نفسك عني.
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تغوص في نظرته، بدت مستغيثة بالرغم من حدة النبرة وقسوتها التي برزت، خلف ذلك السواد يقبع آخر لازالت تجهل هويته الحقيقة وهو لا يمنحها الوقت لتفعل، يريدها واثقة، آمنة.. وحتى عاشقة!
أسبلت أهدابها دونما تحرر نفسها من بين قبضتيه اللتين تضغطان بقوة فوق كتفيها لتقول بعقلانية لطالما كانت تليق بها:
- أنا مش آلة يا حسن..
تعثرت دقاته مع لفظها لاسمه بذلك الشجن الرهيب، تلك النسمة تجيد التلاعب فيه، باتت تنجح في إثارة حمائيته فتنقلب في الحال من جانية إلى مجني عليها وقلبه المسكين لا يدخر جهدا حتى يساندها وينحاز إلى صفها في كل مرة.
عادت تقابل عينيه بقوة وثبات لاتدرك من أين سيطرا عليها لتقول بصلابة:
- مش بكلمة ولا ضغطة زر هتحول، مشاعري مش بإيدي عشان أشكلها وقت ما تحب.
ورغما عنها طفت بعض القسوة فوق نبرتها لتزيد بانفعال وليد:
- أنا في يوم سلمتك نفسي وأنا مغمضة، شفت فيك السند والأمان، اطمنت بيك ومعاك واعتبرتك دنيتي باللي فيها.. إديتك ثقة مالهاش حدود بس.. بس..
تشنج جسدها وتعثر هذرها المسترسل بينما تهرب بنظراتها عنه غافلة عما تفعل، وربما ليست غافلة بل تريد منه الشعور عما فعل ثم ألقي بها متألمة، ضائعة دون دليل.
- ماتحاسبنيش على حاجة كنت أنت السبب فيها، وماتحملنيش فوق طاقتي.. أرجوك.
وجملتها تلك التي خرجت بتهدج ولمعة مقلتيها أخبرتاه أنه بيديه هاتين اغترف من نصيبه فيها فتضائلت حصته وقل رصيده، أنها بالفعل منحت و قدمت الكثير في حين لم تجد منه في المقابل غير العزوف عنها وعن دنياها..
وحين عاد!
لم يجد غير النذر القليل الذي لا يرضيه ولا يشبع جوع روحه.
أفاق من لوع الشعور المعتمل فيه وقد انعكس فوق صفحة وجهه على استطرادتها المتهدجة الأخيرة وكفها يشير ناحية الفراش المبعثر في سخرية مريرة على حالها:
- رغم أن كلي ليك أصلا وقت ما تحب.
لم يسمح لدمعتيها سوى بمفارقة منبعهما ليلتقطهما بعد ذلك سارحا بقبلاته الماجنة على كل تفاصيل وجهها، يئد تلك النظرات القاتلة ويخرس هاتين الشفتين عن نثر الكلام فوق مواطن الوجع.
***
صباح صامت على غير العادة، رافقت أميرة حتى أقلعت حافلة المدرسة ثم عادت إلى مطبخها حيث مكانها الأثير، أعدت أطباقها بشغف مفقود ليتشاركان الفطور ككل صباح قبل ذهابه إلى العمل.
ارتشفت من قدح الشاي على مهل والصمت الثقيل يجعل خلايا دماغها تكاد تتآكل من كثرة التفكير، ليلتها كانت طويلة بحق، مرهقة حد الألم.. كلمات الصغيرة كانت ذا سحر بطنين جبار ولا عتب عليها، بالنهاية مجرد طفلة مسكينة فقدت أمها وتربص بها المرض وهي مازالت تتفتح فوق أعتاب الحياة.. نفسها تعاتب هذا الذي يجاورها.
خادمة بثوب زوجة؛ تنظف وتطهو ولا بأس ببضع خدمات أخرى آخر الليل.. أهكذا يراها؟ ألهذا يعاملها بالحسنى؟ ولما لا يفعل من أين كان له بامرأة ذات صلاحية سارية مدى الحياة.. لأول مرة ترى كلمات حسن صادقة حين أخبرها أنه يريدها له خادمة.. الآن صدقت ظنونه.
رجل مثله ذو تعليم عالٍ، صاحب أصل وعائلة كريمة لها سيط طيب ذائع بين البشر لماذا يتزوج منها هي!
هي ذات التعليم البسيط والجمال المحدود والأهم من ذلك كله ماض عاشت فيه متنقلة بين البيوت وهذا في عرف المجتمع ليس بمشرف.. أبداً.
لما لم يختار أخرى تناسبه كنجلاء تلك التي تشاركه الرأي كما قالت ابنته..
كانت جميع أسئلتها تصب في جواب واحد، هي الأكثر كفاءة من بين الجميع، حيث تظل تعمل كالثور دون شكوى..
يالها من غبية، ساذجة لا تتعلم أبداً
- هي أميرة مش بتشوف جدتها وخالتها؟
قطعت سيل أفكارها وقد زين لها شيطانها كل حرف وكلمة فلم تشعر إلا ولسانها ينطق، يبحث ويفسر عله يثبت صحة ما يقال.
- نجلاء مدرسة في مدرسة أميرة، بتشوفها كل يوم تقريبا.. ليه بتسألي؟
قالها وبصره يعانق الجريدة الساكنة أعلى المائدة في تفقد سريع لأخبار اليوم، يتناول فطوره على مهل غافلا عن تلك التي تخوض حربا ضروس من نوع خاص.
أغاظها عدم اهتمامه بالنظر إليها فعضت فوق شفتها تكتم اشتعالها، أجبره صمتها بعد حين على رفع بصره مستغربا:
- ماقولتيش بتسألي ليه؟
أجابت بكلمات تقطر غيظا:
- مافيش، استغربت أنها مش بتزور جدتها وخالتها يعني.
- أميرة واخده على ماما أكتر.
قالها ونهض عقبها ململمًا أغراضه ناويًا رحيل لكنه هتف قبلا بكلمات كللتها ابتسامته العذوب:
- سماح الله يرضى عليكِ خالتي وبنتها جايين زيارة النهاردة ياريت تنزلي لماما تشوفيها لو محتاجة حاجة على ما تيجي هبة.
اشتعل خارجها كما داخلها فهذا أبدا لا يطاق..
ولأول مرة تحد نبرتها وتعقد جبينها بينما تنهض من جلستها وقد غلبها الحنق لتقول:
- أنا رايحه عند حسن النهاردة.
ضاقت عيناه في ترقب لكل هذا الغضب غير المفسر، تغاضى عن نبرتها الزاعقة وبادر بمفاوضات السلام وإن كانت نبرته جادة وبسمته العذوب غادرت وجهه:
- معلش خلي زيارة حسن بكره عشان أكيد هيسألوا عنك.
هكذا ببساطة قالها بحزم أنهى به الحديث واستدار عنها يكمل طريقه إلا أنها لحقته بخطوه محترقة وصياح صاحب عنادها فجرت به كل ما يعتمل فيها:
- وأنا عايزه أروح النهاردة.
- في إيه يا سماح؟!
كانت تلك زعقته التي وازت استدارة جسده ليقابلها بقسمات غاضبة وقد نجحت في إخراجه عن طوره بجدارة بينما لم تأبه لهذا كله وهي تزيد فوق الحطب اشتعال:
- فيه إني مش خدامة.. إمبارح بنتك والنهاردة أمك.
- خدامة!
- أيوه خدامة ماتقولش غير حاضر ونعم، مش هو ده كل اللي عايزه؟
احتدم بينهما الحوار، يرمقها بعيون غاضبة ومازال يجهل سبب كل هذا الحديث المختل حد الجنون.. استطردت بتحد وعينيها تجابه عينيه بقوة ظاهرية بينما في داخلها تفتش عما يريحها:
- تنكر أنك اتجوزتني عشان أخدم بنتك وأمك.. تنكر؟!
فجأة تراجع الغضب وعم الصمت الثقيل إلا من صوت الأنفاس الهادرة.. وبعد حين غلب الصقيع نبرته ليجيبها بهدوء مقيت ليفصل ما بينهما من شعرات:
- لأ.. مانكرش.
قبضة من فلاذ ضربت معدتها لتشيح بوجهها جانبا بعيدا عن مرمى أنفاسه، ناوش الدمع الحارق الأجفان وبكل عند كبحت هطوله حتى شعرت بأصابعه تمسك بذقنها في قسوة يجبرها على مقابلة عينيه من جديد، وتلك النظرة بهما كانت طعنة أخرى بينما يردد كلماته بذات النبرة المقيتة وكأنه يود لو حشر الكلام في رأسها لكنه اكتفى بالقول:
- أنتِ غبية يا سماح.. غبية.
ثم ترك ذقنها ليضيف وصوته يبتعد بوعيد:
- واعملي حسابك كلامنا لسه مخلصش.
وصفع الباب من خلفه.
***
لأكثر من نصف ساعة تحتل مقعد المائدة وقد فرغت كل مافيها في وصلة بكاء مستمرة، تشعر بدونية لم تشعر بها قبلا قط، يتأرجح فكرها بين كونها اخطأت حين افتعلت مشكلة وأشعلتها وبين فكر يخبرها أن ماحدث هو الصواب وأن معها كل الحق.
أخذتها طرقات الباب المتعالية على حين غرة فانتفضت من جلستها تمسح دموعها وتخفي أثرها بابتسامة رسمتها فوق محياها بإتقان علها تكون حماتها أو إحدى شقيقتاه تلمح فيها أثر البكاء وحينها لن تجد جواب لأسئلتهن.
واربت الباب ومن خلفه وقفت تتسائل عن هوية الطارق:
- مين؟
نحنحة أجشة جعلتها تفتح الباب على آخره وضحكتها تفترش صفحة وجهها حتى أغرقته وهي تهلل وترحب بحرارة غير مصدقة حضوره، تقدم خطوة إلى الداخل متسائلا بدوره:
- جوزك هنا؟
ربتت فوق منكبه بكف والآخر عند صدره تحثه على التقدم وقد غمرها بحضوره فأنساها ماحدث:
- نزل من شوية، تعالى.
أقسم لها ثلاث مرات أنه بالفعل تناول فطوره قبل مجيئه وهي مازالت تتشبث بإصرارها وبالنهاية هتف فيها بفقدان صبر:
- إعملي قهوة يا سماح، ويلا في السريع عشان عايزك في موضوع.
دقائق قليلة وكان يرتشف من قدح قهوته بينما تتطلع إليه في توجس المنتظر ولم يطل أكثر إذ هتف:
- مش بتفكري تشتغلي؟
يعلم طبيعة أخته المحبة للعمل، ويدرك كم تبغض المكوث بين أربعة جدران.. كما بات يعلم أن زوجته بحاجة لما يشغلها أكثر، بحاجة لأن تزدحم حياتها بتفاصيل أكثر، تفاصيل تسعدها ويكون له فيها بصمة، عليه أن يمحي الماضي إن أراد لهما معا حياة.. وهذا الانهيار الصباحي الذي حدث بينهما يجب ألا يتكرر فلا هو له طاقة به ولا هي ستتحمل كل تلك الضغوط النفسية.
ترك القدح فوق المنضدة أمامه ومال بجذعه للأمام مشبكا أصابعه في بعضهما وقسماته الجادة استحوذت على إنتباهها التام ليستطرد:
- شوفي ياستي، المحل اللي اشتغلتي فيه فترة مع نسمة صاحبته عرضته للبيع.. إيه رأيك تشاركي فيه نسمة بالنص؟
بدورها تركت قدحها وعادت بظهرها للخلف محملقة فيه متخذة وضع التفكير وقد جذبها محور الحديث.. صمتت للحظات هتفت بعدها في تساؤل وعدم فهم لحال أخيها والذي على مايبدو تطور كثيراً بعد زواجها:
- ودي فكرة نسمة؟
- نسمة مش هتعرف حاجة غير بعد ما الموضوع يتم.
- ليه؟
- عشان ببساطة مش هتوافق.
تبسمت له في صمت بينما في داخلها تنبع بهجة حقيقة لما آل إليه حاله، نبرة الاسترضاء التي إستشعرتها بين كلماته تعني أن حسن يتغير بالفعل، يسعى لطمس الماضي وخلق بيت وأسرة بل ويفكر كيف ينجح في ذلك.. ومن جهتها لا تنكر أن العرض نال على إعجابها، هي بالفعل بحاجة شديدة إلى العمل بدلا من ذلك الضغط الرهيب الذي تتعايش فيه تاركة لشياطينها حرية التمكن منها وفيها.
هتفت أخيراً وعلى ذكره عاودتها أحداث الصباح ليكسو نبرتها ذلك الضيق وبالكاد حاولت مداراته:
- هكلم أحمد في الموضوع و أرد عليك.
طالع ساعته ثم نهض متعجلا، لم يكن ليؤجل الفكرة التي استحوذت على تفكيره حين كان يوصلها للجامعة وقد برزت له لتضيء عتمة الأفكار المتخبطة ليتخذ من فوره طريق سماح كخطوة أولى قبل الذهاب والانغماس في العمل.
عند الباب قطع ثرثرتها المودعه بنبرة رزينة ونجح في كسب دهشتها:
- على فكرة.. نسمة حامل.
ظلت تحملق فيه بفم مفغر ومالبثت حتى انهالت عليه بمباركات متلاحقه، تلقي بحالها فوق صدره وقد ترقرق الدمع في عينيها وهطل دون إرادتها، تتبعد لتهتف بحشرجة وطيف أمها الراحل يلوح أمام ناظريها:
- كان نفسها تشوف ولادك.. ادعي لها ياحسن.
تيبس جسده لثوان استدار بعدها مطلقا همهمات ترحم خافتة أتبعها بكف مودع من خلف منكبه في سلام عابر.. بينما هي تغلق بابها برفق مرتكزة عليه بظهرها تاركة لدمعتيها حرية الهطول، تقطع سيلهما بأناملها بينما اللسان يلهج بفرحة لم تكن على البال وقد غمرت القلب حتى فاض:
- ألف حمد وشكر ليك يارب.
***
في المتعة.. إثارة من نوع خاص
لا ينكر أن حياته القصيرة لم تخلُ يومًا من المتعة العبثية التي تولد إثارة ما، رفقاء وأصحاب يلهو بصحبتهم متى ما أراد.
لكن هذه المرة متعته ذات نكهة لاذعة تثير فيه زوابع من الإثارة.. عيناها الكحيلة بطبيعتهما الساحرة وجديلتها المستريحة أعلى الكتف لم تفارق خياله الحي طيلة ليل البارحة، تغزو هيأتها البسيطة بواطن عقله فيجد حاله غارقا في تفكير طويل.
ابنة وحيدة لرجل كان قد فقد الأمل في أن تكون له ذرية لتأتي هذة بعد سنوات من الصبر لتكون لهما شربة الماء بعد العطش الطويل، تحلم بكلية الطب إذ أنها في الثانوية العامة لهذا العام.. هذا جل ما استطاع معرفته من أبيها الذي بدى متحفظا في الحديث بشكل مغيظ.. وحقا لا يعلم لما تشغل باله وتستحوذ عليه إلى تلك الدرجة حد التقصي عنها بكل الطرق الممكنة.
على جدار عريض كان يجلس ممدا ساقيه أمامه بينما ظهره يستند على جدار آخر من خلفه، هاتفه ملاصقا لكفه بينما تمتد السماعات حتى أذنيه لتصدح عبرهما أنغام صاخبة تناسب ذوق هذا الجيل، يهتز رأسه مع أقدامه في رتم منتظم وانسجام تام حتى التقط بصره هيأتها تقترب من البعيد!
فتح جفناه على آخرهما وثغره يفترق في عبث لا إرادي، على عجل ارتدى حذاءه وانطلق يحشر حاله بين عمال المعمل وتحت نظراتهم المتعجبة شاركهم العمل ببصر يراقب الطيف المقترب.
دلفت إلى المعمل وبصرها يبحث عن أبيها الذي تأخر في عودته فبعثت بها أمها محملة بالغذاء إليه ككل مرة يتأخر عن موعده.
قابلها من فوره، فحيته ببسمة خلابة ويدها ترتفع له بما لذ وطاب مغمغمة بمرح:
- أنا اللي عاملة الأكل ياعبده، يعني هيعجبك.
ربت فوق رأسها يبادل مرحها ببسمة جملت محياه المتغضن، بينما كانت هي تنظر بانشداه نحو ذاك الذي وقع بصرها عليه وقد برزت ضحكته الجذابة من بين الوجوه العاملة بينما بصره يرتكز عليها ولا يحيد:
- ماتنساش تاخد دواك بقى.
لم تعي أنها قالتها دون وعي حقيقي وقد استولى ذلك الوقح على جل تركيزها، وصلتها كلمات أبيها مشوشة وهي تستدير تتسابق أقدامها في الخطى في شبه هرولة بينما دافع لا تفقه كنهه أجبرها على الالتفات إلى ناحيته من جديد.. وما إن فعلت حتى قابلها بغمزة!
أشاحت برأسها سريعاً، تشعر بنظراته الثاقبة تخترقها من الخلف حتى اختفت عن ناظريه، في طريق عودتها رفعت بنان أصابعها تتحس غير مصدقة البسمة البلهاء التي تغزو ثغرها لكن سرعان ما تلاشت حين وبخت حالها وذكرتها أن ذلك.. لا يجوز.
***
احذر من الوقوع في تلك المنطقة
حيث..
جميع الأشياء باهتة، أقرب للتلاشي
بفكر متأرجح ورغبة مفقودة
كل شيء ضبابي.. كل شيء رمادي
هي لعنة ستفقدك كل معاني الحياة.
وهي بالفعل كمن أصابته لعنة
لعنة اسمها مهند البغدادي..
ذلك الشعور بأنك أخيراً وصلت مبتغاك فتكتشف أن هناك لوح شفاف يعزل بينكما، تراه ولا تلمسه، تشعر بوجوده وتعجز عن تملكه، هناك بداخلك من يكبلك و يعيق حركتك كأنك مسير دون وعي، كل ما تفكر فيه لا يحدث كل ما تبغاه لا يكون..
فقط عالق بين هذا وذاك
تتطلع إليه دون إنصات حقيقي لما يقول، قسماته الجادة ونبرته الجهورية تجذب انتباه الجمع المتحلق حول مائدة الاجتماعات، تجذب انتباه الجميع إلاها.. هل حقا طلبها للزواج؟
كلما فكرت في الأمر شعرت أنه غير حقيقي!
لم تختبر ذلك الشعور من قبل، لكن لا تنكر أنه الوحيد الذي سمحت له باختراق بلورة عزلتها، وحده نال مساحة من عقلها وأخرى.. من قلبها.
بعد حين انتهيا وفرغت الحجرة إلا من كليهما، جمود ولامبالاة يخصها بهما منذ تلك الليلة، وهي حقا عاجزة عن التوضيح، حتى نفسها أصبحت غريبة عنها وماعادت تعرف أيما طريق تسلك.. كان يلملم أوراقه حين قطعت حركته بهمس هادىء:
- في أكتر من شكوى تخص أوتيل(...) هو مش المفروض نقابل المدير؟
دونما يرفع بصره ناحيتها دمدم بنبرة باردة:
- بلغي الموظف المسؤول وهو يتصرف.
غمغمت بهدوء لطيف:
- أيوه بس ده مع الشركة من سنين طويلة، كنت بفكر لو نشوف الموضوع دة من غير رسميات، يعني كده هيكون لطيف أكتر.
أيضا لم يعرها نظرة، نهض من جلسته وحينها فقط طالعها من علو مغمغما بذات البرود المقيت:
- مفيش مشكلة، بس قرري تروحي أنتِ ولا أنا.
واستدار!
نهضت تلحق بخطواته تهتف باسمه بغيظ مكتوم:
- مهند..
كانت يده تمسك بمقبض الباب حين وصلت نبرتها، نصف استدارة فوجدها تقف على قرب خطير وقسماتها تنضح بالغيظ، لا ينكر نشوته التي برزت بينما تهتف بنبرتها المترددة:
- وليه مش سوا؟
واستدركت سريعاً:
- يعني ده شغل وطبيعي نكون سوا.
وحينها ترك المقبض واستعدل يرسم بسمة ثلجية.. ثم صوب دون تردد:
- عشان أنا مش عايز نكون سوا.
جف حلقها وغامت نظرتها من قسوة كلماته ونظرته المنتشية، بينما تنظر له في صمت غير مصدق، لم تعِ إلا بعد ثوان حين لم تجد له أثر، فقط فراغ يحيط بها فلم تشعر بحالها إلا وعروقها تشتعل إثر طنين جملته الأخيرة، ثوان أخرى وكانت تقتحم مكتبه في ثورة غضب.
وأمام اضطجاعه المستريح فوق مقعده وقفت تكتف ساعديها فوق صدرها، تهز بساقها وتهدر بحنق:
- ممكن أفهم آخرة ده إيه؟
يتخذ من البرود مسلكا عله يسكن من كبرياء الرجل المطعون بداخله، رفضها له كان أقرب لطعنة بالفعل، ولا يدري حقا إذا كانت ترفضه بحق لما هي هنا مازالت تبحث عن إصلاح ما فسد!.. تغضب وتثور لأجل جفائه؟
منحها كل السبل لتبتعد وتقطع مابينهما وما تبقى لن يخص غير العمل لكنها مصره على إقحام هذا بذاك..
بحق السماء.. أتريد قربه أم ترفضه!
جاهد ليكبح انفعاله وإن لم يفعل فأول ما سيفعله هو ضرب رأسها الصلد الغير مفهوم هذا في أقرب جدار من خلفها.. لم يتحرك عن موضعه فقط ظل يبادلها النظر من جلسته في استعلاء حتى هتف أخيراً:
- مش فاهم؟
جن جنونها، مازال يتلحف بهذا البرود المقيت بينما يراها تكاد تشتعل.. دارت من حول المكتب حتى جاورته في سؤال قاتم.. مكتوم:
- ليه الأسلوب ده؟
كتفت ساعديها من جديد تخفي رعشة جسدها.. تردف ونبرتها تهتز:
- أنا غلطت في إيه؟
دار بالمقعد حتى قابلها ومازال على موضعه مدمدمًا في استخفاف:
- حقيقي أنا احترت معاكي، لا بقيت فاهمك ولا عارف إيه يرضيكي.
رفعت سبابتها في تهديد صريح.. حانق:
- بطل أسلوبك الغلس ده وخليك صريح.
لم تشعر إلا وبنيانه يشرف عليها من فوق رأسها وقد نهض بغتة مغمغما من بين ضروسه في حدة وسخط بين:
- تمام وأنا بحب الصراحة..
بصراهما متعانقان، والأنفاس تتبادل بحرارة.. بينما يشملها بنظرة ليعود ويسكن بين أهدابها وصورته المعكوسة داخل حدقتيها الرقراقة، كم تبدو هشة بحجمها الصغير وقسماتها المنمنمة، لو فرغ فيها كل مايعتمل فيه يقسم أنها ستسقط صريعة في الحال.. نفخ بقوة ليدحر غضبة الوليد قسرا، ثم هتف بفتور جاف:
- كده أحسن لينا إحنا الاتنين، خليكي صريحة مع نفسك أنتِ كمان واعترفي أن مابقاش ينفع غير كده.
يبدو أنها اخطأت حين فكرت في تصليح الأمور..
فوحدها تسعى لذلك..
شفتاها شبه المفغرة لأنفاسها الهادرة لا تبعد سوى سنتيمترات وكأن عينيه أصابهما الشلل فوقهما لتقفا هناك دون حراك.. ترهقه هذه الغنى وتعزف فوق أوتاره دونما تدري، لو فقط يفهمها ويعلم عن ماهية ما تريد وتبغي لربما أراحها وأراح نفسه من قبل.. وبين رغبة الاقتراب فيه وكبرياء الابتعاد انتصر كبرياءه حين استدار عنها عائدا لجلسته السابقة هادرا في حدة وصرامة:
- امشي يا غنى.
بالكاد ابتلعت غصتها وهي تجر أقدامها لتبتعد وتبتعد حتى اختفت خلف باب مكتبها الموصد، ترتكز عليه بجسدها وتطالع الفراغ برؤيا غائمة ودمع ثقيل عالق.. تشعر بقلب فيها بات أجوف، خاو إلا من عبث الرياح وصفيرها.

أنت تقرأ
الغنيمة
Roman d'amour"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...