الفصل الـ ١٥

125 6 0
                                    

(15)

على أعتابِ الحياةِ تقبعُ بعضُ الحكايا
لا هي نالتْ صكَّ الختامِ مع إسدالِ الستارِ
ولا بقيتْ على حالِها دون شغفِ البدايات
فقط حكايا منقوصةٍ!
منقوصةٌ ككلٍ شيءٍ يخصها، في الثامنة مِنْ عُمرها فقدتْ أبيها لتحظى بطفولةٍ منقوصةٍ.. وحين أشرقَ صباها أدركتْ أنَّ الحياةَ تحت مظلةِ قصرٍ لا تنتمي لسكانيه لنْ يعود عليها سوى بفقرِ الذاتِ والنفسِ. وأخيرًا حياة زوجية بالكاد غرستْ أساسها في أرضِ قلبها المتعطش لبذرةِ الاكتمالِ لحياةٍ كل أملها فيها أنْ تبزغ شمسها مع مَنْ آمنته على صحراء نفسها المقفرة حتى يكونَ لها الوطن والسكن.
ألقتْ بوجهها داخل وسادتها تَكتم شهقاتِها، تصمُّ أذنيها عنْ العويل والنواح القائم بالخارج منذ أنْ لفظَ قاضي المحكمةِ بكلماتِهِ الأخيرةِ قبل ساعاتٍ..
"حكمت المحكمة حضوريًا على المتهم حسن فريد صبري بالحبس أربع سنوات مع الشغل"
دارتْ بجسدها لتكون مستلقيةً فوق الفراش باعتدالٍ وقد هدأ بكائها وظلّت فقط الشهقات تغص بصدرها وعيناها ثابتة فوق سقف الغرفة، بالكاد تعي مايحدث من حولها منذ أن صدرت الكلمات المشئومة، بل منذ أنْ علمت بالأمر برمته..
لماذا هو؟!
بل كيف؟!
لِمَ لا يصدقونه حين يقول أنَّه ليس بسارق!
لِمَ يحكمون على سنوات عمره بالحجز خلف قضبان السجن الخانقة وهو المظلوم!
ألأنَّه مثلها دون ظهرٍ أو سندٍ في هكذا حياةٍ ظالمةٍ؟
حياةٌ يضيع فيها كل ضعيفٍ وينتصر كل جبارٍ عتيدٍ!
نفختْ هواءً ساخنًا وبداخلها تعاتبه..
ماذا لو تنازل وقَبِلَ بمساعدة أبيه!
أليس كان من المحتمل أن يكون بينهم الآن؟!..
مالتْ على جانبها وقد زادت وتيرة نهنهاتها عند تلك النقطة، وعادت تهطل دمعاتها الحارة من كلا جانبي عينيها مِنْ جديدٍ، بينما كفها يكبح صوتها حتى لا يصل لأمه، المسكينة يكفي ما بها ويزيد.
بعد حينٍ كانت تنهض بجسدٍ متعبٍ، تخطتْ عتبة الغرفة لتواجهها سماح تدعك وتفرك في خشب النافذة حتى كاد أن يصرخ مستغيثًا؛ فمنذ ما حدث وعادتا سويًا قررت تفريغ مابداخلها في أكثر ماتجيد فعله، انكبت على البيت الصغير في مهمة تنظيفٍ صامتةٍ ومع ذلك عيناها تفيضان بالكثير.. مرت جوارها فلم تجد القدرة على حديث فقررت تخطيها.
دفعت باب غرفة سماح برفقٍ وتطلعت إليها، بحركة أناملٍ واهنةٍ محت بقايا دمعات عالقة فوق أهدابها ودلفت تجاورها فوق الفراش، تمسك بكفيها تدعكهما برفقٍ بين يديها علها تطرد سقيعًا يحيط بهما وقد تكفلتْ ببسمةٍ حانيةٍ بمقلٍ تشي بدمعٍ جديدٍ لم تستطع منعها كأنما تبصرها، قامت ياقوت الساكنة بعد جزعٍ طال بضمها لصدرها لتنفجر فوقه من جديدٍ.. أخذت تُمسد ظهرها ببطءٍ حتى هدأت بعض الشيء ثمَّ همست لها بلسانٍ مثقلٍ:
- كفياكي عياط يا نسمة ربنا كبير وقادر يابنتي.
بلهفةٍ ورفضٍ تامٍ لكل مايحدث كانت تلهث بكلماتها:
- حسن مظلوم يا ماما، اللي يقف جنب واحدة مايعرفهاش ويحميها من ظلم البني آدمين مستحيل يعمل كده.. حسبي الله في كل ظالم.
كانت تُقر بكلماتها لنفسها قبلًا، لا تصدق ولو حكم فيه ألف قاضي، ومن غيرها أعلم بظلم العباد!..
- الظالم والمظلوم عند الله.. كله عند الله.
قالتها ياقوت بشرودٍ وهي تعود بجسدها لظهر الفراش، لتتنهد مجاورتها في صمتٍ، صمتٌ قطعه ولوج سماح بصينية طعامٍ تركتها فوق منضدة جانبية وهتفت في أمها باقتضاب:
- يلا عشان تاكلي وتاخدي دواكي.
طال بصرها السارح في ملكوت دجنته الخاصة لثوانٍ همست بعدها في شرود:
- اطلبي لي أبوكي يا سماح، قولي له يجي.. عايزة أشوفه.
تغضن جبينها لطلبها الغير متوقع بالمرة لذا صاحت من فورها في استنكار:
- أبويا!..
- أيوه.
- عايزاه ليه طيب.. أفهم؟
- هو تحقيق! أعملي زي ما طلبت منك وخلاص.
حركت سماح كتفيها في عدم فهمٍ، وهمت تفعل ما طلبتْ لكن قبلًا رفعت سبابتها في وجه نسمة المراقبة للحديث في صمتٍ كأنما بذلك تؤكد ماسمعت:
- خليكي شاهدة أن ده كان طلبها.
عقب مضي الساعتين لا أكثر كان "فريد صبري" بشحمه ولحمه يحتل المقعد المجاور لفراشها، يحوم بصره فوق امرأةٍ كانت تنتمي له قلبًا وقالبًا قبل سنواتٍ طوال وقد خط عليها الزمن تجاعيده، امرأة أعطت وما أخذت، فقدت وما طلبت، فقدت الكثير غير بصرها، وربما لو كان للقدر رأي آخر من البداية ما كانت خسارة كليهما لتكون جسيمة لذلك الحد..
دون سابق إنذار أو تبادل سلام كانت تقطع صمته بسؤالٍ في جوابه المبتغى:
- ابني ظالم ولا مظلوم؟
قد تكون فقدت نور بصرها لكنها لم تفقد حدس أمومتها بعد.. وأمومتها تخبرها أن بكرها ساقط في شرك أكبر من قضية يدّعي فيها الظلم، وربما هي فطرة ربانية تبغي فيها براءة لمن يهمها أمره، تبغي سماع ذلك بأذنيها حتى يهدأ قلبها وتندثر خيبة أملها التي تلوح في الأفق وتكاد تراها رؤى العين المجردة..
- أنا اللي ظلمت ابني.. ظلمته هو وأخته يوم ما بعتهم واشتريت نفسي، وأنتِ من قبلهم.. أنا شايل ذنب ربنا وحده يعلم قد إيه حمله تقيل.
ثقيلةٌ الحقيقة..
مُخيبةٌ للآمالِ..
وهو خاب وخسر ابنه حين تكفّل بلقاءٍ مع محاميه الذي جاءت به سماح لأجله، وكأنها كانت مُوقنة أنه سوف يرفض أي شيءٍ آتٍ مِنْ ناحيته، وقتها قالها له الرجل صراحةً دون تجميلٍ أو تزييفٍ حين اختلى به..
"واضح إن ابنك مش برئ وبيراوغ ومع ذلك هحاول بس ماوعدكش"
وكأنه ينتظر هذا السَفِيه حتى يؤكد له حقيقة بكريه الذي لم يبخل أو يتوانى في وصول الصورة له كاملة حين تقابلا أول مرةٍ!
وبالرغم من رفضه لمقابلته مرةً ثانيةً عُقب تلك الأولى الصاخبة بكراهيةٍ وحقدٍ لم يستنكره بل رحب به فيما بعد ربما كنوعٍ من عقابٍ للذات هو مدرك تمامًا أنه أهلٌ به وذو أحقيةٍ.. حتى رؤية المحامي المخضرم في نوعية تلك القضايا والذي جاء به لأجله رفضها، رفض احتلاله لأي جزءٍ كان من الصورة حتى ذهبت جُلَّ محاولاته دون فائدةٍ.. وبعد أسابيعٍ كانت كالدهور انتهى الحال بمحاكمته صباح اليوم.
وفي هاته اللحظة لا يملك أمام تلك العجوز الضريرة سوى قول الحقيقة المُقرة داخل نفسه وقد أكدها لسانه بنبرات غشاها الندم:
- لوميني أنا.. أنا اللي ضيعته.
تعثرت أنفاسها مع أحشائها الملتوية في جزع:
- يا خسارة العمر اللي ضاع هدر.
قاطعها بقهر بلغ مبلغه:
- ده ذنبي.. ذنب دار بيه الزمن ورجع لي في ابني.
لم يصلها تنازع حروفه مع تمزق نبرته وهي مازالت غارقة في ملكوت خيبتها:
- يا خسارة اللي راح.
بعزيمةٍ لم يدرِ مصدرها لكنه حتمًا يبغي بها راحة تلك التي تصارع فوق قسماتها الماضي والحاضر معًا، يبطن كلماته بوعدٍ يسره في نفسه دون جهره، لقد قامت بدورها على أكمل وجه بل وزادت، ودوره الآن قد حان:
- أنا مش هسيبه، هكفر عن ذنبي برجوعه.
لم تعِ إن كان يقصد بالرجوع؛ محبس هي تدرك في اللحظة أنه أصبح جزاء من جنس عملٍ قام به بكل إرادةٍ تامةٍ، أم إياب عن طريق الضلال الذي اختاره على ما يبدو بإرادته التامة أيضًا.
نزلت دموعها مدرارًا وفي قلبها حسرة تسع الكون بينما الكلمات تنغز في صدرها بوجعٍ.. بألمِ السنوت الماضية.. بحنظلِ أيامها القادمة ومرها:
- زمان طعنتني في شرفي ودلوقت ابنك طعني في روحي.
كررت كلمات جملتها الأخيرة ثلاث وهي تنسل لداخل الفراش، تلف جسدها بالشرشف الثقيل وتوليه ظهرها بعد ما اجتاحتها البرودة بغتةً. كلمات على أثرها سقطت عبرات تلك الرابضة خلف الباب المغلق تتلص على الحديث المنعزل، وسؤالٌ واحدٌ يدور بخلدها:
ماذا فعلت تلك المرأة ليكون هذا جزائها؟..
أيلومون عليها الآن لو سبّت أبيها وأخيها معًا!
أيُّ نفعٍ يعود عليها بعد خيبتها في الزوج والابن، بفضلهما هي تحيا تعيسةً وكأنَّ نصيبها من السعادة ضئيل حد التلاشي، لا تفتأ تنسى الهموم حتى تعود وتتكالب فوقها من جديد، جادت عليهم بكل خير وماحصدت من ورائهم غير الحسرة والوجيعة.
نعم كانت تعلم أنَّ أخيها ليس بالرجل النبيل، ولم يكن يومًا كذلك ورفقائه خير دليل، يصاحب ويصادق ذوي الأخلاق المشينة والسمعة السيئة، لكنها لم تظن لوهلةٍ أنه قد يكون مثلهم ذات يومٍ!
كانت موقنةً أن يومًا ما ستزول الغمامة ويخترق عيناه النور رُغمًا عن أنف ظلمات النفس التي تملأ روحه، ظنَّت أنها مجرد رعونة شبابٍ وسيعود لرشده وقتما تنتهي متخليًا عن كل ضلالاته الوهمية..
لم تكنْ تعلم أنه ساقط في مستنقع الظلمات حد بلوغه القاع!
ومانفع اللوم بعد فوات الأوان؟!
أجفلها خروج أبيها وخطواته المثقلة، ابتعدت تفسح له المجال وبقيا على حالهما يتبادلان النظرات للحظات كانت ترميه فيهم بسخطٍ فيرد بأخرى كساها عظيم الذنب ولوع الخطيئة.. تجاهل سخطها واقترب يربت فوق كتفها ثم همس لها بجملة واحدة قبل ما يتجاوزها ينوي بذلك رحيل:
- خلي بالك منها، وهوني عليها.
وكأنها تنتظره لتفعل!
ثم بأي حق يأمرها؟!
هكذا فكرت وكان في جعبتها الكثير والكثير من الكلمات المغتاظة بترها بابتعاده..
ابتعاد قطعه تلك الباكية وهي ترتدي لباس الصلاة خاصتها وعلى مايبدو كانت منفردة بحالها منذ وقتٍ ليس بقليل تبتهل فيه لأجل الغائب.. والآن تشبثت في كف الماثل أمامها وهي ترجوه في توسلٍ لأجله أيضًا:
- عايزة أزوره.
أومأ لها برأسه في صمت وربت فوق رأسها بحنو قبل ما يختفي من أمامهما لتعود برأسها ناحية سماح ذات الملامح الممتعضة..
فإنْ كان شقيقها معصوبًا بالضلال
فتلك الأخيرة على مايبدو معصوبة بالحماقة!
***
صدقوا حين قالوا أن مرآة الحب عمياء..
غارقةً في بحور الهوى، لم تزل بعد غمامة الحب الوردية، مضى أكثر من شهرٍ على زواجهما لم تهنأ فيهما بحقٍ سوى بسبعة أيامٍ كان لها فيهم كما يجب للحبيب أن يكون، لا يبخل عليها بكلماتٍ ولا يخبأ شعورًا، بل تفنن في تقديم حبه على طبقٍ من عشقٍ..
بعدها هبط هو لأرض الواقع حيث الانغماس في عالم الأشغال والأعمال، وبقيت هي هناك عالقةً فوق أرض الوهم.
- مساء الخير.
قالها بنبرةِ المرهق ما إن دلف، لتنهض من فوق أريكة غرفة نومهما الناعمة مرحبةً بقدومه بعدما نحت جانبًا مابين يديها وفوق حجرها من ألبومات وصور ليوم الزفاف، فهي لا تكل ولا تمل من النظر إليهم في كل وقتٍ وحينٍ، أحاطت رقبته بذراعيها وشفاها تطبع قبلتها فوق وجنته اليمنى..
- وحشتني..
داعبت أرنبة أنفه بسبابتها وأردفت بغنجٍ:
- ومخاصماك.
بإبتسامة هادئةٍ كان يطبع قبلته بجانب ثغرها:
- معلش يا حبيبتي الشغل خدني كالعادة.. وحشتيني أكتر.
وتحرك بخطواته يناشد حمامًا دافئًا..
بعد حينٍ كان يخرج يلف حول خصره منشفته ويقطر بمائه، مشط خصلاته ثم جذب قميصه القطني وقبل ما يصل لرأسه كانت تجذبه من بين أصابعه، وهي ترتفع فوق أصابعها تقبل شفاه بنعومةٍ وتهمس أمامهما بحرارةٍ تناسب أنوثتها:
- مش هتأخر.
قالتها بغمزةٍ عين واختفت داخل دورة المياة، أطلق تنهيدةً بينما قدماه يتحركان ناحية مبتغاه، سحب الجارور الخاص فيه ينبش في داخله عن..
علبة دواء في الظاهر تخصه وفي الداخل تحوي على ما يخص امرأته!
تناول منها قرصًا ثم ألقى به في قعر الكوب الفارغ وصب فوقه المشروب البارد، حينما انتهى ألقى بجسده فوق الفراش بذهنٍ شاردٍ، لم تتأخر وكانت تضم نفسها لصدره، أناملها تداعب تارة ذقنه وأخرى فكه، تثرثر بين ذراعيه كعادتها كل ليلة..
- عملت إيه النهاردة؟
أجابها بفتورٍ:
- ولا حاجة شغل وإجتماعات، إجتماعات وشغل.
- أنا نزلت النادي قابلت الشلة، قضيت وقت جميل.
- شهد مش بتفكري تشتغلي؟
رفعت نفسها قليلًا حتى تبادله النظر، تهمس برفعة كتفين وتجيب سؤاله المباغت:
- تؤ.. مش عايزه حاجة تشغلني عنك يا حبيبي.
- أيوه بس..
قاطعته بسبابة وضعتها فوق ثغره، وعقدة جبينها المصطنعة توبخ بدلال:
- بجد يا نديم أنت مش معقول!
طالعها في صمتٍ..
هل يمكنه القول أنه ملَّ!
ملَّ تلك الروتينية التي تغزو خارطة أيامه حتى احتلتها..
بل ملَّ تلك الزوجة الناعمة المطيعة كالعجين اللين كيفما شكلها بين أصابعه ستكون له ما يريد، يعلم أنها تعشقه بكل وجدانها فنصبته على عرش قلبها وعقلها، بل كل ذرة وخلية فيها تنضح بعشقه، تبغي البقاء أبدًا هائمةً في صحرائه، غارقةً بين موجاته، بل لو أمكنها الإختلاط مع أنفاسه حد التوحد لفعلت!
ترى كيف كانت لتكون حياته مع تلك الأخرى؟
كتلة الطاقة المتحركة.. بل المشتعلة!
وآه حسرة حبسها في نفسه، فالخيال وحده أكثر من كافٍ لتتدفق الدماء إلى أوردته العطشى، كيف إذ لو كانت الآن بين يديه!
- نديم أنت رحت فين!
كان صوتها بمثابة مطرقة من فولاذٍ لأحلام اليقظة خاصته، ليجذب كوب العصير من أعلى الكومود، ناولها إياه وأخذ الآخر، راقبها وهي ترتشف بدورها مستمتعةً ببطءٍ متلذذٍ، تظن بذلك أنها تشاركه طقوسه اليومية التي لا يتخلى عنها ولم تكن تعلم أنه بذلك يمنع عنها حقها في غريزة هي حلم كل امرأةٍ على ظهر الأرض..
لم تكن تعلم أنه يمنع عنها حقها في عَطِيَّة الأمومة!
***
- لسه صاحية!
شددت فوق شالها أكثر وعيناها تبحر مع امتداد الليل البهيم بينما لم يفتر عنها سوى همهمة خافتة لتجاورها أمها فوق المقعد القابع فوق أرضية شرفة غرفتها.. تخللت خصلاتها القصيرة بأناملها في حنوٍ، تحاول جذبها من مستنقع الوجع الذي سقطت فيه قسرًا منذ قرابة الشهرين ويزيد، صغيرتها منذ ما حدث وهي تعتكف داخل غرفتها لا تجالس أحدًا ولا تغادر البيت حتى لمرة واحدة:
- غِنى..
نادتها فلم تخذلها إذ دارت برأسها تواجهها فتستطرد الأولى بشيءٍ من جزعٍ وخوفٍ على مدللتها الصغيرة:
- الحياة ماينفعش تقف ياحبيبتي.
وحين لم يصلها رد سوى التماع دمعات غائرةٍ تناشد هطول تابعت تستطرد الأم بجدية:
- الدراسة مش باقي عليها كتير، لآزم نركز عشان مايحصلش زي السنة اللي فاتت.
رفعت غِنى ركبتيها تضمهما لصدرها وتلقي برأسها عليهما، تعود تبحر ببصرها بعيدًا عن جليستها، هائمةً مع الظلام من جديدٍ بينما شفاها تهمس بفتورٍ:
- مش مهم.
عاتبتها بحدةٍ واستنكارٍ:
- إيه ده المش مهم!.. مستقبلك يا غِنى بقى مش مهم؟
- مش عايزة أتكلم في أي حاجة دلوقت، ممكن تسبيني لوحدي.
انتفضت يسرا من جوارها تزعق فيها تلك المرة ودمعات القهر تهطل فوق وجنتيها علَّها تعي أنها بذلك تفقد حياتها، لو استمرت داخل تلك الشرنقة التي تحبس فيها حالها حتمًا ستفقدها:
- حرام عليكِ أنتِ بتعملي فيا كده ليه؟.. مش كفاية هو راح أنتِ كمان عايزه تضيعي مني!
واستطردت بألمٍ حقيقي:
- ماتوجعيش قلبي يا غِنى.
ران صمتٌ ثقيلٌ قبل ما تصرخ فيها غنى بوجعٍ مستنكرٍ:
- أنتِ إزاي تخبي عني الحقيقة، أنا لآزم أعرف مين دول؟ وعمل إيه عشان يعملوا معاه كده؟!
واستطردت بإصرار:
- حق بابا لآزم يرجع.
مسحت يسرا فوق وجهها في قلة حيلة، فمنذ أصدر الطبيب الشرعي تقريره الأخير بشأن حقيقة وفاة زوجها وكانت حينها الصاعقة..
(سكتة قلبية)
هكذا كان تقرير الطبيب مخالفًا كل الحقائق الأولية والتي تجزم أنه تم قتله مخنوقًا عن عمد، وبقدرة البشر ذوي النفوس الضآلة تحول كل شيء في غضون ساعات لينفى كل ما قيل وتتحد جميع الأدلة مع تقرير الطبيب الأخير.. والآن تغضب ابنتها وتزعق فيها مستنكرة أنها تتعمد إخفاء الحقائق عنها، وهي بالفعل كانت تفعل وماكانت لتخبرها أبدًا لولا أنها سمعتها تتحدث في الأمر عبر الهاتف.
عادت تجاورها وتمسك برأسها بين كفيها تخبرها بإختصار، بل تغلق تلك الصفحة للأبد فهي لن تضحي بولديها فوق ماخسرت:
- افهمي يا غِنى، وضع بابا السياسي كان يحتم عليه التعامل مع ناس كتير.. ناس كتير وحشة.. صدقيني أنا ماعرفهمش لكن أعرف أنهم كانوا عايزين يأذوه عشان رفض يكون زيهم.. الكلام ده مالوش لزوم دلوقت بس عشان تبطلي أسئلة وعشان نقفل الصفحة دي للأبد.
ثم استطردت بعد تنهيدة تخفي خلفها الكثير والكثير من الألم:
- لآزم تعرفي كمان أن بابا الله يرحمه عاش طول حياته يحميكم بروحه.. وأنا دلوقت مش عايزه حاجة من الدنيا دي غير راحتك و سعادتك أنتِ وعمر.. أنتم الباقيين ليا.
ما إن انتهت من كلماتها حتى سألتها ابنتها بعجز وحشرجة:
- هعيش إزاي من غيره؟
بإبهاميها محت دمعاتها المتساقطة، تقدم لها الدعم الذي تحتاج بحنو أمومي:
- عشان تتجاوزي الأزمة دي لآزم تكوني قوية، وقتها هيكون فخور بيكي.
ألقت برأسها فوق صدرها، تنشج بضياع:
- طب ليه هو.. ليه من بين كل الناس يكون هو؟!
شدت على ضمها بقوة وهي تخبرها بنبرة مريرة:
- عشان ده قدر ومالناش يد فيه، إدعي له يا غِنى هو دلوقت مش محتاج حاجة غير الدعاء.
وجوار الدمعات تحررت الألسن تبتهل، تدعو للغائب وتسأل الصبر والسلوان لقلوبهم المعطوبة.
***
مخيفة عجلة الأيام الدائرة في منظومةٍ لا تعطل أو تخطأ
ما كان معك في الأمس قد تفقده اليوم
وما ملكته اليوم ربما لا تجده في الغد
كلًا يدور في فلكٍ لا يحيد عنه أو يميل
إنتفاضة الدقة ورعشة الأطراف توحي باضطراب وحشرجة الأنفاس، لحظة دخوله وازت نهوضها ببطءٍ من فوق المقعد الجلدي الرابض داخل إحدى غرف الضباط.. زيارة خاصة تكفل بها أبيه تحت طلب ورجاء خاص منها، لتنال أخيرًا فرصة لقاء تنفرد به فيها بعيدًا عن جموع المساجين والجنود.. تحاوطه ببصرها، تشمله بنظرة واحدة من أعلى لأسفل، تود الإطمئنان فتصدمها هيئته..
رأس حليق كحال ذقنه وشارب بالكاد يعبر عن وجوده بينما وجهه!
يسكنه التجهم والقتامة..
- حسن..
وازى لهفة نبرتها خطوتها السريعة وهي تلقي بحالها بين ذراعيه، ضمته أم ضمت نفسها له لا تدري، كانت تود أن تهدهد روحها ومن قبلها روحه، لم يخرجها من هالة الشوق التي غمرتها بغتةً برؤيته سوى نبرته الميتة وجسده المتيبس بين يديها:
- إيه اللي جابك؟
بضع ثوانٍ استوعبت فيها معنى كلماته لتبتعد على مهل وعيناها تطالعه فتقابلها نظرته القاسية حد الوحشة وهو يحاول التشبث في حروف كأنها شظايا من زجاج:
- طبعًا هو اللي ساعدك في الزيارة الخاصة دي مش كده؟
أي غباء أتى بها إليه؟ أي حماقة جعلتها تصنع من حالها كيس ملاكمة يفرغ فيه بعضا مما يعتمل بداخله.. صوته الغاضب جعلها تنكس برأسها وهي تجيب بإرتجاف:
- كنت عايزه أشوفك.. أطمن عليك!
يمسك برأسه ويصرخ بجنون من بين ضروسه:
- يعني أنا أرفضه وأنتِ تطلبي منه، يا شيخه عندك ما شفتيني!
ران صمتٌ ثقيلٌ لبرهة رفعت له رأسها من بعدها في صدمة وهمس غير مصدق، متحشرج:
- ماكنتش عايزني آجي يا حسن؟.. مش عايز تشوفني!
أخذ خطوة يوليها فيها ظهره وسخر من حاله، ومنها.. ومن المشهد برمته:
- أشوفك فين؟ أنتِ مش واخده بالك أنا فين ولا ده وقت نمثل فيه غراميات رخيصة!
قاسية كلماته، وسخريته لآذعه..
لكن رؤيته هنا خلف القضبان جعلت فؤادها ينبض بألم، مؤكد ما يمر به لهو من القسوة حتى يتحدث بهكذا هراء، هي عرفته زوج ومن قبلها سكن وملجأ، وحآن دورها أن تكون له ما ينبغي للزوجة أن تكون..
وقفت من خلفه تحط بكفها فوق كتفه وبخفوت همست ببلسم كلماتها علها بذلك تهدأ من نيرانه المشتعلة:
- أزمة وهتعدي يا حسن، أن شاء الله هتعدي.
كبح سخريته تلك المرة داخل نفسه
فبأي عالمٍ تحيا زوجته المصون؟
زوجته!
كان صدى الكلمة يدوي داخل صدره كرصاص يصم الأذنين، اكتفى بجلوس فوق مقعد مجاور وترك لرأسه حرية الغوص بين كفيه يمسح بهما عنه، عله يمسح سواد أيامه بين هذه الجدران..
شعر بأناملها تلامس ركبته بتردد فرفع رأسه يقابل حنو النظرة والبسمة لينتفض من جديد، يدور في المكان دون تركيز وسؤال ظهر لها دون اهتمام حقيقي:
- أمي عامله إيه؟
اقتربت ما إبتعد حتى قابلته في وقفته، والكذب بالشق الأول مباح:
- بتسلم عليك وبتدعي لك دايماً.
شرد فيها للحظات قبل ما يهمس كمن وعى بعد سبات:
- كان غلط..
عقدت جبينها في استفهام لم يطل إذ عاد يستطرد من جديد ويقر بذلك لحاله من قبلها بنبرة البائس:
- جوازنا كان غلط.. ليلة كبيرة ونهاية أتحكم عليها خلاص.
بوردية تناسب سنوات عمرها الفتي كانت تتشبث في أصابعه، تنفي ما تسمع من كلمات وترى من نظرات:
- ده حكم الظالمين، حكم أتعمل عشان يجلد الغلابة اللي زينا وبس.. إنما أنت في عيني برئ حتى لو العالم كله قال عكس ده.
حدجها بحدة!
كانت كلماتها توسمه بالذنب، بتلك الحماقة تثقل عاتقه!
وكان آخر مايحتاج مشاعر مراهقة تمارس طقوس أنوثتها عليه، هو ليس بحاجة لقربها، فقربها لا يجلب له سوى وجع بالرأس هو في غنى عنه.. أبعد يدها برفق وتخطاها في قرار صارم ينهي به تلك الزيارة وما تلاها وأيما فكرة تجوب خاطرها لتعاود الكره:
- ماتفكريش تيجي تاني و إن جيتي مش هقابلك.
ونقل بصره إليها، تثنيه عبراتها النافره من منبعهم عن قسوته التالية ليستبدلها في النهاية بصمت مطبق انتهت به الزيارة.
***
يرتكز بجسده فوق الجدار ويشعل سيجارة جديدة ليحقق بذلك رقم قياسي في غضون ثلاثين دقيقة، يشعر بجهنم مستعر في داخله، يحرق جوفه بالتدخين المفرط، يصاحبه شعور بالغضب امتزج به العجز.. لو فقط يمكنوه من رقبة "حلمي الجمال" بين يديه الآن لكان مزعها عن جسده، الحقير وعده أنه سيعمل على خلاصه في أقرب وقت، أوهمه بأنه يقف في ظهره بل أقسم على أنه لن يحاكم.. عقد وإياه تلك الإتفاقية فور القبض عليه مقايضة على ما بين يديه من أوراق تخص الأول..
والآن ماذا!!
لعنه من جديد في نفسه وهو يتذكر دوي كلماته الأخيرة عبر أذنيه يوم صدر فيه حكم الحبس، أي منذ أسبوع مضى.. وكانت نبرته آنذاك يبطنها خبث يسخر منه ببساطة؛ فما الخوف من رجل قابع خلف القضبان!..
"متحاولش تكلمني تاني أنا راجل العين عليا، وبعدين أربع سنين مش قصة يعني يا أبو علي"
- لنا يوم يا كلب.
كانت قبضته تلكم الجدار بالتوازي مع هسيسه الذي خرج مصبوغًا بالحمم وعلى ما يبدو أن حالته تلك لفتت أنظار من حوله ليبدأ أحدهم إذ يتعمد إغاظته كل حين ما إن حط بينهم، يرمي الحديث الساخر بالرغم من تحذيره مسبقًا عن الإحتكاك به عقب صولات وجولات من الألفاظ النابية التي تراشقها وإياه في أول أيامه:
- صدق اللي قال أصحاب العقول في راحة.
قابل حسن سخريته بفظاظةٍ ونظراته تتحداه في غصب:
- ماتخليك في حالك يابن المضايقه!
صاح الرجل خشن الملامح والنبرة مرحباً بالتحدي بغمزة عين  متوعدة:
- يظهر أنك عايز تتربى عشان يهبط ريشك المنفوش علينا من ساعة ماشرفت يا حيلتها.
رمى حسن بالسيجارة فوق الأرض يدهسها على عجل، يقابل تقدم خطوات الآخر في إصرار وكاد أن ينشب بينهما عراك حامي الوطيس لولا تدخل باقي رواد العنبر، فرقوا بينهما بالقوة بينما بقيت النظرات المتوعده عالقة بينهما لا تهدأ ولا تفتر.
***
كان صدى كلماته يتردد في أذنيها طيلة طريق العودة وسؤال بالقلب ينبض، ماذا كنت تنتظرين من رجل تخنقه القضبان؟..
فيأتي العقل بالإجابة واضحة يشوبها بعض السخرية
يرتمي بين ذراعيك يشكو وحشته؟
أم يفضي لك وجعه ببضع دمعات!
في ركن قصي بداخلها كانت ممتنه لعدم حدوث ما تفكر فيه، كانت لتنهار بدورها، ربما رؤية الوجه الآخر منه في هكذا وضع أفضل بكثير، وبالرغم من وقع كلماته الموجع لم تتألم بشكل يؤذيها، بل جل تفكيرها ينصب على حالته التي يرثى لها، تتفهمه ويضيق صدرها كامرأة كان الفراق قدرها وزوجها.
ترجلت من عربة الأجرة وما إن ولجت لداخل المنزل حتى توقفت متوجسة من تلك النهنهات المكتومة..
حثت الخطى برهبة..
وليتها ما فعلت..
فكأنما المشهد يعيد نفسه بنفسه..
ليلة غادرتها أمها، ترأى الآن نسخة مكررة للمشهد الأصلي!
رأت سماح تنكفأ جوار أمها تتشبث فيها باكية، ترجوها الآ ترحل، تسألها لمن يكون البقاء من بعدها.. تتوسلها ولا تجيب، تقبل كفها البارد فتتحرر الصرخات صخبا ووجعا معلنا عن فراق آت بلا محالة.
وليس كل ما سبق رؤيته ينسب للديجاڤو
هناك..
في زمانٍ ما..
مكانٍ ما..
تحدث عدالة السماء.

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن