(32)
هل جربتم من قبل اختلاط الواقع بالوهم؟
الجهل بماهية ما ترى العين ويشعر القلب..
ظلام
اختناق
صمت موجع لا يكسره غير حشرجة أنفاس متعسرة داخل الحلق،
كان الأمر أشبه بالسقوط في بئر موحش دون قاع وأطراف تحارب الفراغ..
محاولات يائسة تسعى للخلاص تبوء كلها بالفشل، تلك اللحظة التي يجتر فيها العقل ما تبغض وتهرب منه عبر نافذة النسيان..
كان هو بشحمه ولحمه!
بملبسه الرديء وقسماته المخيفة بينما ذراعه الخشن المعطل يرتكن إلى جانبه كما رأته قبل سنوات، ببصر شاخص ونفس مختنق تقهقرت خطوة إلى الخلف، كفيها دون وعي يحيطان ببطنها المنتفخ تحمي طفلها من مجهول لا تعيه، تبغي استغاثة وأحبالها الصوتية التي توقفت عن العمل لا تسعفها في الاستجداء.. وازى خطوتها الوحيدة اقترابه السريع وكانت تلك القشة الأخيرة ليتحرر بعدها صراخ المستغيث وجفنيها يلتقيان في انطباق قوي تهرب فيه إلى ظلمة مشروعة خير من واقع أسود ملموس، تحني جذعها وكفيها يشدان على ضم طفلها بينما يده السليمة تتنازع في خلع حقيبتها عنها وفي خضم رعبها والعويل المذعور لم تصلها كلماته المتعثرة من بين لعابه النافر خارج فمه:
- فلوس.. عاوز فلوس..
كانت خطوات سماح المهرولة إثر صراخها تتسابق حتى تخطت بوابة المتجر فوجدتها تصيح في هلع وعجوز أجعد يحمل صفات الشحاذين في هيئته يعافر كاللصوص في خلع حقيبتها عنها، هاجمته بقوة فكاد أن يسقط ثم سحبتها إليها تهدئ من روعها وتدحر ذعرها الجلي بينما زينب ترشقه بسباب متواصل صاحبه بعض الحصى حتى اختفى قبل تجمهر البعض.
كل ذلك لم يتعدَّ الدقيقتين حسب التوقيت الزمني لكن في توقيتها هي كان الأمر أشبه بكابوس مفزع، كانت تشهق وتغص وتعود تشهق من جديد فتغص مرة أخرى وبصرها شاخص أمامها دون وعي حقيقي، لا ترى ولا تسمع من حولها، اختلط لديها الماضي بالحاضر وزينه الوهم لترتسم داخل مخيلتها أبشع الصور.. لم تستفق إلا على نظرته القريبة المشرئبه بكل ألوان القلق وقوة كفيه المحيطه بكتفيها تجبرها على النظر نحوه بينما يلهث بسؤال مفجوع لهيئتها:
- حصل إيه؟
صدحت نبرة سماح في الأرجاء في شرح مختصر لحالة الذعر التي تتلبسها وأجبرتها على طلبه فجاء من فوره دون تأخير:
- معرفش حرامي ولا سكران رعبها منه لله، ومن وقتها وهي على دي الحال.
وهتفت زوزو تؤكد بفخر لشجاعتها:
- بس انا إديته اللي فيه النصيب.
كانت تبكي في هيستريا وسائر جسدها يرتج حد أن خوفه عليها تضاعف وكفيه يحيطان بوجهها عله يبثها بعض من طمأنينة:
- اهدي محصلش حاجة.. أنتِ كويسة..
ارتفعت أصابعها تلامس ثغرها في ارتجاف وقد تحولت الشهقات لنحيب مكتوم بوعي بدأ يعود لتوه ولسان يتعثر بكلمات بدت كخبال:
- كان هو.. أنا شفته..
لم يستفسر ثلاثتهم عن ماهية ماتقول وترجح الأمر لتوابع ذعرها، أجبرها على نهوض داعما إياها بكلا ذراعيه مقررا بذلك الرحيل، فكل ذلك الخوف الذي يتلبسها ليس بجيد عليها وطفلهما.
هدأت وتيرة ذعرها خلال طريق العودة وقد احتلها الصمت من بعدها، على مهل أجلسها فوق حافة الفراش بحال ظنه أفضل وكانت أصابعه تشرع في فك حجابها حين هتفت بقوة رغم النبرة التي بحت وأصابعها تنشب في لحم ساعده:
- مش مصدقني ليه؟.. بقولك شفته!
صدمه قولها فتوقف يرمقها بغرابة متسائلة:
- هو مين؟
تشنج جسدها في اللحظة وفزعت من جلستها تصيح بهستريا جديدة:
- هو اللي كان عاوز يقتلني.. أنا مش هنسى ملمس إيده على جسمي، مش هنسى شكله، ده أكيد عاوز يأذي ابني.. أنا عارفه..
وكأنها ضربت فوق رأسه بمطرقة من فولاذ، اتبع خطواتها دون حديث وعينيه تضيق فوق قسماتها يتذوق هلعها وذعرها عقب حديثها، انعقد لسانه فصمت. صرخت فيه من جديد وعبراتها تنهمر تغرق وجهها:
- أنتَ مش مصدقني ليه؟!
استفاق على صرختها جاذبا رأسها إلى صدره عنوة ودماغه يكاد ينفجر، أي عبث يحدث؟ ضاقت عيناه في تفكير وكل الأصابع تشير إليه وحده..
ومن غيره أيوب؟
وحده كان يملك حرية التصرف آنذاك..
أطبق جفنيه وضروسه تلتحم فوق بعضها في وعيد، عاد من دوامة شروده إليها فوجدها تتشبث فيه ومازال نحيبها قائم، شد على ضمها ورأسه يعلو رأسها بنظرة شاردة ونبرة قاتمة يكتم بها غضبا مستعرًا لا يناسب حالتها:
- متخافيش، مفيش مخلوق يقدر يأذيكي.. ولا ابني.
***
يبدأ العقاب..
حين تنمو فيك بذرة الذنب فتجلد نفسك بسياط من ندم
بنفس مفعمة بالغضب تقدم يجول ببصره حول مسكنه، شبه بيت قابع أسفل بنيان متهالك كخندق مدفون، نزل بضع درجات مخلخلة حتى وصل للباب الركيك والذي لم يحتاج منه غير ركلة واحدة وانفتح على مصرعه، ما إن دلف حتى وقعت عيناه على جثته المتكومة أسفل الجدار فوق فراش عفن، اتقدت نظراته وخطواته تقترب على مهل.. لم تفلح الساعات الماضية في تهذيبه فهيئتها المذعورة ونحيبها المستمر حتى وهنت وغلبها النعاس بين ذراعيه لم يهدئ من نيران صدره بل كل دقيقة كانت تمر كان يشتعل أكثر ولن يرتاح حتى يفجر في هاته اللحظة كل مايعتمل فيه وحتى يلقن الحقير درسا يتذكره ماتبقى من عمره قبل أن يفكر في الاقتراب من زوجته مرة أخرى..
توقف يتطلع إلى قسماته في قرف أتبعه بركلة عنيفة طالت جانبه وهتافه الجهوري أفزع السكير من سكرته:
- اصحى يا كلب..
انتفض أيوب من رقوده صارخا برأس مثقل من أثر الشراب وصورة مشوشة للواقف يعلوه كطود عظيم ينبعث من خلف نظراته الغضب، ابتلع لعابه في عسر مع عيون مرتعبة ويداه تقتربان حتى جذبه من ياقة قميصه، رطم جسده في الحائط من الخلف ثم صرخ فيه بوحشية وأصابعه تحفر بصمتها فوق وجهه بصفعة زلزلت كيانه:
- رحت لها ليه؟.. عايز منها إيه؟!
وعاد يسحبه إليه ثم يرطمه من جديد غير آبه لعويله المستغيث:
- مش مكفيك اللي عملته.. هاه.. عايز إيه تاني؟
- عايز فل..وس..
وصل أذنيه همسه المبعثر بفزع بينما أنفه زكمتها رائحة الخمر المختلطة بأنفاسه النتنة فرمقه بازدراء قبل ما يقبض على فكه وهسيسه انبعث من بين أنفاس متوعدة:
- طب فوق كده واسمعني عشان لو عرفت أنك قربت منها ولا من أي حد يخصني وديني ماهيكفيني فيك روحك..
ثم نفضه كخرقة بالية فسقط جسده المستغيث فوق زجاجات الشراب الفارغة مصدراً ضجيج وازى خطواته الراحلة.
سحب شهيق مفعم بنسمات الفجر الباردة وجسده يدور ناحية جدار خشن يرتكز عليه بكفيه بينما بصره يعانق الأرض بلهاث متحشرج، لم يرتاح كما ظن، بين ضلوعه يكمن حجر يطبق فوق أنفاسه فأبى ألا يستريح..
- ريس حسن!
التف رأسه ناحية الصوت المألوف فرأى_زعتر_وأسنانه المشوهة تعكس دهشة لقياه، ظل يرمقه لثوان بنظرات جامدة نفث بعدها بضع أنفاس وابتعد عن المكان برمته.
***
- أنا خايفة يامهند.
همستها بضياع وخطوتها تعود إلى الخلف توليه ظهرها، تنأى بحالها عن مرماه، فوق مقعد حديدي مثبت فوق أرض الميناء جلست وبصرها يعانق الأرض المصقلة في كآبة وثقل العبرات داعب الأجفان، عقد حاجبيه وبصره يتبعها حتى سكنت فلم يملك غير التحرك ومشاركتها الجلوس، حين طال صمتها تحركت سبابته والإبهام يرفع ذقنها مجبرا إياها على لقياه فقابله نبع القهوة غائم، حزين.. همس برجاء خفي:
- افتحي لي قلبك..
زاغ بصرها نحو السماء والكلمات تتعثر بعضة شفاه يصحبها غصة مريرة تغلبت عليها بعد لحظات بتنهيدة طويلة ودمعتين غادرتا منبعهم وهطلتا على جانب وجنتيها، نبرتها بالكاد تصل وعيناها تقابل عينيه في شتات مضاعف:
- بتغير للأسوأ يا مهند، بعدت عن كل الناس حتى اصحابي أقرب حد ليا بوظت علاقتي بيهم..
زادت عبراتها مع قسوة القادم في قلة حيلة:
- حتى عمر! مابقتش عارفه اتعامل معاه.
نكست رأسها وظلت تبكي بحرقة وهو على صمته، يراقب خروجها من قمقم الحزن الذي تحبس حالها فيه، يستمع إلى ما يؤرقها ويقضي على مضجعها، تركها حتى هدأت وارتفعت أناملها تمحي بقايا الدمعات بينما بصرها عاد يقابله في تردد إلا أن اللحظة كانت تستدعي كسر ذلك الحاجز علها بعد ذلك تصل لمعنى الراحة الحقيقي:
- بقيت أبعد عن أي حد خايفه أخسره..
وتحرك كفيها في إشارات متعثرة يشاركانها التبرير في انفعال متحشرج:
- الكل بقى شايفني وحشة بس، بس بجد مش هقدر.. مش هقدر أعيش نفس الألم مرة تانية، أني أفقد حد قريب مني.. ده إحساس فظيع.
تمت جملتها فوق صدره، يطوقها بذراعيه في نزعة حمائية خاصة ضد كل ذلك الحزن المتمكن منها، يهديها أمانه، ظهر تحتمي فيه من عراء الدنيا، يمنحها الجزء المنقوص لتكتمل لديها صورة الحياة التي تفتقدها وبشدة.. وهمسه المازح جاء ليبدد سماء الكآبه الغائمة:
- قطع لسان أي حد يقول وحشة، ده أنتِ ست الوحشات كلهم.
أفترت عنها ضحكة صغيرة من بين النحيب ودمدمت رأفة على حاله بهمس حجبه صدره ودقاتها العاصفة من فوقه:
- أنتَ إيه وقعك مع مجنونة زيي؟!
- قلبي.
قالها بتنهيدة وهمس حار فوق أذنها لتبتعد على مهل والأعين لبعضها رهينة، تعض فوق شفتها السفلى بأنفاس مضطربة وقلبٍ عاص يرقص طربا فوق أرض أحزانها، تمتمت في جدية وخجل وأناملها تعود بخصلاتها خلف أذنيها:
- بليز يامهند اسمعني.. أنا واحدة معاقة في مشاعرها، مابتعرفش تتكلم ولا تعبر يعني ممكن مش أنا البنت اللي في خيالك خالص.
- يخربيت كلاكيعك ياشيخه.
- يامهند مابهزرش!
ضحك على عصبيتها اللذيذة قبل ما يجذب كفها ويبقيه بين راحتيه قائلاً بجدية تماثل خاصتها:
- أولاً؛ آسف عشان ماشوفتش خوفك وخضيتك بمشاعري وطلبي المفاجىء، بس أنا كده ماعرفش أشوف حاجة اتمناها واصبر.. وأنا اتمنيتك ياغنى.
انعكست دقة قلبها داخل مقلتيها فلمعتا معا بسحر العشق بينما العاشق يتابع ولا يقل عنها شأناً:
- ثانياً؛ هنكسر كل مخاوفك دي سوا.. ووعد مني هحافظ على المسافة مابينا ونمشيها صحاب ياستي لحد ماتطمني، بس ده مقابل أنك تسيبي لي نفسك عشان نعرف نوصل لبر الأمان.
وقبّل ظاهر كفها بقوة مسترسلا في تنهيده طويلة:
- ثالثاً وأخيراً؛ آخر مرة أرقص مع بنات حلوة غيرك.
لكمت كتفه بقبضة مكورة وغيرتها ترسم فضيحة علنية أمام عينيه الضاحكة بحلاوة تسبي القلب والروح.
تقلبت داخل فراشها الدافىء في تكاسل وعيناها الباسمة لشعاع الشمس النافذ تستدعي ذكرى ليلة البارحة بسحرها الأخاذ لتأخذ شهيقها الحالم ويدها تمتد إلى هاتفها، تتفقد صندوق بريدها وظنها يخبرها أنه هناك.. ولم يخيب؛ فثغرها الذي أشرق بضحكة عذوب خير دليل:
" أنتِ أجازة النهاردة بأمر مني.. الساعة ٨ تكوني لابسه أحلى فستان عندك عشان حضرتي عازم معاليكي على عشاء مفتخر.. صباحك سكر"
***
الجنون قرين الحب
نكهتة اللاذعة..
هكذا يتغنى الشعراء والعشاق، ويترجمها أنس الحاضر بين صفوف محاضرة العقاقير التابعة لكلية الصيدلة والبعيد كل البعد عن مجاله وإنما هو في الأصل يعود لصاحبة العيون الكحيلة.. وعلى ذكر صاحبة العيون مالت برأسها قليلا للخلف تلمح اضطجاعه المستريح بجانب بضع من زملائها كأنه بالفعل ينتمي للصف! عادت تستجدي بضع تركيز ناحية أستاذها في محاولة يائسة للتخلص من الشتات الذي يسببه ذلك الوقح، المتطفل، ال..
ال ماذا يا عائشة؟
نفخت في ضجر وهاتفها فوق ساقها يصدر أزيز يعلن فيه عن وصول رسالة جديدة عبر تطبيق_الواتس أب_:
- محاضرة مملة فعلا.. بس سيبك أنتِ البلوزة الزرقاء هتنطق وتقول ياخراشي!😍
شهقت دون صوت وعيناها تتسع في دهشة بينما تتعرف على هوية المرسل، لم تستطع منع يدها في النقر فوق الحروف بغيظ ووجه مشتعل:
- أنتَ جبت رقمي منين!!
- سرقته من عم عبده حبيبي 😊
- ياااا وقاحتك يا أخي
- ميرسي ياقمر 😘
- شوشو ينفع أعزمك النهاردة على غداء؟ 😋
- لأ
- طب عشاء؟ 😢
- لأااااااااا
- كله لأه لأه.. طب ينفع كده! 💃
ضربت الجهاز بالمنضدة أمامها عقب ما أغلقته للأبد ربما، ورغما عنها تناوش شفتيها تلك الضحكة البلهاء.
لا تدرك كنه مايحدث معها، لكنها تنجذب إليه كفراشة حول وهج النيران، تخجل من الإعتراف حتى لنفسها أنه يفتنها بوقاحته وجرأة كلماته وقد سبق وخطفها بطيفه الذي يلاحقها منذ أن بدأت عامها الجامعي الأول وأتاحت له الفرصة كاملة ببقائها وحدها داخل إحدى بيوت الطلبة بعيدًا عن المزرعة والعيون المراقبة، وكأن هناك من يردعه فحتى عطلة نهاية الأسبوع لابد من حدوث مصادفات غريبة تسقطه في طريقها حد أنها باتت تراه أكثر من وجهها في المرآة وليته يكتفي فها هي تراه داخل الصفوف..
وماذا بعد يا أنس؟
وأنس وقف تحت أشعة الشمس الحارقة ينتظر مغادرتها لأسوار الجامعة في إصرار لايقبل التراجع، سيحدثها وجها لوجه حتى لو اضطر إلى اللجوء لأساليب لا تعجبها.. تخبط النبضات أعلن عن ظهورها أخيراً بينما تمشي وتضاحك رفيقاتها، انتظر حتى ابتعدن عن مرمى الجامعة و اقترب متبسما ملقيا التحية في براءة لا تليق:
- السلام عليكم..
تعالى صخب الصديقات ثم ابتعدن في مؤامرة شريرة منهن تاركين إياها كالفأر المبتل الذي لم يجد خلاصا غير الهرولة بالخطى ناحية مسكنها ودفترها العريض قابع بين أحضانها تحتمي فيه من ماذا؟ لاتدري..
لاحق خطواتها السريعة بأخرى حتى أصبح خلفها لايفصله عنها سوى بضع سنتيمترات ونبرته تعبر أذنيها في وضوح:
- هنقضيها جري وراء بعض كده كتير ياهانم؟
لم ترد، لا صدى غير لهاثها المتعال.. تابع في محاولة جديدة متفكهة:
- دي عزومة غداء بريئة على فكرة بلاش نيتك تحدف شمال.
تأملت خيرًا حين اقتربت من البوابة الرئيسية للبنيان لكن مالبثت أن دلفت حتى توقفت عنوة عقب ما التفت أصابعه حول ساعدها ثم زعق في جدية مزعزعة اتزانها بعقدة حاجبين مصطنعة:
- بس بقى تعبتيني!
صاحت بشراسة ورأسها يتحرك يمنة ويسرة خشية أن يراها أحدا بهكذا وضعية بوهج شمس الظهيرة دون حياء:
- شيل إيدك يا أنس مش ناقصه فضايح!
رفع منظاره الشمسي لأعلى خصلاته وعيناه تضيق فيها حتى حررها ببطء مدمدما في جدية باردة:
- بتهربي مني ليه؟ مابعضش على فكرة..
بادلت مزحته الباردة بهتاف حاد غلبت به كل شعور محتال:
- أنتَ اللي عاوز إيه؟ مش قلت لك أني مخطوبة!.. بجد عيب قوي اللي بيحصل ده.
جذب يمناها في عنف، يرفرف بكفها أمام وجهها الغاضب ويصيح هو بغيظ المحترق:
- فين دبلتك؟ مش شايفها يعني؟.. أنتِ مش مخطوبة يا عيشة بطلي ترددي الأسطوانة الهبلة دي.
خلعت كفها عنوة من بين أصابعه، ترمقه بسخط بينما نظراته لم تختلف عن خاصتها الكثير، بنبرة قانطة كررت سؤالها الخافت والميؤس منه:
- عاوز إيه يا أنس؟
صمت لبرهة اتسعت فيها إبتسامته الجذابة وكأنه آخر غير ذاك الساخط منذ لحظات، أم أنه يعاني من الشيزوفرينيا مثلا؟.. جاء همسه الجدي رغم العبث الناضح من بين نظراته:
- نقول إعجاب متبادل؟.. ومش عايز غير اتأكد اذا كان إحساسي صح ولا غلط، صعبة دي؟
شعرت بالأرض تميد من تحتها فدرات بجسدها تنوي فرار، كانت تلتهم الدرجات في قفزات متتابعه حين دارت برأسها تحدجه بنظرة أخيرة قوية لم يتبين منها شيء قبل ما تختفي من أمامه ليزفر في قنوط.. عاد بنظارته إلى عينيه بينما خطواته تتحرك إلى خارج البناية تصحبه حيرة قاتلة هي رفقيته اليوم والغد وحتى تريحه_أم العيون غزلان_بجواب.
***
تحيا داخل صومعة الانعزال التام منذ ماحدث، شاردة طيلة الوقت داخل شرنقة من صمت أو تهرب من كل هذا بساعات من النوم المتواصل، نفذت كل محاولاته بكسر قوقعتها فلم يجد غير الإتيان بها قسرًا إلى بيت المزرعة عل تغير المكان يأتي بذا نفع معها.
بيت صغير مكون من غرفتين وصالة متوسطة مع المرافق الخاصة، فيه كل مايلزم لنفع العيش ذا طراز كلاسيكي بسيط بألوان في المجمل دافئة تليق بالجو الأشبه بالريفي ها هنا، وربما أكثر مايميزه هو انعزاله عن صخب المدينة وضوضائها الدائمة.. أخبره أنس ذات مرة أن أباه كان يقضي أغلب أيامه بين جدرانه قبل ما توافيه المنية وربما لأجل ذلك لم يرغب مرة في زيارته حتى اقترحت ميسون الفكرة لربما حالتها النفسية تتحسن وتنسى ماحدث.
ينكفئ على حاله يعمل على إصلاح جهاز التلفاز عقب ما فككه وتحول لعدة قطع متناثرة من حوله فأصبح لا يمت لما كان عليه قبلا بصلة بينما هي تجلس ممددة ساقيها أمامها فوق الأرضية المفترشة، بصرها يعانق القمر المضيء عبر النافذة المفتوحة على مصراعيها سامحة بدخول أكبر قدر ممكن من الهواء البارد، من يرى سكونها يظن أنها تناجي القمر في جلسة سمر ساحرة لكن في الحقيقة هي كانت تراقبه في صمت فلم يعد الحكي يفيد.. بعد حين دارت إليه برأسها لتجده مازال على حاله منذ ساعات ينكفئ على الجهاز العاطل في محاولة يائسة لإصلاحه وكأنهما بحاجة إلى تلفاز من الأساس!
كان صمته مختلف بالرغم من سعيه لإخراجها من حالة الانعزال التي تتبعها، رغم ادعائه أن شيئًا لم يحدث، أو أنه بتلك البساطة لجعله يمر دون الوقوف والاهتمام.. كان يهرب!
يهرب من عينيها حين تطيل إليه النظر، يهرب من صمتها المخبىء لبركان من كلمات لن تعود عليهما سوى باللوم وفتح صفحات ماض يأبى ألا يتركهما.
بللت جفاف شفتيها بطرف لسانها مع همس يزحف بالحروف إلى الخارج ولا تدري إلى أين تريد الوصول حتى تسأله سؤال كهذا:
- كنت مبسوط زمان؟
كان وقع السؤال على أذنيه أكثر من كاف ليرفع رأسه عما يفعل ويقابل عينيها بلوم خفي، ذراعيها يلتفان حول بطنها المنتفخ كعادتها مؤخرًا بينما ثوبها الواسع المنقوش يفترش الأرضية من حولها.. ابتلع لعابه في عسر وعاد يتتطلع إلى مابين يديه محررا جواب هادىء.. مختصر:
- كنت مبسوط.
- ودلوقتي؟
عاجلته بآخر أكثر ضراوة عن سابقه، ترك المفك ليسقط ونهض حتى انتهى جالسا قبالتها فوق الأرضية أسفل النافذة المشرعة، سارت أنامله على طول خصلاتها ثم ارتفعت تلامس جانب وجنتها في مداعبة ناعمة قال على أثرها ببحة خاصة يعلم أنها تفعل فيها الأفاعيل:
- دلوقتي عايش.
وكان صادق لدرجة شعرت فيها بلوع مضغتها الساكنة بين الضلوع، هربت بأنفاسها المتقطعة ناحية النافذة تبادل شعاع القمر بلمعة عبرة تمهد للهطول، بينما لسانها حرر كل ما يجول بخاطرها ويكبله قلبها في همس قاتل:
- غلطنا يا حسن، صلحنا الغلط بغلط أكبر.. كان لازم نبعد، القرب مش هيعود علينا غير بالوجع.. لا أنا هنسى ولا أنتَ هتقدر.
لم يرحمها وأصابعه تعود بوجهها إليه يجبرها على لقياه العاصفة بشتى ألوان المشاعر وكلمات تندفع في انفعال:
- أبعد ليه وأنا مش عايز؟
- عشان ده الصح!
صاح في عنف وقبضته تلكم الجدار بجانبه:
- يلعن أبو الصح على الغلط على الحال اللي وصلنا لكده..
ضم ساقيه لقرب صدره ورأسه منكس بينهما، يجذب خصلات شعره ويهتف بسعير من نار منبعه جوفه:
- ياريتني ما وافقتهم، ياريت ماروحت ولا أخدتك يومها..
ورفع رأسه يرمق جنتها الباكية فران صمت ثقيل، حتى همس بمرارة يستكمل جلد الذات بسوط الندم:
- ياريتني ما عرفتك ولا حبيتك..
وكان ذلك أسوء اعتراف بالحب، حمل حاله من بعده ونهض تاركًا البيت بأكمله بينما بقيت هي تلملم شتات الفؤاد المبعثر فوق أرضه..
أي رجل هذا يكون؟
كيف يقتلها ويحييها في ذات اللحظة!
كيف يجعلها تمقته ثم تعود تتنفس بعشقه من جديد؟
نهضت مسيرة تقتفي أثره بأمر من القلب المعذب، واربت الباب المغلق فوجدته يقف على بعد قريب وسط الليل البهيم، يرفع رأسه للسماء الواسعة وكأنما بدوره قرر مناجاة القمر.
اقتربت دون شعور حتى قابلت وقوفه المتصلب فما كان منه إلا أن يدنو برأسه ويلتقي بجنتيها سكناه، لتغوص بدورها في عقيقه الأسود، رأت هناك مستوطنا من الوجع والكثير من الاحتياج..
لا يهم من كان الأسبق في ضم الآخر..
يكفي أن ضمها الولِه وسكونها بين أضلعه أخبره أنها مصابة بلوكيميا العشق وقد شاع الخلل بين ثنايا الروح..
وعنه؛ فشده على خصرها ورأسه السابح في ملكوت جيدها يخبراها في همس خجل أنه مصاب بلعنة من هوى.
![](https://img.wattpad.com/cover/373781970-288-k882364.jpg)
أنت تقرأ
الغنيمة
Romance"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...