الفصل الـ ١٦

110 7 0
                                    

(16)

قالوا أنَّ أصعب الحرام أوله..
ثم يسهل، ثم يستساغ، ثم يؤلف، ثم يحلو، ثم يطبع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرام آخر..
وهنا يبقى السؤال عالقًا؛
هل أضاع الحياة.. أم أضاعته الحياة!
ظل مدة طويلة يقف خلف الفاترينه يتطلع لما وراء زجاجها من حلوى شهية يقطر من فوق طبقاتها المورقه العسل الأبيض وأخرى يجهل إسمها لكنها أكثر من كافية لإسالة لعاب صبي في العاشرة من عمره لايملك ربع ثمنها!.. دفع به صاحب المحل ليبتعد عن واجهة رزقه، وقف على بعد خطوات يحدجه فيها بنظرات ازدراء وغضب، ليقتحم عزلته آنذاك صوت خبيث يهمهم من خلف أذنه بما يشبه الفحيح:
- اللي مايجيبوش جيبك تجيبه إيدك، حتى بص كده..
دار برأسه يطالع هيئته المتشردة في نفور، كان رجلًا متوسط البنية بذراع يرتكن إلى جانبه دون حراك وآخر يحك به في شعر رأسه المغبر، وعقب كلماته المبهمة غمزه بمكر وأبتعد، أخذ يراقبه بفضول متزايد وهو يراه يتسلّل خفية, وبينما ينشغل البائع مع مشترٍ آخر في خفة كان يخطف ما كان يشتهي منذ لحظات ويلقي به داخل جيب معطفه المهترىء دونما أن ينتبه له البائع، عاد له من جديد وظل يطالعه من علو كالظافر بالغنائم وبين فكه يلوك ما استباح لنفسه من حق غير مشروع ودون حديث أكلها كلها ثم غادره في صمت مودعًا إياه بابتسامة صفراء.
ليلة طويلة قضاها يتقلب في مضجعه وقد جفاه النوم وذاكرته تعيد له ما رأى من الرجل غريب الأطوار، وفي اليوم التالي كان يقف على بعد خطوات رابض في ذات مكان الأمس، انتظر حتى أتت الفرصة وتقدم خطوة.. جبن مرة واثنان وفي الثالثة كان يمتلك من الإصرار ما يكفي لاستكمال مانوى وطعم الحلوى الذائب في فمه أنساه مافعل لينالها.
بات ليلته هذه بعطبٍ ما في روحه لم يكن ليستوعبه طفلٌ في مثل عمره لكن مع إشراقة أول صباح كان قد زال كل شعور وضاع مع أدراج الرياح ولم يبقَ سوى الطعم الحلو الذائب فوق لسانه، فأعاد الكرة مرة وثانية وثالثة..
وفي كل مرة كان يسهل الأمر عن سابقيه..
وعينا الذئب المنتشية على مقربة منه، تراقب، توجه، تعلم وتحفز حتى بات مايحدث هو المعتاد..
معتاد حد استساغة النفس وتوالفها معه..
ولم يفت الكثير حتى برع فيما تشبعت به نفسه، بل بدأ يتفنن ويبدع في اختلاق كل ماهو جديد، لم يقف عند قطعة حلوى اشتهتها نفسه في غمرة جوع بل تحولت لأشياء أكثر قيمة، وما أكثر أهمية لدى شاب يخطو في ربوع المراهقة غير المال!..
وكان..
بين زحام مواصلات أو بشر، عجائز يمكُثن بمفردهن ويملكن مال أو بضع مصوغات تجذب أنظاره..
أبدًا لا يغادر خالي الوفاض، لا يخيب ولم تخُنه أصابعه لمرة، في كل مرة كان يحرز أهدافه بظفر ويغادر بغنائمه منتشيًا بالنصر، دونما يتطلع للوراء..
ولذة المال دائمًا تحلو!..
لذة تسربلت بين أوردة الجسد وشرايينه فباتت تجري كمجرى الدم، نفسٌ دونما تدري فتنها الضلال فوسمها الباطل، وعلى أبواب العشرين من عمره كان وهج نجمه يلمع في سماء البغي، لا قيود ولا موانع للمقدام القابع بداخله، عاش بين أهل الترف، أكل مأكلهم وشرب مشربهم ونام فوق أسرتهم، ثمل من الخمر تارة وأخرى من النساء.. عاشر كل طالح فأنساه كل صالح!
حتى طبع فوق القلب وأخذ يبحث عن حرام آخر وآخر..
والعاقبة مع نفسٍ ضاعت عبثًا في الحياة، خسرت استقامتها بعد انحراف عن كل فطرة سليمة فبات البغي والزيغ هما المآل بعد كل اعوجاج.
كان يحتل الزواية يجلس القرفصاء بجسدٍ ينتفض بفعل الرطوبة العالية المائلة لبرودة شتاء يهلل بقدوم قريب في حجز انفرادي عقب ما نال عقوبة مستحقه قبيل تهجمه على سجين آخر بعد تلقيه خبر وفاة أمه. عجز عقله عن استيعاب الأمر وحين حاول ذلك البغيض حك أنفه كحال كل يوم لم يدر بحاله إلا وهو ينقض على رأسه يشبعه باللكمات ولم يكتف فرطمه بالجدار حتى نفرت دماؤه فوجب العقاب وجاء الأمر بإلقائه في الانفرادي لأسبوع كامل، وبدلا من استحضار ذكرى الراحلة كان شريط حياته الأخرى يعرض أمام عينيه متخذا فيها دور البطولة برفقة معلمه "أيوب"، حياة غادرتها ياقوت ولم تعرف عنها أي شيء!
رحلت دونما وداع..
اقتنصها الموت وفي جعبته الكثير كان يود لو أخبرها إياه وبينما غيره ينثر فوق جسدها الثرى جالس هو هنا مكبل بأغلال العجز.
وكأن لتوّه وعي لما تعني كلمة "موت"!
نهض يدور في الغرفة الضيقة حول نفسه في ضياع، بؤبؤا عينيه متحجران في قوة آلمته، صدره يجيش بهمهمات مكتومة، همهمات تحررت بعد حين في لكمات قاسية طالت الباب الحديدي يصحبها صياح مدوي يبغي حرية فتكبله القضبان ويرتد إلى صدر صاحبه كسكين ثالم فما يزيده إلا نصَبا.
***
يحدث أن تثقلك الحياة بكثرة مآسيها
تثقل روحك حتى يشبه شهيقك وزفيرك المخاض العسير
وحينها تقرر أن تسلك أقصر الطرق.. الهرب!
- يعني إيه تمشي يا سماح!
وسماح الشاردة فوق أريكة أمها الراحلة يلفها السواد في ملبسها وعقدة رأسها، تجلس في مكانها الأثير بينما تتمسك بإطار النافذة وتلقي ببصرها ناحية الخارج تبحث في وجوه المارة عن أثر الحياة، فترى السعيد وآخر لايعرف للسعادة سبيل وآخر غلبت الهموم ملامحه فبات تائهًا شاردًا مثلها تماما.. لم تتجاهل السؤال المتعثر بصدمة من الواقفه قبالتها بتحفز ما إن ألقت بخبر رحيلها بغتة دون مقدمات، دارت برأسها ببطء، تخبرتها بنبرة لا حياة فيها:
- يعني هسيب هنا.
طالعتها نسمة في صمت لبرهة جلست بعدها وقد غمرتها المفاجئة وهي تتمتم بصدمة:
- طب أفهم عايزه تروحي فين؟
عادت سماح بوجهها ناحية النافذة النصف مشرعة وهي تخبرها في قرار لا يقبل الجدل:
- مرسى مطروح.
- يعني أنتِ كمان هتسبيني!
لفظتها بصوت متهدج، صوت يعلم أن الخلود للراحة ليس لأمثالها، كيف ترتاح وقد رحل عنها كل غال وحبيب، يتسربلون من بين يديها واحد تلو آخر، كأنها لعنة.. كان آخرهم تلك العجوز التي ضمتها لكنفها وعوضتها عن غياب أمها، لتكون النهاية مع ألم مضاعف، فقدان مضاعف.. يرحلون جميعا تاركين أحزانهم معلقة على أبواب الذاكرة وكلما تعالى رنين الذكرى تعالى ناقوس الحنين وألم الفراق.
أصابتها نبرتها المتهدجة بغضب جعلها تنتفض من جلستها وتصرخ فيها دون مراعاة:
- عايزاني أستنى لحد ما صاحب البيت يطردنا ونترمي في الشارع!
نكست برأسها ولم تجد رد فهي أكثر من تدري بألآعيب صاحب البيت النذل، فمرة يتحدث عن رغبته في ترميم البيت وأخرى يلمح بشدة لحاجته الشديدة إلى مكان يستخدمه كمخزن لبضاعة البقالة خاصته وكل الأصابع تشير لمسكنهم.. وفي الأصل الأمر يعود لكثرة حديث جاب كل بيوت الحارة يمصمصون شفاهم مع خبر الحبس أولاً ثم يضربون كفوفهم عقب خبر الوفاة.. أناس لا يفعلون في يومهم شيء سوى التلصص على حياة الآخرين لمعرفة خباياهم ثم دس بعض البهارات لتكون أكثر إثارة وقبول وقت عرضها على كل فضولي.. ويالهم من كثر!
- كلكم قررتوا تتخلوا عني.
همست نسمة بتشتت، كانت كمن يحدث نفسه.. وكانت تلك القشة التي قسمت ظهر البعير ليعلو صياح سماح بما يجيش في صدرها وقد عجزت عن كبحه:
- أنا تعبت، خلاص مش قادرة، كلام الناس كل يوم يخنقني أكتر..
ثم أخذت شهيق وتابعت في حده:
- عامة أنا مش باخد رأيك ده قرار أخدته والتنفيذ بعد بكره.
حينها لم تفتر شفاه مستمعتها عن حرف وفضلت الصمت بقسمات غلبها الضيق، فلم تملك أمام ضعفها وقلة حيلتها سوى استطرادة جديدة تعني كل مافيها بصدق:
- تعالي معايا أنا هكلم صاحبة المطعم عشان تشغلك، خلينا نبدأ حياة جديدة بعيد عن الهم والقرف بتاع هنا.
تحررت كلماتها أخيرًا في استنكار:
- وأسيب دراستي اللي هتبدأ كمان أسبوع؟.. طيب وحسن! أسيبه أزاي وأبعد كل ده؟
أشاحت لها سماح بذراعها ساخرة وراحت تعود لجلستها الأولى:
- خلاص خليكي مكانك وغني ظلموه.. أنتِ حره وأنا حره.. ومن اللحظة دي كل واحد مسؤول عن نفسه.
بغضب كانت تنهض لتهتف فيها من علو، فأي أخوة تلك التي تربط بينها وشقيقها.. بأحقية زوجة كانت تدافع:
- ليه قسوتك دي؟ لا فكرتي تزوريه ولا حتى سألتي عنه من يوم ما اتحاكم ودلوقتي تقولي نسيب هنا، ناسيه إنه مالوش غيرنا.. ليه كده يا سماح!
دونما تنظر لها كانت تدمدم في سخرية مريرة:
- خدنا إيه يعني من الحنية غير وجع القلب.
جملتها وازت إغلاق النافذة المشرعه تكتم بذلك أصوات الصخب القائم في الخارج، فاليوم يحتفل "عادل" بخطبته على "ابنة الجزار".. طبيبة مثله ويليقان ببعضهما البعض ولا عزاء للقلب المكلوم.. غناء ورقص و أضواء ملونة تبهج الحارة من أولها لآخرها، كل هذا ولم يفت على وفاة أمها غير أسبوعين.. أسبوعين لم يقدم لها فيهم واجب العزاء حتى وإن كان من باب الجيرة والعشرة..
لم يحترم لها حبًا ولم يقدر لها حزنًا
فبورك بلعنات القلب المغدور.
***
تدور داخل ساقية العمل دون كلل، تحاول وتبذل أقصى مجهود ممكن حتى يلمح نجمها وسط السماء الملبدة، يجب أن تكون على قدر المسؤولية التي حملتها فوق عاتقها، وحدها أصبحت فوق الطريق بعد وعكة أبيها الأخيرة، وعلى مايبدو ليس له بعدها قيام، كيف يكون وهو يدفن حاله في شرنقة الذنب؟ بل يقضي أيامه وحيد، حبيس غرفته في عقاب خاص كأنما يقوم بعملية جلد للذات، جميع محاولاتها وأخيها باءت بالفشل ومن قبلهم أمها، فقط يهتم بشؤون ابنه السجين ويكرس جل معارفه وقدراته الممكنة في سبيل راحته، هي لا تلومه لكنها تضيق ذرعا من تلك الحالة التي تحلق فوق أيامهم بقتامة خانقة، لو فقط يجهر بسره وما يخبئه عنهم لربما ساعدته حتى يرتاح وكانوا ليرتاحوا جميعا حينها.
تحيط بها الأوراق من كل جانب، بصرها يتحرك كل ثانية تباعًا لأخرى فيما بينهم بينما تدمدم لمساعدتها عبر الهاتف:
- سميرة اطلبي لي المعمل، وصليني برئيس العمال بعد إذنك.
وعودة لما بين يديها، تدقق هذا وتعيد ذاك حتى اقتحمت سميرة خلوتها بعد حين في كلمات أكثر من كافية لتجمد جميع أطرافها:
- أستاذ نديم بره، عايز يقابلك حالا؟!
وسميرة امرأة بقسمات هادئة أقرب للطبيعة، لها بها صلة قرابة بعيدة توطدت أكثر عقب عملها معهم منذ خمس سنوات لتصبح في خانة الصديقة قبل كونها مديرة مكتبها وهذا منحها مكانة مؤكد تسمح لها بزجرها وكسر الرسميات وقتما تشرد ولا تلقى منها جواب:
- هاااي ميسون.. أنتِ يا بنتي، بقولك نديم نصار بره وعايز يدخل حالا.. أقوله إيه؟
- خليه يدخل.
هكذا لفظتها بهدوء تبعها شهيق عسير ورسمية أحضرتها قسرًا بينما تنهض في كياسة ترحب بقدومه بابتسامة عملية وجملة تشبهها:
- أهلا مستر نديم، اتفضل.
ولم يكن ليكتفي بسلام عابر إذ مد بكفه ناحيتها وعيناه مركزة داخل عينيها، لم تجد بديلا عن مصافحة سريعة عقبها جلوس، ترتدي منظارها المؤطر الذي يمنح عمليتها الباردة في عينه جاذبية أكبر.. دمدمت بثقة لطالما كانت تليق بها:
- بصراحة كنا محتاجين نوصل لك، في شوية تفاصيل مهمة تخص الشحنة الجاية.. بس طبعًا ماكنش ينفع نزعجك في الهاني مون.
سبت حالها بداخلها على ما تفوهت به في ختام جملتها، ماكان عليها التطرق لهذا وإن بدا الأمر عاديًا.. استطردت من جديد تبغي بذلك تشويش عما سبق وبين يديها ملف ورقي تشير نحوه:
- هنا هتلاقي كل التفاصيل و...
- وحشتيني.
تحشرجت أنفاسها كمن يركض في مارثون حامي الوطيس وتبعثرت خلجاتها بينما تحدجه بنظرة المصعوق، حاولت لملمة بعثرتها وهي تبتلع لعابها لكن نبرتها كانت لاهثه و كلمته  تطن في أذنيها بقوة.. ومع ذلك تابعت بثبات مصطنع كأنما لم يتلفظ بأيما هراء:
- في كمان بعض الاقتراحات أتمنى تشوفها.
وفعلته التالية تخطت كل توقعاتها كأنما بزواجه دك كل ما بينهما من حواجز ولم يخلق واحد أكثر صلادة إذ نهض بغته ودار حول المكتب، ارتكز بكفيه فوق حافته ومال ناحيتها، أنفاسه القريبة الحارة غلفها بحرارة العاطفة:
- بتهربي مني ولا من نفسك؟
مع كل حرف كانت أنفاسه تختلط بعبقها، يشم ويعبق روحه بأريجها فيذوب عشقا.. وشوقا!
مال يقترب أكثر من منبع فتنتها، يطوع شذرات الزيتون لملك نظراته ويهمس أمام شفتيها بنبرة مذبوحة:
- إزاي قادرة تدوسي على كل اللي بينا بسهولة كده؟
ومال جانب فمه بسخرية مريرة:
- عرفيني الطريقة يمكن أقدر أعمل زيك.
لا تنكر أنه بحرارة كلماته استضعف ثقتها وتهشمت قوتها الواهية وهي تترجاه بخفوت مرتجف بعد ما هربت من أسر نظراته بإغماضة عين:
- قصدك اللي كان بينا يا نديم، احنا وصلنا لمفترق مفيش فيه طريق واحد ممكن يجمع مابينا تاني.. خلينا نعتبرها محطة في حياتنا، مجرد محطة لجأنا لها في وقت غلط ودلوقت كل شيء رجع لمساره الصحيح.
ودارت برأسها للجهة الأخرى، تبتعد عن مرمى أنفاسه وتزيل الحكاية التعيسة بشذرات من السعادة الكاذبة:
- صحيح تبادلنا وقتها مشاعر حلوة بس أكيد الوقت كفيل بتحويلها لذكرى.. وحقيقي من قلبي بتمنى لك كل السعادة مع مراتك.
هدير أنفاسه أخبرها أنه محموم بقربها، ملعون قلبه بعشقها، وعليل جسده بحرمانه منها، بينما الجنون يسكن دماغه ويغذيه الوهم.. أخذ يلف حول سبابته خصلة من شعرها، يهذر لها كأنما يحادثها هي لا صاحبتها:
- مافيش حاجة خلصت.. مش من حقك تحرمينا من السعادة، مش بكلمة ممكن تموت المشاعر..
وصمت لبرهة تابع بعدها وشفاه تلثم خصلتها الملتفه حول سبابته بهمس خاص:
- مستحيل أسمح لها تموت!
مع نهاية كلماته كانت تستفيق لترى حالها بأي وضع صارت، دفعت كفه عنها بكل قوتها، تقطع وصاله الذي هشم تماسكها للحظات لتفيق على صفعة جديدة.. خبال.. حتما ما يحدث ليس إلا خبال.. تسابقت أصابعها في استدعاء مديرة مكتبها، يجب قطع ذلك الحوار الدائر فعلى ما يبدو الماثل أمامها بكل هدوء مازال في جعبته الكثير وعلى أتم أستعداد لعرضه.. وكان كذلك حين اعتدل في وقوفه ، يدمدم لها من علو بإصرار وفجور أكبر من سابقيه:
- خدي وقتك، أنا راجل نفسي طويل.. لكن خلينا متفقين أن آخرة عنادك هتكون بين إيديا.
- بره.. اطلع بره!!
كانت تصرخ فيه وتصم أذنيها بكلا كفيها في رفض قاطع لكل مايتفوه به من هراء بينما هو كان وداعه نظرة عشق خالصة! ليغادر بعدها بهدوء تاركًا من خلفه زوبعة أثارها بحضوره ومجون كلماته.. طالعتها سميرة التي اقتحمت الغرفة عقب رحيل الآخر لتتعجب من هيئتها الثائرة وعيناها التي تشرد نحو الفراغ.. ما حدث لتو لن تسمح ولن تقبل بتكراره مرة أخرى.. جزء من العقل يأمرها بفض تلك الشراكة اللعينة في التو واللحظة، والجزء الآخر يذكرها بقيمة الشرط الجزائي المزين للعقود والذي يعني ضربة في مقتل لكيان الشركة في ظل هذه الأيام، بينما جزء ثالث والأكثر اشتعالا كان يصرخ فيها  غاضبا، يسألها بالله؛ كيف أغرمت بهكذا رجل!
***
- يارب تكون عجبتك الأوضة يا سماح؟
- حلوة قوي.
تبسمت لها المرأة ببشاشة وخطواتها تتحرك ناحية النافذة العريضة، تزيح البرادي جانبا وتهتف بابتهاج:
- المنظر من هنا يرد الروح، منك للبحر على طول، أنا فضيتها لك مخصوص على فكرة بعد ما ماما بلغتني، والله يا سماح من فرحتي ماكنت مصدقه.
همست في حرج:
- تسلمي يا ست هنادي.
عادت تقابلها في وقفتها تحط بكفها فوق ساعدها في دعم:
- ارتاحي من المشوار ووقت ما تكوني جاهزة المطعم كله هينور بوجودك.
لطالما كانت معها سيدة أنيقة اللسان والحديث، شكرتها بشبح ابتسامة مغمغمة:
- من بكرة إن شاء الله هكون جاهزة.
- زي ما تحبي يا حبيبتي.. أنا موصية لك على غداء هيجيلك دلوقت وعلى فكرة شريف بيقولك حمدالله على السلامة.. أصل من كتر كلامي عنك بقى متحمس يشوفك.
- ربنا يخليكوا لبعض ويعوض عليكم بالخلف الصالح.
- يارب يا سماح يارب.
رمقت هنادي حزنها البادي على قسامتها بالرغم من محاولاتها لتغير مزاجها لكنها ليست تلك الشابة التي تدب حيوية ونشاط لطالما عرفتهما فيها.. همست أخيرًا في شيء من مواساة:
- شدي حيلك يا سماح.
بصوت مبحوح:
- على الله.
وتعالي رنين هاتف سماح جعلها تستأذن بأدب:
- أسيبك ترتاحي بقى.
تنهدت عقب رحيلها، تلقي بصرها فوق شاشة الهاتف لتلتقط هوية المتصل، ولم تجد غير الرد المقتضب فهو لن يصمت إن لم تفعل.. باتت تعلم:
- أيوه.. لأ وصلت من شوية.. متشكرة.
وحينها وصلتها نبرته بعد صمت قائلا في تردد خافت:
" تسمحي لي يا بنتي أطمن عليكِ من وقت للتاني؟"
وهي متعبة بحق وليست بها طاقة لمشادة هاتفية مع المدعو أبيها، الذي بات يزعجها كل يوم وآخر منذ رحيل أمها عنها باتصالات غير منتهية يبغي الاطمئنان عليها كما يدعي لذا ردت باختصار، تختصر بذلك اتصاله الثقيل:
- ماشي.
أنهت المكالمة بشهيق طويل، تلقي بالهاتف جانبًا وترتكن عند النافذة لتهيم مع زرقة البحر الساحرة على مداد البصر.. هي لا تحتاج في مثل هذا العمر لعطف أبوي يقتحم حياتها ويفترض بها أن ترحب مسرورة.. ماذا عن تلك الغصة القابعة بداخلها؟ غصة تمنعها من القبول أو المهادنة، هي لا تريد قربه ولا شفقته ولا أي شيء آخر، جل ما تريد هو تركها لحال سبيلها فهي كفيلة بتولي زمام أمورها.
هدأت نفسها بالحديث معها،  فمنذ محاولاته الحثيثه هو وزوجة أخيها في إقناعها بالعزوف عن قرارها وهي تتشبث عنادًا وغضبًا من كلاهما، كلٌ يبحث عن راحته.. وماذا عنها! آلا يفكرون بها لوهلة، آلا يشعرون بذلك القيد الذي يزيد من خناقه حول أنفاسها؟.. نفخت في ضجر تلك المرة وهي تتلفت من حولها تستكشف حياتها الجديدة، تلك البداية التي قررتها لنفسها وخطت أولى خطواتها بكل إرادة تامة.
وبينما هي تتهادى في خطاها كان على الجهة الأخرى شقيقها الغائب قابع فوق الأرضية الصلدة، تعانق أصابعه سيجارة باتت خليلة أيامه فلا يفارقها ولا تفارقه في حين يتخذ من الصمت مسلكًا، حداد افتراضي التزم به وساعده في ذلك نقله من الزنزانة الأولى لأخرى أقل أنفار، تخلو من أي مضايقات ومشاحنات بينه وأحد، فقط يحيا أيام نهارها مثل لياليها بات لا يفرق بينهما..
- شاي؟
قالها رجل ثلاثيني وهو يمد بها كفه محاولا بذلك مد جسر للتواصل، أخذها منه مع إيماءه صامته ليتركه بعدها الرجل ينعم بصمته الذي يقدسه بينما هو كان يتحين لحظة خلود الجميع إلى مهاجعهم حتى تلتقط أنامله ببطء مظروف ورقي كان قد حشره بين ملابسه حين تقدم منه أحد الجنود وقت فترة الغذاء في الخفاء وقام بدسه خفية داخل كفه بينما يهمس له سريعاً بغمزة عين قبل ابتعاد:
"متخليش حد ياخد باله وأنا أوعدك هظبطك"
ولأنه يجهل مايحدث ومايخفيه ذلك المظروف الذي جاء إليه في السر ويحمل اسمه من الخارج عبر جندي يثير في نفسه القلق قبل الفضول..
تتطلع من حوله قبل ما يفض مافيه ويبدأ في قراءة فحواه
" السلام عليكم.. مستغرب؟ ولا صدقت أنك لما تقولي ماتجيش تاني وبعدها ترفض تقابلني كده تبقى خلصت مني!..
حاجبيه إرتفعا دون إرداة مع بسمة متهكمة أفترت عنها شفتاه وقد غلبته الدهشة من فعلة زوجته الغير متوقعه أبدًا.. ومن غيرها سيكون؟.. أكدها لنفسه وهويسحب شهيق طويل من عبق دخانه ويلفظ زفير أطول بينما عيناه عادت تمر فوق السطور من جديد..
" عامل إيه؟ عايش ازاي، مرتاح؟.. سؤال عبيط عارفة بس أنا قلقانه عليك وأنت مش عايز تطمني، وعشان كده قررت إني أكتب لك مرة و اتنين وتلاته ولحد ما تخرج.. أنا هفضل جنبك ومش هسيبك لوحدك.. تعرف! أنت مش هتصدق أنا قاعده فين دلوقتي وأنا بكتب لك.. أنا فوق السطوح.. في أوضتك.. متخيل!..
مع سطرها الأخير كان جسده يتحفز في جلسته ويتمعن نظره فيما بين يديه بتركيز أكبر عن سابقيه..
" صاحب البيت بيستهبل ولمح أكتر من مرة عشان نسيب الشقة بعد وفاة ماما ياقوت وسماح قالت نمشي بكرامتنا أفضل، ولما جيت هنا وقابلت صاحب البيت الراجل طلع أصيل ووافق على طول بعد ما شاف قسيمة الجواز.. الدنيا دي غريبة قوي مش كده؟.. مين كان يصدق إني في يوم أرجع للمكان ده برجليا!.. مين كان يصدق إن بعد كل اللي عشناه في الآخر يجمعنا طريق واحد.. هتصدقني لو قلت لك أنا ساعات مابصدقش و أفضل أقول لنفسي أن ده كله هيطلع حلم.. صحيح قبل ما أنسى أنا لقيت شغل كويس مناسب مع الدراسة هبقى أحكي لك عنه المرة الجاية.. خلي بالك من نفسك يا حسن وكفاية سجاير بالله.."
نسمة

الغنيمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن