(24)
بين خصام القلب والعقل تحدث الويلات
تائهة بين دروب الحياة، ضائعة فوق مفترق طرق لا تعلم من أين الذهاب ولا كيف يكون الإياب.. حينها أخذتها قدماها حيث نهاية المطاف..
إلى الأمان والسند الراحلين..
فوق قبريهما قضت نهارها كله، بكت كما لم تبكِ من قبل، عندهما ألقت بوجيعتها وأثقال روحها المتعبة..
تشعر كأنما الكون بكل اتساعه يضيق من حولها..
لم تكن قبلًا خامدة الروح، لم تكن أبدًا مكسورة النفس هكذا..
لم تشعر باليتم كما تشعر اليوم..
تشعر بحالها كأنها منبوذة من رحم الحياة!
هذه ليست هي..
لم تكن يومًا هشة..
من قلب الضعف كانت تولد قوة وصلابة بل وعزيمة..
يفسدها هو..
يحيلها لخراب لم تكنه يومًا..
يقتات على كل مافيها ولن يتركها حتى تكون خراب يماثله..
- أنتِ كويسة يا نسمة؟
كان القلق والنبرة لغنى التي تفاجأت بحضورها عقب عودتها بفترة قصيرة، إستقبلتها ورحبت بلقياها التي تضائلت كثيرًا عقب عودة زوجها الغائب.. وصلتها هزة رأس تعني"نعم" لم تستسغها وهي تقترب حتى جاورتها فوق أريكة غرفتها عاقدة ساقيها من تحتها، تفرست ملامح وجهها في صمت ثم مدت كفها تمسد جانب وجنتها مع نبرة بانت مهتمة:
- أنتِ معيطة صح؟..
حاولت نسمة التكفل ببسمة صغيرة إلا أنها فشلت بينما تهمس لها دون حياة بعد حين:
- غنى؛ في مشكلة لو نمت عندك الليلة؟
نبرتها المتهدجة بضيق جعلتها من فورها تجذبها إليها تضمها برفق، تمسد ظهرها وتهتف بحب شديد:
- طبعًا يا نسمة طبعًا ومن غير ما تستأذني أصلًا، بس أنتِ كده قلقتيني أكتر! قولي مالك عشان خاطري.. متخانقة مع حسن صح؟
ولأنها على يقين أنها لن تتركها في سلام، وافقتها الظن:
- خناقة عادية ماتشغليش بالك.
قدرت مساحتها الخاصة وهي تدير دفة الحوار محاولة طرد المزاج الغائم لكلتيهما وتهمس بحماس فاتر:
- مبسوطة أننا هنام سوا، وحشتني أيام ماكنا صغيرين.
تبسمت الأخرى للحنين:
- ياريت فضلنا صغيرين.
بعد فترة كانتا تتشاركان الفراش في صمت ثقيل يطبق فوق الصدور، ساكنة الأجساد بينما العقول تبحر نحو البعيد.. دونما حراك همست نسمة دون مقدمات محاولة بذلك نسيان أمرها:
- مامتك ماغلطتش يا غنى، والخصام مش حل ياريت تسمعي لها.. في النهاية لازم تفهمي أن دي حياتها ومن حقها تختار تكملها إزاي ومع مين.
ظنتها لم تسمعها حتى همست بالكاد بعد حين:
- مش عارفة أستوعب يانسمة عشان أفهم.. إزاي كانت تحب بابا كل الحب ده وتقدر تكون لراجل غيره!
- ماينفعش نلومها عشان بتفكر في نفسها، هي مش حكر ليكم، أنتِ بكره تكون لك حياتك وتنشغلي عنها، وعمر هيكبر ويشوف حياته هو كمان وفجأة تلاقي نفسها وحيدة.. حقها تخاف.
مالت ناحيتها برأسها والاستنكار حليفها، تهدج صوتها مع دمعتين يتيمتين:
- بس ده شهاب يا نسمة!
مالت على جانبها هي الأخرى حتى واجهتها، تمسح لها دمعتيها بالإبهام ولسانها يهمس في مؤازرة:
- ماتجيش عليها بزيادة يا غنى، اللى راح كان جوزها قبل مايكون باباكي.. الحياة مابتقفش وهي عمرها ما تفكر تشتري سعادتها على حسابكم، بس كده أنتِ اللي بتشتري راحتك على حسابها.
تنهدت بعمق قبل ما تومىء لها برأسها في تفهم لما تقول، بعد حين كانت تغط في سبات عميق بينما غريبة الدار ساهره حتى مطلع الفجر، حركتها لا تهدأ كأنما تتقلب فوق جمر متقد، كم عاشت بين جدران هذا المكان؟..
سنوات عمرها تقريبًا.
مابالها إذن تكتنفها الغربة!
كأنها لم تنتمي له يومًا ولم تكن لها ذكرى بين زواياه.. ببطء إعتدلت جالسة، تطلعت لمجاورتها رأتها غارقة في نعاس هجرها، جذبت حقيبة يدها الموضوعة جانبًا و بأصابع مترددة أخرجت هاتفها المغلق منذ الصباح، تنظر إليه في حيرة، ترى ماذا يفعل الآن؟ ولأي مدى وصل غضبه!..
حسنًا..
فليغضب أويذهب للجحيم لو أراد، هي لا تخافه، لن يرهبها صوته العالي ولا تبجحه طيلة الوقت، لن تكون أسيرة لأفكاره المختلة فقد كبرت على كونها تلك الفتاة الساذجة العالقة بين أصابعه يحركها كيفما يريد وقتما يشاء..
أمسكت برأسها بين أصابعها تسحب لجام أفكارها المتخبطة..
جنون..
والله ما تحياه لهو الجنون بعينه..
حسمت حيرتها أخيرًا وأصابعها تقوم بفتح الجهاز في شجاعة قلما تتخذها، والحيرة تصاعدت لقلق وهي ترى عدد ليس بهين من مكالمات ورسائل واردة أدركت من فحواها أنه صاحبها!
برز الخوف رغما عنها وهي تبتلع لعابها في عسر إذ توقف بوسط حلقها حتى غصت وهي ترى الشاشة المسطحة تضيء بالرقم نفسه، ثوان فقط تخبط فيها عقلها بين تجاهل وبين الرد حتى لا يظن أنها تخافه..
في النهاية؛ حسم إبهامها الأمر واستجاب!
***
كان على حاله يعتصر شعره القصير بين قبضتيه حين أضاء جهازه الساكن معلنا عن وصول رسالة جديدة، جذبه في لهفة وفتحها بأصابع متعثرة ليرى الكلمات المنمقة تخبره أن الرقم الذي قام بطلبه سابقًا متاح الآن، سحب شهيق دون زفير يعيد الإتصال من فوره رافعًا الهاتف فوق أذنه ليصدح الرنين متتاليا ويخرج الزفير الحار أخيرًا مصاحبا لدقات قلبه الهادره.. ثوان قليلة وكان الخط يفتح عبر الطرف الآخر وكانت تلك القشة التي نفذ بعدها صمته وهو ينتصب واقفاً بغتة بينما صوته يهدر في شبه صراخ إخترق أذنيها عبر الشبكات:
- أنتِ فين؟!
كان جسده ينتفض بإنفعال ثبته بكف قبض فوق حافة المائدة في إنتظار طال حتى إنبثق صوتها المهتز كاسرا الصمت في جواب خافت:
- بايته عند غنى..
قطع الإتصال بعد ماحصل على مراده، لم يكن بحاجة لأكثر من ذلك ليحمل حاله وينطلق من فوره حيث هي..
كانت نيرانه الداخلية تضطرم أكثر كلما إنطوت المسافة وإقترب، نيران غضب لوثها خوفه السابق وحينما خمد الخوف بصوتها زاد غضبه أضعاف مضاعفة، الغبية الحمقاء لما تسعى دائما لإخراج اسوأ مافيه!..
وصل في وقت قياسي مصدراً ضجيج عالي في هكذا توقيت حرج، تجاهله وهو يسحب هاتفه ليعاود بها الإتصال، لم يصله رد تلك المرة فزاد جنونه وهو ينقر فوق بضعة حروف ليرسل لها من فوره رسالة مقتضبة أحرفها تتحداها العصيان..
" قدامك عشر دقايق وتنزلي ولا تحبي أطلع أجيبك بنفسي؟!"
هدأ حاله منتظراً حين تأكد من وصولها بل وقراءتها، لم يمض على ذلك عشر ثوان وكان ستار إحدى النوافذ ينزاح ليلمح شبح ظلها من خلف الزجاج، وكان بوق السيارة الذي أطلقه لها مزمجرًا خير دليل على وجوده.. قبل إنتهاء الدقائق المطلوبة ظهرت أمامه تخطو بعرج خفيف، قفز من السيارة صافقا بابها مع إقترابها بينما كانت هي تتقدم دونما توجه له نظرة محاولة السيطرة على عرقها النابض في عنقها، فمنذ أن قطع اتصاله في وجهها ليعقبه بعد دقائق برسالته البغيضة وهي تكتنفها حالة من القهر ممزوجة بالعجز، من عساه يردع هذا المخلوق وهو لا يخاف فضيحة ولا يخشى لومة لآئم!
توقفت على بعد سنتيمترات قليلة، رفعت بعدها رأسها تحدجه عينيها بخواء لتراه مكفهر الوجه في وقفته المتحفزة، يداه تتكور بجانبه بينما ترميها عيناه بسم النظرات، لم تتحرك ظلت على حالها تدعي الثبات وهي تطبق بأصابعها فوق جلد حقيبتها في حين تقدم يسحبها بقوة كادت أن تسقطها أرضًا، يدفع بها داخل السيارة دون حديث، دار بعدها وإحتل مقعد السائق وصرير العجلات رافق وعيده المشتعل برأس يهتز:
- اللي حصل الليلة مش هيعدي على خير.
وظل طول طريق العودة يرغي ويزبد مع نفسه بينما هي منكمشة الجسد داخل المقعد المجاور برأس منكس، تستمع لوعيده ثم وصلته التالية بصمت تام ودموع مكبوحة تحرق الأجفان..
تحفظ كل كلمة يلفظها فيرتد صداها داخل صدرها، تموج الأحرف بين حنايا الروح فتسقط دمعة خائنة تقطعها من فورها.. حين وصلا لم تترجل كما فعلت بالأمس بل ظلت ساكنة على حالها حتى ترجل هو وخلعها من مكمنها قسرًا ثم سحبها من خلفه، كانت تحملق فيه من الخلف بينما تحاول مجارات خطواته الواسعة دون الشعور بجرح قدمها وهي تسأل نفسها.. ما التالي؟
أي نوع من العقاب ينوي، هل سيضربها أم الأمر فيه إحتمالات أخرى تناسب مزاجيته الماجنة تلك!.. إستفاقت على دوي صفق الباب من خلفهم ونخر أصابعة داخل لحم كتفيها، يهزها بعنف صارخاً في وجهها:
- أنتِ عايزه تجننيني!
لم تدر لما إختارت عينيها تلك اللحظة لتخذلها أمامه وتسقط دمعاتها واحدة تلو أخرى حتى أغرقت وجهها.. كان فاقداً لرشده وهو يهزها بذلك العنف وأصابعة الناشبة في لحمها دون رحمة بينما يهدر فيها بأعصاب منفلته، لتتيه الكلمات مع غزارة عبراتها في تشتت وعيناه تطوف فوق صفحة وجهها الحزين:
- أنتِ.. أنتِ..
- أنا مخنووووقة!
صرخت بها عبر جوفها المحترق وهي تنفجر باكية لتجمد حركته ويصمت لسانه عن الهذر، إختلطت أنفاسه المتقطعة مع إنهيارها الحاد في حين أربكه نحيبها المتعالي رغمًا عنها، حاولت تخليص نفسها من بين كفيه إلا أن قبضتاه إشتدتا أكثر بينما يسحبها لصدره عنوة، مقاومتها الواهنة لم تزد إلا من تطويق جسدها أكثر بكلا ذراعيه يمنع عنها كل رفض متاح، فما كان منها غير أن تستكين لتبكي أكثر وأصابعها تعتصر قميصه عند موضع قلبه في قهر..
تهرب منه إليه..
تشكو حالها فيه..
هو من خبأ مشاعره في حجرة مظلمة من قلبه حتى فسدت!
ولم تكن تدري بفعلتها تلك أنها أصابته في مقتل، ضاقت أنفاسه وقبضتها المكورة تزيد من حوله الخناق حد هروب النبض، لم يشعر بحاله وضمته تشتد أكثر، رأسه يميل إلى عنقها يخبأها هناك باحثًا فيها عن حياة.
***
يدب فيها النشاط وهي تتحرك ريحة وجيئة، أنهت تنظيف وترتيب الشقة صباحا للتتفرغ بعدها لإعداد طعام الغذاء، فاليوم هو الجمعة يوم العائلة الأسبوعي.. كان النهار صاخبا بحضور شقيقتاه وصغارهم، وفي المساء حضر الزوجان وبرفقتهم كانت حماة الكبرى، جاءت بصحبة ولدها لتقديم المباركة المتأخرة..
وبينما يجتمع الرجال في حجرة الصالون كان نسوة البيت يحتلون البهو ويرحبون أحر ترحيب بالضيفة الكريمة.. كانت تجهز فناجين التقديم حين أجفلها وقطع تركيزها المتابع للقهوة فوق الموقد، لتسبقه بالحديث:
- خمسة والقهوة تكون جاهزة.
همهم بإرهاق بينما يرتكز بجسده فوق حافة الرخام، إرتفعا ذراعاه يدلك بهما عنقه المتعب، لتعاجلة من جديد بنبرة قلقه:
- تعبان؟
- شوية إرهاق بس.
غمغم بإختصار ومالبث حتى إعتدل في وقفته زاويا ما بين حاجبيه:
- أنتِ اللي تعبتي قوي النهاردة.
دائمًا يسعى لرضاها، وماعساها تفعل سوى مقابلته بذات الرضا وإبتسامة عريضة:
- بالعكس؛ ده أحلى يوم.
ندت عنه إبتسامة وهو يميل ناحية رأسها، تاركًا قبلته فوق الجبين مدمدما في خفوت:
- أنتِ جميلة قوي يا سماح.
- الله يخليك.
قالتها بخجل ليطلق ضحكة عالية، يائسة، فحتى اللحظة تحمر وجنتيها جراء إطراء بسيط يلقيه بعفوية شديدة وتقابله برد يفحمه في كل مرة، بل الأعجب أنها لم تلفظ أسمه لمرة واحدة حتى فيما بينهما!
نهرته بعينيها جراء ضحكته ثم هتفت بإستعجال:
- خد القهوة يلا.
غادرها حاملًا الصينية بضحكة عابثة خصها بها وإستدار بعدها لتطلق على أثرها ضحكة صغيرة ثم تحركت تعد الدور التالي من القهوة.
قدمتها ببسمة جذابة تليق بعروس مثلها لم تنل على إعجاب ضيفتها الممتعضة وهي تتناولها بنزق و عينيها تتفحصها من رأسها حتى أخمص قدميها، وما إن شاركتهم المجلس حتى أسرعت المرأة بالقول:
- وعلى كدة أهلك فين يا سماح؟
لم تستسغ السؤال ولا النبرة ومع ذلك تكفلت ببسمة مصطنعة بينما تجيب:
- أبويا وأمي الله يرحمهم، ماليش إلا أخويا ومراته ربنا يخليهم لي.
- وعندك أحمد بالدنيا كلها.
قالتها الشقيقة الصغرى وهي تغمزها لتوافقها برفة عين خجلة، لتعلق المرأة:
- طبعا أحمد يستاهل كل خير.
وهنا تدخلت الشقيقة الكبرى:
- وسماح ياطنط تستاهل الخير كله، ربنا يبارك فيها.
إمتعضت المرأة من حديث زوجة إبنها لتتدخل والدة أحمد بعد صمت مراقب:
- إشربي قهوتك يا أم أيمن لتبرد.
أسقطت الفنجان عن قصد وهي تعيد تناوله من أعلى المنضدة لتنهض سماح من فورها تجلب خرقة من المطبخ وما إن جثت فوق الأرضية حتى وصلها فحيح المرأة الخبيث تحت مرأى ومسمع من الجميع:
- إلا قوليلي يا سماح ماتعرفيش حد كويس ينضف لي الشقة؟ أكيد ليكي معارف، مش برده كنتي شغالة في يوم كده ولا أنا سمعت غلط؟!
توقفت حركة يدها مع نبرة حماتها الغاضبة:
- إيه الكلام اللي بتقوليه ده يا ست أم أيمن، مايصحش كده!
تكهرب الجو في اللحظة حين صمت الشقيقتان والضيفة نهضت من جلستها لتزعق:
- كده يا أم أحمد، أنا بردو يتقال لي مايصحش؟ وبعدين أنا ماجبتش حاجة من عندي ده الناس كلها مالهاش سيرة غير مرات إبنك اللي لامؤاخذة يعني كانت تخدم في البيوت.
نهضت سماح من فورها تنظر لحماتها في حرج ومحاولة منها لتمرير الموقف:
- ماحصلش حاجة ياخالتي.
والتفتت ناحية المرأة تهتف في وجهها بثبات ظاهري:
- أنا سيبت الشغل ده من زمان بس حاضر لو جه قدامي حد كويس هعرفك.. عن إذنكم.
أنهت جملتها وإستدارت عنهم بخطوات واسعة، عند الباب ظهر هو وأمسك بذراعها يقطع إبتعادها المتعجل وهتافه يعلو بغضب متماسك:
- رايحة فين!
كان سؤاله مستنكر لا يحتاج إلى إجابة وبصره إرتفع ليحط فوق المرأة مخبرًا إياها بنظرته أن كلماتها وصلته تمام الوصول بينما ذراعه يلتف حول كتفي زوجته:
- ده بيتك..
وأطبق فوق شفاهه يمنع بقية الكلمات من الخروج فقط إحتراما لوالدته وإسم أبيه الراحل، وكانت نظراته وكلماته المبطنة أكثر من كافية للمرأة حتى تلملم حالها مغادرة في تجهم لاحقًا بها البقية.. ظلت ترمقه أمه بنظرات مبهمة بعد رحيل الجميع حتى هتفت بعد حين بنبرة الغاضب:
- إطلعي على شقتك يا سماح.
إنصاعت لأمرها في صمت وفي داخلها فورة من غضب، بينما ظلت المواجهة بينه وأمه عالقة، حدجته بنظرات لآئمة وهي تتحرك ناحية غرفتها وصوتها المستنكر يهدر من خلفها:
- تخدم في البيوت يا أحمد؟.. دي آخرتها!
لحق بها وجوابه خرج بكل ما يعتمل فيه من غضب:
- شفتي منها ولا عليها حاجة وحشة يا أمي؟
صمتت وأشاحت بوجهها جانبا لكنه أصر من جديد وهو يقابلها في وقفته:
- شفتي حاجة؟
عادت له بوجهها تدلي بالصدق:
- الحق يتقال ماشفتش غير كل خير بس..
قاطعها:
- مافيش بس يا أمي، سماح بنت حلال وأنا مرتاح معاها، ده مش كفاية عندك؟
صمتت للحظات في تفكير ثم اطلقت تنهيدة مستسلمة:
- ربنا العالم وحده أنا ما عايزه حاجة من الدنيا دي غير أشوفك مرتاح.
ثم تابعت مع تربيتة حانية طالت كتفه:
- إطلع طيب خاطرها يابني، ربنا يهدي سركم ويبعد عنكم النفوس الوحشة.
قبل رأسها مبجلا وحينما إقترب من الفراش ينوي حمل صغيرته الغافية قاطعته بنبرة رضا:
- خليها معايا الليلة وروح أنت لمراتك.
كان يصعد الدرجات وعقله شارد فيما حدث.. في البداية الأمر إستوقفه للحظات لا ينكر، لحظات تلآشت عقب ما إستخار وإستبشرت نفسه وسرت لما إختار، وحتى اللحظة لم يندم وهو يراها أبدلت بستانه الذابل لآخر مزدهر، لم يطمح إلا في إستقرار وبفضلها حولت طموحه لعش دافىء تحويه هي ببراح نفسها الطيبة.. عاش الحب قديمًا مع الحبيبة الراحلة وما ظن أن بالقلب متسع لغيرها، لكن للآقدار دومًا كلمات مكتوبة وما يحياه الآن شيء آخر، ليس حبا بقدر ماهي ألفة تشعره أنه يعرفها منذ سنوات، محبة يكسو بها كل عطاء يمنحه أحدهما للآخر وكأنهما لبعضهما واحة الزاد والمرتع عقب شتات طال.
فتح الباب ودلف بهدوء لتواجهه حركتها العصبية المتنقلة بين المطبخ ودورة المياة، تدعي التشاغل كعادتها ما إن تعاني من خطب ما، تنفس عن إشتعالها بالمزيد من العمل الذي لا تمله، يعلم أن خبيثة النفس تلك نجحت في أذيتها ولو تظاهرت ألف مرة بما هو عكس ذلك.. تنهد في قلة حيلة وتركها لما تفعل عل ذلك يخفف من وطأة شعورها.
لكن تأخر الوقت ولم تكن لتهدأ، تقف جوار كومة من الملابس تعمل على طيها دونما تنبس ببنت شفة ولو لمرة، حينها لم يجد حلا غير الإقتراب حتى توقف خلفها تماما، أدارها إليه وأجبر عينيها المحتقنة على لقياه وصمت.. ظل ينظر لها دون حديث يمنحها حق البداية حتى وهنت وخرج صوتها مستسلمًا في تهدج حائر:
- عملت لها إيه عشان تعايرني كده!
أنهت جملتها وبقيت تبحث عن جواب داخل عينيه.. لولاه هو لكانت منحت تلك العقرب رد مناسب يثلج صدرها، هو من تتفانى في إظهار نفسها أمامه في أبهى صورة، تضع رقيب فوق كلماتها علها توازيه تهذيبا وجمالا، هو من يميل له القلب يوما بعد يوم، لكنها لا تفهم حتى اللحظة لما لم يتخذ ردًا أكثر حزمًا مقابل إهانتها!..
آتراه يرضاها لها أمام أختاه وأمه؟
هكذا فكرت قبل ما يضمها إليه مهدئا إياها ببضع ربتتات حتى همس بعد حين وكأنه قرأ مايجول بخاطرها:
- حقك عليّ أنا.
إبتعدت عنه تهمس بفتور:
- وأنت ذنبك إيه بس.
مسد وجنتها بإبهامه مدمدما في جدية:
- ماكنش ينفع أتكلم معاها، دي مهما كان ست كبيرة وفي بيتي، بس أنا ليا كلام مع إبنها و وعد مني اللي حصل ده مش هيتكرر تاني.
- ربنا يجبر بخاطرك.
قالتها وكفها يمسح عن كتفه، رفع ذقنها يجبر عينيها الهاربة دومًا على ملاقته بينما يقترب من وجهها قائلا بحمائية أنعشت روحها:
- أنتِ مراتي يا سماح واللي يمسك يمسني، ماتنسيش ده.
أثرت فيها كلماته الحانية، فاقترب تلك المرة يقبل عيناها كلًا على حدى، أسرع في الأولى وتباطىء في الثانية حد أنها خجلت وأبعدته ببطء مرتبك مع عينين تبسمتا في رضا.
***
جنة..
أقرب وصف لما ترآه عيناه في تلك اللحظة من أراض واسعة وخضار يلف ذلك البراح، بات يهوى المجىء إلى هنا والتنعم بهذا الجو البديع الساحر..
خلع منظاره الشمسي ودار بصره فيما حوله في نظرة تفقديه سريعة قطعها نبرة ترحيبية من الرجل الخمسيني:
- وأنا أقول المزرعة منورة ليه، يا صباح الفل.
بادله حسن التحية في حبور:
- صباح الفل ياعبدالحميد، إيه الأخبار؟
وعبدالحميد صديق قديم للوالد الراحل ورئيس العاملين بمعمل الألبان؛ ولأجل هذا له مكانة وكلمة مسموعه لدى الجميع:
- كويس أنك جيت، أنا قلت لكم الدكتور إياه مش نافع.
- لسه على نفس الحال ياعم عبده؟
جاء السؤال من ميسون الحائرة ليجيبها من فوره:
- زي قلته يابنتي.
هنا هتف حسن منهيا الموضوع:
- ماينفعش التهريج ده، هنشوف غيره.
- ده رأيي كمان.
وافقته ميسون بينما هتف لهم عبدالحميد في بشاشة مستكملا وصلة الترحيب:
- هقولهم يجهزوا الفطار..
ربت حسن فوق كتف الرجل شاكراً:
- تسلم ياعبدالحميد إحنا هنمر على المعمل ونمشي على طول.. اتفضل أنت.
حياهم الرجل وإبتعد، ليسيران معا ناحية المعمل في جولة جديدة وما إن وصلا عند البوابة الخارجية كان يدمدم:
- أغلب الآلآت محتاجة تجديد.
أبعدت خصلاتها المتطايره بفعل هواء الصباح مغمغمة بإحباط:
- صعب دلوقتِ.
صمت في تفكير حتى إستقلا السيارة حينها تسآلت وهي ترى غرق تفكيره:
- بتفكر في إيه؟
نقر بالسبابة فوق المقود وهو يفصح عما يجول بخاطره:
- بفكر إزاي ممكن نوسع دايرة التوزيع، المحلات والأسواق اللي حوالينا مش كفاية.
- بس كده هنحتاج نشتري لبن من بره.
- سيبي لي الموضوع ده، أنا هشوف المزارع القريبة وأتفق على سعر كويس بس المهم نلاقي المشتري.
- في أكتر من عرض جابتهم شركة التسويق ممكن نشوفهم.
- تمام قوي.
أدار المحرك وإنطلق وبينما كانت مشغولة التركيز مع الجهاز اللوحي الساكن كفيها قاطعها مترددًا:
- هو أنس أخباره إيه صحيح، مش باين يعني؟
أغلقت الجهاز وأطلقت زفير طويل قطب له جبينه بينما تستهل في الحديث:
- أسكت ياحسن ماتفكرنيش، أنا الولد ده بجد مش عارفه ماله!
- ماله؟
سأل متوجسًا لتهتف:
- مذاكرة مافيش، مقضيها صرمحة مع شوية عيال صيع ويفضل سهران معاهم لوش الفجر.. أنا وماما فعلًا مش قادرين عليه.
- هو في سن صعب السيطرة عليه.
- فاهمة ده بس أنا بجد قلقانة عليه.
صمتت برهة هتفت بعدها في رجاء:
- ممكن ياحسن تبقى تتكلم معاه، أنت أخوه الكبير وأكيد هيعمل لك حساب.
سخر في نفسه.. وصمت.
***
وصل متأخراً عن موعده بثلاث أرباع الساعة، لعن زحمة السير والطرق المعرقلة وهو يترجل من العربه قاصداً المقر الإداري الخاص بأحد الأسواق التجارية الكبيرة، من المفترض أنها مقابلة ثانية مع مالكيه يرجو منها أن تنتهي بإتفاق يجمع بين الطرفين.. قابلته فتاة هزيلة الجسد رحبت به بفتور ثم رافقته بعدها حيث مكتب الرئيس، تدعوه للدخول من فوره..
كانت تجلس خلف مكتبها العريض حينما دلف، نهضت في أناقة تناسب قوامها الممشوق مع كفها الممدود في ترحيب حار:
- أهلًا بيك يا حسن.
- معلش تأخرت عليكم، بس الطريق واقف بشكل غبي.
صرفت الفتاة بإشارة من كفها ثم وجهتها ناحية أريكة جلدية تحتل جانب الحجرة تدعوه إليها:
- ولا يهمك دي أزمة الكل.
فك زر السترة ليجلس بأريحة واضعا ساق فوق الأخرى، سائلا في حيرة:
- أمال فين أستاذ عصام؟
وكان يقصد شقيقها وشريكها في العمل لتهتف بينما تحتل مقعد مجاور:
- عصام مسافر، وعامة هو سايب لي القرار.
تبسم في عملية وخاض أرض العمل مشهرًا كل أسلحة الإقناع لديه بادئًا الحديث عن جودة منتجاتهم..
بينما المرأة كانت تتألق عيناها بإفتتان مقابل كل حركة وكلمة صادرة عنه، كانت..
آية من الحُسْن
أنثى كما يقول الكتاب
أنثى في مفاتنها، ملبسها وأصابعها المطلية بالأحمر القاني التي تداعب جيدها في تأني ودلال وعيناها ترتكز فوق صفحة وجهه، في حين يقابلها هو بثبات موليًا جل تركيزه فيما يقول حتى قاطعته بغتة ببحة خاصة:
- أنت متجوز يا حسن؟
تشوش ذهنه للحظة ثم عاد وإتزن حين إخترق السؤال دهاليز عقله، حسنًا..
نظرات الإفتتان واضحة للعيان وهو ليس بغر حتى يتيه عنها، وظن أن الأمر لن يتعدى ذلك لكن على مايبدو المرأة لديها جرأة أكثر مما تبدي هيئتها الناعمة..
تعمد النظر إلى ساعته التي تخطت الحادية عشر ببضع دقائق وهو يجيبها بملامح حاول تبسيطها وتمرير الأمر كشيء دون أهمية:
- أيوه..
ومن فوره إستطرد مكملًا حديثه السابق:
- ممكن تشرفينا وتشوفي بنفسك أو نبعت عينات مافيش مشكلة.
نهضت من فوق مقعدها وبحركة مغناج كانت تجاوره فوق ذات الأريكة بقرب خطير إذ إجتاحه عطرها وشفاها الشهية تهمس:
- وعن حب بقى ولا صالونات؟
وسار أنمل سبابتها فوق بنصر يسراه مع همس جديد:
- وليه مش لابس دبلة؟
كان يطالعها في إندهاش من ذلك القرب وتلك الجرأة الفجة، طالت عيناه الباب الموارب ثم عاد لعينيها الملتهمة لكل تفاصيله وقد بدت نبرته الفظة ثابته ظاهرياً بينما خباياه لا تمت للثبات بصلة:
- هو في إيه بالظبط!
اطلقت ضحكة قصيرة مغوية وهي تقترب بجسدها أكثر حتى باتت شبه محتلة لأحضانه قسرًا، كفها الأيمن إرتفع يداعب مؤخرة عنقه مع همس حار:
- في أنك عاجبني.
وهمسها عبر تلك الشفاه المغوية كفيل بإسقاط أعتى الرجال كيف به وهي تدعوه بنفسها ليرتوي من شهدها كيفما شاء..
ارتعدت كل خلية فيه وتحشرجت أنفاسه الحارة بينما جسده الذي ارتخي كان يناشد استسلام..
وكان بينه وبين غواية الشيطان شعرة!
ليقطع الشعرة وحميمية اللحظة وهو يثب بغتة كمن لدغ لتوه قاصداً باب الخروج في خطوات سريعة ليصدمة الفرآغ التام وخلو المكان بأكمله من الأقلية التي رآها عند قدومه، تشنج جسده وهو يعبأ رئتيه من الهواء البارد ليستفيق من غيبوبته المؤقتة، اكفهر وجهه وهو يرى حاله طريدة لامرأة لعوب، امرأة كادت أن تسقطه بالفعل لولا..
لولا ماذا!..
هو لا يعلم غير أنه في ثوان لا ترتقي لدقيقة كاملة أعلن فيها جسده القبول ليصرخ بالرفض بعدها ولم يستفق من تلك الحالة إلا مع ضربات الهواء بنسماته الباردة.
وصل البيت بقسمات ساخطة، ليقابلها في وجهه تعتلي مقعدها الأثير وحاسوبها فوق ساقيها تتشاغل معه كما تحكم العادة، ظل مكانه يحدجها بعينيه الساخطة وقد زاد عبوسه حد أنها توجست خفية وهي ترفع بصرها تتلقى نظراته الغريبة تلك بنفس حائرة قطعها بينما يتخطاها ناحية غرفته صافقًا بابها من خلفه.
مضى ما يقارب الساعتين وهو على حاله، يتقلب يمنة ويسرة وفتيل الأفكار مشتعل، لم تتركه تلك اللعينة إلى حاله بل مازالت تعبث وبإصرار غريب، فقد أرسلت له رسالة قصيرة مفادها عنوان بيتها!
تدعوه وبكل وقاحة..
يحتاج المرء أن يكون قديسًا حتى يتخطى ما حدث بثبات انفعالي يحسد عليه.. وهو ليس بقديس، هو رجل يكبله المرض منذ شهور عن القرب من امرأته خوفًا من أن تطالها العدوى، رجل صحى شيطانه ولا يملك في إخماده شيء..
نهض بجذع متعرق، عاري إلا من سروال قطني طويل ينفض عنه الغطاء، سار بأقدام حافية حتى توقف أمام باب غرفتها المغلق مطبقًا جفنيه في تفكير..
لا يريد أن يرهبها فتكرهه أضعاف ما تفعل، بالكاد هدأت واستكانت عقب انهيارها منذ أيام..
لكن ماذا لو رفضت!
قد يتركها..
لكن حينها سوف يمنح شيطانه حرية الجموح ولن يتوقف في هكذا حالة فقد فيها السيطرة على كل ذرة فيه.. قطع سيل أفكاره المنحرف وهو يضغط فوق مقبض الباب ليفتح من فوره وكانت هناك.. تعتلي مقعد طاولة الزينة، جسدها يضمه ثوب قطني خفيف يكشف عن أكتافها وينتهي عند ركبتيها، تميل بجذعها للأسفل ويدها تمسد قدمها والساق بأحد الكريمات المرطبة استعدادًا للنوم، انتفضت من جلوسها فزعة، تتطلع إليه في توجس وذراعاها يلتفان حول جسدها وهي ترآه يشيعها بتلك النظرات حتى عادت عيناه وإستقرت فوق عينيها، ليهمس باسمها وكل كيانه يرجوها:
- نسمة..
إفترقت شفتاها في محاولة للتنفس والكلام الذي تحجر بينما تقدم هو بأقدام مثقلة بعد ما ضغط فوق مفتاح الضوء لتسبح الغرفة في شبه ظلام.. استغل صدمتها وجذبها بين ذراعيه، منح جيدها قبلة بل قبلات زادت بشغف مع همسه الحار الذي أجاد عزفه فكان يجتاح كل كيانها معلنًا الرغبة:
- محتاج لك.
صرخ فيها العقل والمنطق أن تبتعد، الا تخنع لغواية شيطانها؛ إلا أن الجسد أبى مستسلمًا لحلاوة اللحظة..
حتى غاب فيها وغابت فيه..
وسقط كلاهما في فخ الغواية!
أنت تقرأ
الغنيمة
Romance"حسن صبري" ابن الحارة الشعبية واللص ذو الأيدي الخفية توكل له مهمة اختطاف ابنة رجل الأعمال الثري تحت مسمى تصفية حسابات.. ترى إلى أي حد تتشابك المصائر وتختلط الأقدار حين تقع ابنة الخادمة ضحية في مصيدة اللص؟!🕳️👀 - رواية الغنيمة للكاتبة "بثينة عثمان"...