الفصل الاول

14.9K 218 7
                                    



ابتعد قاسم بعينيه وكأنه يعيد رسم اياما وسنينا لم تشكله وحده بل شكلت كل من سكن هذا البيت و مِن واقع تلك العلاقة المعقدة بين ابنه زين وابنة أخيه مياس يبدو وكأن يد البيت ستمتد لتعبث بكل جيل يمر به.
منذ اكثر من ثمانية وعشرين عام لم يكن البيت بنفس حجمه الان ... بل كان تقريبا نصف مساحته وبدون تلك الحديقة الغناء . وعلي الرغم من دلك وقف شامخا بين البيوت الصغيرة حوله... ربما كان سر شموخه هو أصحابه عائلة الحاج عثمان نجار المنطقة الاول والذي كان يطلبه الوالي خصيصا لوضع لمساته الفنية علي الأبواب والدواليب ... لم يكن يوما نجارا بل فنانا حقيقيا. ورث منه هذا الفن أولاده وأحفاده رافضين حتي المتعلم منهم ترك مهنة النجارة . ولكن المؤكد ان شموخ البيت جاء من اخلاق وسيمات ساكنيه.... الذين كانوا دوما كرماء علي مر حولهم دون ترفع او تصنع ماديين يد المساعدة لكل محتاج



.. كان اليوم الذي رأه قاسم بداية حكايات البيت ليس كأي يوم ابدا فاليوم زفاف فاطمة ابنة الحاج منصور واخت قاسم الصغيرة.
نزل قاسم درجات السلم الداخلي بعد ان صلي بغرفته الخاصة فريضة الفجر متجها لمصدر أصوات تبدو لمن لا يعرف عائلة الحاج عثمان رحمه الله وكأن المكان قد تحول لساحة حرب او ربما مشاجرة حامية الوطيس. لكن قاسم اتجه بهدوء للمطبخ الكبير حيث وجد هناك مشهد مألوف في نظره وحتي وان لم يكن يوما بهذه الضخامة.
تجلس عمته عزة – زوجة عمه عبدالحميد – تتناقش بحدة مع عمته كريمة التي تركت بنتيها رقية وسهر لزوجها وجاءت مصطحبة ابنها الصغير ( ديك البرابر) معاذ ذي الثمانية سنوات لتبيت ليلتها عندهم لمساعدة امه في تحضير غداء الفرح. ولكن من الواضح ان المرأتان قد اندمجتا في النقاش ونسيا امه التي تعمل باجتهاد وهي تدندن كعادتها دون ان تأبه لهما . اقترب قاسم من والدته ليحتضنها محييا إياها. منذ وعي الدنيا ولازالت نفس الملامح التي تقابله بها والدته لم تتغير .... ابتسامة هانئة وفرحة تمتد للعين كأنها تري معجزة من معجزات الكون
( صباح الخير ياأم العروس) همسها قاسم لخد والدته المتوهّج بحرارة المطبخ ، فأجابت كعادتها ( اسمي ام قاسم .. عاش قاسم واسم قاسم في قلبي وكنيتي)
كم تعشق امه ان تنادي بأم قاسم وهو الاسم الذي عرفت به منذ ولادته ولا يجرؤ احد علي النطق بغيره.علي الرغم من عشقها للطبخ وألوانه ..حافظت دوما ام قاسم علي رشاقة تليق بهذا الجسد القصير وبالرغم من سنوات سنها التي تخطت منتصف الأربعينات الا انها دوما تحافظ علي مظهرها مرتبا نظيفا باحتشام.
هتفت فجأة للمتشاحنتين بصرامة لا تليق بهذا الوجه الصبوح ( الصوت انت وهي وإلا سأطردكن من المطبخ كما اطرد الفئران بالمكنسة) في لحظة عم الهدوء المطبخ بعد ان صمتت عمتيه ثم تمتمت كلتاهما بعبارات متفرقة علي قبيل ( أعطني البصل لاقشره يا ام قاسم ... أين الدجاج لاسلقها يا ام قاسم)
رفعت والدته هزيمة – وهذا اسمها الحقيقي البعيد كل البعد عن شخصها – حاجبها في انتصار ثم أعلنت وهي تعود للعمل باجتهاد ( والدك اصطحب فاطمة لغرفة الصالون وطلب إبلاغك باللحاق بهم) أمتلئت عيناها بالدموع وهي تتنهد ( صغيرتي فاطمة ستتزوج ياقاسم... ستذهب نوارة البيت لتنير بيت غيري)
التقط قاسم يد امه مقبلا إياها ثم انحني بطوله الذي يتجاوزها بحوالي خمسة وعشرون سنتي مقبلا رأسها لتصرخ في أذنه مباشرة ( لا اصدق هذا.... اكثر من تسعة عشر عاما من الزواج ولازلت لا تجيدين طهي دجاجة) اندفعت امه لحيث تقف عمته كريمة مرتبكة كطفلة صغيرة في الثالثة بينما لازال صغيرها معاذ يحتضن ساقها.
اتجه قاسم علي فوره لغرفة الصالون.... استأذن للدخول فسمع صوت والده الهادئ يأذن له .
تجلس فاطمة كعادتها علي طرف الكنبة الضخمة بينما والده يجلس علي الكرسي المقابل لهامقتربا منها ممسكا يديها. لم ير فاطمة تلك الشابة الجميلة ذات الحجاب الأبيض الرقيق الذي يختبئ تحته شلال من شعرها عسلي اللون والعينين تماثل الشعر في اللون و العمق ... إنها فاطمة الطفلة التي كانت تجلس لسنوات نفس الجلسة لتستمع معه لدروس ونصائح ابيهم
( تعال ياولدي...... كنت اتمني ان تحضر) قال والده مشيرا له بيده. الحاج منصور عثمان.... سهل المعشر مع وقار شديد .... هادئا علي الدوام ... مثال للأب الحنون المتواجد دائما لأجل أولاده ... لم يتحجج يوما بالعمل في ورشتهم للنجاره حتي يبتعد عن بيته .... اجاد الموازنة فأجاد التربية.
( اعرف يا بنيتي ان أمك حتما قد تحدثت معك طويلا عما انت مقبلة عليه) بدأ منصور حديثه حين استقر قاسم بجوار فاطمة ولازالت يده تحتضن يديها ( لكني سأستغل كون لازال لي بعض حق عليك لتسمعيني)
انحنت فاطمة تقبل يد ابيها بحب هاتفة ( ستظل ياابي اكثر من يملك علي حقوق ماحييت)
ربت منصور علي رأسها بحنان وهو يهز رأسه نافيا ( لا يابنيتي.... زوجك الان من له عليك كل حق... تعلمين ان سعيد اراد الزواج منك لسنوات الا اني اجلت الموافقة لأَنِّي لم أرد ان تظلمي بالزواج صغيرة كعمتك كريمة ... فالزمن اختلف. لكنك الان بنيتي واعية وقادرة علي إنجاح زواجك) 

داويني ببلسم روحكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن