الفصل الثالث

13.9K 413 9
                                    

الفصل الثالث
رمقهما إسلام بذهول، يرفع إصبعه يفرك به أذنه بقوة، يقول بحذر:
"عفواً، من الواضح أنني سمعت خطأ..
هل يمكنك إعادة ما قُلته طارق؟"
"لا، ما سمعته صحيحاً، ومع ذلك سأعيده لك، عمي يريدك أن تتزوج من ابنته".
رفع إسلام أحد حاجبيه، يقترب من طارق، يهمس له:
"أليس من المفترض أن تتزوجها أنت؟"
يبتسم له طارق بمكر، يقول: "لم أجد لها أفضل منك يا صديقي".
رفع إسلام حاجبيه بتفكير، يبتسم بسعادة، هذه فرصته لكى يكفل لارا.
هو ليس مجنوناً ليقبل الزواج من فتاة لم يرَها من قبل، ولا يعرف عنها شيئاً، لكنه الآن لا يفكر سوى بلارا.
يريدها له بأي طريقة، حتى لو كانت بالزواج من فتاة مجهولة بالنسبة له، كما أنها بالتأكيد ستكون على خُلق جيد، يكفي أنها ابنة عم صديقه المقرب!
لكن والدها يجب أن يعلم ما يريده، حتى لو عمره محدود، ابنته ستكون أمانة بعنقه ولا يريد أن يظلمها!
"شرف لي أن أتزوج من ابنتك بالطبع، لكن يجب أن تعلم أنني أريد أن أكفل فتاة من دار الأيتام، وإذا وافقت أنت وابنتك؛ سنكفلها بعد الزواج مباشرة".
يهتف عبدالله بعدم تصديق: "ماذا؟
تكفل طفلة!
لكن ابنتي مازالت صغيرة على تربية طفلة".
يعقد إسلام حاجبيه بضيق، يقول: "لكنني سأتزوج فقط لاستطيع كفالتها".
قال عبد الله بنبرة قاطعة: "لا يمكن أن يحدث ذلك".
تنحنح طارق، نهض وسحب إسلام من ذراعه، وهو يوجه حديثه إلى عمه:
"سأتحدث مع إسلام قليلاً وسنعود، انتظرنا".
أخذ إسلام ليجلسا على طاولة أخرى بعيدة بعض الشيء عن طاولة عمه، هتف بضيق:
"إسلام ماذا تفعل؟
كنت أظن أنك ستساعدني".
شدد إسلام على كلماته: "أنا الذي ظننت أنك عندما علمت أنني أريد أن أكفل الطفلة أقنعت عمك أن يزوجني ابنته، وبالتالي تضرب عصفورين بحجر واحد".
قال طارق باستنكار: "بالله عليك، ابنة عمي عمرها خمسة عشر عاماً.
كيف تتخيل أن تكفل طفلة بعد الزواج منها وهي بالأساس طفلة؟!"
قال إسلام بغضب: "وكيف ستزوجونها وهي بهذا العمر؟"
تنهد طارق بتعب، وقال: "لقد سبق وأخبرتك عن مرض عمي، أنه لا يريد لأسيل أن تعيش مع والدتها إن حدث له مكروه، لذا سيزوجها بعقد عرفي حتى لا تستطيع والدتها أخذها".
هتف إسلام ببرود: "وأنا لا أريد أن أتزوجها".
وضع طارق يديه على الطاولة أمامه، أخذ يفرقع أصابعه كعادته عندما يتوتر.
"إسلام أرجوك، ليس لدى غيرك لينقذني من هذا الزواج، أبي لن يسمح لعمي بالقيام بعرض ابنته على أحد ليتزوج منها، ووقتها سيجبرني أنا على الزواج منها، وأنا لا أريدها".
صاح إسلام بعصبية: "والحل أن أتزوجها أنا".
هتف طارق: "بالطبع، أبي بالتأكيد لن يعترض إن علِم أنك أنت مَن ستتزوجها".
يصيح إسلام بحدة: "ولارا".
يقول طارق بنفس نبرته: "مَن لارا؟
إنك لم ترَها سوى مرة واحدة..
كيف تعلقت بها؟"
يجيب إسلام بشرود: "لا اعلم، منذ أن رأيتها وأنا اشعر بشيء غريب اتجاهها، لا اعلم ما هو، كل ما اعلمه أنني أريدها معي، أريد رسم السعادة على ملامحها، تعويضها عن فقدانها لعائلتها".
تملك الغضب من طارق وهو يرى تعلق صديقه الغريب بهذه الطفلة؛ والذي سيفسد له جميع مخططاته، زفر أنفاسه بقوة محاولاً تهدأت نفسه، وقال:
"حسناً، أعدك أنني سأحاول مع زوج خالتي لتعجيل زواجي من نشوى، وبعد زواجنا سأكفل لارا للعيش معنا، ووقتها يمكنك زيارتها والاطمئنان عليها ومعاملتها كيفما تشاء".
ضحك إسلام، ثم هتف بسخرية: "على مَن تضحك يا صديقي؟
هل ستقبل نشوى بذلك؟
ثم إنها لا تتحمل مسئولية نفسها كي تتحمل مسئولية طفلة وتقوم بتربيتها، خاصة أنها ليست ابنتها".
حاول طارق التحكم في أعصابه أمام سخرية إسلام من حبيبته.
"أنت تظلم نشوى كثيراً، صدقني إنها ليست كما تقول، أنا متأكد أنها ستوافق فور معرفتها..
وافق أنت على الزواج من أسيل".
استند إسلام على ظهر المقعد، ضم يديه إلى صدره مفكراً بعرض صديقه..
الأمور اختلفت، هو بصدد الزواج من طفلة، طفلة صغيرة بالتأكيد لا تفقه شيئاً عن الحياة الزوجية ومتاعبها ومشاكلها.
هو ليس لديه مشكلة، في كل الأحوال كان سيكفل طفلة، لذا الأمر لا يختلف معه كثيراً، كما أنه بزواجه منها سيستطيع مساعدة صديقه للزواج ممن يحب، لكن المشكلة بها هي، كيف ستتقبّل أمر زواجها؟!
"وهي ما رأيها؟"
نظر له طارق بدقة محاولاً قراءة ملامحه، همس بشفقة على حال أسيل التي أصبحت كالدمية بأيديهما؛ بسبب تصميم أب عنيد وتصرفات أم غير مسئولة:
"حتى الآن هي لا علم لها بالموضوع، إن وافقت سنذهب ونخبرها".
استقام إسلام وهو يقول: "أنا موافق مبدأياً، لكن سنذهب لأراها وأتحدث معها، وبعدها سأعطيك قراري النهائي".
انفرجت ملامح طارق، أطلق تنهيدة راحة، وقال : "هيا بنا".
**********
كان عبدالله يراقب ملامحهما جيداً، يحاول استشفاف رد فعلهما من خلالها..
لمح الارتياح الذى ارتسم على ملامح طارق، عودتهما إليه، ليتوقع موافقة إسلام.
"لنجري الاختبار".
جلس كل من إسلام وطارق، يقول الأخير بسعادة :
"مبارك عمي، لقد وافق إسلام على الزواج من أسيل".
نظر عبد الله إلى إسلام، يهتف بنبرة ممتنة: "شكراً بنىّ".
ثم أخرج دفتره الخاص، يكتب فيه مبلغاً كبيراً من المال، مد الورقة لإسلام، قائلاً:
"هذا مبلغ بسيط يعبر عن امتناني لك".
نظر إسلام إلى ما يحمله عبد الله بغضب، يرفع عينيه إلى عينيه، يرمقه بنظرات حادة، ثم ينهض صائحاً:
"كيف تفعل ذلك يا سيد عبد الله؟
هل تظن إني وافقت على الزواج من ابنتك من أجل المال؟
أنا لم أفكر به ولن أفكر، وإن كنت وافقت على الزواج منها فهذا من أجل طارق".
اقترب طارق من إسلام، يهتف:
"اهدأ إسلام، الناس تنظر إلينا ، وعمي لا يقصد ما فهمته بالتأكيد".
نظر إلى عمه بنظرات محذرة، يهتف الأخير:
"اجلس إسلام، أنا لم أقصد ما فهمته، كل ما في الموضوع أنني أردت أن أشكرك".
يهتف إسلام باقتضاب: "الشكر لا يكون بالمال يا سيد عبد الله، ليس هناك ما يستحق الشكر من الأساس".
ثم أردف مؤكداً: "وإن تم هذا الزواج، ابنتك ستعامل كأي عروس، سأدفع لها مهراً، سأشترى لها شبكة، سيكون هناك زفاف كبير نشهر فيه الزواج، وعندما تتم الثامنة عشر سنوثق الزواج إن شاء الله".
ابتسم عبدالله بفخر، متأكد أن هذا الشاب سيحمى ابنته ويحافظ عليها..
هتف طارق بسعادة:
"على بركة الله، لنذهب إلى البيت ليرى إسلام العروس ونعرف رأيها".
**********
عادت أسيل إلى منزل عمها بعد أن ودعت أريج التي تعللت بتأخرها على بيتها ورحلت دون أن تصعد معها، دخلت غرفتها لتبدل ملابسها.
بعدها بلحظات دلف محمد ونشوى إلى بيته، همس لها:
"صغيرتي تذكرت شيئاً، أسيل لا تعلم بأمر مرض والدها وتخطيطه لزواجها من طارق، لا تتحدثي معها في هذا".
ردت عليه ببرود: "لا تقلق عمي".
ابتسم لها، ثم استدعى بصوت عالي: "أسيل.. أسيل".
خرجت أسيل من غرفتها، تجد عمها برفقة فتاة غريبة لم ترَها من قبل، ترتدى سروال من اللون الثلجي، تعلوه بلوزة من اللون الاسود تصل إلى أول فخديها، وحجاب من اللون النبيتي..
هتف عمها يقطع عليها تأملها: "أسيل، أعرفكِ بنشوى، ابنة خالة طارق".
ابتسمت لها أسيل بمجاملة، تمد أطراف أصابعها تحييها؛ أما نشوى نظرت إليها بدقة، ملامحها الفاتنة على الرغم من صغر عمرها، تهمس بداخلها بحقد:
"على جثتي إن تم هذا الزواج، طارق ملكي أنا".
رسمت على شفتيها ابتسامة كاذبة لا توضح نواياها، هتفت بنبرة جاهدت لجعلها بريئة ومحبة:
"كيف حالكِ أسيل؟"
ردت عليها بنفس برودها: "الحمد لله بخير، وأنتِ؟"
صدح صوت عمها: "ساذهب لأرى سعاد، ابقيا سوياً".
ابتسمت نشوى بخبث، تقوم بسحب أسيل إلى غرفتها.
جلست أسيل على السرير بينما نشوى على مقعد المكتب الصغير.
"لا زالت الغرفة كما هي".
ثم نظرت في عيني أسيل، وقالت: "أخبريني عنكِ وعن حياتكِ، أريد أن أتعرف عليكِ".
تأففت أسيل بملل من هذا السؤال التقليدي.
"عمري خمسة عشر عاماً، سألتحق بالصف الأول الثانوي، أعيش مع والدي ووالدتي في بريطانيا".
وأردفت مجارية نشوى في حديثها: "وماذا عنكِ؟"
هتفت نشوى: "عمري واحد وعشرون عاماً، أدرس في كلية الآداب، متبقّى لي سنة واحدة على التخرج".
تابعت بخبث: "وبعدها من المفترض أن أتزوج أنا وطارق، فنحن على علاقة منذ فترة طويلة، لكن أبي يؤجل ارتباطنا الرسمي حتى أنهي دراستي".
هتفت أسيل بلا مبالاة: "مبارك لكما".
رسمت نشوى الحزن على ملامحها، وقالت: "أخبريني، إن كنتِ تحبين شخصاً من كل قلبكِ، تعشقينه بكل جوارحكِ، واكتشفتِ أنه سيتزوج من أخرى..
ماذا ستفعلي وقتها؟"
أجابتها أسيل بعد تفكير: "هذا مؤلم، لكن رد فعلي ستعتمد عليه".
سألتها نشوى بحيرة: "كيف؟"
تربعت أسيل في جلستها، هتفت بمنطقية: "إن وجدته يحب الأخرى وسعيداً معها سأنسحب من حياته متمنية له السعادة".
تسألها نشوى بحقد: "وماذا إن كان مجبوراً على الزواج؟"
رددت أسيل كلمتها بدهشة: "مجبور، كيف؟!"
تلقى نشوى بكلماتها دفعة واحدة غير مبالية بتأثير حديثها على طفلة مثل أسيل؛ فهي سأمت من هذا الحوار العقيم:
"والدكِ مريض بالسرطان، هو وعمكِ يريدان تزويجكِ من طارق ليطمئنا عليكِ".
شهقت أسيل واضعة يدها على فمها، توسعت عيناها بصدمة، تهمس بخفوت وعدم تصديق: "كاذبة، مستحيل.. أبي ليس مريضاً".
تهجم عليها تضربها بقوة، وهى تصيح: "أنتِ كاذبة، كاذبة".
**********
دخل طارق ومعه عبدالله وإسلام إلى البيت، والابتسامة مرتسمة على وجوههم، لكنها سرعان ما تلاشت عندما وصلهم صوت صياح أسيل، يهرع عبدالله إلى الغرفة ويتبعه طارق.
بقى إسلام في مكانه حائراً، لا يعلم ما عليه فعله..
يدخل ويرى ما بها أم ينتظرهما؟
بعد تفكير فضّل الخيار الثاني..
**********
"ماذا تقول يا محمد؟
هل جننت؟
كيف ستزوج طارق من هذه الطفلة؟"
استقام محمد بغضب، صاح بحدة: "أنسيتِ نفسكِ يا سعاد؟
كيف تتحدثين معي بهذه الطريقة؟
وما بها إن تزوج طارق من أسيل؟"
هتفت سعاد باستنكار: "ما بها؟
بها الكثير يا أستاذ!
أنسيت أن طارق سيتزوج من نشوى؟"
كاد محمد أن يجن من طريقة حديثها معه..
اشتعلت عيناه بالغضب عندما جاءت باسم نشوى وهي تعلم جيداً موقفه منها وعدم رغبته بزواجها من ابنه.
"إذاً أنتِ لستِ معترضة على زواجه من أسيل بسبب عمرها، بل لأنكِ تريدين تزويجه من ابنة شقيقتكِ، مع أنكِ تعلمين أنها غير مناسبة له".
هتفت بحنق: "كف عن ترديد هذه الجملة يا محمد، نشوى فقط مَن تناسب طارق".
صاح بغضب: "حقاً، نشوى مَن تناسبه؟
نشوى بغرورها وعجرفتها، بدلالها الذى لا يتحمله أحد، نشوى التي لا يهمها سوى أين ستخرج اليوم وكم ستصرف!
مَن لا تعلم معنى كلمة مسئولية؛ تناسب طارق؟
أنتِ مقتنعة بما تقولينه؟"
نعم هي تعلم كل هذا، تعلم أن ابنة شقيقتها لديها الكثير من العيوب بسبب دلال والديها لها -لأنها وحيدتهما- مما أثّر بالسلب على شخصيتها!
أصبح حديثها كأنه أوامر يجب تنفيذها، ويا ويله مَن يرفض لها طلباً أو يفعل شيئاً غير راضية عنه!
لكن هذا لا يمنع زواجها من ابنها!
كم من فتاة تدللت في بيت والدها وتغيرت بعد الزواج وتحملت مسئولية بيتها؟!
"يكفي أنهما يحبان بعضهما، هذا كافي لنجاح حياتهما".
وصلهما صوت صياح أسيل يقطع حديثهما، هرع محمد إليها بفزع، وهو يهمس :
"الستر يا الله".
**********
وقفت المشرفة في الغرفة ترى الأطفال يلعبون سوياً بمرح، يشتعل الغضب في عينيها وكأن أحدهم قتل لها قتيلاً!
ازداد غضبها وهي ترى الألعاب التي يلعبن بها، فهي متأكدة من أنها أخفتها جيداً حتى لا تقع في أيديهن!
سحبت الألعاب منهن بعنف، صاحت بصوت مخيف أدى إلى انتفاض أجسادهن الصغيرة بخوف:
"من أين حصلتن على هذه الألعاب؟"
ابتلعن ريقهن بخوف وهن يرنّ غضبها، يتجمدن في مكانهن غير قادرين على الحركة ولا النطق بكلمة..
وقعت نظرات المشرفة سامية على لارا، اقتربت منها تسحبها من أذنها، تشدها قائلة:
"بالتأكيد أنتِ مَن سرقتيها، أنتِ الوحيدة القادرة على فعل ذلك".
صاحت لارا بوجع: "أه، أذني اتركيها، وأنا لست سارقة، ثم الألعاب موجودة في الدار أي أنها لنا".
تصفعها سامية على وجهها، تقول:
"تردين علىّ، ستري لارا، أنتِ معاقبة اليوم، ستقومي بتنظيف الدار بمفردكِ، ولن تحصلي على وجبتكِ من الطعام".
لم تستطع ريناد الصمت أكثر؛ أختها ستتعرض للعقاب بسبب سرقة لا يد لها فيها، قالت بشجاعة زائفة وقوة غير موجودة:
"لارا ليس لها ذنب، أنا مَن سرقت الألعاب".
هتفت سامية بسخرية: "تدافعين عنها، تريدين تلقي العقاب مكانها".
تقول ريناد بتصميم: "أنا لا أدافع عن أحد..
أخبرك أين كانت الالعاب؟
في أي غرفة؟
وفي أي خزانة؟"
تصفعها سامية، تقول: " أيتها السارقة، أنتِ أيضاً معاقبة معها، لا أريد رؤية ذرة غبار في الدار، وليس هناك طعام لكما حتى الغد".
هتفت تسنيم بدفاع: "لِمَ لارا ستعاقب وهي لم تسرق؟"
ردت عليها سامية بحنق: "لأنها طفلة سيئة، لا تحترم الأكبر منها عمراً، ترد عليه، وهذا لا يصّح".
تقوم بدفع لارا وريناد إلى الأمام، تقول بحزم:
"أنتما لازلتما هنا، اذهبا لتفعلا ما أمرتكما به..
وإن لم يكن الدار نظيفاً في المساء، سيزيد عقابكما".
أمرتهما بصوت قوى: "تحركا".
تنتفضا إثر صوتها القوي، يهرعا لينفذا أوامرها وفي قلبهما ألم كبير وجرح لا يلتئم، وكل هذا لأنهما لعبا قليلاً!
**********
فتح عبد الله باب غرفة أسيل، سأل بخوف: "ماذا بكِ حبيبتي؟"
اقتربت أسيل منه بذعر، تتلمسّ كل جزء من جسده، وهي تهمس بانهيار:
"أبي أنت بخير، لن تتركني، أنت بخير".
ارتسم الذعر على ملامح نشوى عندما رأت طارق وخلفه محمد، اشتد ذعرها عندما رأت نظرات محمد الغاضبة لها.
ابتلعت ريقها بقوة، التقطت حقيبتها مقررة الهروب من هنا حتى يهدأ الوضع؛ وبعدها ستهتم بإقناع طارق أن ما قالته لصالحهما!
وصلت لباب الغرفة، تتجمد مكانها عندما سمعت كلمات أسيل:
"أنت لست مريضاً أبى، أليس كذلك؟
هذه الفتاة كاذبة".
احتقن وجه طارق بغضب، عيناه أصبحت بلون الدماء، مدّ يده ليقبض على ذراع نشوى بقوة ألمتها، يسحبها إلى غرفته، يصفق الباب محدثاً صوتاً قوياً اهتزت له الجدران.
دفعها لترتمى على السرير، وصاح :
"ماذا فعلتِ يا حمقاء؟"
بالرغم من خوفها من هيئته، ألم ذراعها من قبضته القوية عليها، إلا أن غضبها منه كان أكبر..
وقفت أمامه بقوة توازي قوته!
هي ليست مخطئة، لقد كانت تدافع عن حبها، حقها به!
هو ملكها هي فقط !
لن تسمح لطفلة مثل أسيل أن تأخذه منها.
ثم أنه هو المخطئ، نعم هو!
كيف لم يخبرها بهذا الموضوع؟
ماذا كان ينتظر؟
أكان سيستسلم لوالده ويأتى لها ليسلمها دعوة زفافه؟
تحولت ملامحها للشراسة عند وصولها إلى هذه النقطة، تهتف بسخرية:
"وماذا فعلت يا دكتور؟"
اقتربت منه حتى كادت تلتصق به، رفعت إصبعها أمام وجهه، همست بتهديد:
"أنا لم افعل شيئاً حتى الآن، لكنني سافعل الكثير إن لم تنتهى هذه المهزلة".
يهتف بغضب: "كل هذا ولم تفعلي شيئاً، لقد أخبرتِها بمرض والدها!
هذا لا شيء بالنسبة لكِ؟"
صاحت نشوى بجنون: "نعم لا شيء، لا شيء أمامك، أمام أن تأخذك مني، أنا لن اسمح بهذا، أتسمعني؟
لن اسمح بهذا".
نظر لها بذهول، تمتم بخفوت: "لا أصدق، ألا تثقين بي، بحبي لكِ؟
تتوقعين أني سأترككِ من أجلها؟!"
همست: "كنت أثق بك حتى أكثر من ثقتي في نفسي".
ردد كلمتها بخوف: "كنتِ".
سقطت دموعها على وجنتيها، تقول: "نعم كنت..
كيف تريدني أن أثق بك وأنت لم تخبرني عن زواجك منها؟
بالنسبة لي عدم إخبارك يعنى أنك موافق، أو على الأقل كنت ستوافق بعد قليل من الضغط".
اقترب منها بسرعة، يمسح دموعها بحنو، يقول: "ألم أقل أنكِ حمقاء!
هل تعتقدين أن عدم إخباري لكِ يعني موافقتي؟"
سحبها لتجلس على طرف السرير، ثنى قدمه يجلس على الأرض أمامها، همس بحب: "أنا لكِ.. ملككِ، لن أكون لغيركِ..
هل تعلمين ماذا فعلت من أجلكِ؟"
رمقته بتساؤل..
يبتسم لها، ويردف:
"أسيل ستتزوج من إسلام".
همست بشك: "حقاً، كيف؟"
قرص وجنتها، وقال: "كيف موضوع يطول شرحه، والآن يجب أن نخرج لنرى أسيل".
قالت بغضب: "لا تنطق اسمها".
ضحك باستمتاع، ثم قال: "لا داعي للغيرة، أنا لا أراها سوى كشقيقة، وأريدكِ أنتِ أيضاً أن تعامليها كشقيقتكِ؛ فهى تمر بظروف صعبة".
اقترب منها حتى اختلطت أنفاسهما، همس:
"اتفقنا حبيبتي".
اضطربت أنفاسها إثر اقترابه الشديد منها، تغمض عينيها تلقائياً، تهمس بتلعثم :
"اتفقنا".
**********
فتح الباب ينظر لها بحزن، كما توقع وجدها في غرفة ابنتهما، اقترب منها يحتضنها من الجانب، قام بالتربيت على كتفها بحنو دون الحديث بأي كلمة.
بقيا على هذا الصمت عدة دقائق، لا أحد منهما يجرؤ على الحديث، حتى قطعته هي برفع قطعة صغيرة وردية، تقربها من أنفها تستنشقها بشوق، تبحث فيها عن رائحة ابنتها الراحلة..
همست بصوت مبحوح، ابتسامة حزينة ترتسم على ملامحها المرهقة:
"هل تتذكر هذا الفستان؟
لقد أصرت على شرائه ، كان هناك الأجمل منه، لكن بساطة تصميمه أعجبتها، لم تستمع لكلماتي وذهبت إليك تترجاك أن تشتريه لها، وأنت كالعادة لم تستطع رفض طلبها، لتقوم بشراءه رغم اعتراضاتي..
وقتها قررت الاحتفاظ به لترتديه فى حفل مولدها التاسع".
دفنت رأسها فى صدره، بدأت بالبكاء بحرقة.
"لم أكن اعلم أنه آخر فستان سأشتريه لها..
آخر فستان سترتديه..
آخر حفل ميلاد سنحتفل بها فيه..
آخر مرة ستتمنى فيها أمنية جديدة قبل أن تطفئ الشمع".
ضمها إليه أكثر ودموعه تسقط رغماً عنه، ليس من السهل عليهما ما حدث، أن يفقدا ابنتهما الصغيرة التى أتمت التاسعة منذ أيام قليلة بدون سابق انذار..
لكن الحزن يبقى فى القلب، والحياة يجب أن تستمر!
أبعدها عنه قليلاً، يحيط وجهها بكفيه، يبدأ بإزالة دموعها، وهو يهتف بحزم:
"يكفي يا هالة، ما تفعلينه لن يفيد في شيء، رنيم لن تعود، الأَولى أن نهتم بمازن..
ألا ترين حالته منذ وفاتها؟
إنه يحمِّل نفسه ذنب ما حدث لها، بالكاد يأكل ويشرب..
هل تريدين أن تفقديه هو أيضاً؟!"
عادت إلى أحضانه، تمتمت برفض: "لا، لكنني اشتقت إليها".
كأنه كان يحتاج إلى هذه الكلمة ليُهدم الجدار الصلب الذي بناه حول نفسه، يفصح عن مشاعره أخيراً.
قرّب شفتيه من أذنها، همس بفضفضة يحتاج إليها:
"حتى أنا اشتقت إليها كثيراً، أراها في كل مكان في البيت، أنتظرها كل يوم أن تأتي إلى المكتب وتندس في أحضاني بدلال حتى تغفى، أحملها إلى سريرها وأقبلها فأجدها تتمسك بي حتى لا أتركها، أنتظرها كل وجبة أن تأتي وتتدلل عليّ حتى أطعمها بيدي، لا أصدق حتى الآن أنها رحلت، أنني لن أراها ثانية".
ازداد بكاؤه، يهتف من بين شهقاته: "أتعلمين؟
عندما كنت أدفنها، شعرت بها تتمسك بي، تطلب مني ألا اتركها لحالها، شعرت بها خائفة من أن تكون وحيدة والظلام يحيط بها، حتى أنني بقيت بعد رحيل الناس اطمئنها أنني معها، أني لن اتركها بمفردها".
مع كل كلمة ينطق بها، كان بكاؤها يزداد، شهقاتها تعلو، يشاركها طه مقرراً أن تكون هذه آخر لحظاتهما في الرثاء على ابنتهما، وبعدها سيدفنا حزنهما، يعودا لحياتهما، ويهتما بابنهما.
**********
حاول عبد الله تهدأتها، لكنها كانت منهارة، ليس على لسانها سوى جملتين:
"أنت بخير أبي، لست مريضاً".
حملها عبد الله، يجلسها على السرير، يحتضنها، يتمتم ببعض الآيات القرآنية تريحها..
تنتظم أنفاسها، تذهب في نوم عميق، تتمنى أن تستيقظ منه، وتجد أن كل ما حدث مجرد حلم.. كابوس!
لا أصعب من أن تعرف أنك مهدد بين لحظة وأخرى بفقدان والدك، وليس بيدك شيء لتنقذه .
جلب عبد الله الغطاء يضعه عليها، يقبّلها بحنو، ثم يتحرك بهدوء إلى خارج الغرفة.
**********
سأل طارق عمه فور رؤيته: "أين أسيل؟
كيف حالها الآن؟"
"ليست بخير، لقد انهارت فى البكاء، وبالكاد استطعت السيطرة عليها، وبعدها نامت".
همست نشوى بخجل ممزوج بتوتر: "اعتذر، كل هذا بسببي، لقد أفرغت بها غضبي، غافلة عن أنها مجرد طفلة لن تتحمل ما ستعرفه، لكن منذ أن أخبرني عمي برغبتكما بزواج طارق منها وأنا لا اشعر بما افعله".
تجاهلها عبد الله كأنها لم تتحدث، وكذلك فعل محمد..
تقف هى متمتمة ببعض الكلمات، ثم ودعتهم متعللة بتأخرها..
يذهب معها طارق لإيصالها.
تنحنح إسلام، هتف بحرج:
"ماذا سنفعل الآن عمي؟"
رمقه عبد الله بتوتر.
"اعتذر بنيّ، لم أكن أتوقع أن كل هذا سيحدث".
ابتسم له إسلام بسماحة، وقال: "لا عليك".
اقترح عليه عبد الله: "ما رأيك أن تأتي غداً وتتحدثا سوياً؟ وإن تمت الأمور على خير نكتب ورقة الزواج".
رفع إسلام أحد حاجبيه، قال بدهشة: "بهذه السرعة؟"
يقول عبد الله بيأس: "أنا لا اعلم إن كنت سأعيش للغد أم لا، وأريد أن اطمئن عليها".
قال إسلام محاولاً بث الأمل في نفس عبد الله: "لا تقل هذا يا عمي، إن شاء الله ستُعالج وتكون بخير".
**********
استلقت كلاهما على السرير بتعب؛ بعد يوم شاق مر في تنظيف الدار..
زمت ريناد شفتيها بضيق، همست:
"أنا متعبة وجائعة".
ردت عليها لارا: "يجب أن ننتظر للغد حتى نأكل".
نظرت تسنيم وياسمين إلى صديقتيهما بشفقة، ليس بيديهما شيئاً يفعلاه لهما.
استقامت ريناد من على السرير، تسير متجهة إلى خارج الغرفة..
نظرن لها بحيرة، سألتها لارا:
"إلى أين ستذهبي؟"
توترت من سؤالها، ترد عليها بتلعثم: "أنا.. سوف.. ساذهب".
تتنفس بقوة، تهتف بحدة زائفة: "ساذهب إلى الحمام، أم أنه ممنوع؟"
قالت لارا بلا مبالاة: "لا، ليس ممنوعاً".
خرجت ريناد من الغرفة تتنهد براحة..
بالطبع لن تخبرهن عن وجهتها الأصلية، لأنها متأكدة أنهن سوف يعارضن، سيلقين النصائح -التافهة من وجهة نظرها- عليها.
أو أن يحدث عكس ما تتوقع، يوافقن ويذهبن معها، وحينها تخاف أن يتم كشفهن ويعاقبن بسببها.
وصلت إلى وجهتها، تلتفت حولها بحذر وخوف، وعندما اطمئنت من عدم وجود أحد في المكان، هرعت إلى الثلاجة تفتحها.
نظرت لما بداخلها بانبهار..
لحم.. دجاج.. سمك.. معكرونة.. و أنواع كثيرة من الخضراوات، معظمها لا تعرفها ولم تتذوقها من قبل، ابتسمت بسعادة، تبدأ بإخراجهم.
جلبت بعض الصحون الكبيرة لتضعهم فيها بعشوائية، ثم خرجت وهي تحمل صحنين في يديها، تضعهما قرب غرفتها، عادت بسرعة إلى المطبخ لتنقل بقية الصحون، وفي كل لحظة كانت تنظر حولها خوفاً من أن يأتى أحد ويراها، تنتهي أخيراً، تفتح باب غرفتها، تقوم بوضع الصحون على الأرض.
"ساعدوني".
قفزن أخواتها عندما رأين ما تحمله، بدأن بنقل الصحون معها، يدخلن آخر صحن، يغلقن الباب بهدوء..
نظرت تسنيم إلى الطعام أمامها بسعادة.
"من أين حصلتِ عليه؟"
تبتسم ريناد بفخر، تقول: "أخذته من المطبخ، انظري كم هو شهي".
تهتف لارا ونظراتها تلتهم الطعام المرصوص أمامها:
"ولم يراكِ أحد؟"
يزداد فخر ريناد وهي ترى نظرات أخواتها السعيدة، تقول: "لا".
يصيحن بسعادة، تكون أول مرة لا يعاتبنها فيها على سرقتها، لا يلقين عليها النصائح والمواعظ، بل على العكس فرحين بما جلبته..
جلسن حول الطعام، بدأن بالتهامه بجوع وحرمان، إلا ياسمين، بقت تنظر إليهن برغبة و.. خوف..
نظرت لها ريناد بدهشة، سألتها: "ألن تأكلي ياسمين؟
ألستِ جائعة؟"
هتفت ياسمين بغضب: "ما فعلتِه خطأ ريناد، لقد سرقتِ الطعام".
تأففت ريناد بملل، بينما قالت لارا بلا مبالاة: "هي لم تسرقه، لأنه كان بثلاجة الدار الذى نعيش فيه، أى أنه من حقنا!"
تقول ياسمين بتردد: "لكنهن لا يسمحن لنا بالأكل منه، أي أنها سرقته".
تهتف تسنيم ببراءة: " لا، هن الأشرار، لأنهن لا يطعمننا منه".
ابتلعت ياسمين ريقها بضعف، معدتها تصدر الأصوات دليل على جوعها، قالت بمحاولة أخيرة:
"لكن إن علمن أننا مَن أخذناه، سيعاقبننا بشدة".
هتفت ريناد بمرح: "لا تقلقي، لم يشعر بي أحد، وسوف نخفي الطعام بعد إنهائه، لن يعرفن أننا مَن أخذناه".
حينها انقضت ياسمين لتلتهم معهن الطعام بجوع، حتى أنهين جميع الصحون، لتصبح بيضاء من لمعانها..
ساعدن ريناد بإعادتها إلى المطبخ، يعودن بعدها إلى غرفتهن وينامن والسعادة ترتسم على ملامحهن، إحساس الشبع لأول مرة يغمرهن، شاكرين ريناد على هذه الوجبة الرائعة التي لم يتذوقنها من قبل!
**********
دلفت إلى غرفة المعلمات بالمدرسة التي تعمل فيها، تجاهلت نظراتهن وهمساتهن عليها، جلست على مكتبها.
نظرت لها إحدى المعلمات بشماتة، هتفت:
"ألن تباركي لشيماء يا هبة؟
لقد تمت خطبتها على الأستاذ أحمد، معلم اللغة الإنجليزية".
الأستاذ أحمد، مَن كان يلهث خلفها أيام وأسابيع يطلب رضاها وموافقتها على الزواج منه، حتى أنه لم يترك معلم أو معلمة في المدرسة إلا وطلب منهم أن يقنعوها بالموافقة عليه..
حتى قررت أن تخبره بوضعها وتترك له الخيار، أخبرته بعدم قدرتها على الإنجاب، ليرفضها بقسوة، يطلب منها أن تنسى طلبه.
ولم يكتفي بذلك، بل أخبر كل مَن كان يسأله عن قرارها بأنها مجرد امرأة عديمة الفائدة، لا تستطيع إنجاب مجرد ولد!
لتصبح علكة في فم كل المعلمات بالمدرسة، وكم ألمها شماتتهن فيها.
وها هو بعد أقل من أسبوعين من إخبارها له يطلب يد صديقتها للزواج!
هى ليست حزينة عليه، ليست متألمة لأنه خطب أخرى؛ فقلبها ملك لآخر، لكنها تستعجب!
كيف له أن يمطرها بأجمل كلمات الحب ثم يخطب غيرها ببساطة؟!
أين الحب الذي كان يتحدث عنه؟
أين ذهبت كلماته بأنه إن لم يتزوج منها لن يتزوج من غيرها؟
وما يؤلمها حقاً هو إشهاره بعدم قدرتها على الإنجاب، لتتنوع النظرات لها ما بين..
مشفقة.. شامتة..
وتتساءل، هل لو كانت شقيقته مكانها كان سيقبل أن يتحدث عنها رجل أو ينظر إليها الناس مثل نظراتهم لها؟
وتصل إلى أهم سؤال، الذي جعل الحيرة تملأ قلبها..
أى نوع من الرجال هو؟!
هذا إن كنا سنطلق عليه كلمة رجل!
الرجولة لا تعني أن تهين امراة وتجرحها بكل برود!
ليست أن تُشهر بعجز امرأة!
ليس لأنك رجل تنتقل بين الفتيات، تختار من بينهن ما يعجبك دون الاهتمام بمشاعرهن!
باختصار ليس كل ذكر رجل!
والأستاذ أحمد أكبر دليل على ذلك، لا يمت للرجولة بصلة.
تجاهلت ألمها، وابتسامتهن الخبيثة.. الشامتة، وقالت ببرود مصطنع:
"مبارك لكما".
**********
هتف عبد الله بحب: "مدللة والدها استيقظت أخيراً".
اقترب منها وضمها، يطبع قبلة صغيرة على وجنتها..
تتمسك أسيل به بقوة مع تذكرها أحداث الأمس، تبدأ بالبكاء..
"أبي".
أبعدها عنه بصعوبة، ينظر إلى عينيها، يهتف بنبرة قوية:
"هل تحبينني؟"
هتفت بتأكيد: "بالطبع"
يقول بنفس النبرة: "إذاً لا أريد رؤية دموعكِ".
قالها وهو يزيل دموعها بحنو..
"ولا أريدها أن تسقط بسببي حتى إن توفيت، لا أريدكِ أن تبكي عليّ".
تقول بانهيار: "لا أبي، أنت ستعيش، لن تتركني".
تنهد وقال: "صغيرتي هذا قضاء الله، لا يجب الاعتراض عليه..
منذ خلقنا ولكل منا موعد لرحيله، لا نعلمه ولا نستطيع تأجيله".
تتمسك بالأمل، تهتف ببرائة: "يعني أنك لا تعرفه، فلا تقول أنك ستموت".
"لكن مرضي خطير صغيرتي، نسبة نجاتي منه قليلة".
قالها بيأس؛ لا يريد منحها أملاً غير موجود.
إلا أنها لم تقتنع، مازالت متمسكة بالأمل.
"لكنها ليست مستحيلة، تستطيع أن تتعالج وتشفى".
نظر لها بشك، يقول: "تعتقدين ذلك؟
هل تريدين أن أتعالج وأشفى؟"
"بالتأكيد أبي".
سارعت بالقول من دون تفكير.
يستغل عبد الله الفرصة: "على شرط".
رمقته بحيرة، تقول: "ما هو؟"
"تتزوجين".
قالها ببساطة.
تتوسع عيناها بصدمة، تقول: "ماذا؟
لكنني لازلت صغيرة على الزواج".
هتف محاولا إقناعها: "اعلم ذلك، لكنني أريد أن أكون مطمئناً عليكِ في حالة إن حدث لي شيء".
وأردف بمراوغة: "ثم هذا شرطي لكي أتعالج".
زفرت أنفاسها باستسلام، قالت: "ممن سأتزوج؟"
يبتسم عبد الله بسعادة، يقول: " من شخص يُدعى إسلام، صديق مقرّب لطارق".
رفعت أحد حاجبيها بضيق، هتفت: "أريد رؤيته".
"سيأتى ليراكِ بعد قليل، انهضي وبدلي ملابسكِ، ستجدينه هنا".
هتفت بغموض: "لكن أبي، ألن ننتظر أمي؟
ألا تعرف بمرضك؟"
قال عبد الله بتوتر: "لا حبيبتي لا تعرف، لم أرد أن أخبرها حتى لا تقلق..
وعن زواجكِ، أنا أنتظر أن تجلسي مع إسلام وتخبريني برأيكِ، بعدها سأخبرها".
يخرج ويتركها آملاً أن تكون اقتنعت بحديثه..
لا يريد أن يخبرها بالسبب الحقيقي عن عدم إخباره لوالدتها وتشويه صورتها أمامها!
تلتقط ملابسها بتفكير، تبتسم بخبث!
"حان وقت اللعب".
**********
وصل إسلام إلى بيت صديقه..
يفتح له طارق، يرحب به، يدخله حيث محمد وعبد الله، جلس معهم يتبادلون الحديث ..
بعد فترة خرجت فتاة صغيرة..
يهتف عبد الله فور رؤيتها:
"إسلام، أسيل ابنتي".
هتف إسلام: "كيف حالكِ أسيل؟"
همست بخجل: "الحمد لله بخير، وأنت؟"
هتف بحنو" أنا بخير، ما رأيكِ أن نتحدث قليلاً؟"
أومأت بموافقة، تجلس بجانب والدها؛ في إشارة منها على رغبتها بحضور حديثهما ..
ابتسم لها، بدأ كلامه: "تعرفين مَن أنا؟
لِمَ جئت إلى هنا؟"
أجابته بتوتر: "صديق طارق، جئت لأنك تريد الزواج مني".
"نعم، وتعرفين أي معلومات عني؟"
هزت رأسها برفض، يقول معرّفاً عن حاله:
"عمرى سبعة وعشرون عاماً، اعمل محاسب بأحد البنوك، لدي شقيق يُدعى علاء، يدرس الطب بالخارج..
وأنتِ؟"
"عمري خمسة عشر عاماً، سألتحق بالصف الأول الثانوي، وأريد أن أكون مهندسة".
ابتسم لها بتشجيع، قال: "جيد، الهندسة دراسة ممتعة".
ردت له ابتسامته، ثم همست بتوتر وخجل كبير:
"سيد إسلام، أريد أن أخبرك بشيء، لكن عِدني أنك لن تغضب مني".
ابتسم مطمئناً.
"قُلي ما تريدين، لا تخافي".
بينما نظر الباقيون لها بارتياب وحيرة مما تود قوله!
انتهى الفصل قراءة سعيدة

لست أبي (كاملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن