الفصل الخامس
سارت بالحى الذى تقطن به و هى تسمع همسات و لمزات النساء من حولها ، على الرغم من مرور ثلاثة أيام عما حدث مع طليقها ، و لكن الناس لا يكفوا عن الحديث عنها .. خاصة مع حديث مشيرة و إشهارها بأنها ستطردهم من المنزل ، و هذا لأنهم خائفين على حياتها !
أخفضت رأسها بخجل و ألم و هي تسرع بخطواتها حتى تتخلص من هذه الهمسات، تنفست الصعداء حينما خرجت من الحي، لتسخر من نفسها!
لقد تخلصت من همسات جيرانها لتذهب لهمسات المعلمات بالمدرسة ، خرجت من جحيم لتذهب لجحيم أخر .
**********
و من بعدها هبط إسلام الدرجات و هو يستمع إلى حديث النساء عن جارته، تأفف بضجر، فعلى مدار ثلاثة أيام كان يذهب و يعود على هذه الهمسات التى لا تتوقف ، و كأنهن ليس لديهن بيوتاً و اعمالاً تشغلهن ليظلوا طوال اليوم يأتين بسيرتها، يشفق عليها حقاً..
كيف تتحمل كل هذا ؟
لابد من أنها إمرأة قوية لتستطيع السيطرة على هدوئها بهذا الشكل بالرغم مما تسمعه !
**********
مستلقية على سريرها تحدق في الفراغ، مر ثلاثة أيام على وفاة والدها ، ثلاثة أيام لم تراه فيها، لم تتلقى حنانه و حبه ، ثلاثة أيام تقضيها لحالها، لا أحد يطمئن فيهم عليها سوى عمها ، و مَن يدعى زوجها لم تراه سوى مرة واحدة حيث عزاها بموت والدها هامساً بكلمة يتيمة :
" البقاء لله " .
فقط !
هل طفلة بعمرها ستواسيها هذه الكلمة ؟
ستعوضها عن الحنان الذي فقدته ؟
ستجعلها تحيا بنفس الأمان الذي كانت تحيا به من قبل ؟
أم أنه معذور ؟
فحبيبته منذ أن علمت بزواجه و هي تقاطعه، لا توافق على مقابلته او الاستماع إليه ..
لتحيا أسيل بحزن فقدان والدها ، و يحيا طارق بحزن فقدان حبيبته ..
لكل منهما حزنه ، و لكن مَن منهما يستحق المواساة ؟!
اقتحم عمها خلوتها، ليقترب منها و يهمس :
" حبيبتي ، كيف حالكِ اليوم؟ "
" بخير " ، تمتمت بها بهدوء .
لينظر هو إلى عينيها الذابلة و التي اختفت من حدقتيها لمعة التحدى الذى كان يميزها، لتحتل مكانها نظرة حزن و تشتت ..
و يتنهد بصمت ، يريد أن يُخرجها من حالة الحزن المسيطرة عليها و لكنه لا يستطيع..
و كيف سيستطيع و هي التى لم تذرف دمعة واحده منذ أن استيقظت من اغمائها ؟
و كأنها تحتفظ بحزنها بداخلها..
لا يعلم أنها تنفذ وعداً قطعته لوالدها بعدم البكاء عليه ، و كم كان قاسياً فى وعده ذاك على طفلة مثلها .. تختزن حزنها و لا تستطيع التعبير عنه .
تحدث بحماس ظاهرى : " سيذهب طارق ليأتى بوالدتك من المطار الآن ، ألن تذهبي معه ؟ "
ابتسمت بسخرية، والدتها!
هل تذكرتها الآن ؟
بعد أن مرت عليها ثلاثة ليالى و هى وحيدة ..
ثلاثة ليالى لم تجد فيهم مَن يحتضنها و يخفف عنها أحزانها ، مَن يطمئنها أنه سيظل معها و لن يتركها..
ثلاثة ليالى لم تكلف والدتها نفسها السؤال عنها ، بل اكتفت بمهاتفتها و إخبارها أنها ستأتى قريباً و تخلصها من هذه البلد، دون التعبير عن أى حزن يعتريها بسبب فقدان زوجها !
همست بنبرة باردة لا توضح ما يجيش بداخلها من مشاعر :
" لا ، سأنتظرها هنا " .
تفاجأ من ردها الغير متوقع بالنسبه له، لقد أعتقد أنها ستسعد بقدوم والدتها و تهرع إليها ناشدة منها حنان فقدته ، بل أنه كان خائف من أن تقرر العودة مع والدتها ، خاصة مع معاملة أهل بيته لها ، فزوجته لا تعيرها أدنى اهتمام ، و أبنه مشغول فى كيفية كسب مسامحة حبيبته له ، لا توجد سوى أبنته أريج مَن تقترب منها و تواسيها ،و لكنها ايضاً لديها زوجها و لا تتفرغ لها كل الأوقات ، كل هذا جعله يظن أنها ستفتعل المشاكل للعودة مع والدتها ، و لكن على ما يبدو أن استنتاجاته خاطئة، و كم هو سعيد بهذا ..
وضع قبله أبويه صغيره على جبينها و قال :
" كما تريدين حبيبتي" .
و تابع : " إذاً انهضى و تعالى لنجلس بالشرفة و ننتظرهما".
همست : " لا أريد عمي ، أريد أن أجلس لحالي " .
أدعى الحزن و قال : " و أنا مع مَن سأجلس؟
لقد ذهبت عمتك إلى منزل شقيقتها، و طارق سيذهب ليحضر والدتكِ، و أنا لا أحب أن أبقى وحيداً ، هيا انهضي" .
استسلمت له ، فلم يتبقى لها سواه، و لا تريد أن تحزنه..
نهضت معه ، و هي تبتسم عندما سمعت كلماته :
" هذه هي فتاتي المطيعة " .
*********
هتفت منى بتأنيب : " لا تحاولي التبرير يا سعاد ، لا شئ يشفع لكِ " .
تنهدت سعاد بضجر، منذ ساعة و هي تحاول إقناع شقيقتها أنها غير موافقة على هذا الزواج، و أنها وقفت فى وجه محمد من أجل نشوى ، و لكن طارق هو مَن حسم الأمر بموافقته ، و مع ذلك شقيقتها العنيدة لا تهتم بحديثها ، و لا يوجد على لسانها سوى :
" أنا لا افهم كل هذا، كل ما افهمه أنكِ زوّجتى أبنكِ لأخرى، و هذا ما لن أسامحكِ عليه " .
قاطعتها نشوى بصوت متألم : " خالتي ليس لها ذنب أمي ، طارق هو مَن اختار " .
اقتربت منها خالتها لتقوم باحتضانها من الجانب، و هتفت :
" طارق يحبكِ يا نشوى، و لم و لن يحب غيركِ ، هو لم يكن يريدها، و لكن هذه العقربة هي مَن رفضت إسلام لتجبره على الزواج منها " .
لتتابع بتشجيع : " لا تتركيه لها، يجب أن تقفي أمامها و تدافعي عن حبكِ، اثبتي لها أنه لكِ " .
كانت كلمات خالتها تبث بها القوة من جديد ، نعم طارق ملكها هي، لقد كانت حمقاء عندما تشاجرت معه و قررت تركه..
كيف فعلت ذلك ؟
أين كانت روحها المقاتلة ؟
كيف تخلت عن حبيبها بهذه السهولة ؟
تنهدت و هي تفكر ماذا ستفعل ، لم يفت الأوان بعد .. تستطيع إعادة طارق إليها..
" لديكِ كل الحق خالتي ، لم يكن علىّ تركه، من الواضح أن الصدمة أثرت على تفكيري وقتها " .
هتفت خالتها بسعادة : " إذاً ؟ "
ابتسمت نشوى و هي تنهض من مكانها، و تهتف بمكر :
" أنتظريني لأبدل ملابسى و أذهب معكِ ، فلن أخبره عن مسامحتيالفصل الخامس
سارت بالحى الذى تقطن به و هى تسمع همسات و لمزات النساء من حولها ، بالرغم من مرور ثلاثة أيام عن ما حدث مع طليقها ، و لكن الناس لا يكفوا عن الحديث عنها .. خاصة مع حديث مشيرة و شيعها بأنها ستطردهم من المنزل .. و هذا لأنهم خائفين على حياتها !
أخفضت رأسها بخجل و ألم و هى تسرع بخطواتها حتى تتخلص من هذه الهمسات .. تنفست الصعداء حينما خرجت من الحى .. لتسخر من نفسها .. لقد تخلصت من همسات جيرانها لتذهب لهمسات المعلمات بالمدرسة ، خرجت من جحيم لتذهب لجحيم أخر .
**********
و من بعدها هبط إسلام الدرجات و هو يستمع إلى حديث النساء عن جارته .. تأفف بضجر .. فعلى مدار ثلاثة أيام كان يذهب و يعود على هذه الهمسات التى لا تتوقف ، و كأنهن ليس لديهن بيوتاً و اعمالاً تشغلهن ليظلوا طوال اليوم يأتين بسيرتها .. يشفق عليها حقاً ، كيف تتحمل كل هذا ؟ ، لابد من أنها إمرأة قوية لتستطيع السيطرة على هدوئها بهذا الشكل بالرغم مما تسمعه !
**********
مستلقية على سريرها تحدق بالفراغ .. مر ثلاثة أيام على وفاة والدها .. ثلاثة أيام لم تراه بها .. لم تتلقى حنانه و حبه ، ثلاثة أيام تقضيها لحالها .. لا أحد يطمئن فيهم عليها سوى عمها ، و مَن يدعى زوجها لم تراه سوى مرة واحده حيث عزاها بموت والدها هامساً بكلمة يتيمة :
" البقاء لله " .
فقط !
هل طفلة بعمرها ستواسيها هذه الكلمة ؟
ستعوضها عن الحنان الذى فقدته ؟
ستجعلها تحيا بنغس الأمان الذى كانت تحيا به من قبل ؟
أم أنه معذور ؟
فحبيبته منذ أن علمت بزواجه و هى تقاطعه .. لا توافق على مقابلته او الاستماع إليه ..
لتحيا أسيل بحزن فقدان والدها ، و يحيا طارق بحزن فقدان حبيبته .. لكل منهما حزنه ، و لكن مَن منهما يستحق المواساة ؟!
اقتحم عمها خلوتها .. ليقترب منها و يهمس :
" حبييتى ، كيف حالكِ اليوم " .
" بخير " ، تمتمت بها بهدوء .
لينظر هو إلى عينيها الذابلة و التى أختفت من حدقتيها لمعة التحدى الذى كان يميزها .. لتحتل مكانها نظرة حزن و تشتت .. و يتنهد بصمت ، يريد أن يُخرجها من حالة الحزن المسيطرة عليها و لكنه لا يستطيع ، و كيف سيستطيع و هى التى لم تذرف دمعة واحده منذ أن استيقظت من اغمائها ؟ ، و كأنها تحتفظ بحزنها بداخلها .. لا يعلم أنها تنفذ وعداً قطعته لوالدها بعدم البكاء عليه ، و كم كان قاسياً فى وعده ذاك على طفلة مثلها .. تختزن حزنها و لا تستطيع التعبير عنه .
تحدث بحماس ظاهرى : " سيذهب طارق ليأتى بوالدتك من المطار الآن ، ألن تذهبى معه ؟ "
ابتسمت بسخرية .. والدتها .. هل تذكرتها الآن ؟ ، بعد أن مرت عليها ثلاثة ليالى و هى وحيدة .. ثلاثة ليالى لم تجد فيهم مَن يحتضنها و يخفف عنها أحزانها .. مَن يطمئنها أنه سيظل معها و لن يتركها ، ثلاثة ليالى لم تكلف والدتها نفسها السؤال عنها ، بل اكتفت بمهاتفتها و إخبارها أنها ستأتى قريباً و تخلصها من هذه البلد .. دون التعبير عن أى حزن يعتريها بسبب فقدان زوجها !
همست بنبرة باردة لا توضح ما يجيش بداخلها من مشاعر :
" لا ، سأنتظرها هنا " .
تفاجأ من ردها الغير متوقع بالنسبه له .. لقد أعتقد أنها ستسعد بقدوم والدتها و تهرع إليها ناشدة منها حنان فقدته .. بل أنه كان خائف من أن تقرر العودة مع والدتها .. خاصة مع معاملة أهل بيته لها ، فزوجته لا تعيرها أدنى اهتمام .. و ابنه مشغول فى كيفية كسب مسامحة حبيبته له .. لا توجد سوى ابنته أريج مَن تقترب منها و تواسيها ،و لكنها ايضاً لديها زوجها و لا تتفرغ لها كل الأوقات ، كل هذا جعله يظن أنها ستفتعل المشاكل للعودة مع والدتها ، و لكن على ما يبدو أن استنتاجاته خاطئه .. و كم هو سعيد بهذا ..
وضع قبله أبويه صغيره على جبينها و قال :
" كما تريدين حبيبتى " .
و تابع : " أذاً انهضى و تعالى لنجلس بالشرفة و ننتظرهما " .
همست : " لا أريد عمى ، أريد أن أجلس لحالى " .
أدعى الحزن و قال : " و انا مع مَن سأجلس .. لقد ذهبت عمتك إلى منزل شقيقتها .. و طارق سيذهب ليحضر والدتك .. و انا لا احب أن أبقى وحيداً ، هيا انهضى " .
استسلمت له .. فلم يتبقى لها سواه .. و لا تريد أن تحزنه ، فتنهض معه و هى تبتسم عندما سمعت كلماته :
" هذه هى فتاتى المطيعة " .
**********
هتفت منى بتأنيب : " لا تحاولى التبرير يا سعاد ، لا شئ يشفع لكِ " .
تنهدت سعاد بضجر .. منذ ساعة و هى تحاول إقناع شقيقتها أنها غير موافقه على هذا الزواج .. و أنها وقفت فى وجه محمد من أجل نشوى ، و لكن طارق هو من حسم الأمر بموافقته ، و مع ذلك شقيقتها العنيدة لا تهتم بحديثها .. و لا يوجد على لسانها سوى :
" انا لا افهم كل هذا .. كل ما افهمه أنكِ زوجتى ابنك لأخرى .. و هذا ما لن أسامحك عليه " .
قاطعتها نشوى بصوت متألم : " خالتى ليس لها ذنب أمى ، طارق هو من اختار " .
اقتربت منها خالتها لتقوم باحتضانها من الجانب و هتفت :
" طارق يحبك يا نشوى .. و لم و لن يحب غيرك ، هو لم يكن يريدها .. و لكن هذه العقربه هى من رفضت إسلام لتجبره على الزواج منها " .
لتتابع بتشجيع : " لا تتركيه لها .. يجب أن تقفى أمامها و تدافعى عن حبكِ .. اثبتى لها أنه لكِ " .
كانت كلمات خالتها تبث بها القوة من جديد ، نعم طارق ملكها هى .. لقد كانت حمقاء عندما تشاجرت معه و قررت تركه ، كيف فعلت ذلك .. أين كانت روحها المقاتله .. كيف تخلت عن حبيبها بهذه السهولة ؟
تنهدت و هى تفكر ماذا ستفعل ، لم يفت الأوان بعد .. تستطيع إعادة طارق إليها ، هتفت بنبرة قوية :
" لديكِ كل الحق خالتى ، لم يكن علىّ تركه .. من الواضح أن الصدمة أثرت على تفكيرى وقتها " .
هتفت خالتها بسعادة : " إذاً ؟ "
ابتسمت نشوى و هى تنهض من مكانها و تهتف بمكر :
" أنتظرينى لأبدل ملابسى و أذهب معكِ ، فلن أخبره عن مسامحتى إياه عبر الهاتف " .
**********
فى المطار
ينتظر الطائرة القادمة من لندن ، و يده تعبث بهاتفه ليستقر على صورة لحبيبته، فيبتسم بألم ، اشتاق لها.. لدلالها و رقتها.. لغضبها و تهديداتها ، لا يعلم ما يجب عليه فعله لكى تسامحه و تعود إليه، فبعدها قاسى جداً على قلبه العاشق ...
و مع ذلك هو ليس نادماً على زواجه من أسيل ، يكفي أنه حقق أمنية عمه قبل وفاته ...
ارتسم الحزن على ملامحه عندما تذكر لحظة وفاته ، وقتما وصله صياح أسيل ليهرع هو والده إليها ، فيجد باستقباله وجه عمه الشاحب و شفايفه التى صبغت باللون الأزرق ، و برودة جسده التى بعثت فى الغرفة شعور الفقد ، ليتجه إليه و قلبه يرتجف بين أضلعه، و يضع يده على قلبه بتردد .. ليشعر بسكون نبضاته معلنة عن رحيل صاحبها ، حينها توسلته أسيل :
" طارق ، ما به أبى ؟
لِمَ لا يستيقظ " .
لم يعرف بما يرد عليها، ليخلصه والده من هذا المأزق عندما احتضن أسيل و ردد :
" إنا لله و إنا إليه راجعون ، ربي لا أسئلك رد القضاء و لكني أسئلك اللطف فيه " .
و كانت هاتان العبارتان كافيتان لتأكيد إحساسها، لتسقط بين يدي عمها مغشياً عليها .
عاد من ذكرياته على الصوت الصادر بإعلان وصول الرحلة القادمة من بريطانيا ، التقط ورقة ليكتب عليها اسم زوجة عمه، فهو لم يراها من قبل سوى ببعض الصور القليلة و التي بالتأكيد لن تؤهله لمعرفتها بسهولة وسط هذا الحشد ..
وجد له مكاناً يقف فيه ، ليرفع الورقة عالياً بانتظار صاحبة الاسم، و التي لم تكن سوى سوزان ....
بعد فترة طويلة بعض الشئ اقتربت منه إمرأة تبدو في أوائل الأربعينات، ذات جسد رشيق و بشرة خالية من العيوب ... ترتدي سروال ضيق باللون الزيتي، تعلوه بلوزة بيضاء .. و خصلات شعرها القصيرة تتراقص على كتفيها ، وقفت أمامه، و هتفت بلكنة غريبة :
" أنا سوزان ، مَن أنت ؟ "
لينظر هو إلى مظهرها بصدمة، و يرمش بعينيه عدة مرات محاولاً تصديق ما أمامه ، لابد أن أحدهم يمزح معه !
**********
لم تمر عليها سوى بضع دقائق منذ وصولها، و ها هي تتأفف بسأم ، تنظر لكل ما حولها بتقييم و هي تقارنه بوطنها، تدقق بردات فعل الناس لتبتسم باستهزاء على تصرفاتهم، تتفحص المكان لتشمئز منه ، باختصار كانت كفة وطنها الرابحة دائماً، و هذا المجتمع - و ما يماثله - مجتمعات عقيمة لا يميزها شئ ...
حركت يديها بمحاولة فاشلة لجلب بعض الهواء و هي تستعجب كيف يستطيع هؤلاء البشر العيش في هذا الجو شديد الحرارة ، متغافلة عن برودة وطنها و التى تتجمد لها المشاعر قبل الأجساد !
وقعت نظراتها على لافتة تحمل اسمها ، لتتجه إلى الشاب الذي يحملها و تقف أمامه بكل غرور، مستفهمة عن شخصيته ...
" أنا طارق ، أبن عم أسيل " ، قالها طارق و هو مبهور بجمالها ، و الذى يجعلها تظهر و كأنها بمنتصف العشرينات ، و مع ذلك لم ينخدع فيها ، فنظراتها الخبيثة تنفر منها القلوب ، و تعجب من كون عمه كان غشيماً و لم ينتبه للخبث الذي يشع من ملامحها .
قاطعت تفكيره : " و أين أسيل؟
لِمَ لم تأتى ؟ "
"إنها بالمنزل، حالتها صعبة منذ الوفاة و لم تستطع المجئ ".
ابتسمت بسخرية ، حالتها صعبة !
هي لم تصدق عندما وصلها خبر وفاته، لتقيم حفلاً ضخماً احتفالاً بهذه المناسبة، و أبنتها الحمقاء هنا تبكي على ظلال والدها !
و لكنها عادت و سوف تنزع هذه الأفكار و المشاعر العقيمة التى تتمسك بها أبنتها ، لتعود بها إلى الوطن و تربيها كما تحب ، فمَن كان يقف عائقاً أمامها رحل !
" فلنذهب " ، قالها طارق و هو يلتقط حقائبها ، و بداخله يحمد الله أنه تزوج من أسيل، فمن نظرة واحدة لهذه المرأة التي تدعى والدتها يستطيع الجزم بأنها غير صالحة لتربيتها .
**********
" حبيبتي، لقد دعاني أبن عمي عبد العزيز لزيارته و قضاء بعض الوقت مع عائلته ، ما رأيكِ ؟ "
هتفت بحماس بالرغم من نبرة صوتها الحزينة : " فكرة رائعة ، نحتاج إلى السفر و التغيير هذه الفترة ، خاصة مازن، لابد أن هذا سيساعده على نسيان ما حدث " .
تنهد بحزن على حال أبنه الذى تغير مائة و ثمانين درجة من بعد وفاة شقيقته، حيث أصبح انطوائياً بشكل ملحوظ، يكاد يأكل أو يشرب شيئاً، بالإضافة إلى شعور الذنب الذي يكتنفه، بالرغم من محاولاته هو و زوجته إقناعه أنه لا دخل له بوفاة شقيقته.
" كيف حاله الآن ؟ "
" لا يخرج من غرفته إلا إذا ذهبت إليه و صممت على خروجه، لا يتحدث إلا إذا سألته فيرد بإجابات مختصرة حزينة " .
و أردفت بأمل : " أتمنى أن تفيده هذه الرحلة و ترجعه كما كان، لا أريد أن أخسره هو أيضاً " .
*********
" صغيرتي ، أتعتقدين أن والدكِ سعيداً و هو يراكِ حزينة هكذا ؟ "
لتُجيبه أسيل بحزن: " لا ، و لكنني لا أستطيع عمي، أشتاق له كثيراً " .
فأوضح محمد: " كلنا نشتاق له ، و لكن يجب أن نتابع حياتنا و ألا نسمح للحزن بأن يسيطر علينا " .
و تابع : " حاولي أن تجدي ما يشغلك عن حزنكِ ، أريد أن أرى لمعة التحدى بعينيكِ مرة أخرى " .
هتفت بحيرة : " مثل ماذا ؟ "
في هذا الوقت وصلت سعاد و بصحبتها نشوى إلى المنزل ، ليشير محمد إلى نشوى و هو يقول بضيق :
" مثل هذه " .
التفتت أسيل لترى ما يشير إليه عمها، لتعبس بملامح وجهها و هي ترى أمامها نشوى ، و تتذكر ما حدث أخر مرة رأتها فيها، عندما علمت نشوى بزواجها من طارق، لتصيح عليها و تنعتها بسارقة الرجال دون الاهتمام بمشاعرها الحزينة لفقدان والدها ، و ترحل بعدها دون أن تستمع لطارق و تبريره، متهمة إياه أنه لا يحبها، و أنه استبدلها بطفلة عديمة الفائدة، و أنها لا تريد أن تراه مرة أخرى، تاركة إياه بحالة يرثى لها ..
همست : " ما الذي جاء بها إلى هنا؟، ألم تقل أنها لا تريد أن ترى طارق ثانية ؟ "
صدرت ضحكة سخرية من محمد ، لتبتسم أسيل ابتسامة شيطانية، و تهمس بنبرة خبيثة :
" من الجيد أن يعتبرك الناس طفلاً ، فحينها تستطيع فعل ما شئت دون أن يحاسبك أحداً ، أليس ذلك عمي ؟ "
نظر لها عمها باستغراب، ليراها تذهب إلى نشوى و ترحب بها، و ملامح الاستمتاع مرتسمه على شفتيها .
**********
شهقت بخوف عند ظهور جسد ضخم أمامها يعترض طريق دخولها للبناية ...
هتف مصطفى بخبث : " لا تخافي حبيبتي ، إنه أنا " .
التقطت هبه أنفاسها، و هتفت بغضب :
" ما الذي جاء بك إلى هنا يا مصطفى ؟ "
حرك مصطفى رأسه بسخرية، و أمسك بأرنبة انفها ، و همس :
" لا يمكن يا هبه ، تركتكِ سنة لأعود و أجدكِ أصبحتِ سليطة اللسان " .
أبعدت يده بعنف، و هتفت من بين أسنانها : " لِمَ جئت يا مصطفى ؟ "
هتف ببرود : " جئت لآخذكِ للمأذون لنكتب كتابنا " .
قالت بسخرية : " حقاً " .
قال باستمتاع : " نعم ، أم اعتقدتِ أني نسيت موضوع زواجنا ؟ "
و اقترب منها حتى لم يعد يفصل بينهما سوى أنشات صغيرة، و همس :
" حبيبتي، لم أترككِ إلا لتهدأي و تفكرين جيداً ، و لكنكِ ستعودين إلى عصمتي شئتي أم ابيتي " .
صاحت : " بأحلامك يا مصطفى ، أنا لن أعود لك " .
اشتعلت عيناه بغضب يعلن عن جنون صاحبه ، و قبض على ذراعها بقوة، ليسحبها معه و هو يقول :
" لا يا هبه، ستعودين إلىّ .. و اليوم " .
ثم همس بجانب أذنها : " و بعدها سأعرف كيف أحاسبكِ على هذه التصرفات " .
تجمعت الدموع بعينيها و هي تحاول تحرير ذراعها من قبضته ، و تجمهر الناس من حولهما إثر أصواتهما العالية، و تصرفات مصطفى المريبة ، و تدخل أحدهم :
" اتركها يا أستاذ ، ألا ترى أنها لا تريد الذهاب معك ؟ "
" لا دخل لك ، إنها زوجتي و ستذهب معى " ، قالها بحدة .
فصاحت هبه : " لست زوجي يا مصطفى ، و لن أتزوج منك مرة أخرى " .
" اخرسي " ، قالها مصطفى بنبرة قوية و هو يقوم بسحبها .
فصاحت هى باستجداء لمَن حولها : " أرجوكم استدعوا الشرطة " .
و تابعت : " محمود ، أين أنت يا أخي ؟ "
**********
استمع محمود إلى صياح شقيقته، و مع ذلك بقى جالساً بكل برود !
و كيف يذهب و ينقذها و هو مَن أتفق مع مصطفى على فعل هذا ؟
أن يأخذها بالقوة و يجبرها أن تعود إليه ليتخلص منها و من العار الذى جلبته .
و أى عار هذا يا محمود ؟!
أالطلاق عار من وجهة نظرك ؟!
أتسلم شقيقتك لمَن أذلها و تزوج عليها، خوفاً من كلام الناس ؟
أى رجل أنت يا محمود؟!
جلست مشيرة بجانبه، و قالت بنبرة يظهر عليها الراحة: " و أخيراً ستعود إليه و نتخلص منها ، لا أصدق " .
تنهد محمود، و قال بندم : " لم أكن أريد أن تعود إليه بهذه الطريقة ، و لكنها عنيدة لا تستمع لأحد ، و الناس لا تكف عن الحديث " .
و كأن الناس لن تتحدث عليها الآن، و طليقها يهينها فى وسط الشارع و يجبرها على الرجوع إليه !
ابتسمت مشيرة بسخرية : " لترينى الآن يا هبه كيف ستطرديني من الشقة " .
وصلتهم أصوات عالية من الأسفل، ليقف محمود و يهتف بخوف :
" ما الذى يحدث ؟ "
**********
كان يسحبها دون أن يبالي بصياحها ، ليفاجأ بمن يسدد له لكمة، ارتطم على أثرها بالأرض، لتفلت هبه من بين يديه ، و وصلته نبرة حادة غاضبة :
" من الواضح أنك عديم الفهم ..
ألم تسمع ما قالته لك ؟ "
وقف بعصبي، و صاح : " هي زوجتي و يحق لي فعل ما أريده معها " .
" إنها طليقتك ، و لا تريد العودة إليك ، كن رجلاً و اتركها بحالها "، قالها إسلام بعصبية لا تقل عن عصبية مصطفى.
ليقول مصطفى بحنق: " و ما دخلك أنت ؟
ابتعد و إلا لست مسئولاً عما سيحدث لك " .
و لأول مرة يفقد إسلام أعصابه، ليبادر مصطفى بلكمة أخرى، تبعها بعدة لكمات وجّهها إلى جسده ، ليبادله مصطفى بلكمات أقوى، و يقترب منهما عدة رجال يحاولون الفصل بينهما ..
و على مسافة قصيرة ، سقطت دموع هبه، و صاحت عندما وجدت مصطفى يسدد لكمة قوية لإسلام :
" إسلام انتبه " .
سقط إسلام ، و أمسك بوجهه الذى تساقطت منه الدماء ، كاد مصطفى أن يقترب من هبه مرة أخرى و يأخذها ، و لكن صوت سيارة الشرطة منعه، ليهرع هارباً، و هو يصيح :
" لن تفلتي مني يا هبه ، أنتِ لي فقط، و سأعود إليكِ و لن أترككِ " .
حينها هبط محمود و مثل البرائة على ملامحه ببراعة، حيث قال : " هبه ، ما بكِ حبيبتي؟ "
فأجابته هبه بحرقة : " أخي أين كنت ؟ "
**********
هتفت سعاد بسعادة فور أن أغلقت الباب : " انظر يا محمد ، لقد جاءت نشوى لتصالح طارق و تخبره بمسامحتها إياه " .
و أردفت بنبرة ذات معنى: " هذا بالطبع بعدما أخبرتها أن طارق لم يتزوج من أسيل إلا تنفيذاً لرغبة والدها " .
هتف محمد بضيق : " جيد " .
" سأذهب لآتى لكِ بشئ لتشربيه يا نشوى " ، قالتها سعاد بينما هى تتجه للمطبخ .
لتوقفها أسيل سريعاً قائلة : " ارتاحي انتِ عمتي، بالتأكيد متعبة من الطريق، سأحضر أنا لها عصير لتشربه " .
و لم تمهلها الوقت لترد حيث تركتهم و اتجهت للمطبخ ، حضرت أسيل عصير المانجو و سكبته فى الكوب ، لتخرج بعدها و تعطيه لنشوى بكل براءة ...
كانت نشوى عطشة للغاية فشربت حوالي نصف الكوب دفعة واحدة، لتسعل بعدها بقوة و يتحول وجهها للون الاحمر ، و أسيل تقف على بعد منها، و هي تحاول كتم ضحكاتها بصعوبة ..
هتفت نشوى بغضب : " ما هذا ؟"
" ماذا ؟ ، أليس لذيذاً " ، قالتها أسيل ببراءة .
هتفت سعاد : " ما به العصير حبيبتى ؟ "
و هتف محمد بدفاع : " ما بكم على الفتاة ، هذا بدلاً من أن تشكروها " .
فقالت نشوى باستنكار : " علام نشكرها ؟ ، على أنها أحضرت علبة ملح و وضعت بها عصير ! "
لم يستطع محمد تمالك نفسه ، فانطلقت ضحكاته تملأ المكان ، و هو سعيد بما فعلته أسيل بنشوى .
وضعت أسيل إصبعها بفمها، و همست ببراءة و هي ترسم على وجهها ملامح طفولية :
" حقاً ، أكان ذلك ملح ؟
اعتقدت انه السكر، و أنا معتادة على وضع كميات كبيرة منه".
و تابعت بأسف : " اعذريني لم انتبه " .
" لم تنتبهى أم أنكِ تعمدتى وضعه لى ؟ " ، قالتها نشوى باتهام .
" و لِمَ سأتعمد وضعه ؟
هل فعلتِ شيئاً يجعلنى أعاقبك عليه ؟"
قالتها أسيل بسخرية مشيرة إلى أخر مرة رأت بها نشوى
عندما نعتتها الأخيرة بسارقة الرجال دون مراعاة وفاة والدها.
حينها وصل طارق بصحبة سوزان إلى المنزل ...
فتجد سوزان أمامها شخص يشبه زوجها الراحل إلى حد كبير، يقف أمامها بكل غرور، و ملامحه تحمل الكره لها..
فابتسمت بسخرية، من الواضح أن الكره بينهما متبادل !
هتف محمد بترحيب رسمي : " أنرتِ مصر مدام سوزان " .
" شكرا لك سيد محمد " ، قالتها سوزان بلكنتها الغريبة ..
لتتجاهل المرأتين الأخرتين و تنقل نظراتها إلى أبنتها ، و تهتف ببرود و هى تمد لها يدها :
" كيف حالكِ عزيزتي؟ "
" بخير أمي ، و أنتِ ؟" ، قالتها أسيل و هى تبادل والدتها سلامها البارد ، لينظر لهما طارق باستغراب و هو يحاول استيعاب ما يحدث أمامه !
من المفترض أن أسيل لم ترى والدتها منذ فترة ، كما أن والدها و الذي يكون زوج سوزان توفى منذ أيام قليلة ، إذاً أين اللقاء المفعم بالعاطفة، و البكاء رثاءً على من فقداه ؟
ما هذا اللقاء البارد و كأنهما لم يرا بعضهما سوى من ساعات قليلة؟
ما السر وراء علاقتهما يا ترى ؟
لم يكن طارق الوحيد مَن يستنكر هذا اللقاء ، حيث أن محمد أيضاً كان ينظر لهما بتعجب ، و في داخله يشعر بشئ مريب يحدث ..
أما سعاد فعقدت حاجبيها بحيرة مما ترى ، و شعرت بالشفقة على أسيل، فمن المفترض أن تعوضها والدتها عن غياب والدها و تحتوى حزنها ، و لكن من الواضح أن سوزان لا تعي ما هى الأمومه ! ، و أن أسيل بفقدانها لوالدها فقدت كل الحنان الذي كانت تحصل عليه ..
و مع ذلك لم تتغير مشاعر الكره التى نمت نحوها، فهي تُحمِّل أسيل ذنب المعاناة التى يعيشها أبنها الآن، و فراقه عن مَن يحب بسببها ..
أردفت أسيل و هى تعلم أن والدتها لا تريد الجلوس مع عمها و عائلته :
" تعالي معي أمي لترتاحي، بالتأكيد أنتِ مرهقة من الرحلة " لتأخذها إلى غرفتها لتجلس معها .
أما نشوى فلم تكن تنظر سوى لطارق، و هي تؤنب نفسها على بعدها عنه ، و الذى ظهر تأثيره عليه بشكل واضح .. حيث أنه فقد الكثير من الوزن، و السواد يظلل تحت عينيه .. و وجهه يظهر عليه الإرهاق و الحزن..
انتظرت أن ينتبه لوجودها، و لكن من الواضح أنه موجه كل انتباهه لأسيل و والدتها ، فهمست :
" طارق " .
وصلت لطارق همستها لينظر لها باستغراب ، أيعقل أنها هنا؟
هل هذا يعنى انها ستستمع إليه و تسامحه ؟
أم أنه من كثرة تفكيره بها أصبح يتخيل وجودها!
" نشوى ؟ "
ارتسمت ابتسامة سعيدة على ملامح سعاد، فقررت تركهما لحالهما حتى تصفى النفوس بينهما، فنغزت محمد و هي تقول :
" محمد تعال معي، أريدك بموضوع هام " .
استراح محمد فى جلسته، و قال : " ليس الآن " .
نظرت له بحنق من عناده، لتقوم بسحبه من يده : " الموضوع هام و لا يتأجل " .
**********
هتف ببرود بالرغم من أنه بداخله يشتعل شوقاً إليها : " لِمَ أتيتي؟
ألم تقولي أنكِ لا تريدي رؤيتي و لا الاستماع إلىّ ؟ "
ظهر العشق جلياً على ملامحها، و هي تقول: " اشتقت لك" .
ابتسم بسخرية محافظاً على البرود الذى يغلف ملامحه، و قال : " حقاً ؟ "
جلست نشوى تحت قدميه، و قالت : " ماذا كنت تريدني أن أفعل طارق ؟
إن كنت مكانى و علمت أني تزوجت غيرك" .
زمجر طارق، و قاطعها بغضب : " كنت قتلتكِ و قتلته " .
" أرأيت هذا و هو مجرد كلام ، فما بالك بمن تزوج ! ، دون أن تخبرني حتى " .
و أردفت بألم : " جعلتني أعلم من همسات نساء شامتين يي، و هم يقولون أن طفلة صغيرة استطاعت أن تسيطر على قلبك و تنساني، و أنا مَن كنت اعتقد أنها تزوجت من إسلام".
هتف بأسى : " رغماً عني، لقد رفضت إسلام، و سقط عمي مريضاً، اضطررت للزواج منها كي يرتاح و يطمئن، كل شئ حدث بسرعة و دون ترتيب، لم أكن أعي ما أفعله " .
قالت بلهفة : " لقد أخطأت بحقي و أنا كذلك، لننسى ما حدث، لقد تعذبت كثيراً الأيام الماضية بسبب بعدكِ" .
قال بعتاب : " أنتِ من اخترتي ذلك " .
" كنت حمقاء ، الصدمة أثرت علىّ ، كنت مطمئنة حيث أنها ستتزوج من إسلام، و فوجئت عندما سمعت إمرأة تقول أنها تزوجت منك، لقد فقدت أعصابي وقتها سامحني، أنا لا استطيع العيش بدونك " .
أمسكها طارق ليرفعها إليه، و هتف بصوت مفعم بالعاطفة : " حبيبتي و أنا أيضاً، لقد تألمت كثيراً الأيام الماضية، كنت أفضّل الموت على بعدكِ " .
أحاطت نشوى وجهه بكفيها، و همست: " أحبك طارق " .
" اوه لدينا عاشقين هنا ، أتحبان أن آتى لكما بكوبين ليمون ؟
و يا حبذا لو كان مليئاً بالملح ، أظن أنكِ أحببتِ العصائر بالملح نشوى ، أليس كذلك ؟ " ، قالتها أسيل بسخرية و هي تنظر لنشوى بحقد ، فلقد نجحت الأخيره بكسب مسامحة طارق بالرغم مما فعلته معها و معه !
هتف طارق باستغراب : " ملح " .
فتذكرت نشوى ما فعلته هذه الطفلة معها، و أحبت استغلال الموقف و افتعال المشاكل بينها و بين طارق : " أرأيت طارق، لقد وضعت لي بالعصير ملح بل أغرقته به، كنت سأموت بسببها " .
هتفت أسيل بكلمات سريعة، و هي ترفع إصبعها ببرائة : " لم أكن أقصد ، كنت أعتقد أنه السكر ، لم أستطع التفريق بينهما".
صاحت نشوى بغضب : " لا تكذبي " .
" لا تصيحي عليها نشوى " ، قالها طارق بغضب .
وقفت نشوى و هتفت باستنكار : " ماذا؟
أستبدأ بالدفاع عنها ؟
لا يعقل، أأحببتها بهذه المدة البسيطة و نسيتنى أنا حبيبة طفولتك ؟! "
" أى حب و أي نسيان الذى تتحدثين عنه ، هل جننتي ؟ "، سألها باستنكار.
فأجابته بغضب: " جننت ؟! ، إذاً لِمَ لم تعاقبها عما فعلته " .
" لقد قالت أنها لم تقصد ، لا تضخمى الموضوع "، برر لها
فقالت بنفس نبرتها الغاضبة: " اضخمه !، حسناً فلتهنأ بها ".
و التقطت حقيبتها مغادرة المنزل بغضب..
تنهد طارق بيأس، لم تمر ثوانى على رجوعها إليه لتتركه مرة أخرى ، نظر إلى أسيل فوجدها تنظر إليه ببرائة و ملامح طفولية ، لديه شك أنها فعلت هذا متعمدة ، و لكنه لا يريد أن يقسو عليها، يكفي حزنها على والدها، و مع ذلك لا يريدها أن تكرر فعلتها مع نشوى و تغضبها فاقترب منها و همس :
" هذه المرة سأسامحك مراعاة لحزنك ، و لكن إن كررتي ما فعلتيه مرة أخرى سيكون حسابكِ عسيراً " .
" ماذا ستفعل؟
هل ستقتلنى ؟ " ، قالتها أسيل باستهزاء.
إذا لقد كان شكه في محله، و لم يكن وضعها للملح عن طريق الخطأ ، كما أنها بدلاً من أن تعتذر تتحدث بوقاحة .. لقد اختارت السخرية منه و هو سيريها كيف يكون عقابها .. و لكن ليس الآن ، فالآن كل ما يريده هو أن يلحق بنشوى و يراضيها حتى لا تغضب مرة أخرى ، و عندما يعود سيرِى هذه الطفلة المشاغبة ...
تركها و غادر دون أن يتحدث معها بكلمه ، لتهمس هي:
" هذا عقابكِ لأنكِ لم تحترمي وفاة أبي " .
**********
ضمدت له جرح وجهه و قالت بلهفة : " هل يؤلمك ؟ "
وضع يده على مكان وجهه لتعبس ملامحه بألم، و مع ذلك قال بهدوء: " قليلاً " .
ثم وجّه نظراته إلى محمود و قال بتأنيب : " كان عليك أن تخبر الشرطة بما حدث، حتى يأخذوا عليه تعهد بعدم التعرض لها ، و لكنك بما فعلته ستجعله يعود و يكرر فعلته هذه " .
نظرت له مشيرة بحنق..
ما به هذا؟
و ما دخله بما يفعلوه ؟
ألا يكفي أنه بتدخله فشل مخططهم بعودة هبه إلى مصطفى ؟ و لا يكتفى بذلك بل يقوم بإلقاء النصائح عليهما ، و لكنها صمتت و تركت مهمة توبيخه لزوجها، حيث قال بفظاظة :
" شكراً لمساعدتك سيد إسلام ، و لكن هذه أمور عائلية لا أحبذ تدخلك بها " .
رفع إسلام أحد حاجبيه، و قال باستنكار : " أمور عائلية ! ، لقد كان على وشك اختطافها إن صح التعبير ، و لولاي لكانت معه الآن و أجبرها عما لا تريد " .
هتف محمود بداخله بتمنى : " ليت حدث هذا " .
ليتابع موجهاً حديثه لإسلام : " إن مصطفى بمثابة زوج هبه، يوجد بينهما بعض الخلافات ستنتهي قريباً إن شاء الله" .
فى حين وقفت هبه بحزم و هتفت بنبرة قوية : " ليس زوجي، إنه طليقى ، و أنا لن أعود إليه " .
لم يبالى محمود بوجود إسلام و لا بمشاعر شقيقته، و قال بقسوة: " لن تعودي إليه ، و ماذا تريدين إذاً؟
هل ستظلين هكذا ؟ ، مجرد إمرأة فاشلة لا يريدها أحد..
إمرأة مكانكِ كانت حمدت الله أن هناك مَن يرضى بها " .
و تابع بسخرية بكلمات كالخناجر تغرز فى قلبها : " أم أنكِ تنتظرين أن يأتي إليكِ شاب أعزب و يطلبك للزواج ، استيقظي يا هبه، هذا لن يحدث ، إن لم تعودي إلى مصطفى ستكونين فى النهاية لأرمل أو مطلق بصحبة عدة أولاد " .
و أردف و كأنه يقر بالأمر الواقع : " على الأقل مصطفى أفضل من غيره ، نعرفه جيداً، كما أنه لديه الولد الذىي سيعوضك " .
كانت كل كلمة تخرج منه تخترق قلبها فتدمبه ، تتساءل مَن هذا الذى أمامها؟
أهذا شقيقها ؟
مَن ساعدته فى زواجه بمَن يحب، مَن تعامل أبنائه كأبنائها، مَن تصمت على حديث زوجته و نغزاتها من أجله حتى لا تغضبه ، أهكذا يعاملها ؟؟!
لِمَ لا يشفق عليها؟، لا يشعر بها و بما تعانيه ؟ ، لِمَ لا يهتم سوى بالناس و حدبثهم ؟
صاحت بانهيار عندما بدأ الحديث عن عقمها، لا تريده أن يتحدث عنه أمام إسلام، لا تريد أن ترى نظرة الشفقة في عينيه، لا تريد أن تفقد أخر أمل فى الاقتراب منه :
" اصمت يا محمود، لا تتحدث " .
تنحنح إسلام بحرج، و مشاعر عديدة و غريبة تتصارع بداخله، ما بين غضب و كره و شفقة، و مشاعر أخرى لا بستطيع تفسيرها ، يود لو يلكم شقيقها على كلماته و جرحها بهذه الطريقة ، ثم يضمها إلى صدره و يعدها أنه لن يسمح لشخص أن يحزنها ثانية..
نفض أفكاره بقوة، و هو بهتف بداخله معاتباً نفسه : " ما الذى تفكر فيه يا إسلام؟، إنها جارتك، كيف تفكر فيها هكذا؟"
و قرر أن أفضل شئ هو المغادرة ، فعلى كل الأحوال وجوده لا فائده منه.
" مع السلامه ".
فقط قال هذه الكلمة، فإن كان قال أكثر منها لكان وبخ محمود على ما يفعله، و بالتأكيد الأمر كان سينتهي بمشاجرة عنيفة ، غادر و هو يشعر بالشفقة على هبه، و لا يعلم أنه ترك قلبه عندها !
**********
بالتأكيد يحدث شئ مريب في الدار !
فعلى عكس المعتاد، كانوا الأطفال جالسين فى غرفتهن يتمازحن سوياً دون أن يُعاقبن أو يُضربن ، كانت جلسة طفولية بريئة مليئة بالضحك قليلاً ما يحصلن عليه..
هتفت ريناد بفضول : " تخيلن أن آبائنا و أمهاتنا أحياء، و أننا نعيش معهما، كيف ستكون حياتنا؟"
أغمضت ياسمين عينيها و هتفت بحالمية : " كنت سأشتري العديد من الملابس، و أشاهد التلفاز، و في المساء أنام بحضنهما، كانا سيذهبان معي إلى المدرسة و لن يتركوني لحالي " .
تبعتها لارا : " و أنا كنت سأتحدث كما أريد دون أن أتعرض للعقاب على أى كلمة ، و كنت سأطلب من أمي أن تصنع لي العديد من الأكلات الشهية " .
فى حين هتفت تسنيم : " لا أعلم حقاً، لم أتخيلهما من قبل، و لكن أعتقد أن حياتي معهما ستكون أفضل من هنا ، خاصة إن كان لدىّ شقيق، كان سيلعب معي و يدللني ، سيحميني و يدافع عني و لن يسمح لأحد بأذيتي " .
و جاء دور ريناد لتجيب عن سؤالها فقالت : " و أنا كنت سأتنزه معهما كثيراً، كانا سيعطياني الأموال لأشتري ما أريده ، كنت سأطلب ما أحب و أجده عندي" .
هتفت لارا بحزن : " كانت أمي ستحضر معى الحفلات المدرسية و كنت سأفخر بها ، و أبي يشترى لي " .
صمتوا جميعاً، فهذا أكثر ما يؤثر بهن و يحزنهن، عندما تقام الحفلات المدرسية فتحضر كل طفلة مع والدتها معرّفة صدبقاتها عليها، ليأتى والدها حاملاً هدية كبيرة لها و بعطيها إياها، و هو يلقي على مسامعها الكلمات الفخورة المشجعة .. بينما يقفن هن على بعد منهم ينظرن إليهم بحسد و تمنى .
أحلامهن بسيطة، و لكن القدر كان له رأياً أخر، فماذا يخبئ لهن أيضاً ؟
**********
دلفت أسيل إلى الحجرة، لتجد والدتها تعبث بهاتفها المحمول :
" أمي هيا، لقد أعدت عمتي سعاد الطعام " .
هتفت والدتها بينما هى مركزة بهاتفها : " حسناً عزيزتى " .
و أردفت بتساؤل : " متى تريدبن العودة إلى لندن حتى أحجز التذاكر ؟ ، و من الأفضل أن يكون غداً فأنا لن أحتمل المكوث هنا لفترة طويلة".
بلعت أسيل ريقها بتوتر، يبدو أن موعد المواجهه قد حان!
" أمي أنا لن أعود معكِ، سأبقى هنا مع عمي " .
اكفهرت ملامح سوزان بملامح مظلمة عنيفة، و لو كانت النظرات تقتل لوقعت أسيل قتيلة من قوة نظرات والدتها.
" ماذا قلتِ أسيل ؟ ، لم أسمعكِ " .
أعادت أسيل كلماتها بتلعثم : " أنا لا أريد العودة للندن " .
و ببرودها الشهير وضعت سوزان قدمها على الأخرى، و هتفت بلا مبالاة : " و ماذا تريدين ؟ ، المكوث هنا " .
نطقت أسيل بتصميم : " نعم " .
ابتسمت سوزان بسخرية ، ابنتها الحمقاء .. تعتقد أنها ستتركها هنا مع شقيق زوجها الراحل، ليربيها على طريقته مثلما كان يريد عبد الله ، هي من تنفست الصعداء أخيراً عندما علمت بوفاة زوجها، لتخطط كيف ستربي ابنتها كما تريد دون وجود أية عوائق ، كيف ستنزع عنها الأفكار و المعتقدات العقيمة التي زرعها عبد الله بها ، و تغرز بها قيم وطنها و معتقداتهم.
" عزيزتي من الأفضل أن تحضري أغراضكِ حتى أتصل أنا و احجز التذاكر " .
غضبت أسيل من تجاهل والدتها لقرارها ، خاصة و هي تعلم أنها لا تريدها، أو الأفضل أن نقول أنها لا تحبها، و أنها فقط تريد أن تجعلها نسخة أخرى منها، متخلصة من كل ما زرعه بها والدها ...
نعم هى تعلم كل هذا !
فهى دائماً ما كانت ترى أعتراضات والدتها على طريقة تربية والدها لها، دائماً ما كانت تستمع إلى شجارهما العنيف بسببها ، كانت تلاحظ كره والدتها لها لأنها تفعل ما يريد والدها، حتى أنها كانت تبذل كل طاقتها لكسب رضاها و ايضاً عدم خسارة رضا والدها ، حتى أصبحت مشتته بينهما لا تعلم ما تريده هى !
و لكن كل هذا تغير بوصولها إلى هنا ، بالرغم من أنها كانت تكره هذا المجتمع بسبب حديث والدتها ، إلا أنها وجدت فيه الدفء و الحب الذان لم تجدهما فى لندن ، حصلت على أخت مثل أريج التي لم تتركها الأيام الماضية، حنان محمد الذي عوضها عن غياب والدها، عاطفة الأمومة التى أغرقتها بها سعاد فى أول أيامها هنا و التى تقسم أنها ستسترجعها، فهي لم تنعم بمثلها من قبل!
و مشاكستها مع طارق التي أدمنتها ، لن تترك كل هذا لتعود إلى لندن لتتغلف مشاعرها بالجليد مرة أخرى، و تصبح كالآلة بيد والدتها تفعل بها ما تريد .
كما أنها تستغرب منها، فكيف لها ألا تبدى أى تأثر بوفاة زوجها ؟
أ كانت تعلم بمرضه ؟!
خرج السؤال من شفتيها دون أن تدرى : " أمي، أكنتِ تعلمين بمرض والدي ؟ "
ظهرت على شفتي سوزان ابتسامة شامتة، و قالت : " و لكني لم أتوقع أنه سيستسلم للموت بهذه السرعة ، كنت أعتقد أنه سيتمسك بالحياة قليلاً، من أجلكِ على الأقل " .
جحظت عينا أسيل من الصدمة ، تعلم كم والدتها قاسية، و كم كانت تختلف مع والدها على أتفه الأسباب ، و لكن أين الرحمة؟، أين الإنسانية؟ ، كيف تشمت بمرض شخص هكذا؟
تنفست بقوة محاولة منع دموعها من السقوط، مفجرة القنبلة التى ستقضي على آمال والدتها :
" أنا سأبقى هنا أمي، مع زوجي " .
**********
بينما كانت سعاد منشغلة بنقل الطعام إلى المائدة، و محمد منغمس برؤية الأخبار، وقف طارق عند مقعد أسيل و هو ينظر إلى الصحون الموضوعة أمامه :
" حان وقت عقابكِ يا صغيرة " .
فقام بوضع كميات كبيرة من الشطة على طعامها، و بعدها قام بتقليبه جيداً حتى لا تلاحظ وجودها :
" الجزاء من جنس العمل " .
ثم ذهب و جلس بجانب والده كأنه لم يفعل شيئاً، و هتف بتساؤل :
" متى ستخبر السيدة سوزان بزواجي أنا و أسيل أبي؟ "
رد عليه والده باقتضاب : " بعد العشاء " .
" و ماذا إن اعترضت عليه وافتعلت المشاكل ؟ "
كاد محمد أن يرد عليه عندما فوجأ بخروج سوزان من الغرفة و ملامحها لا تبشر بخير، وقفت أمامه، و هتفت بنبرة تحمل الكثير من الكراهية :
" لا تعتقد أنك فزت ، أبنتي سوف أسترجعها و سوف تعود إلىّ " .
و رحلت بعدها صافقة الباب من خلفها، و نظرات الحيرة تتبعها .
" ما بها ؟ " ، قالها محمد باستغراب .
" لقد علمت بزواجي من طارق، ففضلت العودة إلى لندن بما أن وجودها لا داعي له " .
و تابعت و هى تجلس على المائدة : " ألم نأكل ؟ "
جلسوا جميعاً ليبدأوا الطعام ، أخذت أسيل ملعقة كبيرة من الصحن الموجود أمامها و أكلتها، فشعرت بنار فى فمها !
**********
وصل إسلام إلى بيته بعد يوم شاق و متعب، فوجد هبه و لارا يجلسان سوياً و هما يقومان بتركيب قطع لعبة الألغاز ...
حالما رأته لارا انقضت عليه لتحتضن ركبتيه، و هى تهتف بنبرة طفولية سعيدة:
" أبى أتى " .
التقطها إسلام ليحملها و يقبلها، ثم يقول: " كيف كان يوم صغيرتي ؟ "
قالت بفخر : " لقد ساعدت أمي في تنظيف البيت، و حضرنا الطعام، و بعدها قررنا اللعب حتى تأتي " .
قال مقلداً نبرتها : " رائع، يعني أني سآكل من صنع يديكِِ اليوم " .
اقتربت منه هبه، و سحبت لارا من بين يديه، و قالت : " سأضع الطعام ريثما تبدل ملابسك " .
رفع إسلام أحد حاجبيه و لم يتحرك من مكانه ، فابتسمت هبه بخجل، و اقتربت منه تطبع قبلة صغيرة و سريعة على وجنته ، بينما لارا تنظر لهما بسعادة و حب .
أنت تقرأ
لست أبي (كاملة)
Romance"هل لي أن اعلم ما الذي فعلتِه؟ كيف ترفضين الزواج من إسلام؟ ألا تعلمين ماذا فعلت لكي يقبل الزواج بكِ؟" شعرت بقبضته القوية على ذراعها، همست متأوهة بألم، تحاول تحرير ذراعها دون جدوى.. تجاهلت ألمها عندما سمعت توبيخه لرفضها لإسلام، برقت مقلتاها بالتحدي،...