الفصل الخامس و الثلاثون

11.4K 438 24
                                    

فوت فوت فوت فوت فوت فوت فوت فوت فوت فوت و كومنت 😂😂😂

رآها من بعيد ، تضحك مع صديقاتها و كأن غيابه عنها لا يؤثر فيها ، و كأنها لا تحبه !
غريب ، مع أنه يسمع أن مَن يحب يتمنى الموت على أن يفارق حبيبه !
و لكن لا يهم ، فهو أيضاً لا يحبها ، و لا يرغب سوى في الحصول على جسدها اللذيذ !
و مع أنه كان قريباً جداً في فعل هذا ، إلا أن والدها أفشل الموضوع و جعله يعود إلى نقطة الصفر ، و لكن صبراً ، أيام قليلة و سينتصر على إسلام هذا ، و يثبت له أن لا أحد قادراً على منعه من الحصول على ما يريده !
رسم الحزن على ملامحه ، و اقترب منها هي و صديقتيها ، ليقول فور أن وقف أمامهن بنبرة يائسة :
" لارا ، أريد أن أتحدث معكِ من فضلكِ " .
تطلعت إليه ، و ببراءة هي جزء من شخصيتها ، تأثرت بملامحه الحزينة ، و ألمها قلبها على فراقه .
نهضت ، و قالت إلى صديقتيها : " دقائق و سأعود " .
سارت معه حتى جلسا على طاولة لحالهما ، فبادر بالحديث قائلاً : " كيف حالكِ ؟ "
رفعت أكتافها ، وابتسامة حزينة مرتسمة على شفتيها ، و قالت : " كما ترى " .
همس قائلاً : " ارى أنكِ حزينة .. مثلي .. و أكثر " .
هتفت بقلة حيلة : " لا أنكر أنني حزينة بالفعل ، و لكن ماذا بيدي أن أفعل ؟ ، لا يمكنني الإعتراض على قرار والدي " .
صاح بانفعال : " لا أفهم حتى الآن لِمَ رفضني ، لِمَ حرمنا من بعضنا ؟ "
صوته العالي جذب أنظار الطلاب حولهما ، فأطرقت لارا رأسها بحرج ، و همست : " خالد صوتك أرجوك ، الطلاب ينظرون إلينا " .
تنهد بقوة ، متظاهراً بمحاولته تهدئته لنفسه ، لتتنهد هي الأخرى ، و تقول :
" لقد سأل أبي عنك ، و علم بعلاقاتك المتعددة مع الفتيات ..
حاولت إقناعه أنك كففت عن ذلك منذ أن عرفتني و أحببتني ، إلا أنه لم يقتنع و .. أصرّ على رفضك " .
" بالله عليك ، يرفضني من أجل هذا ، لِمَ هل كل الشباب ملائكة لم يعرفون فتاة من قبل ؟
إن رفض كل أب عريس لأبنته من أجل هذا ، لن تتزوج فتاة في البلد " .
هتفت باقتناع : " والدي لم يعرف فتاة قبل أمي ، و عمي كذلك " .
و تابعت بتردد : " و .. أمير ، لذلك وافق والدي عليه " .
نهض صائحاً .. غير مبالياً بالمحيطين به : " ماذا وافق عليه ، تمزحين .. صحيح ؟ "
أغمضت عينيها بيأس ، و همست برجاء : " خالد أرجوك ، أخفض صوتك قليلاً ، ماذا سيقولون الطلاب عنا ؟ "
هتف بلا مبالاة : " يقولون ما يقولونه لا يهمني ، و لكن أنتِ " .
قاطعته بسرعة : " أنا رفضته خالد ، لن أتزوجه ، فاهدأ أرجوك " .
تنهد بارتياح و جلس ، فلقد كانت على وشك الضياع منه !
هتف بمكر .. يتلاعب بعقلها : " لارا حبيبتي لا يوجد شاب لم يعرف فتاة من قبل ، كل شاب تكون له فترة في حياته يضرب فيها كل القوانين ، و يعيش من أجل أن يتمتع و فقط .
بعض الشباب لا يعترفوا بذلك و يدعون أنهم ملائكة ، و لكنكِ إن تمعنتي في حياتهم ، ستجدين أن فتاة ما مرت فيها ، و إن اختلفت أعذارهم لوجودها ، فمن الممكن حتى أن يدّعون أنهم مجرد صديقة ، مقنعين أنفسهم بأنهم لم يقوموا بشئ خاطئ ، مع أنه العكس ! "
و قد كان ، استطاع أن يغير قناعاتها بكلماته الكاذبة ، فمع كل حرف كان ينطقه ، كانت هي تتذكر ليندا و علاقتها بعمها !
لقد استمرت علاقتهما لقترة طويلة .. طويلة جداً ، و وصلت إلى أن تأتي ليندا إلى منزل عمها في أي وقت !
إذاً خالد على حق ، و لا يوجد شاب لم يعرف فتاة من قبل !
صاح صوت بداخلها معترضاً : " يا غبية ، نسيتِ والدكِ و .. أمير ! "
ليستكمل الشيطان دور خالد ، و يتلاعب في عقلها : " و هل هناك أب يقص على فتياته مغامراته العاطفية قبل الزواج ؟
و أمير هذا من أين تعرفيه لتصدقين على عدم معرفته بفتاة قبلكِ " .
ابتسم بانتصار عندما رأى التردد البادي على ملامحها ، و تابع ليحكم سيطرته على كل خلية في عقلها :
" حبيبتي ، أنا إن لم أكن أحبكِ لم أكن لأصارحكِ بكل علاقاتي ، أنا أريد أن أبدأ حياة جديدة معكِ ، حياة لا تنتهي إلا بموتي " .
سارعت بالقول : " بعيد الشر عنك ، ليمنحك الله العمر الطويل " .
اتسعت ابتسامته ، و تجرأ و .. التقط كفيها بين كفيه ، و همس بنبرة يعلم تأثيرها على القتيات جيداً :
" إذاً ، هل تقبلين أن تستكملي حياتكِ معي .. و ألا يفرقنا إلا الموت ؟ "
حررت كفيها بوجه متورد ، و لكن هذا لم يمنع قولها : " و لكن أبي " .
قاطعها بخبث : " اتركي أمر والدكِ لي ، أنا سأتفاهم معه ! "
**********
حدقت في الغرفة الفارغة حولها ، و المليئة بمختلف الصور لصديقتها .. في مختلف مراحل حياتها .
ابتسمت بمرارة عندما تذكرت إصرار والد صديقتها على استضافتها في منزله حتى تشفى تماماً ، و أقسم أنها لن تخرج من المشفى إلا على بيته .
كم لارا محظوظة به ، و كم تحسدها عليه !
و كم تمنت في طفولتها أن تأتي عائلتين ليحرروها هي و صديقتها من ذلك الدار البائس ، كما تحررتا لارا و تسنيم من قبل .
لكن العائلة لم تأتي ، و تجرعا مرارة الحرمان و القسوة طوال سنوات حياتهما الثمانية عشر .
و من الواضح أن مرارة الحرمان لن تتركها ، و ستتابع معها طريقها حتى الموت !
أغمضت عينيها ، متخيلة أن والديها لم يتوفيا ، و أنها وسطهما .. جالسة في خجل ، بينما بشار و والدته يتقدمان لطلب يدها !
و هو حلم يستحيل الحدوث !
فلا عائلة لها ، و بشار لن يكن لها يوماً !
سالت دموعها و هي تتذكره ، يا إلهي .. لِمَ هكذا ؟
ما ذنبها في وفاة والديها و هي صغيرة و عدم وجود عائلة لتعيش معها ؟
ما ذنبها في
كوَنها نشأت في دار أيتام ؟
ما ذنبها في فقرها و عدم قدرتها حتى على استكمال تعليمها ؟
لِمَ تحاسبها والدة بشار على ذنب لم ترتكبه ؟
التقطت هاتفها - هديته - و فتحته ، لتظهر صورته على الشاشة الرئيسية .
ملست عليها ببطء و حنو ، و الألم مرتسم على ملامحها ، ثم همست تبثه شوقها .. تعاتبه على تركه لها .. تشكيه وحدتها و حزنها ، و كأنه ماثلاً أمامها .. يستمع إليها !
" بشار .. اشتقت لك ..
لِمَ تركتني ؟
كيف طاوعك قلبك و فعلتها ؟
هل أجبرتك والدتك ؟ "
ضحكت بمرارة ، و قالت : " هه ، علام أجبرتك ؟
على تركي أم .. على خطوبة فتاة أخرى ؟ "
دمعة يتيمة هبطت من عينيها ، و هي تقول : " أنت تريدها يا بشار ، سعيد بها ، احتضنتها أمامي و ابتسامتك تملأ وجهك ، أنت .. تحبها !
تحبها و لم تحبني يوماً !
هل كنت تخدعني بشار ؟ ، هل كنت تتسلى بي ؟ "
المزيد من الدموع هبطت من عينيها ، بينما هي تستلقي على السرير : " لقد أعتقدت أنه أصبح لي عائلة أخيراً ، كنت لي عائلتي التي كثيراً ما تمنيتها ، و لكنك تركتني كما هم تركوني " .
**********
عبر بوابة الجامعة التي من المُفترَض أنها انتقلت إليها ، الغضب يشتعل بداخله كنيران .
كان يعتقد أن غيابها عن المنزل لمجرد أيام و بعدها ستعود ، أما أن تنتقل من الجامعة و .. تترك البلد !
هذا ما لن يصمت عليه ، و سيحاسبها عليه حساباً عسيراً !
لكن الآن ، أين عليه أن يجدها ؟
الجامعة كبيرة ، و هو لا يعرف فيها أحد .
استوقف أول شاب مر في طريقه ، و سأله :
" من فضلك ، أين مبنى كلية الإقتصاد ؟ "
وصف له الشاب الطريق و ابتسامة بشوشة مرتسمة على ملامحه .
ليشكره بامتنان كبير ، و يسير كما أرشده .
دلف إلى المبنى و عينيه تجول المكان ، علها تكون خارجة من قاعة ما أو دالفة إليها .
و إن لم يراها ، سيستوقف كل طالب يمر أمامه و يسأله عنها ..
( طالبة انتقلت حديثاً إلى جامعتكم ، في الفرقة الثانية ، و تُدعى تسنيم ! )
جنون ما سيفعله ، هو يعلم ذلك ، و لكن .. أ ليست هي السبب في جنونه ؟!
كانت عينيه تتحرك في المكان ، بينما هو في غمرة أفكاره ، لتقع عليها .
كانت واقفة مع فتاة أخرى ، و ابتسامة لا تُذكَر مُرتسمة على ملامحها .
تعالت دقات قلبه شوقاً ، و قد تلاشى كل الغضب الذي كان يسيطر عليه ، و كأنه ليس ذلك الإنسان الذي كان يتوعدها منذ دقائق !
تسارعت خطواته إليها ، حتى وقف خلفها ، ليهمس بشوق ظهر في كل حرف ينطقه :
" تومي" .
**********
توقفت عن الكلام فجأة ، و دقات قلبها تتسارع بشوق و عدم تصديق !
لا يمكن ، هذا ليس صوته ، مازن ليس هنا !
تحرك ليقف أمامها ، و كرر همسه : " تومي " .
رأته أمامها ، ففركت عينيها بقوة ، موقنة أنه سيختفي خلال ثواني !
هزت رأسها بعدم تصديق ، و سألته : " كيف عرفت مكاني ؟ "
أشعلت بجملتها غضبه الذي كان قد خُمِد لثواني ، ليقول بسخرية لاذعة :
" و هل هذا صعب يا تسنيم ؟ "
لا ليس صعباً عليه ، و لكنها كانت تأمل في عدم معرفته لمكانها .
تظاهرت بالبرود ، و قالت : " ماذا تريد يا مازن ؟ "
هكذا .. ببساطة ، تسأله ماذا يريد ؟
حسناً ، سيُريها ماذا يريد !
سحبها من ذراعها فجأة ، و دون أن يتحدث ، لتصيح بدهشة :
" مازن ماذا تفعل ؟ ، اتركني " .
تيعتها صدبقتها التي كانت واقفة معها : " أنت يا هذا ، كيف تُمسِكها هكذا ؟ ، اتركها حالاً " .
و كأنه لا يستمع إليهما ، سار بها بسرعة خارجاً من الجامعة ، غير مبالياً بأنظار الطلاب الموجهة لهما ، و المصدومة من تصرفاته !
اقتربوا منه بعض الشباب ، بينما تحرك الأخرين ليستدعوا أمن الجامعة ، ليستوقفهم بصوت قوي :
" إنها أختي " .
فقال أحدهم بعدم تصديق : " إن كانت أختك فعلاً ، لِمَ تسحبها هكذا ؟"
رد مازن بفظاظة ، بينما قبضته لازالت محيطة بذراع تسنيم : " مشاكل عائلية لا دخل لك بها " .
لم يقتنعوا الشباب بإجابته ، فسأل أحدهم تسنيم بلطف : " هل تعرفيه يا آنسة ؟ "
تطّلعت إلى مازن بتردد ، لتقول بعد لحظات : " نعم .. إنه أخي ، ابتعدوا من فضلكم " .
اطمئنوا الشباب ، و بدأ كل واحد ينصرف إلى كليته و محاضراته .
لتقول تسنيم بهدوء : " اتركني و سأخرج معك ، فمظهرنا غير لائق هكذا أمام الطلاب " .
استجاب مازن و ترك ذراعها ، لتتقدم أمامه .. فيتبعها بوجل ، و الخوف بدأ يتسلل إلى قلبه !
أخته تغيرت ، هذه ليست تسنيم التي يعرفها !
لم يعتاد على هذا البرود منها ، اعتاد عليها مبتسمة .. مرحة .. مشتاقة ..
أما هذه التي أمامه ، فعكس فتاته الصغيرة !
صعدا إلى السيارة ، لينطلق بها سريعاً إلى أقرب مكان خالي ، لا يوجد به سواهما .
وصل إلى طريق مقطوع ، لا تمر فيه سوى سيارة أو سيارتين كل ساعات ، صفّ سيارته على جانبه ، و أغلق المحرك ، ليلتفت إليها و يقول :
" حان الوقت " .
عقدت حاجبيها بعدم فهم ، و سألته : " ماذا ؟ "
اشتعلت عيناه بغضب و .. عتاب ، و صاح : " أخبريني تومي ،  لِمَ رحلتي ؟
لِمَ تركتي المنزل و الجامعة ؟
ما الذي يستحق هذا ؟ "
انتفضت من صياحه و ملامحه الغاضبة ، و التي نادراً ما كانت تتعرض لهما ، بسبب دلاله لها .
همست بتردد خائف : " لم أستطع أن أمكث معك في نفس المنزل بعد ما .. سمعته " .
صاح بنفاذ صبر : " ماذا سمعتي بحق الله ؟! "
ليتذكر كلمات والده ، أنها قد رحلت بسبب شكها في حبه لها !
" مستحيل تسنيم ، هل صدقتي ؟ "
ابتعلت ريقها بتوتر ، و همست بتشتت : " نعم .. لا ..
لا أدري " .
لتتنهد بقوة ، و تلتفت إلى الجهة الأخرى ، مُبعِدة عينيها عنه ، و تقول :
" المشكلة ليست في تصديقي من عدمه يا مازن ، المشكلة بي .. بمشاعري ، لقد أصبحت أفسّر تصرفاتك بأكثر من معنى " .
عقد حاجبيه بعدم فهم ، و هتف : " كيف ؟
ماذا تقصدين ؟ "
أصدرت تنهيدة أخرى ، قبل أن تقول : " عشت معك أكثر من تسع سنوات يا مازن ، ام أراك فيها سوى أخي ، و لم أعتقد أنك تراني عكس ذلك ..
لكن ما دار بينك و بين والدي صدمني و زلزل مشاعري ، و أصبحت أخاف من أي تصرف تقوم به معي " .
" تخافيين مما تسنيم .. أخبريني ؟ ، كل ما قيل مجرد تفاهات لا أساس لها من الصحة " ، قالها بنبرة قوية .. حادة .
لينتفض جسدها مرة أخرى ، و يلاحظ هو ذلك ، فيتنفس بقوة .. ليُهدّأ نفسه .
همس بنبرة حنونة : " تومي .. أنتِ أختي ، صغيرتي التي نشأت على يدي ، أنا لا أستطيع الإبتعاد عنكِ أو تخيل حياتي من دونِك " .
و هي ايضاً لا تعتبره سوى أخاها ، و لكن حديثه مع والدهما ذلك اليوم لا يزال يتردد في أذنها .. يُخيفها و .. يُثير مشاعرها !
" أعلم ذلك ، و ستظل أنت أخي .. الذي أحمد الله ليلاً و نهاراً لأنه رزقني إياه " .
همس بلهفة : " إذاً عودي معي إلى البيت ، و أنا سأتكفل بأمر إعادتِك إلى الجامعة " .
هزت رأسها باعتراض ، و همست بقلة حيلة : " لا أستطيع " .
قبض على المقود بقوة ، و قال : " لِمَ بحق الله ؟ "
سارعت مبررة : " مازن افهمني ، ماسمعته ليس سهلاً ، لا يمكنني تقبّل أن الشخص الذي عشت معه لسنوات على أنه أخي من الممكن أن يراني بطريقة أخرى " .
طرق على جانب رأسها بعنف ، و هو يقول : " أخرجي ماسمعتيه من هذا العقل الصغير ، لأن لا أساس له من الصحة ، انسيه و عودي كما كنتي " .
هزت رأسها مرة أخرى ، و قالت : " لا أستطيع ، ستظل هذه الكلمات في عقلي و ستؤثر على علاقتنا " .
صاح بنفاذ صبر : " ما الحل إذاً ، أخبريني " .
" الحل أن أظل هنا ، على الأقل هذه السنة ، حتى أستطيع العودة كما كنت " .
صاح مرة أخرى بعنف : " أنتِ غبية يا تسنيم .. غبية ، و أنا لم أقتنع بأي مما قولتيه " .
و كيف عليها أن تقنعه ؟
هل تخبره بأنها باتت تشك في كل تصرفاته ، مشاعرها تترجم كل فعل منه - مهما كان بريئاً - بطريقتها ؟
أنها باتت لا تفهم نفسها ، و أنها تخشى أن تكتشف في يوم أنها لم تحبه كأخيها يوماً !
تنفس بقوة ، ثم قال : " حسناً تومي ، عودي إلى المنزل ، و سأغادر أنا ، و أمنحكِ كل الوقت الذي تطلبيه " .
هتفت معارضة : " لا ، والداي لن يحتملا فراقك ، خاصة أمي ، سأشعر بالذنب عندما ارى شوقها إليك " .
" أنتِ أيضاً ابنتها ، و ستكون قلقة عليكِ .. و مشتاقة لك ..ِ
كما أنني لن أكون مطمئناً عليكِ و أنتِ في بلد غريب بمفردِك " .
ابتسمت له مطمئنة ، و قالت : " لتعتبر أنني في مدينة جامعية بحكم دراستي ، كما أنها ستزورني دائماً و أنا أيضاً ..
أما من ناحية الإطمئنان فلا تقلق ، عمي عبد العزيز موجود  ، و يعاملني كنهى تماماً " .
عمه عبد العزيز ، ابن عم والده ، كيف لم يفكر فيه !
لقد بحث عنها عند كل أصدقائها ، و سأل جميع أقاربه بطريقة غير مباشرة ، لكن هذا الرجل لم يأتي في باله لحظة ، ربما بسبب بعده عن المدينة ، و استحالة وجود أخته عنده .
أردفت معتقدة أنه هكذا سيكون مطمئناً عليها أكثر : " و يوسف يقلني كل يوم إلى الجامعة و لا يتأخر عليّ " .
سيطرت الغيرة عليه عندما نطقت بأخر كلماتها ، ليقول بغضب : " ماذا ؟ ، يقلِك .. لحالِك ؟ "
همست بعدم فهم : " و ما المشكلة في هذا ؟ "
هدر بعنف : " و تسالين ؟
اسمعي ، هذا الرجل لن تركبين معه مرة أخرى ، و أنا سأقلِك كل يوم إلى الجامعة " .
توسعت عينيها بدهشة ، و قالت : " كيف ؟ ، و عملك؟ "
هتف ببساطة : " سأنقل إلى هنا " .
ضحكت بسخرية ، ثم قالت : " حقاً ؟ ، و ماذا استفدت أنا ؟ "
هتف بغيرة : " لا تستفيدي ، لكن انسي أن أسمح لكِ بأن تكونين مع رجل غريب لحالكِ " .
لا تعلم لِمَ ، و لكنها تشعر أن أفضل قرار اتخذته هو الإبتعاد عنه !
هتفت مُنهية الموضوع : " عموماً ، شقيقته نهى معي ، و هو يأخذنا سوياً " .
هتف بعدم تصديق : " و لِمَ لم تخبريني بهذا من أول الحديث ؟ "
هتفت بنقاذ صبر : " اعتقدت أنك تعلم هذا ، فمن المفترض أنهما أولاد عمك ..
و الآن من فضلك ، اعدني إلى الجامعة ، فلدى محاضرة هامة " .
تردد قليلاً ، فمعنى أن يعيدها إلى هناك أنه لن يراها إلى فترة لا يعلمها ، فمن الواضح أنها جادة في الإبتعاد عنه !
لمعت عينيه بتصميم ، و قد حسم قراره ، تحرك مُعيداً إياها إلى جامعتها الجديدة .
ليهتف فور أن ترجّلت : " أنا لن أترككِ تومي ! "
**********
لم تركز في حرف مما قاله الدكتور ، تفكيرها كله منصب على مازن ، و ذكريات الأيام الماضية عادت لتهاجمها .
تذكرت عندما سمعت والدها و هو يقول له أنه يحبها ، يا إلهي .. كم صُدِمت حينها !
تفاجئت .. مشاعرها تخبطت ، ليسيطر الخوف عليها في الأخير !
خوف من عقلها الذي بات يظن أن كل ما يفعله مازن لهدف ما ، و خوف من مشاعرها المراهقة التي من الممكن أن تتأثر بأفعاله في أي لحظة !
و بعد تفكير طويل توصّلت إلى الحل المناسب ، سترحل .. ستبتعد عنه و ترتاح من مخاوفها هذه ، و تقضي على أي شك في نفس والدها .
و على الرغم من صعوبة هذا القرار ، فليس من السهل عليها أن تبتعد عن مازن ، إلا أنها سلحّت نفسها بكل الإصرار و العزيمة للإبتعاد .
لا تنكر أن والدها عارض رحيلها كثيراً ، و أوضح أنها لا علاقة لها بما يحدث ، و أن حديثه مع مازن كان في لحظة غضب و لا يعني أي شئ ، إلا أنها أصرّت على الرحيل ، لإدراكها أن بقاءها مع مازن في نفس المكان بعد هذا الحديث الذي بدأ ينتشر عنهما ، سيؤذيها كثيراً .. و يؤثر على علاقتهما .
و بعد مجادلات ، وافق والدها على رحيلها ،  على شرط أن تجلس لدى ابن عمه ، في البلد التي كانت تعيش فيها من قبل !
و على الرغم من حزنها على فراقها لوالديها و مازن ، إلا أن الحنين راودها فور أن عادت إلى هذا البلد مرة أخرى ، و ذكرياتها مع أخواتها تهاجم عقلها ، فتبتسم بشوق .. و تتمنى لكل واحدة منهن السعادة ، و أن يجمعها الله بهن قريباً .
استيقظت من ذكرياتها على صوت إنهاء الدكتور للمحاضرة ، فالتقطت أغراضها ، و تحركت إلى منزل عمها .
**********
فتحت لها نهى - أبنة عبد العزيز - الباب ، و هتفت بحماس : " لن تصدقي مَن هنا " .
و قبل أن تستفسر منها تسنيم ، سحبتها الفتاة إلى الداخل ، و هي تقول بمرح : " ترا ترا ترا " .
توقفت في مكانها بصدمة ، و الغضب يتسلل إليها ..
لا ، ليس هذا ما اتفقا عليه ، لقد ظنت أنه سيتركها في حالها و يعود إلى البلد !
أما هو فابتسم بلا مبالاة ، و عيناه تخبرها بكل وضوح أنه .. لن يتركها !
قبضت على حزام شنطتها بقوة ، و قالت من بين اسنانها : "  أهلاً مازن " .
هتف ببرود : " فكرت أنه ليس من اللائق أن آتي إلى هنا و لا أزور عمي ، و إلا ما رأيِك ؟ "
لوت شفتيها بعدم اقتناع ، بداخلها مُتيقنة أن مازن يخطط لشئ ما ، و إلا عالأقل كان أخبرها بمجيئه إلى هنا !
" نعم .. صحيح " .
سألتها نهى باستغراب : " هل كنتِ تعرفين أنه هنا ؟ "
تحركت لتجلس ، و هي تقول : " نعم ، لقد أتى إليّ في الجامعة ، و لكنه لن يخبرني أنه سيأتي إلى هنا قبل أن .. يسافر " ، و شددت على الكلمة الأخيرة ، مخبرة إياه أنها لن تقبل سوى سفره .
ليضحك بخفة ، و بداخله يعتذر منها !
" لو كنت فعلتها و غادرت دون أن تزورنا ، لم أكن لأسامحك بحياتي " ، قالها عبد العزيز ، غير مدركاً لما يحدث بينهما .
ليربّت مازن على قدم عمه ، و هتف بحيلة : " و هل أستطيع يا عمي ؟
بالأساس أنا اشتقت لكم كثيراً ، و شاكر تومي جداً ، لأنه بفضلها رأيتكم بعد أنقطاع أشهر " .
ارتابت تسنيم من حديثه ، و شعرت بأن القادم لم يعجبها !
و بالفعل ، تحقق شعورها ، عندما قال عبد العزيز بتودد :
" إن كنت حقاً مُشتاق لنا ، لم تكن لتنتظر تسنيم لتأتي بك إلى هنا ..
و مع ذلك نحن فيها ، و بما أنك هنا .. فاقضي معنا عدة أيام ، أم لديك عمل هام في البلد ؟ "
كاد مازن أن يقفز انتصاراً و يقبل رأس عمه بسعادة ، إلا أنه تمالك نفسه ، و اكتفى بالإبتسامة السعيدة التي ارتسمت على شفتيه ، و قال :
" طالما أنت تريد هذا يا عمي ، فليس لدي أي أعتراض " .
تهللّت أسارير عبد العزيز ، لتُسارِع تسنيم بكذب :
" و لكن والدي يريدك مازن ، لقد أخبرني بضرورة عودتك للبلد في أسرع وقت " .
كان من السهل عليه أن يلاحظ كذبها ، فهتف بملامح ساخرة : " و لكنه لم يخبرني بذلك ، و لم يتصل بي حتى " .
توترت قليلاً ، خاصة و نظرات عبد العزيز و ابنته المتشككة تتركز عليها .
" لقد اتصل بي في طريق عودتي ، و كان يظن أنك معي " .
لم يشأ إحراجها أكثر أمام عمه ، فهتف مُنهِياً الموضوع : " سأتصل به .. و أتفاهم معه " .
حينها .. صدح صوت هاتفها عالياً ، فأخرجته من حقيبتها ، لترى اسم يوسف ينير شاشته ، فتطرق على جبينها بقوة ، و تهمس مؤنبة نفسها :
" يا إلهي ، لقد نسيته " .
فتحت الهاتف ، و همست بصوت خجول : " السلام عليكم " .
وصلها صوته المُتعَب من يوم ملئ بالعمل : " و عليكم السلام تسنيم ...
هل انتهيتِ ؟ "
همست باعتذار : " أنا بالبيت ، لم أستطع إكمال اليوم ، كنت أشعر بالتعب ، و نسيت أن أهاتفك ...
أعتذر يوسف ، أتعبتك بلا فائدة " .
تقبّل اعتذارها برحابة صدر ، و هتف مُنهِياً حرجها : " لا مشكلة تسنيم ، دقائق و سأكون في المنزل إن شاء الله " .
أغلقت الهاتف معه ، لتنظر لوالده بحرج ، و تقول : " كنت أشعر بالصداع ، و لم أصدق أن الدكتور أنتهى لأغادر ، و نسيت أن أخبره " .
ابتسم عبد العزيز بتفهم ، و هتف برحابة صدر لا تقل عن خاصة أبنه : " المهم أن تكوني بخير يا صغيرة " .
و في غمرة حرجها من يوسف و والده ، لم تنتبه لذاك الذي اشتعلت عينيه بالغيرة و الغضب ...
فكما أخبرته ، يوسف يقلها هي و نهى إلى الجامعة ، و ها هي نهى تجلس أمامه ، و قبل عودة تسنيم بفترة ، فكيف يقلهما سوياً إذاً ؟!
سأل نهى باهتمام كاذب : " و أنتِ نهى ، ما أخبار دراستِك ؟ "
تأففت نهى بانزعاج ، و قالت : " بأفضل حال .. من جهتها هي ، أما أنا .. فأتمنى حرقها اليوم قبل غداً " .
ضحك بقوة على كلماتها ، ليهز والدها رأسه بيأس ، و بقول : " أنتِ الكسولة التي لا تتحملين الجلوس على كتاب لربع ساعة ..
تصور يا مازن ، تغيبّت اليوم عن جامعتها بعذر أن لديها الكثير من المذاكرة التي عليها إنهاءها ، و من الصباح و حتى الآن لم تفتح كتاب " .
نجحت حيلته ، و استطاع معرفة ما يريده ، و تسنيم على حق ، يوسف يقلها هي و شقيقته .
و لكن هذا لا يمنع إنزعاجه من الأمر ، فيوم كهذا مثلاً ، ركبت هي مع يوسف لحالها !
انتبه على أنه لم يعلق على حديث عمه ، فقال ناصحاً ابنته : " لا يا نهى ، أنتِ لستِ طفلة ليركض ورائِك والداكِ كي تذاكري " .
زمت شفتيها بطفولية ، و همست بتذمر : " ماذا أفعل يا مازن ؟ ، لقد أخبروني أن أتعب في الثانوية لأرتاح في الكلية ..
و ها أنا التحقت بالكلية ، لأكتشف رحمة الثانوية " .
ضحك مرة أخرى ، و قال : " هذه هي الحياة يا صغيرة ، لابد من التعب و بذل الجهد ، كي تحصلين على ماتريدين " .
لم تستسغ اهتمامه بنهى ، فنهضت بانزعاج واضح ، و قالت : " سأذهب لأبدل ملابسي " .
تابعتها عيناه بحيرة ، هل كل هذا لأنه سيظل هنا ؟
ماذا إذاً لو علمت أنه لن يغادر من هنا إلا و هي معه ؟
ماذا ستفعل ؟
" انزعجي .. صيحي .. اعترضي ، لكن ما أريده أنا ما سيُنفذ في النهاية ! "
ثم تابع حديثه مع عمه و أبنته ، و تفكيره منشغل بتلك المتوارية خلف باب الغرفة .
**********
دلفت إلى غرفته ، و الحزن يكلل ملامحها ، قالت بحزن .. و هي تراه يضع ملابسه في حقيبته :
" هل تبقى الكثير ؟ "
تظاهر بالتركيز على وضع ثيابه ، و قال و عيناه بعيدة عن عينيها : " كدت أن أنتهي من تحضير الملابس ، يتبقى لي بعض الأغراض المهمة ، سأشتريها مساءً بمشيئة الله " .
همست بأمل : " أنت متأكد من قرارك بُنيّ ؟ ، يمكنك التراجع " .
ضحك ليخفي حزنه ، و قال بمرح : " و هل أنا غبي لأفوّت هذه الفرصة أمي ؟ "
ليستسلم .. و يقترب و يحتضنها ، و يقول : " بدلاً من أن تطلبين مني التراجع ، ادعي لي بالتوفيق .. و أن أستطع تحقيق ما أريده " .
ليبتعد .. و يعدل ياقة قميصه بغرور مصطنع ، و هو يقول : " ثم عليكِ أن تكوني فخورة ، فأبنكِ سيدرس في أحد أفضل جامعات العالم ، و ليس أي مجال .. مجال الطب " .
و مع أنها تعلم حقيقة سعيه للسفر ، و أن السبب الرئيسي في هذا هو الهرب من خذلان تسنيم له ، و إبتعادها عنه بعد ساعات من إعلان خطوبتهما ، إلا أنها لم تملك سوى الدعاء له بالتوفيق ، و أن تتسبب هذه السفرية في خروج تسنيم من قلبه .
أحاطت وجنتيه ، و قالت بفخر : " ستكون أفضل دكتور يا حبيبي ، أنا واثقة من أنك سترفع رأسي بين الناس " .
قبل كفيها ، و قال : " بمشيئة الله أمي ..
و الآن اسمحي لي ، هناك الكثير من الأشياء عليّ أن أنهيها " .
تركته و الدموع تلمع في عينيها رغماً عنها ، فليس أصعب على الأم من فراق فلذة كبدها .
" ليوفقك الله يا حبيبي ، و يمنحك السعادة التي تستحقها " .
**********
صفّت سيارتها أمام منزلها ، و ترجّلت بتعب ، فلقد كان يوماً مليئاً بالحالات و الإصابات .
سحبت نفسها إلى الداخل بقوة ، لتتوقف على باب المنزل عابسة بملامحها ، تحركت عينيها باحثة عنها .. لكن دون فائدة .. لم تجدها !
كانت مُتأخرة عن موعد وصولها اليوم .. تعلم ، و ذلك بسبب ضغط العمل في المشفى .. و عدد الحالات الذي كان عليها الكشف عليهم ، و مع ذلك شعرت بالضيق من عدم وجودها و استقبالها لها ككل يوم ، فلقد اعتادت على اهتمامها و حنانها ، و باتت تخشى فقدانه !
تعالى صوتها باحثاً عنها : " خالتي مريم ، أين أنتِ ؟ "
ليصلها صوته ، و الذي قليلاً ما يوجه لها حديثاً : " مريم خرجت .. ذهبت إلى ولدها " .
شدد على كلمته الأخيرة بسخرية ، و كأنه يخبرها أنها لن تصل إلى مكانة نادر في قلب زوجته مهما فعلت .
" و متى ستعود ؟ "
رد ببرود : " ستقضي ليلتها هناك .. معه " .
أطرقت برأسها ، و ملامحها قد تغضنت بحزن ، و همست : " حسناً " .
في طريقها إلى غرفتها ، عاتبت نفسها بقوة !
ما بها ؟
لِمَ تشعر بكل هذا الغضب و الغيرة من نادر ؟
لِمَ تشعر أنه أخذها منها ، مع أنه الأحق بها ؟
و لكنه تمتع بحنانها منذ صغره حتى تخِم ، أما هي فحنانها جديد عليها ، لم تجربه من قبل ، و لم ترتوي منه بعد .
و مع ذلك ، يظل هو ولدها في الأخير ، أما هي .. فمجرد مسئولية أُلقيت على عاتقها ، لذا ليس عليها أن تحزن أو تشعر بالغيرة ، بل عليها أن تستكان جانباً .. تنتظر بشوق ما تغدوه عليها مريم من حنان .
بدّلت ملابسها ، و هربت من حزنها بالنوم .
**********
استيقظت على لمسات حانية على شعرها ، و صوت هادئ : " ليندا .. ليندا استيقظي " .
فتحت عينيها بكسل ، لتراها أمامها .. فينعقدا حاجبيها بقوة ، و تقول : " خالتي مريم " .
اعتدلت .. و جلست أمامها ، و هي تسألها : " متى عدتي خالتي ؟
كم الساعة ؟ "
أجابتها مريم بينما تنظر إلى ساعتها : " الساعة التاسعة مساء " .
ازداد انعقاد حاجبيها ، فعلى ما تتذكر .. أن والدها أخبرها أن زوجته ستقضي ليلتها مع ولدها ، فكيف عادت ؟
" لِمَ عدتي خالتي ؟ ، أليس من المفترض أن تقضي الليلة مع نادر " .
رفعت مريم حاجبيها باستنكار ، و قالت : " أبداً ، مَن أخبركِ بهذا ؟ "
" أبي " .
جزت مريم على أسنانها بقوة .. دون أن تلاحظ ليندا هذا ، لا أمل في زوجها ، يتعمد جرح الفتاة و إدخال الحزن إلى قلبها بأي طريقة ، و اليوم استخدمها هي كوسيلة لذلك !
لقد أخبرته أنها ستذهب إلى ولدها و ترى ما يحتاجه من مساعدة قبل سفره ، و استئذنته من احتمالية قضاء ليلته هنا معها ، و لكنها لم تذكر أبداً رغبتها في قضاء ليلتها هي معه !
" حسناً يا عاصم ، سترى " .
غيرّت الموضوع قائلة : " أنا غاضبة مِنك ، الخادمة أخبرتني أنِك لم تتناولي طعامِك حتى الآن " .
بررت بطفولية : " لم يكن لدي شهية ، لأنه .. لأنه " .
و صمتت بتردد ، لتستحثها مريم قائلة : " لأنه ماذا ؟ "
أطرقت رأسها بحرج ، و همست بصوت بالكاد يُسمَع : " بعد تلك الحادثة ، بتِ تقضين معي معظم الوقت ، و نتناول الوجبات سوياً ، و اليوم لم أرغب في أن آكل لحالي " .
طفلة هي ، ليست فتاة ستتم السابعة و العشرين من عمرها ، طفلة لا تبحث سوى عن الأمان و الحنان .
" حسناً إذاً ، سأعد الطعام و نأكل سوياً ، كما تريدين " .
ققزت ليندا من على السرير ، و هي تقول : " و أنا سأساعدِك " .
تحركا سوياً إلى المطبخ ، لتسأل ليندا ببراءة ، بينما هما يبدآ في إعداد الطعام :
" كيف حال ولدكِ ؟ "
أجابتها مريم : " الحمد لله ..
لقد ذهبت اليوم إليه لأرى ما يحتاجه قبل سفره ، و أساعده في ترتيب المنزل " .
فسألتها بفضول : " صحيح ، هو .. ماذا يعمل ؟ "
ردت مريم بحزن : " طيار " .
لتبتسم ليندا بحماس ، يُعاكس الحزن المرتسم على ملامح زوجة والدها : " يا إلهي ، كم هو محظوظ " .
لتهتف مريم باستنكار : " محظوظ ! "
لتهتف ليندا بسذاجة : " نعم ، ما الأفضل من السفر دائماً حول العالم و رؤية ما هو جديد ؟ "
تنهدت مريم و قالت : " الأفضل أن يجلس هنا ، بجانب عائلته ، لا أن يجعلهم في شوق دائم له " .
صحيح ، هذا أكثر عيب في العمل كطيار ، أنك تترك ورائك بيتك و عائلتك ، و تراهم لأيام معدودة .
و لكن مَن هم مثلها ، تعتقد أن عملهم كطيار أو مضيفة هو الأفضل لهما ، فلا أحد يفتقدهم و يسأل عنهم .
جلسا ليتناولا الطعام ، لتردف مريم بنبرة مهمومة : " أ تعلمين أكثر ما يحزنني يا ليندا ، أنه القليل من الفتيات فقط هم مَن يقبلن بزوج طيار ، و القليل من الطيارين هم من يجدوا هؤلاء الفتيات " .
أمالت ليندا رأسها ، و سألتها : " هل رفضته فتاة من قبل ؟ "
نفت مريم بهزة من رأسها ، و قالت : " لا ، فهو حتى الآن لم يقتنع بفكرة الزواج ، يقول أنه مستمتع هكذا " .
ضحكت لتزيل عن زوجة والدها حزنها الغير مبرر ، و قالت بمرح : " لِمَ تعقدين الموضوع إذاً خالتي ؟ ، عندما يقرر الزواج .. ستجدين أكثر من فتاة مرحبة به ، صدقيني ، جميع الفتيات يتمنين زوجاً مثله ، يجعلهن يزورن مختلف دول العالم " .
أصدرت تنهيدة أخرى ، قبل أن تقول : " أتمنى هذا ، فلا أريد سوى استقراره و رؤية أولاده ، قبل أن .. يتذكرني الله " .
انقبض قلبها فور أن سمعت كلماتها ، لا .. ليس بعد أن وجدتها أخيراً ، يا إلهي .. امنحها العمر الطويل .
اقتربت بسرعة لتقبلها ، و قالت : " لا تقولين هذا خالتي ، سترينهم و ترين أولادهم إن شاء الله " .
أحاطت مريم وجنتها ، و قالت بحنو : " و أولادكِ أيضاً .. بمشيئة الله " .
همست بتردد .. و كأنه شئ يستحيل الحدوث : " أولادي .. أنا " .
هل من الممكن أن ينظر لها شاب يوماً و يقرر الزواج منها ؟
لقد كان الزواج بالنسبة لها علاء ، و علاء هو زوجها ، لم تتخيل غيره يوماً ، و بعد أن تركها .. تستبعد أن تلفت نظر رجل ما !
أكدت مريم قائلة : " نعم أولادكِ ، متأكدة أنهم سيكونون جميلين مثلِك " .
مثلي !
ضربتها هذه الجملة في مقتل !
لا .. لا تريد أطفالاً يشبهونها ، تخاف أن يحصلوا على التعاسة التي حصلت و .. مازالت تحصل عليها ، أو يحدث الأسوأ ، و تكون شخصيتهم منفرة مثلها .. لا يتقبلها أحد ، حتى .. والدهم " 
نظرة واحدة من مريم إلى ملامح ليندا ، أدركت من خلالها ما تفكر فيه ، لتتنهد بقلة حيلة ، و تدعو الله أن يرزق الفتاة السعادة التي تستحقها ، و تقسم أنها لن تتركها أو تتخلى عنها يوماً ، و لن ترتاح إلا عندما تراها مرتاحة في حياتها .
نهضت قائلة بمرح : " ما رأيِك بتحضير سهرة على فيلم ما ؟ "
قفزت ليندا من مكانها ، شاكرة مريم بداخلها على مبادرتها لتعديل مزاجها ، و ركضت قائلة :
" سأذهب لأختيار واحد " .
لتتوقف .. ملتفتة إليها ، و تقول : " احضري لنا بيبسي و فشار " .
ابتسمت بسعادة أنها استطاعت محو الحزن من على ملامحها .. و لو مؤقتاً ، و بدأت في إخراج ما طلبته لتذهب إليها .
**********
دلف إلى بيته ببطء .. وجه أصفر .. و عيون بلون الدم ، لم يكن له رغبة في فعل أي شئ ، فقط سيذهب و يطمئن على والدته ، و بعدها يتجه إلى غرفته و ينام ، هذا إن رحمه النوم اليوم و قرر زيارته !
فمنذ أن حدث ما حدث ، و افترق عنها ، و النوم لا يزوره ، و إن حدث .. فلا ينام إلا لساعات لا تتعدى الثلاث ، تزوره حبيبته خلالها باكية .. متألمة ، فيتلوى قلبه .. و يستيقظ مختنقاً .. غير قادراً على مواصلة نومه .
توقف في مكانه عندما وصلته الأصوات الكثيرة .. المتداخلة .. من غرفة الضيوف ، ليهمس بداخله :
" لا يا إلهي ، لا أريد رؤية أحد " .
لمحته والدته ، فهتفت من مكانها مبتسمة : " بشار حبيبي ، تعال .. خطيبتك و عائلتها هنا " .
" خطيبتي .. أيضاً ! "
ها هو مضطراً لقضاء أكثر من ساعة في مجاملات و .. التظاهر بسعادة لا يشعر بها !
تحرك مرغماً ، و رسم ابتسامة كبيرة على ملامحه ، حتى لا تغضب والدته ، فيؤثر هذا عليها !
كانت حورية جالسة بجانب والدته ، مرتدية فستان منقوش بالأبيض و الأسود ، و شعرها البني منسدل على أحد كتفيها ، و خصلاته تخفي جبينها و تغطي عينيها المكحلة .. شفايفها مُطلاة بأحمر شفاه كشمير .
كانت تبدو أنيقة جداً و .. جميلة جداً جداً ، إلا في نظره !
فعيناه لا ترى جمالها ، و قلبه لا يشعر إلا بأخرى .. اضطُر إلى تركها !
أشارت إليه والدته بعينيها ، آمرة إياه أن يجلس بجانب خطيبته ، فتحرك بصمت ، و كأن لا روح في جسده !
كانت جلسة طبيعية بالنسبة للعائلتين ، حيث تبادلوا معظم الأحاديث الودية .
أما بالنسبة إلى حورية .. فلم تكن كذلك !
فبشار كان صامتاً معظم الجلسة ، لا يتحدث إلا إذا وُجِّه إليه حديث ، فيرد باختصار .. عائداً إلى صمته مرة أخرى .
و هذا .. أغضب والدته كثيراً .
غادرت عائلة حورية ، و ملامح الأخيرة تحمل الكثير من عدم الرضى .
تنفس بشار بارتياح ، لإنتهاء هذه الزيارة الثقيلة على قلبه ، و تحرك إلى غرفته .
فتبعته والدته بغضب .
دلفت إلى غرفته ، لتصيح بانزعاج : " ما هذا الذي فعلته ؟ "
تملك الخوف منه في لحظة ، و سارع بالقول : " أهدأي يا أمي ، ماذا هناك ؟ "
صاحت بصوت أعلى : " أي ماذا يا بشار ؟ ، ما هذا الذي فعلته مع حورية ؟
أكثر من ساعة لم تتحدث إلا كلمتين ، أ تريد أن تجنني ؟
ماذا ستقول عنك الفتاة و عائلتها الآن ؟
لم يبالي بأي هذا ، لا حورية و لا عائلتها يشغلان باله ، كل ما هو خائف منه أن تسوء حالة والدته بسبب غضبها !
" أعذريني يا أمي ، منذ الصباح و أنا في العمل .. و أشعر بالإرهاق ، و أنتِ أيضاً لم تخبريني بدعوتِك لهم " .
صاحت باستنكار : " و هل عليّ الإستئذان منك قبل دعوة أحد إلى بيتي ؟
كما أنني دعوت عائلة خطيبتك ، لم أدعو إحدى صديقاتي و أُرغمك على الجلوس معها ! "
هتف بتوسل : " أعتذر يا أمي ، أنا مخطئ .. و سأفعل ما تريدينه كي ترتاحين ، و لكن أرجوكِ أهدأي " .
تنفست بقوة ، ثم قالت بحزم : " ستدعوها غداً على الغذاء ، و تعتذر منها على ما فعلته اليوم ، و تخبرها أنك كنت مرهقاً من العمل ..
و أفعل أي شئ لتمحي من عقلها هذه الليلة البائسة " .
أومأ بطاعة : " أمركِ .. كما تريدين " .
استكانت ملامحها أخيراً ، ل ... يرتاح قلبه !
اقترب و قبل جبينها ، ثم قال : " اذهبي لترتاحي ، و أعدِك أن غداً سيكون كل شئ على ما يُرام " .
ابتسمت له ، و قالت : " لا تغضب مني بُنيّ ، أنا فقط خائفة أن تضيع الفتاة من بين يديك ، إنها فتاة لا تُعوّض " .
ليس له ، يعترف أنها فتاة ممتازة ، و أي شاب يتمناها زوجة له ، إلا هو .!
و لكنه لم يملك حق الإعتراض أو الإفصاح عما بداخله ، فقط اكتفى بابتسامة صغيرة ، توضح ما يعتمل بداخله من حزن ، و الذي رأته والدته بوضوح ، و تجاهلته !
فهي تؤمن أن حورية هي الفتاة المناسبة لولدها .. من جميع النواحي ..
في المستوي التعليمي .. و المادي ..
و هي مَن ستكون خير زوجة له أمام مجتمعه و تسعده .
" نم الآن و ارتاح ، و لا تنسى أن تفعل ما أخبرتك به غداً " .
أومأ ، لتبتسم و تغادر غرفته .
استلقى على سريره ، و ألمه عاد ليرتسم على ملامحه ..
التقط هاتفها ، ليفتح الاستوديو ، فتظهر له صورتها .. سعيدة .. ضاحكة ، عكسما تزوره في أحلامه .
ملّس على الصورة باشتياق ، و همس باعتذار صادق :
" سامحيني حبيبتي ، رغماً عني صدقيني ، رغماً عني ! "
**********
جلس أمام والده بترقب ، نتيجة خطته تعتمد على هذه المحادثة ، متأكد هو من أن اسيل أخبرت والده بالرسائل التي رأتها على جهازه ، و هذا ما جعل والده يستدعيه ليتحدث معه .
شرد مبتسماً في تلك الليلة التي لعب فيها لعبته !
الأمر لم يحتاج إلى كثير من التفكير أو المجهود ، فهو يحفظ أسيل عن ظهر قلب ، و يحفظ كل تصرفاتها و أفعالها .
بروده معها و تجاهله لها .. كفيلاً لأن يجعلها تلحق به إلى غرفته ، لتستعلم منه عن سبب تصرفاته معها .
و كي يُسهّل عليها الموضوع ، طلب من والدته أن تحضر له فنجان قهوة ، و هو متأكد بأن أسيل هي مَن ستجلبه إليه .
و كما توقع ، سمعها تخبر والدته أنها ستأخذ الفنجان للداخل ، فسارع بفتح صفحة الفيس بوك على جهاز حاسبه المحمول ، ثم أسرع إلى حمام غرفته ، و أغلق بابه .. في نفس اللحظة .. التي فتحت فيها أسيل باب غرفته .
بدأت لعبته ، حيث بدأ في إرسال عدة رسائل إلى نفسه من حساب وهمي ، لفتاة تُدعى ( ميمي ) ، و متأكد من أن فضول أسيل سيجعلها ترى هذه الرسائل ، و بالتالي تخبر والده عنها .
خطة سهلة و بسيطة ، ليحصل على ما يريده !
أخرجه من شروده صوت والده ، و هو يقول : " هذه أخر فرصة لك يا طارق ، لتحصل على أسيل " .
تنبهت جميع حواسه ، و سأل والده بحذر : " ماذا تقصد أبي ؟ "
هتف والده بكذب : " لقد تشاجرت أسيل مع أحمد ، و تركا بعضهما ، و هذه فرصتك لتقترب منها و تقتنص حبها ، إن كنت مازلت تريدها " .
و ها هي خطته قد نجحت ، و أنهى موضوع هذا الشخص الذي لا وجود له نهائياً ، فرجولته لم تكن لتسمح بأن يتم خداعه بهذه الطريقة ، و تهديده كل لحظة و أخرى بحبها لأخر و احتمالية زواجها منه .
كان عليه أن يفعل شيئاً لتتحرك هي و والده و يُنهيا هذه اللعبة ، مثلما ما بدآها .
و ها هي اللعبة انتهت ، و الآن ، و قد نجحت خطته ، عليه هو أن يُصحّح ما فعله ، ثم .. يتزوجها .
**********
استيقظت على العديد من القبلات تُطبع على وجهها و شفتيها ، فتململت في نومها بكسل ، و قالت برقة : " فريد ... ابتعد " .
ازدادت قبلاته بدلاً من أن تتوقف ، لتتأفف بقوة ، و تقول و هي تحاول إبعاد وجهها عنه :
" فريد ، أريد أن أنام " .
شاكسها بينما يداعب أرنبة أنفها : " يكفي نوم يا كسولة ، انهضي .. هيا " .
هزت وجهها بقوة ، و هي تقول : " أوف ، كم الساعة ؟ "
انتقلت نظراته إلى الساعة للحظة ، ثم عادت إليها ، ليقول : " الثانية عشر ظهراً " .
فتحت عينيها باستغراب ، و سألته : " غريب !
ما الذي أتى بك الآن ؟ "
شاكسها قائلاً : " ألا تريديني حلوتي ؟ "
ردت مبررة : " لا أبداً ، لكنك غير معتاد على المجئ في هذا الموعد " .
دفن وجهه في عنقها ، ليستنشق رائحتها بقوة ، و يقول بغموض : " من اليوم سأكون معكِ في كل الأوقات ، حتى العمل سأنقله إلى هنا حتى لا أبتعد عنِك " .
انعقدا حاجبيها بحيرة ، و سألته : " كيف هذا ؟
و رانيا ، ماذا ستفعل معها ؟ "
تطّلع إليها ، و قال مبتسماً : " لا يوجد رانيا من اليوم حلوتي ! "
**********
تعالت نبضات قلبهما بقوة ، و الشوق يسيطر عليهما ، شوق لطفل جديد سيُنير حياتهما .. و يُزيد عدد أفراد أسرتهما فرداً .
جاء دورها ، فدعتها الممرضة للدخول ، و زوجها يرافقها .
حيتهما الطبيبة ببتسامة ، ثم سألتهما :
" هل مستعدان لمعرفة جنس الطفل ؟ "
رد إسلام بحماس : " أكيد " .
تبعته هبه قائلة : " لم يعد لدي صبر للإنتظار " .
أخذتها الطبيبة لتفحصها ، و تعرف جنس الجنين ، و عينا إسلام تتابعهما بشوق .
لتهتف الطبيبة مُنهية فضولهما : " ستُرزقان بطفلة جميلة ، مبارك لكما " .

لست أبي (كاملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن