دلف إلى صيدليته ليجد ماهر ؛ الشاب الذي يتدرب عنده يرتب الأودية و يضعها في مكانها ، فهتف بابتسامة صغيرة : " صباح الخير يا ماهر " .
التفت و رد عليه : " صباح الخير يا دكتور " .
جلس طارق على المكتب و الذي يحتل مساحة لا بأس بها من المكان ثم نظر إليه باستغراب و سأله : " لِمَ لم تذهب إلى جامعتك حتى الآن ؟ "
أجابه و هو يلتقط أحد العلب الصغيرة ليضعها في مكانها : " سأرتب الأدوية التي وصلتنا أمس و سأذهب " .
نهض فور أن قال كلماته ليسحب منه علية الدواء قائلاً : " لا مشكلة سأرتبهم أنا و أذهب أنت للجامعة " .
" و لكن " .
قاطعه طارق بحزم : " لا يوجد لكن ، هيا إلى جامعتك " .
استسلم له ماهر فالتقط أغراضه و هو يقول له : " سآتي في المساء " .
هتف بهدوء : " حسناً سأنتظرك " .
ثواني و خلت الصيدلية فلم يتبقى فيها سواه ، ألقى علبة الدواء بإهمال و جلس على المقعد بقوة ، حدق في الفراغ شارداً و عقله يبدو بعيداً .. مبحراً في ذكريات تؤلمه ، و لكنه مجبور على تذكرها .. تذكر كل لحظة مضت في السنوات الخمس السابقة و كأنه يعيشها من جديد ، ليدرك كم كان غبياً و أحمقاً ..
لو فقط أزال الغمامة التي كانت تغطي عينيه مانعة إياه من رؤية حبيبته على حقيقتها ..
لو فقط كان استغل فترة خطوبتهما للتعمق في شخصيتها و اكتشافها بدلاً من كلمات الغزل التي كانت عنوان لقائتهما ..
لو فقط كان وضع حدود لحياتهما منذ أول يوم زواج بدلاً من البحث لها عن مبررات خاطئة جعلتها تتمادي أكثر دون الإهتمام لمشاعره ..
لو كان فعل !
منذ أن طلقها و هو لا يفكر إلا في هذا .. كل ليلة و كل يوم يبدأ في ترديد حرف لو ، ليكتشف في النهاية أنه المخطأ و أن ما حدث منذ زواجهما و حتى طلاقهما كان بسببه هو !
أ يعني هذا أنه نادم على طلاقه لها ؟
لا ، بل لو عاد الزمن إلى الوراء و حدث ما حدث كان سيطلقها دون تردد ..
و لكن هذا لا يمنعه من محاسبة نفسه .. من الاعتراف أنه كان عليه أن يكون أقوى .. أشد ، كان عليه أن يعيد تركيب شخصيتها طالما هو يحبها إلى هذه الدرجة و لا يود تركها ، لا أن يمرر أفعالها دون أن يحاسبها على أخطائها ..
فحبه لها .. و ضعفه أمامها كانا السبب الرئيسي في فشل زواجهما و عذاب كل منهما بعيداً عن الأخر ..
و على ما يبدو أن هذا العذاب سيستمر طويلاً ، فإن كانت هي تحاول جاهدة لتعود إليه ، فهو لن يقبل أن تكون زوجته مرة أخرى !
تأوه بأسمها بخفوت قبل أن ينهض ليستكمل ما بدأه ماهر مبعداً إياها عن تفكيره ..
" نشوى " .
**********
جالسة في منتصف السرير و بيدها هاتفها المحمول تتفحص صور زوجها و ابتسامة عاشقة مرتسمة على ملامحها ..
نعم .. زوجها !..، فهي حتى الآن لم تقتنع بطلاقه لها ، لا تتخيل من الأساس أنه فعلها و طلقها ..
يا إلهي كيف استطاع نطق هذه الكلمة بسهولة ؟!
أغمضت عينيها بقوة رافضة تذكر اليوم الذي طلقها فيه ، لتفتحها بعدها و تتأمل الصور التي جمعتهما مع بعضهما و بعينيها نظرة حب مشبعة بالحزن و الإنكسار ..
لقد أنكسرت حقاً منذ أن طلقها ، فابتعادها عنه لم يخطر في بالها و لو بنسبة واحد بالمائة ..
و على الرغم من أنه طلقها منذ ما يقارب الأربع سنوات إلا أنها لا زالت تحلم به .. تحلم باليوم الذي يأتي فيه و يعيدها إليه .. لا زالت تأمل أن ينتصر حبهما و بعودا إلى بعضهما ، مع أن هذا مستحيل خاصة بطول فترة بعدهما ، إلا أنها ليس لديها سوى التمني !
اقتحمت والدتها خلوتها فأبعدت هاتفها و هي تتأفف بضجر ، تعلم جيداً سبب وجودها في غرفتها الآن ، فلقد استمعت إلى محادثتها مع والدها أمس ..
اقتربت منى منها و بدأت تملس على شعرها و ابتسامة حنونة مرتسمة على شفتيها ، و لكن نشوى لم تنخدع بهذه الحركات فهي على علم بسببها ، و فعلاً لم تنتظر كثيراً لتأكد والدتها ظنها ..
" حبيبتي أريدكِ أن تتجهزي اليوم ، فهناك ضيوف سيأتون إلينا " .
قاطعتها نشوى موفرة عليها عناء الحدبث في موضوع منتهي بالنسبة لها : " أنا لن أتزوج غير طارق أمي " .
جاهدت منى للإحتفاظ بهدوءها و قالت : " لتريه أولاً و بعدها قرري " .
متى سيصدقان والديها أنها لن تكون لغير طارق ؟
متى سينفكوا عن الحديث معها عن العرسان كل فترة ؟
ألا ييأسوا ؟!
صاحت بنفاذ صبر كي تنهي الموضوع : " لن أراه أمي .. و لن أتزوجه ، و من الأفضل أن تلغوا الموعد قبل أن يأتي و أحرجكما معه " .
سيطر الغضب على منى فنهضت هادرة : " و ماذا ستفعلين إذاً ؟ ، ستجلسين هنا منتظرة أن يشفق عليكِ طارق و يعيدكِ إليه ؟ "
و أردفت بقسوة : " تحلمين بهذا نشوى فطارق لن يعود إليكِ أبداً " .
دلف أمجد إلى الغرفة بعد أن وصلته أصواتهما العالية ليهتف بحدة متوقعاً ما حدث : " ماذا هناك ؟ "
التفتت إليه زوجته و قالت باقتضاب : " ابنتك ترفض رؤية العريس القادم إليها ، تحدث أنت معها فلقد سئمت من دلالها " .
ثم غادرت الغرفة بغضب يظهر في خطواتها ..
نظر أمجد إلى أبنته متنهداً بقلة حيلة .. لا يريد أن يجرحها أو يجبرها على شئ ، و مع ذلك لا يمكنه أن يتركها ترفض كل عريس يتقدم لها انتظاراً لطارق ، و الذي من الواضح أنه أخرجها من حياته و لا يفكر فيها ..
هتف بنبرة حازمة .. قوية .. لا تقبل النقاش : " ستتجهزين يا نشوى و سترين العريس حتى لو رغماً عنكِ " .
و تابع بتحذير : " و إن تصرفتي أي تصرف أهوج سيكون حسابكِ معي عسير " .
و تركها هو الأخر و غادر الغرفة لتعود وحيدة مرة أخرى و لكن شتان بين المرتين ..
فالمرة الأولى كانت تشعر بالشوق و هي تسترجع ذكرياتها مع طارق و الأمل في العودة إليه ..
أما الآن فتشعر بالغضب .. غضب ناري من والديها و معاملتهما لها ، و لا تعلم ما سر هذه المعاملة الغريبة ، لقد اعتادت منهما على الدلال و أن تكون طلباتها أوامر تنفذ في الحال ، و لكن منذ فترة طويلة و تحديداً منذ طلاقها تغيرت معاملتهما لها بالتدريج و كأنهما يعاقباها على ما فعلته ، أو يدركا أن دلالهما لها السبب في طلاقها !
**********
جلست مجبرة بملامح مقتضبة أمام الرجل الذي جاء لطلب يدها ، عيونها بالأرض و إن رفعتهما لعلم برفضها لهذا الزواج بسهولة ..
" إنها أبنتي نشوى " ، قالها أمجد موجهاً كلماته إلى وحيد و عائلته و الذين جاءا ليتقدما لطلب يدها ..
و أردف قائلاً إلى نشوى : " إنه الأستاذ وحيد " .
رفعت نشوى وجهها لتتعلق عيونها بعيون والدها فتجد فيهما نظرات التحذير و الوعيد ، فتنهدت بقوة ثم نقلت نظراتها إلى الرجل الذي يريد الزواج منها ، رسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها مَن يتعمق فيها يعلم أنها ابتسامة كاذبة و قالت :
" أنرت " .
تأملها وحيد بدقة ، عينيها السوداء الواسعة كأنها تخفي حكاية حزينة أثارت فضوله لمعرفتها .. شعرها البني الواضح من حجابها حيث تسربت بضعة خصلات منه .. أناقتها المبالغ فيها و التي تظهر في فستانها الذهبي ذات الماركة المشهورة ..
و هذا أول ما كرهه فيها ، فهو رجل يعشق البساطة و يكره التفاصيل المبالغ بها ، و مع ذلك لن يحكم عليها من ملابسها فطالما هي ذات شخصية خلوقة و محترمة فأي شئ أخر سيستطيع التأقلم عليه ..
" شكراً لكِ " .
لاحظت تأمله لها و لم تعترض أو تتذمر .. على العكس استغلت الفرصة لتتأمله هي الأخرى ، شعره البني الداكن بالكاد يصل إلى منتصف عنقه .. عينيه البنية على عكس عيون طارق السوداء الحادة .. جسده النحيف على عكس جسد طارق العضلي .. كما أنه يمتلك لحية خفيفة على عكس طارق ..
عقدت حاجبيها بضيق من أفكارها التي تتجه إلى طارق رغماً عنها ، و مع ذلك أمالت رأسها قليلاً متخيلة أن طارق هو الذي يجلس
أمامها الآن بدلاً من هذا الرجل فترتسم ابتسامة حالمة على شفتيها ..
أنتبهت على نفسها حينما هتف بصوت جاد : " من فضلك سيد أمجد ، أريد أن أجلس مع السيدة لحالنا " .
أومأ أمجد بالإيجاب و أشار لنشوى و نظرة التحذير لا زالت في عينيه : " اذهبا إلى الصالة " .
نهضت نشوى و هي تتأفف بداخلها و تتساءل " متى ستنتهي هذه الزيارة و ارتاح ؟ "
جلس وحيد على أحد المقاعد بأريحية .. لتجلس هي بالمقعد المقابل له و على شفتيها ابتسامة مجاملة ..
" لقد أحببت أن نجلس لحالنا لتسأليني ما تريدين بحرية " .
رفعت أكتافها بلا مبالاة : " لا شئ لدي لأسألك إياه " .
رفع حاجبيه بعدم تصديق .. ألا يوجد أي شئ تريد سؤاله عنه ؟
ألا تتشوق لمعرفة أي شئ عن حياته ؟
أليس من المفترض أنه سيكون زوجها و عليها معرفة كل كبيرة و صغيرة عنه ؟
و لكنه على عكسها لديه الكثير لمعرفته عن حياتها و أكثر شئ يريد معرفته سبب طلاقها ، أ كان بسبب عدم توافق بينها و بين زوجها كما علم ، أم أن وراء الموضوع أسرار ؟
" لقد تطلقتِ منذ أربع سنوات أليس كذلك ؟ "
تفاجئت من سؤاله و ردت عليه باقتضاب : " نعم " .
" هل لي بمعرفة السبب ؟ "
ردت بهدوء : " لم نتفاهم " .
رفع أحد حاجبيه بعدم تصديق و كأنه يخبرها أن كذبتها لا تنطلي عليه : " و هل أكتشفتوا عدم تفاهمكم بعد أربع سنوات من زواجكما ؟ "
تنهدت بنفاذ صبر : " لقد كنا نحب بعض كثيراً فحاولنا بكل قوتنا أن ننجح زواجنا ، و لكن مع الأسف فشلنا " .
سألها بترقب : " و هل لازلتِ تحبينه ؟ "
ردت عليه بوقاحة : " بل أعشقه " .
كانت تعتقد أنها بكلمتها ستثير غيرته .. فحتى إن كانت هذه المرة الأولى التي يراها فيها و لا يحمل لها أي مشاعر ، إلا أن أي الرجل لن يقبل مكانه بأن تصرح الفتاة التي على وشك الزواج منها بعشقها لأخر ، و لكنها تفاجئت بحديثه البارد :
" جيد .. أرى أننا سنتفاهم سوياً ، فأنا أيضاً لا زلت أحب زوجتي على الرغم من مرور سنتين على وفاتها " .
ماذا هل كان متزوج من قبل ؟
لِمَ لم يخبرها والديها بهذا ؟
تابع بجدية متغافلاً عن ردة فعلها : " و بما أننا على وشك الزواج فعليكِ أن تعلمي أن أولادي خط أحمر لا أسمح لشخص المساس بهما " .
حينها توسعت عيونها بذهول و كلمة واحدة تتردد في ذهنها : " أولاده " .
**********
منذ ما يقارب الربع ساعة و هو يراقبها ، يتمعن في شكلها .. شعرها الكيرلي الذي يصل إلى أول ظهرها مبعثر بعشوائية فتناثر على وجهها .. عيونها العسلية تلتمع بسعادة فتاة لم تذق الحزن يوماً .. قصرها الملفت للنظر بالنسبة لأطوال الطلبة المحيطين بها ، تأمل حركاتها باستمتاع .. على الرغم من أنها ليست من نوعه المفضل من حيث الشكل إلا أنها جذابة بطريقة خاصة .. نظراتها و تصرفاتها تجعل عيناك لا تنزاح من عليها ، أمعن النظر أكثر مركزاً على جسدها محاولاً اختراق ملابسها المحتشمة و النظر إلى ما تخفيه ..
أنبهه صديقه من شروده بها : " منذ فترة و أنت لا تنظر إلا لها " .
عض شفته السفلية و همس : " تعجبني " .
نقل سعيد نظراته للفتاة المعنية و أخذ يتفحص جسدها بجرأة ثم قال : " لديك حق فجمالها لا يمكن إنكاره " .
ليهتف خالد بتصميم : " و سيكون هذا الجمال لي في أقرب وقت " .
قهقه سعيد باستمتاع و هتف : " إذا هذه الفريسة الجديدة .. هنيئاً لك مقدماً " .
تجاهله و سار باتجاهها و عيونه تتأملها بدقة ، أخرج هاتفه المحمول ليتظاهر بتركيزه عليه و تابع سيره إليها .. اصطدم بها فبادر بكذب :
" أعذريني لم أنتبه لكِ " .
ابتعدت لارا عدة خطوات و ابتسمت بسماحة : " لا مشكلة " .
مد يده لها هاتفاً : " خالد المنوفي " .
فبادلته قائلة : " لارا " .
ليبتسم بخبث بعد أن أتم أول خطوة لصيد فريسته الجديدة !
تفاجئت لارا بمَن تسحبها و هي تقول بسرعة : " موعد المحاضرة ، الدكتور سيغلق الباب " .
رفع أحد حاجبيه و هو يراها تذهب من أمامه دون أن تلقي عليه كلمة ، فقبض على كفه بغضب .. لا زالت الخطة الأولى لم تكتمل بعد .. كيف تذهب الآن ؟
بقى لحظات يفكر ما عليه فعله ليتقرب منها ..
أيصطدم بها مرة أخرى ؟ ، لا من الممكن وقتها أن تشك بالأمر ..
أ يذهب إليها غداً و يتحدث معها ؟ ، و لكن عما سيتحدثان و بأي طريقة سيبدأ حديثه ذاك ؟
تأفف بضيق و هو يسب صديقتها بداخله ، لتتوسع عيونه فجأة و هو يتذكر ما قالته .. لقد قالت أن لديهما محاضرة !
ركض و عيناه تمشط المكان بحثاً عنها ، فإن كان ما يظنه صحيحاً فالقدر يقدم له هذه الفتاة على طبق من ذهب ..
ابتسم بمكر عندما رآها تدلف إلى أحد المدرجات الخاصة بالفرقة الأولى ، إذاً لقد كان ظنه في محله !..، فلقد استنتج فرقتها الدراسية نظراً لأنه لم يراها من قبل ، و بالفعل هي بنفس فرقته !..، فعلى الرغم من أنه بلغ الثلاثة و العشرون منذ أشهر قليلة إلا أنه لا زال في الفرقة الثالثة و يحمل مواد قليلة من الفرقة الأولى ، و على الرغم من قلة هذه المواد التي تصل إلى واحدة أو أثنين إلا أنها كافية لتجمعه بها الأيام القادمة و تجعله يقترب منها ..
لذا ستكون الخطوة الثانية لصيدها هو حضور المحاضرات التي لم يحضرها من قبل !
**********
خرجت من المطبخ لتتفاجأ بباقة كبيرة من الورود الجورية تحتل منتصف المائدة ، أسرعت و حملتها لتشتمها بحب ..
شعرت بيد تحيط بخصرها فتركت الباقة بعد أن أخذت منها وردة و استندت إلى صدره براحة ..
أدارها إليه و سحب الوردة من يدها ليضعها خلف أذنها على جانب شعرها ، فتناقض بلونها الأحمر لون شعرها الأسود .. و تضفي إلى وجهها الدائري جمالاً من نوع أخر ..
توسعت عيونها بسعادة و رفعت يدها تقبض على ياقة قميصه مقربة إياه منها أكثر و قالت تشاكسه : " لقد تأخرت الباقة اليوم ، هل لديك عذر مقنع أم نلجأ إلى العقاب ؟ "
عبس بملامحه بحزن : " لقد تأخرت زوجتي في إيقاظي أنا و بناتي اليوم مما منعني من إحضار الورود لها و حرمني من وجبتي الصباحية " .
تظاهرت بالتفكير ثم رفعت إصبعها السبابة أمام وجهه و قالت بحزم مصطنع : " حسناً سأعفو عنك هذه المرة و لكن المرة القادمة لن أمررها بسهولة " .
اقترب بوجهه من وجهها حتى اختلطت أنفاسهما و همس : " أشكركِ على حسن تفهمكِ ، و الآن اسمحي لي فعليّ تعويض وجبتي الصباحية " .
ليلتقط شفتيها بعدها يقبلها بعشق لم يخبو يوماً على الرغم من مرور تسع سنوات على زواجهما ..
لحظات مرت و هما مندمجين في عالم خاص بهما ليقاطعهما صوت طرقات قوية على الباب و صوت طفولي يصبح :
" أمي .. أمي .. أفتحي الباب " .
تنهد بإحباط و قال : " لقد أتوا مبكراً " .
قهقهت على ملامحه و هي تسرع لتفتح لبناتها : " بل هذا موعدهم ، و لكنك مَن لم تنتبه للوقت " .
اقتحما المنزل فتاتين صغيرتين أكبرهما في الثمانية من عمرها و الصغرى بالكاد أتمت السادسة ..
أسرعت إليه الصغرى لتقفز عليه فيلتقطها ضاحكاً بحب : " لقد أصبحتِ ثقيلة " .
عبست بملامحها و هي تدفن وجهها في عنقه : " أيعني هذا أنك لن تحملني ثانية " .
قبلها على وجنتها بحنو : " أمزح معكِ صغيرتي ثم أنني سأظل أحملكِ دائماً و أبداً " .
أسرعت إليها هبه لتنتزعها من حضن والدها قائلة : " هيا يا مدللة لتبدلي ملابسكِ " .
و أردفت و هي تنظر إلى أبنتها الكبرى : " تقوى اذهبي مع شقيقتكِ إلى الغرفة و أنا سآتي لكما " .
نفذت تقوى أمر والدتها و ذهبت مع إيمان إلى غرفتهما ..
راقبهما إسلام حتى توارا ورائها ليقترب من زوجته و يهمس بخبث : " أ تغارين من أبنتكِ يا هبتي ؟ "
توترت قليلاً و مع ذلك هتفت بثقة كاذبة : " و ما الذي سيجعلني أغار منها ؟ "
همس مقابل أذنها بتلاعب و نبرته خافتة لا تكاد تُسمع : " فعلاً ما الذي سيجعلكِ تغارين ؟ ، فأنا أحملكِ كما أحملها تماماً " .
يا له من كاذب !
لم تستطع السيطرة على غيرتها خاصة و هي تراه يدّعي البراءة و كأنه حقاً يساوي بينهما فكتفت يدها و قالت بغضب طفولي : " و لكنني لا أرى هذا ، فأنت لم تحملني منذ فترة طويلة "
تظاهر بالصدمة و قال مؤنباً نفسه : " يا لي من رجل " .
و أردف و هو يلتقط خصرها و يقربها منه : " إذاً سأعوض هذه الفترة و لن أجعل قدميكِ يلامسا الأرض " .
و تابع بخبث : " و لأثبت لكِ صدقي سأحملكِ الآن إلى غرفة طفلتينا " .
ابتعدت عنه شاهقة بخجل و كأنها ليست مَن كانت تعاتبه و تطالبه بحقها منذ لحظات قليلة !
" لا .. لا تفعل هذا " .
رفع أحد حاجبيه باستغراب : " أين الغيرة التي كانت تأكلكِ منذ قليل " .
جملته أيقظتها فاستعادت رشدها و سيطرت على غيرتها الحمقاء : " أجننت إسلام .. هل سأغار من ابنتي ؟ "
حدق بها باستمتاع و نظراته تكشف دواخلها بطريقة أربكتها و جعلتها تقول بتلعثم : " سأذهب لأرى البنات " .
لتركض من أمامه تاركه إياه يقهقه على خجلها و تناقضها !
**********
يا لها من حياة غدارة لا يجب أن نثق بها !
فأحياناً ترزقك بكل شئ و تجعلك تحيا هنيئاً .. مرتاحاً .. معتقداً أن كل ما في الدنيا ملكاً لك .. و أن لا أحد يضاهيك قوة ، لتصدمك
بعدها بالحقيقة المرة ؛ حقيقة أنك مجرد إنسان لا تملك إلا صحتك و أن كل ما تركض خلفه فاني لن يفيدك بشئ ..
و أحياناً أخرى تجعلك تؤمن بهذه الحقيقة مبكراً .. مبكراً جداً .. منذ أن تبدأ حياتك تحديداً .. فتجعلك تركض خلف الصحة بدلاً من المال .. تجعلك تعيش دائماً في خوف .. خوف من المجهول ، و حين تيأس و تستسلم لما كتبه الله لك تفاجئك بما لم تتوقعه مانحة لك الحياة من جديد .. حياة لم تعشها من قبل ..
و هي ظنت كثيراً أن لا أمل .. حاولت و حاولت حتى يئست و استسلمت ، رضت بالمكتوب على الرغم من الخوف من المجهول !
بكت و تضرعت .. تمنت و سعت .. أخطأت و عوقبت ..
و أخيراً فتحت لها الدنيا أبوابها و رزقها الله ما كانت تحلم به ..
أغلقت الباب لتستند بظهرها عليه متطلعة إلى الجوهرتين التي رزقها الله بهما ، لقد حلمت كثيراً بالإنجاب .. تمنت أن تسعد زوجها و ترزقه طفل من صلبه .. يحمل اسمه ، و بعد معاناة رزقها الله بما كانت تتمناه .. بل أكثر !..، فلقد رزقها بطفلتين .. طفلتين في غاية الجمال أضفتا إلى حياتهما سعادة فوق سعادتهما ، لتحصل هي هبه .. المرأة التي كانت غير قادرة على الإنجاب على ثلاثة فتيات ..
لارا .. ابنتها التي كفلتها هي و زوجها من دار الأيتام ..
و تقوى و إيمان بناتها هي و إسلام !
أغمضت عينيها متذكرة هذا اليوم الذي وضْعت فيه أبنتها الكبرى
( تقوى )
وقتها كان الخوف مسيطراً عليها بشدة .. مسيطراً لدرجة جعلتها تظن أنها ستموت قبل أن تحمل الطفل الذي حلمت به لسنوات طويلة ، و لم تصرح بمخاوفها تلك إلا لحبيب عمرها و زوجها ..
ارتسمت ابتسامة كبيرة على شفتيها تحولت إلى ضحكة و هي تتذكر ما فعلته به يومها ، لقد ودعته و كأنها لحظاتها الأخيرة في الحياة .. وصته على بناتها و كأنها لن تراهما !
جعلته يقضي دقائق صعبة منتظراً خبراً يريح باله و يطمئن قلبه ، حتى خرجت له الطبيبة مهنئة إياه على الحصول على فتاة كالقمر و مطمئمة إياه على صحة والدتها ، حينها لم يعلم ماذا يفعل ؟
أ يفرح لأن الله رزقه بما كان يظنه مستحيلاً ؟
أم يدلف إلى زوجته الحمقاء التي جعلته يقضي دقائق على نار و هو يتخيل أسوأ السيناريوهات ؟!
و لم يفعل هذا و لا ذاك بل اتجه إلى الحضانة التي وضعوا فيها طفلته .. و كل خطوة يخطوها إليها يزيد شوقه لها ، ليصل إليها و يحملها بحنو شاكراً الله على رزقه ..
" أمي ، ألن تبدلي لي ملابسي " .
أخرجتها من ذكرياتها جوهرتها الثانية التي أنعم الله بها عليها ؛ ابنتها الصغرى إيمان و التي أنجبتها بعد تقوى بعامين ..
اقتربت منها و ساعدتها في تبديل ملابسها ..
لتسألها تقوى : " متى سنأكل ؟ ، أنا جائعة " .
" سأذهب لإعداد الطعام ريثما تعود شقيقتكِ " .
قالتها هبه و هي تنهي مساعدة طفلتها في ارتداء ملابسها لتركض الأخيرة إلى والدها بنشاط و كأنها لم تقضي يوم دراسي متعب !
استقبلها إسلام بسعادة و شرعا في اللعب و الممازحة ، بينما اتجهت هبه إلى المطبخ لتبدأ في تحضير الطعام .. و تبعتها تقوى لتراقبها بفضول و تساعدها بما تستطيع !
**********
" يا أهل المنزل .. يا أهل الدار .. لارا أتت .. لارا جائعة " .
هز إسلام رأسه بيأس من أبنته التي كلما تكبر تزداد جنوناً ..
" أهدأي قليلاً " .
شهقت و كأنه أخطأ في حقها : " كيف أهدأ أبي ؟ ، أنا جائعة " .
لتردف صائحة : " أمي .. أنا جائعة " .
خرجت هبه من المطبخ قائلة : " الطعام جاهز يا مدللة ، اذهبي لتبدلي ثيابكِِ " .
تحركت مسرعة إلى غرفتها : " حالاً " .
راقبتها هبه بحب ، على الرغم من أنها كفلتها منذ تسع سنوات و بعد كفالتها بعام رُزقت بأول أطفالها ، إلا أن معاملتها لها لم تتغير ..
فلارا ابنتها .. أول مَن شعرت معها بإحساس الأمومة ..
لارا السبب الذي جعل إسلام يفكر في الزواج و ينظر لها ..
حتى إن كانت ليست أبنة بطنها .. فهي أبنة قلبها ..
و مكانتها لديها كمكانة بناتها تماماً !
بعد الغذاء
دلف إسلام و البنات إلى غرفهم كي يناموا ، بينما بقيا هبه و لارا في الصالة ..
تمددت لارا على قدم والدتها لتنام في حضنها و بدأت في قص ما مرت به في يومها كما اعتادت ..
طرقت جبينها متذكرة ثم قالت : " و تعرفت على شاب يدعى خالد " .
رفعت هبه حاجبيها بعدم رضى و مع ذلك قالت بهدوء : " و كيف تعرفتي عليه ؟ "
صمتت قليلاً لتقول بعدها بتردد : " لا أعلم إن كان عليّ أن أقول أنني تعرفت عليه حقاً ، فأنا لا أعلم غير اسمه فقط " .
سألتها محاولة معرفة ما حدث : " و كيف عرفتي اسمه ؟ "
قالت بشرود : " اصطدم بي و أعتذر ليخبرني بأسمه فأخبرته بأسمي ، ثم أتت لمياء لتسحبني لأن المحاضرة كانت ستبدأ " .
تنهدت هبه بضيق ، لم تعتقد أن ابنتها ستلفت الأنظار في الجامعة بهذه السرعة خاصة و أن هذا عامها الأول ، و لكن من الواضح أن ملامح وجهها البريئة جذبت الأنظار إليها ..
ثم ما هذه الطريقة التقليدية التي يتعرفوا بها الشباب ؟ ، أ لازال هناك من يصطدم بالفتاة ليتعرف عليها ؟!
أم أن كل ما تفكر فيه الآن محض تخيلات و أن ما حدث معها مجرد صدفة !فوت و كومنت لو عجبكم 😀😀
أنت تقرأ
لست أبي (كاملة)
Romance"هل لي أن اعلم ما الذي فعلتِه؟ كيف ترفضين الزواج من إسلام؟ ألا تعلمين ماذا فعلت لكي يقبل الزواج بكِ؟" شعرت بقبضته القوية على ذراعها، همست متأوهة بألم، تحاول تحرير ذراعها دون جدوى.. تجاهلت ألمها عندما سمعت توبيخه لرفضها لإسلام، برقت مقلتاها بالتحدي،...