فوت فوت فوت فوت فوت فوت فوت و كومنت 😂😂😂😂😂
أغمضت ياسمين عينيها بقوة ، منتظرة ثورة فريد عليها و على الطبيب ، فبالتأكيد فريد الجندي .. سيدها .. و رجل الأعمال الكبير ، لن يقبل بأن يكون له طفل من خادمته .
أما فريد فكان في عالم أخر ، الذهول و عدم التصديق يسيطران عليه ..
حامل ، ياسمين حامل ، تحمل في أحشائها طفله !
حرك رأسه بعدم تصديق ، و همس : " مستحيل ، هل أنت متأكد ؟ " .
لم ينتبه الطبيب إلى حالة مريضته و زوجها الغريبة ، أو أنه اعتبرها طبيعية !..، فبحكم عمله .. تعود على ردات فعل مماثلة .
" متأكد سيدي ، جميع الأعراض التي تشكي منها السيدة هي أعراض حمل ، كما أننا أجرينا لها التحليل للتأكد ..
مبارك لكما " .
" يكفي .. يكفي ، كف عن هذه الكلمة ، ألا تعلم أن أخر ما يرغب فيه هو الحصول على طفل مني ؟ "
قالتها بداخلها ، و هي تضع يدها على بطنها .. مملسة على مكان طفلها .
رمش فريد بعينيه بصدمة ، و في لحظة كان أمام الطبيب ، يمسكه من ياقة قميصه بقوة ، و يهدده :
" إن علم أحد بمجيئي إلى هنا أو بحمل السيدة لن أرحمك ، أ تفهم ؟ "
شهقتان انبعثا من كل من الممرضة و ياسمين ، و الأخيرة تتخيل ما سيفعله بها هي ، و أنه على عكس ما كانت تتوقع ، نهايتها ستكون على يد فريد .. لا زوجته !
تفاجأ الطبيب مما يحدث ، خاصة و هو يرى ملامح فريد الإجرامية و .. التي لا تنم على خير .
أومأ برعب ، و هو يقول : " فهمت سيدي .. لا تخاف ، أنتما لن تأتيا إلى هنا من الأساس " .
تركه فريد و هو يقول : " جيد " .
ثم نظر إلى الممرضة ، و سألها بتحذير : " و أنتِ ؟ "
هتفت الممرضة برعب يماثل رعب طبيبها : " أنا لم أراكما من قبل " .
أشار لها فريد بعلامة ممتاز ، ثم التفت إلى ياسمبن ، و هتف بنبرة غامضة : " هيا بنا " .
سارت معه بأقدام مرتعشة ، تحاول تخمين مصيرها في الساعات القادمة .
صعد إلى سيارته ، فتبعته هي بذعر من صمته الغريب .
و كلما طال صمته ، زاد ذعرها ، و تأكدت أنه لن يتركها بخير .
لكن فريد كان تفكيره أبعد ما يكون عن خيالاتها ، و جملة الطبيب لازالت تتردد في أذنه ( مبارك لك سيدي ، السيدة ياسمين حامل ) .
حامل .. يا إلهي ، كيف حدث هذا ؟
كيف لم تنتبه إلى هذا الأمر من قبل ؟
حرك رأسه بقوة معترضاً على أفكاره ، هي صغيرة .. ساذجة ، لا تعرف عن هذه المواضيع ، لكن هو ، ذو العلاقات الكثيرة .. و الخبرة الكبيرة ، كان عليه أن ينتبه .. أن يوعيها و يحذرها كما يفعل مع كل فتياته .
كيف غاب عنه هذا الأمر خلال علاقتهما ؟
كانت ياسمين تراقب انفعالاته المرتسمة على ملامحه بخوف و قلق
، ثم تنهدت بقوة ، لِمَ هي خائفة ؟
ماذا سيفعل بها ؟ ، سيجعلها تُجهِض الطفل ؟
و ما المشكلة ؟
أليس هذا أفضل من أن يولد و يشهد على علاقتهما المحرمة ؟
أم سيطلقها و لن يسأل عنها و لا عن الطفل ؟
يا ليت يفعل معها هذا ، فتكون رحمة منه ، و يكون الله معها هي و صغيرها المُنتظَر .
أم أن سيقتلها ؟
و ماذا في هذا أيضاً ؟ ، على العكس ، عندما تموت سترتاح ، كما أنه لا يوجد مَن يفقدها أو يحزن عليها .
إذاً لا داعي للخوف ، و لتُسلم أمرها لله !
توقف عند الإشارة ، ليلفت انتباهه طفلة صغيرة في السيارة المجاورة له ، تعبس بملامحها و تفعل حركات مضحكة ..
فابتسم بقوة على برائتها ، و تخيل طفلة بمثل برائتها و شقاوتها ، طفلته هو !
تحرك بالسيارة و هو ما زال يفكر و يتخيل ، و لأول مرة تداهمه مشاعر الأبوة ، و يشعر أنه يريد أن يكون أب لطفل صغير ، يسمع منه كلمة ( بابا ) .. يلاعبه و يهتم به ، مثل أي رجل أخر ، بل أنه يختلف عن الرجال في مثل عمره ، فهم لديهم أكثر من طفل .. على عكسه !
صفّ سيارته أمام منزله و قد بدأت السعادة تداهمه ، و الحماس إلى مجئ الطفل يسيطر عليه .
أغلق المحرك ، ليعقد حاجبيه عندما يرى ياسمين لم تتحرك من مكانها .
" ترجلي " .
لم تبدر منها أي حركة ، ليعلو صوته : " ياسمين .. ترجلي " .
انتفضت في مكانها ، و بدون أى حرف .. ترجلت من السيارة بسرعة .
سار خلفها حتى صعدا إلى شقته ، و حالما أغلق بابها ، حمل ياسمين بحنو لم تتبينه .
شهقت بخوف تمكن منها على الرغم من كل محاولاتها لتقبل ما سيفعله بها ، و الآف من الخيالات تدور في رأسها !
سار بها إلى الغرفة ، و وضعها على السرير برقة ، ثم قبلها على جبينها قبلة طويلة أثارت دهشتها ، و همس بسعادة واضحة في نبرته :
" مبارك لنا حلوتي ، سنُرزَق بطفل جميل " .
لمعت عينيها بعدم تصديق ، و سألته بارتياب : " أنت سعيد بحملي ؟ "
هتف باستنكار : " سعيد !
هذه الكلمة لا تصف ذرة من مشاعري الآن ، إن كنت أستطع الطيران ، لكنت حلقت من فرط سعادتي " .
و بدلاً من أن تطمئنها كلماته ، أثارت خوفها و ذعرها أكثر !
فكيف يكون سعيداً هكذا و هو سيُرزَق بطفل من خادمته ؟ ، خادمته المُتزوِج منها عرفي ، و لا يعرف بشأن زواجهما مخلوق .
و رانيا ماذا ستفعل بها إن علمت ؟
شحب وجهها بقوة عند هذا الخاطر ، فسعادة فريد بالطفل لا تتفي كونها لازالت بخطر ، فرانيا ورائها !
ملس فريد على وجهها ، و همس بخوف من شحوب ملامحها : " حبيبتي ، أنتِ بخير ؟ "
حبيبتي !
منذ متى و هي حبيبته ؟
ألم يعتبرها دائماً خادمة فراشه التي تجلب له المتعة ؟
هل كل هذا لأنها حامل ؟
اختنقت أنفاسها و هي تفكر ، هل سيأخذ الطفل بعد وضعها و سيحرمها منه ؟
نعم بالتأكيد هذا ما سيفعله ، و إلا كيف سيسعد هكذا بوجوده ؟
هزت رأسها بقوة معترضة على هذه الأفكار ، و دموعها قد هبطت بخوف ..
لا .. لا ، إما أن تُجهِض الطفل ، أو يكون معها ، لكن أن تُحرَم منه .. لن تحتمل ذلك .
يكفي أنها حُرِمت من والدتها و هي طفلة ، لا تريد لطفلها أن يعاني مثلها .
كان يتابع انفعالاتها التي تتوالى على صفحة وجهها بحيرة و عدم فهم ، ما بها ؟
أليس من المفترض أن تكون سعيدة لأنها ستكون أم ؟
" حبيبتي ، أنتِ بخير ؟ "
لم تتمالك نفسها أكثر ، فأفكارها تجعلها تكاد تجن ، فسألته بخوف : " ماذا ستفعل بي ؟ "
انعقد حاجبيه بحيرة ، و كرر نفس سؤالها : " ماذا سأفعل ؟ "
رمشت بعينيها بسرعة ، و هي تقول : " بالتأكيد ستفعل بي شئ ، و إلا ما سر سعادتك بالطفل ؟ "
ردد بذهول : " سر سعادتي !..، لِمَ ، ماذا يفترض بي أن أفعل عندما أعلم أنني سأُرزَق بطفل ؟ "
همست بصراحة : " هذا لو كنا أزواج طبيعين ، و لكننا " ، توقفت غير قادرة على المتابعة .
ليحثها قائلاً : " و لكننا ماذا حلوتي ؟ "
ترددت في الحديث ، لتحسم قرارها بالصمت ، فهي لا تأمن له ، فتارة يكون هادئ و حنون ، و تارة ينقلب مائة و ثمانين درجة .
و لكن فريد فهمها ، و فهم ما كانت تريد قوله ، فهتف بجدية : " اسمعيني ياسمين ، أنتِ زوجتي ، و تحملين طفلي ، لا تفكري في غير هذا " .
همست بخوف : " و الطفل ؟ "
هتف باستغراب : " ما به الطفل ؟ "
وضعت يدها على بطنها و كأنها تحميه ، و همست : " هل .. هل سيظل معي ، أم ستأخذه مني ؟ "
تفهم خوفها ، فطريقة زواجهما تجعلها تظن أكثر من هذا ..
فوعدها بثقة : " الطفل .. و أنتِ ستظلان معي ، لن يفرقنا مخلوق " .
ارتاحت عندما سمعت كلماته ، و ظهر هذا جلياً على ملامحها ، ففريد الجندي كلمته واحدة .. و لا يخلف وعداً قطعه ، هذا ما استنبطته خلال الأيام التي قضتها في قصره .
لكن يتبقى شيئاً واحداً ، أو بالأصح شخصاً واحداً ، شخص لا ينفك عن إثارة خوفها ، و إدخال الكوابيس على أحلامها .
" و السيدة رانيا ؟ "
رانيا ، هذه أكبر مشكلة سيواجهها الأيام القادمة ، و لكنه سينتصر عليها ، فلقد أصبح لديه مَن يحارب من أجله .
" انسي رانيا حبيبتي ، و لا تخافي من شئ ، اهتمي بنفسكِ و بالطفل فقط " .
سألته بحيرة : " و العمل ؟ "
هتف بحزم : " لا عمل من اليوم ، لن تخرجي من هذه الشقة ، شقتكِ " .
رددت بسعادة : " شقتي " .
و أخيراً أصبح لها شقة ، مملكتها الخاصة بها .
ابتسم لها مأومأ ، ثم التقط هاتفه ، و قال : " و الآن لنتصل بمطعم ليبعث لنا بطعام ، حتى اتفق مع واحدة تأتي و تخدمكِ " .
سارعت بالإعتراض : " لا .. لا ، لا أريد أحداً " .
اعترض بقوة : " لا يوجد لا ، لا تناقشي كلمتي " .
زمت شفتيها بضيق ، و هي التي ظنت أنه تغير !..، ها هو عاد إلى شخصيته القوية القاسية !
همست بحزن : " ألن تقل أنها شقتي ؟ "
أومأ مؤمناً ، و قال : " نعم " .
فترجته : " و أنا لا أريد أحد فيها غيري ، أرجوك " .
هز راسه باعتراض ، و قال : " سيكون متعباً عليكِ ، و من الممكن أن يشكل خطر على الجنين " .
رفضه لأن خائف عليها و على الطفل ، يبدو أنها ظلمته .. و شخصيته الحنونة مازالت تتلبسه !
" لا تقلق ، لن أتعب نفسي ، و إن شعرت بالتعب سأخبرك لتأتي لي بواحدة " .
و قبل أن يعترض ، استعطفته قائلة : " أرجوك .. أرجوك ، و أعدك أنني سأخبرك حالما أتعب " .
ثم اقتربت منه متابعة : " أرجوك ، هذا أول طلب اطلبه منك " .
ابتسم بحنو ، و قبل شفتيها قبلة صغيرة ، ثم همس : " اتفقنا إذاً " .
توسعت عينيها بسعادة ممزوجة بعدم التصديق ، و سألته بشك : " حقاً ، ستنفذ طلبي ؟ "
سألها بمشاكسة : " أليس هذا ما تريدينه ؟ "
أومأت بسعادة : " بلى .. بلى ، شكراً " .
" لا تشكريني حبيبتي ، أنتِ تأمرين " .
و تابع بجدية : " لكن سيكون هناك حارس ليحميكِ و يجلب لكِ ما تريدينه " .
و قبل أن تعترض ، هتف بنبرة لا تقبل النقاش : " و لا أريد أي أعتراضات على هذا ، فأنا لن أكون هنا طوال الوقت ، و أريد أن أكون مطمئناً عليكِ " .
حسناً ، فأولاً و أخيراً سيكون الحارس خارج الشقة ، و ستكون على حريتها .
اتصل فريد بالمطعم و طلب منه وجبتين من الطعام ، و حالما وصلا ، و لدهشتها .. بدأ يُطعمها بيده !
و بعدما انتهيا ، ألقى علب الطعام في سلة المهملات ، ثم عاد إليها .. و جذبها إلى أحضانه ليناما .
أغمضت عينيها و شعور بالأمان يتسلل إليها ، و بداخلها شئ يخبرها أن هذا الطفل سيكون سبباً لحياة سعيدة مع فريد !
**********
صاحت بغضب : " ماذا يعني هذا ؟ ، أين هي ؟ "
انتفضت ميرفت في مكانها ، و قالت بارتباك : " لا أعلم .. لا أعلم سيدتي ، كان من المفترض أن تعود صباح اليوم ، و لكنها لم تأتي " .
و فريد لم يعد ليلة أمس أيضاً ، أي أنه كان معها !
" تباً .. تباً " ، صاحتها بقهر .
ثم قالت : " عندما تعود اجلبيها إليّ ، فهمتي ؟ "
أومأت ميرفت بطاعة ، و انصرفت إلى عملها .
لتستوقفها رانيا قائلة : " انتظري ، ماذا عن الرجال الذين طلبتهم ؟ "
همست ميرفت بوعد : " سيكونون عندكِ خلال يومين سيدتي ، لا تقلقي " .
ابتسمت رانيا بشر ، و أشارت لها بالمغادرة .
ثم التقطت هاتفها ، و اتصلت بزوجها ، لتصيح بتساؤل حالما وصله صوتها : " أين أنت ؟ "
**********
فتح عينيه على رنين هاتفه ، فالتقطه بكسل ، تطلع إلى رقم رانيا ، فتنهد بقوة ، و نهض خارجاً من الغرفة .. حتى لا يزعج حلوته .
هتف بسخرية حالما وصله صوتها : " و منذ متى و أنتِ تهتمين ؟ "
جزت على أسنانها بقوة ، و هتفت بتهديد : " لا تختبر جنوني يا فريد ، فأنت لا تعلم ما يحدث بي هذه اللحظة ..
" أين أنت ؟ "
زفر أنفاسه بقوة ، و قال : " بعمل ، ماذا تريدين ؟ "
هتفت بأمر : " تعال إليّ في الحال ، أقل من ساعة ... " .
قاطعها بحدة : " انتبهي إلى نبرتكِ و أنتِ تتحدثين معي ، ليس فريد الجندي مَن تتحدثين معه بهذه الطريقة و تأمريه " .
تنفست بقوة محاولة تهدأة نفسها ، فكل ما تريده الآن أن يأتي إليها و يترك تلك الخادمة التي تسحبه إليها و تجذبه نحوها .
" أعتذر حبيبي لم أقصد ، و لكن هناك ما يثير توتري ، هل ممكن أن تعود إلى القصر ؟ " ، قالتها برقة لم تخدعه .
فأومأ و كأنها تراه ، سيظل معها حتى يعلم ما تريده !
" سآتي " .
قالها و أغلق الخط ، ثم اتصل بأحد حراسه .. الموثوق به .
" فتحي ، أريدك أن تأتي إلى شقتي الخاصة .. حالاً " .
و بعدها ، عاد إلى الغرفة مرة أخرى ، و التقط ورقة ليكتب إلى ياسمين بشأن مغادرته ، و أنه يوجد حارس أمام الشقة لتلبية ما تحتاجه حتى يعود ، و لم ينسى أن يوصيها بنفسها و بالطفل ، ثم وضع الورقة على الطاولة المجاورة للسرير ، و غادر .
**********
طوال الطريق كان يفكر فيما مر به خلال اليوم ، لو أخبره أحدهم من قبل أنه سيكون أب لطفل من إحدى الفتيات التي يلهو معهم ، لكان أقل شئ فعله معه هو قتله ، لكنه الآن بات يصدق ، بل أنه بالفعل إحدى فتياته تحمل طفله !
لا .. لحظة ، ياسمين ليست مثل فتياته ، حلوته الصغيرة .. الناعمة ، التي لم تبالي يوماً لأمواله و سلطاته ، و لم تحاول استغلالها مثل مَن قبلها ، سيكون من الظلم إن قارنها بهن .
ابتسم و ذكرياته تعود لأول مرة رآها فيه ، مروراً بما بعدها و أفعاله معها حتى أرغمها على الزواج منه ، و استسلامها و خوفها الدائم منه .
هل هذه الطفلة الخائفة ستكون أماً لطفل خلال تسعة أشهر ؟
لا ، هو مَن سيكون أب لطفلتين !
نعم يريد طفلة ، طفلة مثل ياسمين ببرائتها و نعومتها و .. حلاوتها !
عاد عقله للعمل ، و كأنه كان في غيبوبة و استيقظ منها ، فصاح معترضاً على أفعاله :
" فريد الجندي .. استيقظ ، ما هذا الذي تفعله ؟
كيف تقبل أن يكون لك طفل من خادمتك ، فتاة تزوجتها عرفياً ؟
فانتفض قلبه معترضاً بنفس القوة : " لقد أرغمتها على هذا الزواج ، هي لم تكن ترد هذا ، و أنا مَن سعيت ورائها حتى حصلت عليها " .
فعاد عقله يصيح بتصميم : " حتى لو ، في الأخير إنها إحدى الفتيات التي تزوجتها لتلهو معها و تحصل منها على رغباتك ..
ثم لِمَ أنت سعيد و واثق منها إلى هذا الحد ؟
لِمَ تستبعد أن تكون سعت إلى هذا الحمل حتى تستطيع السيطرة على أموالك ؟ "
صاح قلبه رافضاً : " لا ياسمين ليست هكذا ، هي أضعف من أن تخطط لهذا الشئ ..
كما أن خوفها مني عندما علمت بحملها أكبر دليل على أنها لم تخطط له " .
سخر عقله : " هه تمثيل ، و هل يوجد مَن هن أبرع من الفتيات في تمثيلهن ؟
لا تدعها تخدعك " .
فهمس بقوة : " ياسمين لا تخدعني ، لا تستطع فعلها ، هي أضعف و أرق من أن تفعل هذا " .
ليهمس قلبه مؤيداً : " و هذا ما يجعلني متعلق بها ، أنها مختلفة في كل شئ عمن عرفتهن " .
ليعترف لأول مرة : " أنا أحبها ، لا أستطيع العيش من دونها ..
ربما الله منحني هذا الطفل لاكتشف هذا ، و ابدأ معها من جديد " .
عاد عقله للسخرية منه مرة أخرى : " لازالت واثق منها ، بل تعترف بحبها ، أخشى أن تُصدَم بالحقيقة في يوم " .
همس بتصميم : " لا تخدعني ، و حتى إن كانت ، ستظل معي .. لن أسمح لها بالإبتعاد عني ، و وقتها سأحاسبها على خداعها ..
أما أن أتركها ، فلا ، ياسمين ملكي " .
**********
وصلهما صوت قوي ، بنبرة لا تقبل النقاش : " لا يا لارا ، اخرجي خالد من حساباتكِ " .
حدقتا فيه باستغراب ، سرعان ما تحول إلى الرفض من جهة لارا ، لتسأل والدها بتذمر :
" لِمَ يا أبي ؟ "
تطلع إلى زوجته ، و قال لها بهدوء : " اذهبي و ارتاحي حبيبتي ، و أنا سأتحدث معها " .
ترددت هبه في تركهما ، خاصة و هي ترى ملامح لارا المتذمرة .. الرافضة ، و ملامح زوجها الجادة .. الحاسمة .
حثها إسلام : " هيا يا هبه " .
نهضت باستسلام ، و قبل أن تتحرك ، مالت على لارا هامسة : " اسمعي كلام والدكِ ، فهو لا يريد سوى سعادتكِ " .
و تركتهما .. داعية الله أن تمر الأمور على خير .
أغلق إسلام الباب بعد أن خرجت زوجته ، و سار بصمت ليجلس بالقرب من ابنته .
لتبادر هي قائلة : " لم تجيبني يا أبي ، لِمَ ترفض خالد ؟ "
هز رأسه بحيرة ، و قال : " بل أنا مَن أريد سؤالكِ ..
لِمَ هو ؟
مَن أين تعرفيه لتوافقي عليه ، و تتمسكي به كما هو واضح ؟ "
أجابته لارا بثقة : " صديقي بالجامعة " .
رفع حاجبيه باستنكار ، و هتف : " فقط ، و هل هذا كافي لتوافقي على الزواج منه ؟
هل هذا جعلكِ تعرفين عائلته و أخلاقه ؟ "
هتفت بضيق : " أخلاقه واضحة لي من خلال تعاملي معه ، و عائلته ليست مهمة ، فأنا سأتزوجه هو " .
واضحة !..، و ماذا إذاً عما عرفه عنه ؟
صرّح قائلاً : " لكن ما عرفته يخالف أخلاقه الواضحة لكِ حبيبتي " .
انعقدا حاجبيها بارتياب ، و سألته : " ماذا عرفت أبي ؟ "
كان لابد من إخبارها ، حتى تقتنع بسبب رفضه ، فأجابها : " خالد شاب غير منضبط أخلاقياً ، لديه الكثير من العلاقات المحرمة " .
هزت رأسها بقوة ، و هتفت بثقة : " أعلم هذا أبي " .
توسعت عينيه بذهول : " تعلمين ! "
أومأت بسعادة ، ظناً منها أن ما ستقوله سيجعل والدها يقتنع و .. يوافق .
" نعم أبي ، لقد أخبرني عن علاقاته ، و قال أنه كف عن كل هذا منذ أن أحبني " .
لأول مرة يرى ابنته بهذه السذاجة ، أين عقلها و ذكائها ؟
كيف تمكن هذا الشاب من خداعها بهذه السهولة ؟
" و هل صدقتيه ؟ "
أمالت رأسها بحيرة ، و همست : " و لِمَ لا أصدقه أبي ؟ ، ثم أنه يتعامل معي باحترام منذ أول مرة رأيته فيها " .
ساذجة و غبية ، يود لو يضربها على رأسها ، لعلها تستفق و تفهم ما حولها .
تنهد بنفاذ صبر ، و قال منهياً الموضوع : " لربما كان يُظهِر لكِ ما يريدكِ أن تريه ، أو ربما حقاً تغير كما أخبركِ .
لكن في النهاية ما عرفته عنه لا مجال للشك في صحته ، و أنا لن أكون مطمئناً عليكِ معه " .
اعترضت متجهمة : " لكن يا أبي ، أنا أريده " .
علا صوته قائلاً : " تريدينه علام ؟ ، ما الذي يجذبكِ له ؟ "
زمت شفتيها غير قادرة على الإجابة ، فخجلها يمنعها من إخباره بحبها له .
زفر أنفاسه بقوة ، ثم أخذ يملس على شعرها بحنو ، و هو يقول : " لارا .. حبيبتي ، أنتِ أغلى ما أملكه في هذه الدنيا ..
ألا تعلمين مقدار حبي لكِ ؟
أنتِ مَن أدخلتِ السعادة إلى حياتي ، فلولاك ِلما كنت تزوجت من هبه ، أو رُزِقت بتقوى و إيمان ..
لذا .. لن أقبل إلا بأن تحصلي على نفس السعادة التي وهبتيني إياها " .
تحركت بسرعة لتحتضنه بقوة ، و همست : " لا تقل هذا أبي ، بل أنا التي مهما فعلت ، لن أستطع أن أشكرك على ما فعلته لي ، أنت أنقذتني من دمار كان من الممكن أن يلحق بحياتي " .
ربت على ظهرها بحنو ، و همس : " أنا لا أفعل إلا ما في صالحكِ ، لذا انسي هذا الخالد و اخرجيه من حساباتكِ ..
فكري في أمير ، هو مناسب لكِ " .
أمير ، لا و ألف لا ، لن تتزوج من هذا الفظ الطويل !
ابتعدت عن والدها بسرعة ، و هتفت باعتراض : " لا يا أبي ، لا أريد أمير " .
كان وقت إسلام ليسألها باستغراب : " لِمَ ؟! ، أمير شاب ناجح و محترم ، و أنا متأكد من أنه سيسعدكِ " .
و لكنه فظ و سليط اللسان ، لا تنكر أنه يكون لطيف في بعض الأحيان ، و أنه وضح لها سبب فظاظته معها ، و لكنه يثير استفزازها بقوة ، و لن ترتاح معه .
" و لكنني لا أريده ، لا أشعر بالرغبة في إكمال حياتي معه " .
طلب منها بأمل : " فكري مرة أخرى ، لربما غيرتي رأيكِ " .
أمالت رأسها متساءلة : " و ستفكر أنت في خالد ؟ "
تبدلت ملامحه إلى الحدة ، و هتف بصرامة : " لا خالد لارا ، اخرجيه من عقلكِ " .
فهتفت بعناد : " و أنا لا أريد أمير ، لا ترغمني عليه " .
رفع أحد حاجبيه متسائلاً : " و ما المشكلة إن فكرتي مرة أخرى " .
" سيكون بلا جدوى ، لأنني لن أغير رأيي ، لا تحاول " .
و مع أنه كان يتمنى أمير لها ، فمن رأيه أنه مَن سيسعدها ، و لكنه لا يستطيع إرغامها على ما تريده ، فهمس مستسلماً :
" كما تريدين ، سأبلغ رفضكِ لكلا الشابين " .
فشاكسته قائلة : " رفضي لأمير ابي ، و رفضك أنت لخالد " .
**********
" رفضت " ، قالها بصدمة و ملامحه قد ظهر عليها الحزن و خيبة الأمل .
مع أن المرة الوحيدة التي انفرد فيها بها ، لم يقضي معها خلالها غير بضع دقائق لا تتعدى النصف ساعة ، إلا أنه شعر وقتها ببداية انجذابها له ، و ظن أنها ستعيد التفكير ألف مرة قبل الإختيار .
سأل بغضب ظهر جلياً في نبرة صوته : " اختارت خالد ، صحيح ؟ '
وصله صوت إسلام الهادئ : " مع أن هذا لا يعنيك ، لكننا رفضناكما اثنتيكما ، لارا لن تتزوج من أي منكما " .
كيف رفضته و هي كانت متمسكة به ، و كان من الواضح أنها تحبه ؟
تابع إسلام بنفس الهدوء : " كنت أتمنى أن تكون زوجاً لأبنتي يا أمير ، و لكن كما يقولون .. الزواج قسمة و نصيب ..
أتمنى أن تجد فتاة تحبك و تسعدك ..
في أمان الله " .
أغلق أمير الخط بضيق ، كان يتمنى أن تكون له .. أن تختاره ..
مع أنه كان يتوقع رفضها ، فمواقفه معها لا تشجعها على الموافقة ، إلا أن أمل صغير كان يداهمه ، و قلبه يخبره أنها ستوافق عليه .
لكن مهلاً ، لقد تم رفض خالد أيضاً ، مع أنه لا يعلم كيف حدث هذا ، لكن هذا ليس مهماً ، المهم أن الطريق ما زال مفتوح أمامه ، و لن يستسلم إلا عندما تكون زوحته !
**********
أصوات موسيقى عالية و أغاني بكلمات غير مفهومة .. لا تُسبِّب سوى الصداع ، شباب لا يعون إلى ما يجري حولهم ، و فتيات يرتدين ملابس بالكاد تغطي أجسادهن ، يضحكون و يلهون دون تفكير في عقاب الله .
و في إحدى الزوايا ، كان يقف و سيجارته بين أصابعه ، يرتدي سروال جينز أسود .. و قميص مخطط .. مفتوح أولى ثلاث أزراره ، و بجواره فتاة تلتصق بجسده .. لا يفصل بينهما شيئاً .. تدفن وجهها في عنقه ، و يميل هو عليها ليهمس في أذنها .. و على ملامحه ابتسامة خبيثة .
استجابت الفتاة و التصقت بجسده أكثر .. و يديها تستقر على صدره العاري ، فاتسعت ابتسامته الخبيثة .
ليقاطع رغبتهما رنين هاتفه ، فيبتعد عنها قليلاً بتأفف .
انقلبت ملامحه إلى أخرى مُنتصرة و هو يرى اسم ( إسلام ) يُنير شاشة هاتفه ، فترك الفتاة و تحرك إلى مكان هادئ ليُجيب عليه .
فتح الخط ، و قال : " مرحباً سيد إسلام ، و أخيراً أشفقتوا عليّ . ظهر في جملته الأخيرة قليل من السخرية أزعجت إسلام .
" كيف حالك سيد خالد ؟ "
هتف خالد بثقة : " لا داعي للرسميات سيدي ، سنصبح أقارب عما قريب " .
ابتسامة مستهترة بثقة هذا الشاب ارتسمت على شفتي إسلام ، و هتف بنبرة تجّلت فيها السخرية :
" للأسف لن يحدث هذا " .
انعقد حاجبي خالد بعدم فهم ، و سأل : " ماذا تقصد سيد إسلام ؟ "
" كما تعلم الزواج قسمة و نصيب ، و نصيبك ليس لدينا " .
شحب وجه خالد من الصدمة ، و هتف بعدم تصديق : " ماذا تعني سيدي ؟ "
أجابه إسلام بهدوء : " ليس لدينا بنات للزواج " .
اندفع خالد قائلاً : " كيف ؟ ، لارا " .
قاطعه إسلام بحدة ، متنبأ لما سيقوله هذا الشاب ، و سيزعجه بكل تأكيد :
" رأي لارا من رأيي ، و لا كلمة لها من بعدي ، أتمنى لك حياة سعيدة " .
ثم أغلق الخط دون أن ينتظر رده ، و حمد الله بداخله أنه رفضه ، فهذا الشاب غير مناسب أبداً لأبنته .
**********
" لحظة ، أنتظر " ، نظر إلى هاتفه فوجد أن الخط قد أُغلق .
فضغط عليه بعصبية ، و ركل الجدار الذي جواره بقوة .
" الحقيرة ، الحقيرة " .
اقترب سعيد منه ، و سأله باستغراب : " ما بك يا زعيم ؟! "
نظر إليه بوجه أحمر من الغضب ، ثم تنفس بقوة محاولاً تهدئة نفسه .. و التفكير فيما سيفعله معها الأيام القادمة !
" لارا رفضتني " .
اشتعل غضب سعيد فور أن أطلق خالد جملته ، و هتف : " كيف ؟
أ يعني أننا لن نحصل عليها ؟ "
سارع خالد يقول بتصميم : " بل سنحصل عليها ، رغماً عنها و عن والدها ..
أنا اريد هذه الفتاة ، و لن أرتاح إلا عندما أحصل عليها " .
نبرته المصممة هدّأت سعيد ، فأخذ يفكر هو الأخر في طريقة للحصول على هذه الفتاة ، بعد أن فشلت خطة صديقه .
" ليس أمامك إلا أن تنفذ ما اقترحته عليك سابقاً ، فلنخدرها و نحصل عليها ، و بعدها نبحث عن طربقة تُجلبها إلينا كلما رغبنا فيها " .
أستعاد خالد كامل تركيزه ، فابتسم بمكر ، و قال : " أ تعلم يا صديقي ، عندما تخطط لأي شئ ، يجب أن يكون لديك خطة بديلة .. تحسُباً لأي مفاجأة من الممكن أن تحدث و تخرب خطتك " .
ظهر الحماس على ملامح سعيد ، و سأله بلهفة : " لديك خطة أخرى لنحصل عليها كما نريد ؟ "
اتسعت ابتسامة خالد ، و رفع هاتفه ليتصل برقم ما ، ثم فتح مكبر الصوت ، و انتظر لحظات قبل أن يصدح صوت أنثوي .
" السلام عليكم ..
خالد ، كيف حالك ؟ "
ظهرت الحيرة على ملامح سعيد ، في حين أن خالد أدعى الحزن و هو يهمس :
" حالي !..، و تسألينني عليه بعد أن رفضتيني ؟!
عموماً أنا لست بخير ، فقلبي يتألم بشدة ، و لا يصدق أنكِ لن تكوني له " .
كبت سعيد ضحكته بقوة ، لولا أنه بعلم بكذب صديقه ، و أن كل ما يفعله ليُسقِط الفتاة في شباكه و يحصل عليها ، لكان بكى تأثراً بنبرته .
نظر إليه خالد بتحذير من إنطلاق ضحكته و إفساد مخططاته ، ثم تابع مكالمته مع لارا ، فقال بعتاب :
" كيف استطعتي قولها يا لارا ؟
رفضتيني و أنا مَن كنت أحلم باليوم الذي سنجتمع فيه سوياً " .
لتعود نبرته إلى الحزن المصطنع و هو يقول : " ماذا إذاً عن نظراتكِ المعجبة لي ، و خجلكِ عند رؤيتي ؟
أ كنت أتوهم كل هذا ؟ "
سقطت دموع لارا و هي تستمع إليه ، لتهمس بلا شعور : " لا لن أرفضك ، والدي هو مَن أراد هذا ، سامحني أرجوك " .
ابتسم خالد بانتصار ، فما توقعه كان صحيحاً !..، ثم قال معاتباً :
" و أنتِ استسلمتي لقراره ، سمحتي له بأن يحرمكِ من سعادتكِ !
خسارة يا لارا ، كنت أتوقع أنكِ تحبيني لدرجة أن تفعلي أي شئ ، و تقفي أمام أي شخص في سبيل حبنا ، و لكن يبدو أنني كنت متوهماً " .
و أغلق الخط فور أن أنهى كلماته ، مدركاً تأثيرها على فتاته الساذجة !
سأل صديقه : " ما رأيك ؟ "
هتف سعيد بلا تفكير : " مجرم ، أقسم أنني كنت سأصدقك .
و لكن أعذر قلة فهمي و أخبرني بما تنوي عليه ، فعلى الرغم من متابعتي إلى كل المكالمة ، إلا أنني لم أفهم ما ستفعله " .
ابتسم خالد بخبث ، و صرّح بخطته القادمة ، فقال : " عندما جلست معها أول مرة لمحت في عينيها الإعجاب ، على الرغم من كل محاولانها لإخفاءه ..
ثم عزمت على أن أحول هذا الإعجاب إلى حب .. لأنفذ خطتي الأولى ..
و عندما أتصل بي إسلام ذاك و أخبرني برفضها ، شككت أن له يد في الأمر ، خاصة و أن تصرفاتها الأخيرة معي و سعادتها بطلبي للزواج منها ، لا تدع مجالاً للشك في موافقتها ..
فأجريت هذه المكالمة كي أتاكد " .
لم يفهم سعيد المغزى من كل ما يفعله صديقه حتى الآن ، فسأله : " و الآن قد تأكدت ؟ "
أومأ خالد ، ليقول سعيد بحماس : " و ماذا ستفعل ؟ "
تذكر خالد ما قصته لارا عليه من قبل ، و لم يخبر سعيد به حتى الآن !
فهتف بغموض : " سأفسد علاقتها بوالدها ! "
**********
أرتمت على سريرها باكية بقوة ، لتقول من بين شهقاتها : "
لِمَ لم تعطيه فرصة يا أبي ؟
فرصة واحدة يثبت فيها لك بتغييره كما أثبت لي ..
ليسامحك الله يا أبي ، كسرت قلبي و قلبه ، ليسامحك الله ! "
**********
دلفت إلى غرفتها لتوقظها ، اقتربت من سريرها ، و همست بحنو : " ليندا حبيبتي ، هيا استيقظي " .
تململت في نومها ، و سألت زوجة والدها : " كم الساعة ؟ "
" تقارب السابعة " .
تقلبت و هي تغطي وجهها جيداً ، و همست بتذمر : " لا زال الوقت مبكراً " .
سحبت عنها الغطاء ، و هي تقول بصرامة : " لا ليس مبكراً ، بل بالكاد يكفي لتتجهزي و تغادري " .
فتحت عينيها بكسل ، و سألتها بحيرة : " أغادر إلى أين ؟ "
أجابتها مريم ببساطة : " إلى عملكِ ، لقد أصبحتِ بخير ، و لستِ بحاجة إلى إجازة أطول " .
نعم أصبحت بخير ، و عليها أن تعود إلى عملها و تمارس حياتها الطبيعية .
نهضت بتردد ، لتقول مريم بحنو : " تجهزي و تعالي لتتناولي الإفطار " .
أومأت بشرود ، فتركتها مريم و خرجت من الغرفة .
بقت في مكانها لثواني ، لا تريد الذهاب إلى هناك ، و في نفس الوقت لا تستطع الغياب أكثر .
تنهدت بقوة ، ستذهب لتراه .. هو و خطيبته ، ستراه و لن تستطع أن تحدثه بحرف أو حتى تطمئن على حاله ، حتى لا تخرب حياته .
أصدرت تنهيدة أخرى ، و نهضت لتستعد .
التقطت ملابسها ، فابتسمت و الدموع تلتمع بعينيها ، فهذه الملابس هو مَن اختارها لها .
تجهزت ، فخرجت من غرفتها متجهة إلى غرفة الطعام ، أينما تجلس مريم و والدها .
دلفت ، و كالعادة .. كان والدها جالساً متجهم الملامح ، على عكس مريم .. و التي استقبلتها بملامحها البشوشة .
" و أخيراً أتيتي حبيبتي " .
أسلوبها اللطيف و اهتمامها بها ، بات يجعلها لا تستطع الرد عليها بفظاظة كما في السابق ، بل أن قلبها بات يغرد سعادة لهذا الاهتمام .
أطرقت وجهها بحرج ، و همست : " تأخرت ؟ ، أعتذر " .
حركت مريم المقعد المجاور لها .. تدعو ليندا للجلوس بقربها ، و هي تقول : " لا حبيبتي لم تتأخرين " .
تحركت ليندا لتجلس بجانبها ، و لكنها لم تستطع تناول الطعام ، حيث أن روحها و تفكيرها كان في المكان الذي ستذهب إليه بعد قليل .
لكن مريم لم تتركها ، قربّت منها الصحن ، و هي تهمس متسائلة : " لِمَ لا تأكلين حبيبتي ؟ "
ابتسمت الفتاة ابتسامة لم تصل إلى عينيها ، و همست بكذب : " آكل " .
ظهر عدم التصديق على ملامح مريم ، ثم همست بحزم : " لن تستطيعي خداعي يا صغيرة ، و اعلمي أنكِ لن تغادرين إلى عملكِ إلا بعد أن تنهين صحنكِ " .
ودت لو تركت صحنها كما هو ، كي تنفذ مريم ما قالته و تمنعها من الذهاب إلى المشفى ، و لكن هذا لن يفيد ، فهي لن تترك عملها و تظل في البيت طوال حياتها ، سيأتي يوماً تعود فيه إلى ممارسة حياتها الطبيعية ، و حينها ستواجه علاء و خطيبته ، و لا داعي لتأخير هذه المواجهة أكثر .
بدأت في الأكل بهدوء ، و هي تفكر فيما ستفعله .. و كيف ستتصرف مع علاء حينما تراه ، هل تحدثه ؟ ، أم تتجاهله ؟
ستتجاهله ، يجب أن تتجاهله حتى لا تثير الخلافات بينه و بين خطيبته .
أنتهت من طعامها ، فنهضت هامسة : " الحمد لله ..
سأغادر الآن " .
ابتسمت لها مريم ، و هي تقول : " في أمان الله حبيبتي ..
انتبهي لنفسكِ " .
في حين أن والدها لم يكلف نفسه بالرد عليها ، أو مطالبتها بالإهتمام بنفسها ، خاصة و هذه أول مرة ستغادر فيها المنزل بعد حادثة الإنتحار .
ابتسمت بخفة ، يبدو أنها كانت تحلم بإنشاء علاقة طبيعية معه ، فوالدها لن يتغير ، و لن يعاملها يوماً كأبنته !
ردت لمريم ابتسامتها بأخرى شاحبة ، ثم غادرت متجهة إلى المشفى .
**********
دلفت إلى الداخل و هي تبتسم في وجه كل مَن يقابلها و يقف ليطمئن عليها ، و ترد عليه بهدوء .
حتى رأته ، كان يسير مع خطيبته في اتجاه كافيتريا المشفى ، فتذكرت قرارها .. ستتجاهله ، فهو لا يستحق سوى السعادة .
أطرقت برأسها .. و أسرعت في خطواتها بعيداً عنهما ، ليستوقفها صوته :
" ليندا ، كيف حالكِ ؟ "
توقفت في مكانها .. مغمضة عينيها بيأس ، ها هو لا يريد تركها في حالها بعد أن أجبرت قلبها على نسيانه و الإبتعاد عنه !
التفتت إليه ببطء ، و ردت دون أن تنظر إليه :
" الحمد لله ..
كيف حالكما ؟ "
تعمدت أن تذكر صيغة المثنى لتكون العلاقة بينها و بين زينة طبيعية ، عل الأخيرة تفهم أنها ابتعدت عن علاء تماماً ، و أن كل ما بينهما الآن لا يتعدى علاقة العمل .
" نحن بخير ، المهم أنتِ ، طمئنيني ، كيف أصبح حالكِ الآن ؟ "
ابتسمت بخفة و أشارت إلى نفسها قائلة : " كما ترى ، في أفضل حال ، و سأستأنف عملي من اليوم " .
ابتسم لها بحنو أخوي ، و قال : " جيد ، بالتوفيق " .
همست : " شكراً لك " ، ثم التفتت متابعة طريقها ، و دمعة يتيمة وجدت طريقها على وجنتها ، فمسحتها قبل أن ينتبه إليها أحد ، و أعادت ابتسامتها الهادئة إلى ملامحها .
**********
تابع طريقه هو و خطيبته ، و سألها بهدوء : " هل انزعجتي ؟ "
أجابته بصراحة : " قليلاً " .
نظر إليها ، و قال : " سؤالي عنها من وضع صداقتي بها في العمل لا أكثر ، غير هذا هي لا تعني لي شئ ، و أظن أنني أصبحت كذلك لديها أيضاً " .
همست باقتضاب : " لاحظت ذلك " .
" إذاً ؟ " ، سألها خشية من غضبها .
فقالت : " لا تطلب مني تقبل الموضوع ببساطة يا علاء ، فبالتأكيد لن أوافق بأن تتحدث مع أنثى اعترفت أمامي بحبها لك و حاولت إفساد علاقتنا بطبيعية ، فأرجو منك أن تتفهم ذلك " .
هتف : " اتفهمه و .. اتقبله، و لكن ليس من اللائق أن أراها أمامي لأول مرة بعد ما مرت به و لا اطمئن على حالها ، من باب الواجب ليس إلا " .
فطلبت منه : " يا ليت تكون علاقتكما رسمية من اليوم " .
ابتسم و قال : " هذا ما حدث بالفعل ، فمنذ ذلك اليوم و أنا لم أتحدث معها أو أهاتفها كما كنت أفعل قبل أن أرتبط بكِ " .
تنهد ثم أردف : " اسمعي يا زينة ، أنا أعلم أن علاقتي بليندا كانت خاطئة منذ البداية ، خاصة و أنها صرّحت أكثر من مرة بحبها لي ، و لكنني لم أكن أوقفها بالجدية المطلوبة ، و هذا ما أعطاها أملاً و جعلها تفعل ما قعلته ، كان عليّ وضع حدود لعلاقتنا ، أو أن أبتعد عنها ..
، و لكنني لم أستطع ذلك ، لأن وقتها كانت ستضيع و كنت سأحمل ذنبها ، إحساس بالمسئولية اتجاهها كان يكبلني و يجعلني غير قادر على الإبتعاد عنها " .
جزء منها لم يصدق حديثه ، فإن كان شعور المسئولية اتجاه ليندا بداخله بهذه القوة ، لِمَ أبتعد عنها الآن ؟
أ حتى لا تتأثر علاقتهما ؟
" و لِمَ ابتعدت الآن ؟ "
" لأن ليندا لم تعد بحاجة لي ، لقد وجدت مَن تحتاج إليه حقاً و تبحث عنه دون أن تدري " .
عقدت حاجبيها بعدم فهم و سألته : " مَن ؟ "
ابتسم بعشق ، و قال : " لا تشغلي بالكِ بهذا ، المهم أن تتأكدي أنه لا يوجد غيركِ في قلبي ، و أن لا أنثى ستحتل مكانكِ " .
ابتسمت بخجل ، ثم دلفا إلى الكافيتريا ، و أكملا يومهما .. دون أن يتحدثا عن ليندا مرة أخرى " .
**********
فتحت الباب لتغادر ، فتفاجئت بباقة كبير من ورود الياسمين أمامها ..
حملتها باستغراب ، و التقطت البطاقة المستقرة عليها ، لتقرأ ما خُطّ فيها ببتسامة :
" صباح السعادة على أجمل طفلة اقتحمت حياتي ..
أرجو أن تقبلي دعوتي على العشاء اليوم ..
حبيبك " .
قبلت البطاقة بسعادة ، و هي تهمس : " أحبك .. أحبك " .
ثم عادت إلى داخل شقتها لتضع الورود في المزهرية بعناية ، و خرجت بعدها متجهة إلى عملها .
صدح رنين هاتفها بنغمة مميزة .. مشيرة إلى صاحب الإتصال ، ففتحت الخط ، ليصلها نبرته الفضولية :
" موافقة ؟ "
و مع أنها كانت تفهم ما يسأل عنه ، إلا أنها شاكسته قائلة : " على ماذا ؟ "
لا يُعقل ألا تكون رأت الباقة !
سألها بترقب : " ألم تري الباقة ؟ "
ابتسمت بقوة ، و استمرت في مشاكستها ، فقالت متظاهرة بالصدمة : " مستحيل ، أ كانت الباقة منك ؟ "
عقد حاجبيه بضيق ، و قال : " ماذا توقعتي إذاً ؟ ، ثم ألم تري البطاقة و ما كُتِب فيها ؟ "
هتفت ببساطة أعتقدت أنها ستثير استفزازه : " رأيتها ، و لكنني توقعتها من أحمد " .
سألها بغيرة بدت واضحة في نبرة صوته : " أحمد مَن ؟ "
كان اسماً وهمياً لحبيباً مزعوماً نطقته بلا تفكير .
ردت بدراما : " أوه صحيح ، أنت لم تعرف اسمه حتى الآن ..
أحمد حبيبي ، الذي يريد الزواج مني " .
لم يستطع السيطرة على نفسه ، فضحك بقوة .. ضحكة جعلت نبضات قلبها تتعالى بطريقة لم تستطع السيطرة عليها .
الحمقاء ، لا تعلم أنه اكتشف لعبتها و خطتها مع والده ، بل و بدأ هو أيضاً باللعب معها !
تنفست بقوة لتتحرر من تأثير ضحكته عليها ، ثم سألته بغضب مصطنع :
" علام تضحك ؟ "
أوقف طارق ضحكاته ، و هتف بتلاعب : " تذكرت أنني منعتكِ من هذا الأحمد أسبوع كامل ..
أم أنكِ أخلفتِ بوعدكِ لي ؟ "
سارعت بالنفي : " لم أخلفه " .
فقال باختصار : " جيد " .
لتقول هي بمكر : " و لكن الأسبوع انتهى ، و من اليوم سأعود لحبيبي و نعوّض الأيام السابقة " .
كتم ضحكته ، و هتف ببرود : " و ماذا عن عشاء اليوم ؟ "
لم يروقها بروده ، فهتفت باستفزاز : " لا أعتقد أنه ممكن ، فبالتأكيد أحمد يحضّر لسهرة رائعة لي ، كما أنني اشتقت إليه " .
كانت تتوقع أنه سيثور عليها ، و يأمرها بعناد حتى ترضخ و تنفذ ما يريده ، كما كان يفعل الأيام السابقة ، إلا أنه فاجئها حينما قال :
" استمتعي إذاً ، سهرة سعيدة " .
ثم أغلق الخط تاركاً إياها تنظر إلى هاتفها بدهشة و عدم تصديق !
" بهذه البساطة !
ماذا يحدث ؟ "
**********
حالما أغلق الخط ، سمح لضحكاته بالإنطلاق ، و همس باستمتاع :
" ستسهرين معه إذاً ، يا إلهي .. كم أنتِ بارعة في التمثيل !..، و لكن أنا لكِ " .
أخذ يخطط لما سيفعله بها الأيام القادمة ، فبعد تفكير طويل أدرك أنه تجاهلها و كسر قلبها في الماضي ، و كل ما تفعله الآن ليس إلا لتنتقم لحبها و تشعر بأنوثتها .
و هو قرر أن يمنحها ذلك ، سيُدللها و يحنو عليها .. سيُعوضها عن السنوات التي قضتها بعيداً عنه .
و لكنه أيضاً لن يغفر لها لعبتها تلك ، فكان من الممكن أن تنتقم منه بأي شئ غير إثارة غيرته و إشعاره بوجود رجل أخر في حياتها ، لذا سيلعب معها لعبته الخاصة !
سيقترب منها و يحنو عليها ، ثم يبتعد عنها فجأة و يتعامل معها ببرود ، ليأتي بعدها بساعات و بفاجئها بهدية و يبرر لها مبررات وهمية لبروده ، سيجننها حتى تعلن راية الإستسلام و توافق على الزواج منه ، و بعدها سيقضي عمره كله لإسعادها .
**********
كانت تنظر إلى سعادتهما بعيني لامعة ، فقد قرر والدهما أن يأخذهما لمدينة الملاهي بعد أن حصلا على درجات عالية في اختبارتهما .
اقتربت منها لمار ، و هي تحمل بيدها البلوزة الخاصة بها .
" أمي ، ألبسيني إياها " .
ألبستها بحنو ، ثم قالت لها : " سأذهب لأرتدي ملابسي ، و بعدها
سأمشط لكِ شعركِ و نذهب ، اتفقنا ؟ "
جاءها صوت تيم المعترض : " أنتِ لن تذهبي معنا " .
التفتت إليه بدهشة ، و همست : " عفواً ؟ "
قال بعناد : " ستبقين هنا ، بأي حق تذهبين معنا ؟ "
لم تعد تستطع السيطرة على نفسها ، عناده و عدم رغبته بوجودها تثير جنونها ، خاصة و أن شهور العدة قاربت على الإنتهاء ، و لن يكون لها الحق في المكوث مع وحيد .
" أنا والدتكما ، طبيعي أن أذهب معكما " .
هدر بغضب : " لا أنتِ لستِ والدتنا ، لستِ والدتنا " .
دلف وحيد إليهما إثر أصواتهما العالية ، و سألهما : " ماذا يجري ؟ "
التفت إليه الصغير ، لكن قبل أن يتحدث ، اندفعت نشوى قائلة بضيق ، و الدموع تلتمع في مقلتيها : " لا يريدني أن أذهب معكما " .
دموعها أثارت حيرته ، هل هي طفلة لتبكي لأنها لن تذهب معهما ؟
أم أن تيم جرجها ؟
في كلا الحالتين ، دموعها اثارت ضيقه ، و عزم على أن يزيلها و يستبدل مكانها السعادة .
نظر إلى طفله ، و سأله : " لِمَ لا تريدها أن تذهب معكما ؟ "
هتف الصغير : " هكذا ، بأي صفة ستذهب معنا ؟ ، أليست خادمة ؟ "
" و لكنني أريد أن تذهب معنا " ، صدح صوت لمار الطفولي .
ليقف وحيد حائراً بين الطفلين ، و ضيقه يزداد و هو يرى ملامح نشوى الحزينة .
و على الرغم من ضيقها من الصغير ، خاصة و هو يُفشِل كل مخططاتها في التقرب منه ، إلا أنها لم تود أن تكدر عليه يوم احتفاله بنجاحه .
تنهدت بحزن ، و ثنت ركبتيها لتجلس على الارض ، لتكون في نفس مستوى لمار .
ملست على شعرها بحنو ، و همست بنبرة مرتعشة : " ليس مهم حبيبتي ، اذهبي أنتِ مع والدكِ و شقيقكِ و استمتعي " .
زمت الصغيرة شفتيها بحزن ، و همست : " و أنتِ ؟ "
ردت بقلة حيلة : " سأبقى هنا " .
ثم اعتدلت ، و تحركت لتخرج من الغرفة .
ليمسكها وحيد من ذراعها ، موقفاً إياها .
ثم نظر إلى تيم و قال : " أنت لا تريدها أن تذهب معنا ، صحيح ؟ "
أومأ الصغير بتصميم .
لينظر وحيد إلى طفلته ، و يقول : " و أنتِ تريدين أن تذهب معنا ؟ "
أومأت الصغيرة بحزن .
ليقول وحيد حاسماً الموضوع : " إليكم الحل إذاً ..
ستذهب نشوى معنا ، لكنها لن تقترب من تيم أو تتحدث معه ، ستكون مع لمار و تشاركها يومها " .
و قبل أن يعترض تيم ، هتف وحيد : " هذا حل عادل ، لكي لا يحزن أي منكما اليوم " .
التفت تيم إلى شقيقته ، و بالفعل رأى الحزن مرتسم على ملامحها ، فوافق على اقتراح والده بمضض .
و استعدت العائلة بأكملها للذهاب إلى مدينة الملاهي ، وسط فرحة هائلة من لمار ، و تصميم من نشوى أن تجعل تيم يندم على ما فعله !
**********
بدأت في تنفيذ مخططها ، فمنذ أن دخلوا إلى مدينة الملاهي ، تجاهلت الصغير تماماً ، و بدأت تلهو و تستمتع مع لمار .
لعبا بمعظم الألعاب الموجودة ، الخطيرة و اللاخطيرة .. بمرح و سعادة ..
و تيم ينظر إليهما بلا مبالاة ظاهرية ، و ينضم إلى بعض الألعاب بضجر و .. ضيق .
قفزت لمار ، و هي تشير إلى رجل يقف خلف ماكينة لصنع حلوى غزل البنات :
" أبي .. أبي ، أريد واحدة " .
تبعتها نشوى قائلة بطفولية : " و أنا أيضاً أريد منها ، منذ زمن لم آكلها " .
التفت وحيده إلى طفله الصامت منذ أن دخلوا ، و سأله بحنو : " و أنت حبيبي .. تريد واحدة ؟ "
أكتفى الصغيرة بهزة نافية برأسه ، ليتابع وحيد : " لِمَ ؟ ، سآتي لك بواحدة كبيرة و بعدها تستكمل لعب " .
همس تيم : " لا أبي .. لا أريد " .
تنهد وحيد بقوة ، لا يعلم ما يمكنه فعله للتخفيف عن طفله و إعادة البسمة إلى ملامحه .
تحرك ليحضر إلى زوجته و طفلته ما يريداه ، و في كل خطوة يلتفت ليطمئن على عائلته خشية أن يحدث لهما شيئاً وسط هذا الإزدحام .
نظر تيم إلى زوجة والده التي أخذت تتحدث مع شقيقته و تمزح معها دون المبالاة به ، ليلتفت و يحدق بالحشود أمامه بضيق .
توقفت نظراته على سيدة تمسك بطفلها و تهندم له ملابسه ، و هي تعاتبه بضحك ، فتجلى الحزن على ملامحه ، و أطرق بنظراته و شعور اليتم يراوده .. ثم ابتعد بدون إرادة يبحث عن زاوية هادئة .. لا يرى فيها أحد حزنه و ... وحدته .
حانت منها التفاتة صغيرة إلى تيم لترى ما يفعله ، فوجدت نظراته مثبته أمامه .. دون أن ترمش عينيه ، و قدميه تتحرك بتخبط حركات عشوائية ..
التفتت إلى ما ينظر إليها في استغراب ، فوجدت أم تضحك مع طفلها و هي تهندم ملابسه ، فأدركت ما بالصغير .
وصلها صوت وحيد : " ها قد أتى ما طلبتوه " .
أخذته منه دون أن تتحدث ، و تحركت بدون تفكير إلى الصغير .. راسمة على شفتيها ابتسامة مرح ، تخفي بها شفقتها عليه ، و وحيد يتبعها بنظراته بفضول .
قرّبت الحلوى من وجهة و هي تضحك ، ليعبس الصغير بملامحه و يخطو مبتعداً عنها .
و لكنها لم تبالي و كررت ما فعلته ، ليتأفف الصغير بانزعاج ، و يقول :
" ابتعدي عني " .
هزت رأسها بالرفض بدلال ، و قالت : " لن أبتعد إلا بعد أن تأكلها " .
أبعد الحلوى بكفه الصغيرة ، و هتف بحنق : " لا اريد .. ابتعدي " .
أبعدت الحلوى عنه ، ثم مالت عليه ، هامسة : " حسناً و لكنني أريدك في موضوع هام " .
حدق فيها بارتياب ، لتتابع و هي تشير إلى إحدى الألعاب ، و التي لم تكن سوى قطار الموت !
" لمار تصر على تجربة هذه اللعية ، و أنا في الحقيقة خائفة " .
" و ما دخلي أنا ؟ " ، سألها بنزق .
لتقول محاولة إقناعه : " اركبها معنا ، حتى نطمئن " .
كتف ذراعيه ، و هتف بوقاحة : " لا تركبيها ، و سأركبها أنا معها " .
التمعت عينيها بمكر ، تعلم كيف ستجعله يطلب هو منها أن تركبها معهم !
فرسمت الراحة على ملامحها ، و قالت بامتنان : " جيد ، من الأساس لا أريد أن أركبها ، أخبرتك أنني أخاف منها " .
ارتسمت ابتسامة شيطانية على ملامح الصغير ، جعلتها تدرك أنها وصلت إلى هدفها !
تظاهر بالتردد ، و قال : " و لكن أخشى أن تحزن لمار إن لم تركبيها معها ..
مضطر أن أوافق على مشاركتك لي اللعبة "
هتفت بغيظ مصطنع : " عندما علمت بخوفي توافق على مشاركتي !..، يا لك من خبيث " .
رفع أكتافه بلا مبالاة ، و قال : " ظني ما تظنين ، لكن اقنعي شقيقتي أنكِ لا تريدين مشاركتها " .
ثم خطى متجهاً إلى والده و شقيقته .
تبعته مبتسمة ، و كي تنطلي كذبتها عليه ، أخبرت الصغيرة أنها لا تستطيع مشاركتها اللعبة ، و لكن .. و كما توقعت ، لم توافق الصغيرة .. و أخذت تترجاها ببراءة ، فتظاهرت بالرضوخ حتى لا تُحزِنها .
ركبت العائلة بأكملها اللعبة ، و أخذتا نشوى و لمار تصيحان بخوف ممتزج بمرح و سعادة ، و وحيد و طفله يضحكان عليهما .
و لم يتركا نشوى و وحيد تيم بعدها ، و أخذا يستميلانه إلى لعبة تليها الأخرى ، و هكذا حتى انتهى يومهم ، و عادوا إلى منزلهم بسعادة ، عكسما بدأ يومهم .
**********
صباح اليوم التالي
وضع الورود أمام قبرها ، ثم بدأ يتلو صورة الفاتحة ، و بعدها عدة آيات من القرآن الكريم .
بعد أن أنتهى ، تنفس بقوة ، ثم هتف بخفوت : " أعلم أنني منذ مدة لن آتي لزيارتكِ ، و لكنني اليوم جئت لأخبركِ أن الأطغال بخير ، لمار سعيدة .. بل سعيدة جداً ، و تيم يخرج من قوقعته بالتدريج ، مع أنه يجاهد كي لا يخرج منها ، خوفاً من الأ يجد نفس الحنان الذي كنت تغدقيه به ، و لكنني سأحرص على إعادته كما كان ..
الأولاد بخير يا بسمة ، و لكنني مَن لست بخير !
مشاعر غريبة تراودني اتجاهها ، مشاعر بت لا أستطيع السيطرة عليها ، و لا أعلم ما عليّ فعله معها " .
تنفس بقوة ، ثم قال : " كنت قد وعدت نفسي بعد وفاتكِ أنني لن أحب غيركِ ، و أن لا أنثى ستستطيع احتلال مكانكِ ..
لكن نشوى قلبت كل موازيني ، و تسربت إليّ بطفولتها و دلالها ، حتى بت لا أريد فراقها ..
أنا أريدها أن تقترب من تيم ، أن تحتل قلبه كما احتلت قلبي ، و يطلب هو مني عدم رحيلها ، فهل هذا ممكناً ؟
أم أنني سأضطر إلى الاختيار بينهما أو .. دخول حرب نفسية بسببهما ؟
أخبريني يا بسمة ، فلطالما كان رأيكِ صائباً " .
تنهد بيأس ، ثم قال : " تمني لي راحة البال ، فالأيام القادمة ستكون صعبة للغاية " .
ثم ختم زيارته لها بقراءة الفاتحة ، و اتجه إلى عمله .
**********
دلف إلى غرفتها ، و حدق في كل شبر فيها باشتياق ، ليس للغرفة .. بل لصاحبتها !
كان يتمنى أن يراها أمامه فجأة ، جالسة على مكتبها الصغير تذاكر ، أو مستلقية على سريرها و حاسبها المحمول في أحضانها ، أو تعبث في دولابها لإختيار ملابس مناسبة .
كان يتمنى أن تظهر أمامه ، و كأنها لم ترحل منذ أيام و تتركه !
جلس على سريرها ، و أخذ يملس على وسادتها باشتياق ، و يهمس بعتاب : " أين ذهبتي يا تومي ؟
كيف سمحتي لهم بأن يُبعدوكِ عني ؟
أم أنكِ حقاً مَن طلبتي الإبتعاد ؟
و إن كان كذلك ، كيف استطعتي فعلها ؟
بهذه البساطة تبتعدين عني ، و كأنني لم أكن يوماً أغلى ما في حياتكِ !
و لكنني لا أستطيع ، لا أستطيع العيش من دونكِ ، أنتِ أغلى ما في حياتي .
اشتاق إليكِ ، و لا سبيل في الوصول إليكِ ! "
سقطت دموعه مشاركة إياه ألمه ، حاول بكل الطرق أن يصل إلى مكانها ، ادّعى الهدوء أمام والده ، ناور صادق في الحديث ، و لكنه لم يصل إلى أي نتيجة إيجابية .
ترّجى والدته كي تخبره أين هي ، و لكنها أقسمت أنها لا تعرف مكانها ، كما أنها غير راضية على أفعالها ، فليس من المعقول أن تغادر هكذا فجأة .
باختصار ، باءت كل محاولاته لمعرفة مكانها بالفشل ، و ها هو جالس يرثي حاله .
مسح دموعه بقوة ، و همس بوعد : " لن تستطيعوا إخفاءها طويلاً ، أيام و ستبدأ الدراسة ، و ستعود من أجل جامعتها ..
و وقتها لن أسامحكم .. و لن أسامحها على ابتعادها ! "
**********
دلفت إلى حجرته في المشفى بثقة لا تمتلكها ، و لكنها تحتاجها في مواجهتها له ، فما ستقوله ليس سهلاً ، و لكنه سيُعيد إليها حقها ، و سيُنجي فتاة من الممكن أن تنال ما نالته !
" الدكتور أمير ؟ "
رفع أمير نظراته إليها ، و هتف بعملية : " نعم سيدتي ، تفضلي " .
جلست بهدوء زائف ، ثم همست بتصميم : " علمت أنك تستقصي عن خالد ، و لدي ما يُفيدك " .
**********
دلفت إلى مطعم ولدها بخيلاء ، جسد رشيق على الرغم من عمرها الذي تجاوز منتصف الأربعينات ، تغطيه ملابس رسمية ذات ماركة عالمية ، عينان قويتان .. أنف مستقيم .. و ملامح جامدة .
اقترب منها رشدي فور أن رآها ، و هتف بترحيب : " سيدة ثريا ، أنرتي المطعم ، يا لها من مفاجأة " .
ابتسمت له ابتسامة صغيرة و ردت تحيته ، فرشدي صديق زوجها الراحل ، و مَن وقف بجانب أبنها و لم يتخلى عنه حتى الآن .
أخذها رشدي إلى مكتب بشار ، و الذي كان خالياً من وجوده ، و قال :
" للأسف بشار ليس هنا ، لقد ذهب اليوم إلى الفرع الأخر ، بسبب حدوث مشكلة هناك " .
جلست بأناقة ، ثم قالت : " أعلم أنه ليس موجوداً ، و لا أريده أن يعلم بمجيئي إلى هنا " .
انتاب رشدي القلق ، و شعر بشئ سئ سيحدث ، و تأكد شعوره عندما هتفت بقرف :
" أين هي ؟ "
ابتلع ريقه بارتباك ، لا يحتاج لسؤالها عمن تتحدث ، فهو بذكاء كافي ليدرك أنها تريد ريناد .
" بما تريديها ؟ "
ضحكت ساخرة ، و قالت : " أ لا يحق لي رؤية الفتاة التي يريد أبني متابعة حياته معها ؟ "
يشك في أن بشار سيتابع حياته مع ريناد ، خاصة و ثريا بنفسها قد جاءت إلى هنا !
" سأجلبها ، دقائق فقط " .
خرج ليبحث عن ريناد ، و عندما وقعت نظراته عليها ، اتجه إليها و قال بقلق :
" اتركي ما في يدكِ و اذهبي إلى مكتب بشار ، والدته تنتظركِ بالداخل " .
حدقت فيه بصدمة ، ماذا ؟
لم يخبرها بشار أن والدته ستأتي لرؤيتها !
اتجهت إلى غرفة المكتب بقلق .. و قلب منقبض ، و كأنه يشعر بما سيحدث بعد قليل !
طرقت على الباب ، ثم دلفت إلى الداخل ، و حيتها قائلة : " السلام عليكم ..
أهلاً سيدتي " .
تجاهلت ثريا تحيتها ، و أشارت إليها باحتقار ، و هي تقول : " أنتِ مَن يريد أبني الزواج منها " .
تجمدت مكانها من نبرتها ، و صمتت غير قادرة على الرد عليها .
لتردف ثريا باشمئزاز : " اسمعيني يا فتاة ، أنا وقتي غالي .. لا أهدره على أمثالكِ ..
أخبريني كم تريدين و تبتعدي عن أبني ؟ "
توسعت حدقتيها بذهول ، و سارعت مدافعة عن نفسها : " لا سيدتي ، أنا لا أريد من بشار أي أموال ..
أنا .. أنا .. أحبه " ، همستها بخجل .
لتتفاجأ بضحكة ثريا العالية ، فتطلعت إليها بدهشة ، و الخوف بدأ ينهش في قلبها .
توقفت ثريا عن الضحك ، و قالت : " كلمتين الحب و الدلال تضحكين بهما على عقل أبني المخدوع فيكِ ، أما أنا .. فأعرف أمثالكِ جيداً ، و أعرف كيف أتخلص منهم " .
نهضت بغرور ، و قالت باحتقار : " فتاة فقيرة .. يتيمة .. نشأت في دار أيتام .
هل تعتقدين أنني سأسمح لأبني أن يتورط بكِ ؟! "
أشارت لها بتحذير ، و قالت : " اسمعيني جيداً ، إما أن تقبلي بالأموال و تبتعدي عن أبني ، و إما ستجدينه هو مَن ابتعد عنكِ " .
و تابعت مصطنعة الأسى : " و وقتها لن تنالي شيئاً " .
بشار لن يبتعد عنها ، لقد وعدها بذلك ، والدته تهذي .
ثم إن كانت صادقة ، لِمَ أتت إليها من الأساس ؟
كان بإمكانها إبعاد بشار عنها دون أن تُتعِب نفسها بالمجئ إلى هنا ، و لكن مجيئها يثبت أن بشار لن يتخلى عنها .. لن يتركها ، و هي تحاول السيطرة عليها كي تبتعد هي .
رفعت رأسها بثقة ، مصدرها حب بشار لها ، و قالت بتصميم : " أنا لن أبتعد عن بشار سيدتي .. أبداً " .
لم تتأثر ثريا بنبرتها الواثقة .. المصممة ، بل قالت بنبرة تماثلها : " لا تأتي مستقبلاً و تطلبي الأموال ، بعد أن تكتشفي فشل مخططاتكِ " .
**********
طرقات عالية على الباب ، أصوات عالية من الخارج ، مصحوبة بأصوات مذعورة من الداخل خوفاً .. و ترقباً !
كُسِر الباب ، ليدلفوا رجال الشرطة ، و يصيح أحدهم :
" أنت مطلوب القبض عليك ، امسكوه " .
أمسكوا به الرجال و سط اعتراضاته ، و صيحات زوجته النادمة ، و بكاء أطفاله الخائفين !
**********
كانت تتحرك بتوتر و قلق واضح ، منذ أيام لم تعرف عنه شئ .. تحديداً منذ أن أتت إليها والدته و أمرتها بالإبتعاد عنه ..
من وقتها و هو لم يأتي إلى المطعم ، و لم يتصل بها ..
حاولت الإتصل به أكثر من مرة ، و لكن هاتفه مغلقاً ، مما جعلها تشعر بالخوف عليه .
عليه .. و ليس منه ، فثقتها بحبه تجعلها متأكدة من عدم تخليه عنها !
حسمت أمرها ، و تحركت متجهة إلى رشدي لتسأله عنه و تطمئن عليه ، فلن تبقى في قلقها و خوفها أكثر .
توقفت خطواتها و هي تراه يدلف إلى المطعم ، أخذت تتأمله بشوق ، من شدته لم تنتبه إلى الفتاة التي ترافقه .
لتتفاجأ بالعاملين يحيطون به من كل جانب ، و يهنئوه !
" مبارك لك سيد بشار " .
" سعدنا بخطبتك سيدي ، ليمنحك الله السعادة " .
و عندها توقف الزمان .. و توقفت دقات قلبها ، و الجملة تتردد في أذنها .قفلة في الجول اهيه، و لا أنتوا أيه رأيكم 😂😂😂😂😂😂
متنسوش الفوت بقى 😅😅😅😅
أنت تقرأ
لست أبي (كاملة)
Romansa"هل لي أن اعلم ما الذي فعلتِه؟ كيف ترفضين الزواج من إسلام؟ ألا تعلمين ماذا فعلت لكي يقبل الزواج بكِ؟" شعرت بقبضته القوية على ذراعها، همست متأوهة بألم، تحاول تحرير ذراعها دون جدوى.. تجاهلت ألمها عندما سمعت توبيخه لرفضها لإسلام، برقت مقلتاها بالتحدي،...