الفصل الثاني | الـنـداء الـأول |

73.9K 1.7K 102
                                        

{هناك نداء خفي يطرق القلوب حين يثقلها الألم، يذكّرها بأن لله لطفًا لا يراه أحد.}

صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين اجمعين.

                           ___________

كثيرًا ما يجيء النداء في ساعةٍ يظنّ المرءُ فيها أنّ الدنيا قد أغلقت أبوابها دونه، فإذا بصوتٍ خفيّ يتسلل إلى قلبه، يوقظه من غفوته، ويخبره أنّ خلف العتمة أسرارًا لم تُكشَف بعد، وأنّ للقدر طرقًا لا تُرى بالعين المجرّدة. هناك، على الحافة بين خوفه ورجائه، يقف الإنسان ينتظر نداءه الأول… ذلك النداء الذي إمّا أن يُحرّره، أو يُلقي به إلى أعمق هاويةٍ عرفها قلبه.

وما أغرب ذلك النداء! يهبُّ أحيانًا كريحٍ باردة على صدرٍ يئنّ من وطأة الألم، أو يجيء همسًا دافئًا في أذن قلبٍ غارق في ظلال اليأس. كأنه رسالة خفية من الغيب، تلوّح له بأن الطريق الذي ظنه مسدودًا ليس نهاية، بل ربما بداية لحياة أخرى تُكتب على صفحاتٍ بيضاء جديدة.

ولربما يحمل النداء في طيّاته وعدًا بالخلاص، أو اختبارًا عسيرًا يخلخل أركان الروح، يخلع عنها ستائر الوهم، ويكشف معدنها الصلب أو هشاشتها. إذ إن الأقدار لا تعبث حين تختار لحظة النداء الأول، بل تنتقيها حين تكون الروح على شفا الانهيار أو على أعتاب الصحوة.

وهناك، بين خفقة قلبٍ خائف وارتجافة أملٍ خفي، يفتح النداء بابًا إلى المجهول. بابًا قد يفضي إلى ضوءٍ يبدد ظلام السنين، أو إلى ظلمةٍ أعمق لا نجاة منها إلا لمن امتلك شجاعة المواجهة.

وحدهم الذين يلبّون النداء، أولئك الذين يكتبون حكاياتهم بأيديهم، مهما اشتدّت الريح أو أسال القدر دماءهم. فكل ندء أول إنما هو بداية لحكاية كبرى… حكاية لا يرويها إلا من سلك الطريق حتى نهايته، مهما كان الثمن.

اجتمع أفراد آل الرمّاح حول حسناء في بهو القصر الفسيح، تتعالى ابتساماتهم وتتسع صدورهم سرورًا بموافقتها أخيرًا على النزول من عزلتها. جلس وجيه إلى جوارها، يقبض على كفِّها الضئيل بعاطفةٍ جليّة، وقد تجلّت في قسمات وجهه أخاديد الزمن التي حفرتها السنون، فيما كانت هي تحدّق أمامها بعينين زائغتين، يكتنفهما مزيجٌ من الألم والتسليم، إذ رغم ضيقها الدفين من والدها، ظلّ هو الرجل الذي احتواها صغرًا وربّاها بين كنفه.

أطلق وجيه زفرته ثم هتف بصوته المبحوح، وهو يضغط على أصابعها بلطف، موجّهًا حديثه إلى زوجات أبنائه اللواتي يراقبن الموقف في صمت:

-أحنا لازم نعمل حفلة عشان عيد ميلاد حسناء خلاص فاضله أسبوع، هاه يا حبيبتي عاوزه هدية إيه؟

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن