الفصل الخامس والعشرون | أغـويـتُ بـكـم |

28.1K 1K 36
                                        

{كل ما في الدنيا زائل، والقلوب مهما تعلّقت بما حولها، ستبقى هائمة حتى تجد طريقها إلى الله.
قد يخذلنا الأحباب، وقد تغوينا الدنيا بزخرفها، لكنّ الطمأنينة لا تسكن إلا في سجدة صادقة، واليقين لا يثبت إلا حين نُسلِّم الأمر كله لمن بيده مقاليد السموات والأرض. فمن اتّكل على الله كفاه، ومن ابتغى العزّة عند غيره أذلّه، ومن جعل الدنيا غايته عاش في تيهٍ لا آخر له.}

{إن مُحمَّدًا لهُ في القلبِ حُبًا، ‏فصلّوا عليه كي يزيد الحُبّ حبًا.}

                          ____________

لم تكن الغواية صرخةً مدوّية، بل كانت همسًا ناعمًا يتسلّل بين الشقوق، يندسّ في الفراغات الصغيرة بين القلب والعقل، حتى يصير أقوى من كل صرخةٍ مدوية.

الغواية لا تأتي بوجهٍ مُرعب ولا بلسانٍ ملتهب، بل بملامح مألوفة، بضحكةٍ حانية، أو بنظرةٍ تَعِد بما لن تُوفي به أبدًا. في لحظةٍ بعينها، ينهار الحاجز الأخير، فتسقط الروح لا لأنها دُفِعت، بل لأنها أرادت أن تسقط.

هكذا يبدأ كل شيء: بذرة صغيرة من رغبةٍ مُحرّمة، تتحول إلى شجرةٍ معرّشة جذورها في القلب وفروعها تُظلّل العقل. وحين تُزهر، لا تطرح إلا سمًّا لاذعًا، تُسمِّيَه النفوس حبًّا، وهو في حقيقته هلاك.

لم يكن أحدٌ بريئًا تمامًا، ولم يكن أحدٌ مذنبًا وحده. كلهم تآمروا بصمت، كلهم ساروا خلف خيوطٍ ناعمة لم يروا كيف تنسج حول أعناقهم حبالًا غليظة.

هناك من أغواه حُلم السلطة، وهناك من أغوته نار الغيرة، وهناك من أغوته فكرة الحب التي تلمع كالإكسير… حتى لو كان ثمنها أن يبيع نفسه، وأن يخسر مَن أحب، وأن يهدم كل جدارٍ احتمى به يومًا.

وحين يكتشف كلٌّ منهم أنه لم يكن سوى خيطٍ في نسيجٍ أكبر، حين يتعرّف على وجه الغواية الحقيقي… لن يجد إلا المرارة، ولن يسمع إلا صدى الجملة الوحيدة التي تلخّص نهايتهم جميعًا:

"أغويتُ بكم… فهل تُبرّئوني أم تُدينوني؟"

مضت سنتان ثقيلتان على قصر آل الرمّاح، سنتان تغيّرت خلالهما ملامح الحياة كما تتغيّر تضاريس الأرض بعد عاصفة عاتية.

عزّام، الذي كان قلبه يترنّح بين خيانةٍ وحبٍّ محرَّم، أضحى رجلًا آخر؛ نضجت روحه كما ينضج الحديد في النار. صار زوجًا صالحًا لميسون، ووالدًا عطوفًا لابنه عاصف الذي تجاوز السادسة من عمره، بينما ملأت الطفلة الصغيرة ميّاسة أرجاء البيت بضحكاتها العذبة، فبدت وكأنها جسرٌ يربط قلب عزّام بزوجته من جديد، لعلها تكون غفرانًا متأخّرًا لما فات.

أمّا مراد، فقد انطفأ في قلبه وهج فاطمة، لكنّ غادة أفلحت في أن تُعيد إليه الحياة بصبرها وحبها الخالص، حتى صار قلبه معلّقًا بها؛ يعشقها بكل تفاصيلها. صار رافع الصغير في الرابعة من عمره، لا يعرف من الدنيا سوى دفء أحضان أبيه، وحبّ أمه التي لم تبخل عليه بلحظة حنان. نشأ محاطًا بحب شقيقه ريان، فلم يشعر يومًا أنّه جاء إلى الدنيا يتيم الأم.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن