الفصل الثالث والعشرون | لـيـلـة لـا تُـنـسـى |

25.4K 560 17
                                        

{يمضي الإنسان في دنياه يخطط، ويرسم لحياته صورًا وردية، لكن يظلّ القدر أقوى من كلّ ترتيب. فما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولو اجتمع أهل الأرض على أن يمنعوه. قد يظنّ المرء أنّه يقبض على خيوط مصيره، لكنه في الحقيقة لا يملك سوى قلبٍ يتوكل، وصبرٍ يرضى، وعينٍ تترقب ما ستسوقه الأقدار. ففي كل لحظة تُكتب بداية لحكاية، وفي كل بداية تُزرع بذور لامتحانٍ لا نعلم أين ينتهي.}

{إن مُحمَّدًا لهُ في القلبِ حُبًا، ‏فصلّوا عليه كي يزيد الحُبّ حبًا.}

                            ___________

ثَمّةَ ليالٍ لا يطويها النسيان، تبقى عالقة بين الذاكرة والروح، كأغنيةٍ قديمة لا تفقد بريقها مهما مرّ عليها الزمن. ليالٍ تحمل في طيّاتها من الهمس ما يعجز الصمت عن إخفائه، ومن الصخب ما لا تسعه القلوب الضيّقة.

هي لحظات تنبض فيها الأرض بخطى الراقصين، وتتمايل فيها الأضواء كأنها نجوم هبطت لتشارك البشر فرحتهم، بينما في الأعماق ثمّة ارتجاف خفيّ لا يراه أحد، كأن القلب وحده يعرف أن وراء الضحك سرًا أكبر، وأن وراء الزينة حكاية لم تُروَ بعد.

كلّ شيءٍ في تلك الليالي يبدو أكبر من حجمه: البسمة أوسع، الدموع أحرّ، العناق أشدّ، والنظرات أطول عمرًا. كأن الدهر يتوقّف ليرسم لوحةً مكتملة التفاصيل، فيها الفرح والدهشة، فيها النشوة والرهبة، وفيها وعدٌ يوشك أن يولد على حين غفلة.

ليست كلّ الليالي متشابهة... بعضها يولد ليعبر وينتهي، وبعضها يولد ليبقى شاهدًا على بداية لا عودة منها.

ازدانت القاعة بالأنوار، تتلألأ الثريات كحبات لؤلؤٍ مُعلّقة في السماء، والموسيقى تدوي في الأركان كنبضٍ صاخبٍ يجرّ الحاضرين إلى بهجةٍ عارمة. الأزهار البيضاء تفترش الممرّ الطويل المؤدي إلى المنصّة، والضحكات تتعالى من كل جانب، والتهاني تنهمر كما ينهمر المطر في ليلة ربيعية دافئة.

العروس حسناء، كالقمر ليلة التمام، بثوبٍ أبيض ينساب حولها كأمواج ناعمة، وقد غطّت ملامحها ابتسامةٌ مصطنعة، رسمتها بدقّة كي لا يفتضح ما في قلبها من اضطراب. إلى جوارها كان جلال، بكامل هيبته، يمسك بيدها بقبضةٍ واثقة، وعيناه تلمعان بفخرٍ لا يُخفى، كمن حاز الدنيا وما فيها.

المدعوّون من أهل وأقارب وأصدقاء غرقوا في نشوة الاحتفال، يتبادلون الضحكات والرقصات والهمسات المليئة بالإعجاب. كل شيء بدا مثاليًا في نظر الجميع… إلا حيث جلست عائلة حسناء.

على الطاولة البعيدة قليلًا عن مركز الاحتفال، جلس جلال والد حسناء صامتًا، كأن الكلمات أبت أن تعبر فمه. عيناه كانتا تلاحقان ابنته بثقلٍ يقطّع نياط القلب، كأنه يشيّعها إلى قدرٍ مجهول.

أمّها جلست إلى جواره، تقبض على كفّيها بتوتر، ودمعة تلمع في عينيها، لكنها تأبى أن تسقط أمام الناس. أما إخوتها، فقد كانوا في حالٍ من الذهول، يراقبون المشهد بوجوهٍ جامدة، لا يجرؤون على التعبير عمّا يعتمل في دواخلهم من رفضٍ وانكسار.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن