الفصل الخامس | وشـايـة قـلـبٌ لـم يـمـتْ |

41.5K 917 33
                                        

{سبحان من يُلينُ القلوب إذا قست، ويجعل من رحمته مخرجًا من الضيق، ومن نور هُداهُ بصيصًا في عتمة النفوس. ما من قلبٍ طرق باب الله صادقًا، إلا وهُيّئت له السُبل، ولو كانت بدايته كُرهًا وغلظة، فإن لله في القلوب تدبيرًا لا نُدركه إلا حين نُبصر التغيير.}

{‏إن مُحمَّدًا له في القلبِ حُبًا ‏فصلّوا عليه كي يزيد الحُبّ حبًا.}

                            ___________

بين القوّة والضّعف، خُطى متردّدة تمضي في صمتٍ مُوجع، تارةً تجرح الأرض تحتها، وتارةً ترتجف فوقها كأنها تحمل وزر الماضي وعبء الحاضر. لم تكن تبحث عن النور، بل عن ظلٍّ يحميها من الحقيقة... الحقيقة التي تأخّرت كثيرًا، لكنها جاءت كطعنةٍ في الخاصرة لا شفاء منها.

ذاك السرّ المدفون في صدرها لم يعد صامتًا، بات يهمس لها في الليالي الباردة، يوقظها من نومها، يملأ عينيها بأسى لا يُفهم، وغضب لا يُطفأ. كانت تظن أنّها دفنته مع تلك الذكرى، في عمقٍ لا تطاله يد الزمان، لكنه اليوم ينبض من جديد... ينزف داخلها.

هي لم تنسَ، ولم تغفر. بل حفظت كلّ شيء عن ظهر قلب، وجعلت من ألمها سلاحًا، ومن كتمانها درعًا. تسير على الحافة، تبتسم في وجه العالم بينما النار تشتعل تحت جلدها. لقد آن أوان القصاص... ولكن ليس بالصراخ، بل بالصمت. لا بالدموع، بل بالنار الهادئة التي تحرق دون لهب.

هكذا تبدأ الحقيقة في التشقّق... وفي كلّ شقٍّ، حكاية وجع، ووصمة انتقام لا تمحى.

نظرت رِسال إلى تلك المرأة التي دمّرت حياتها ذات يوم، والتي تتجرأ الآن وتنطق الكلمة التي لطالما حرمتها منها: ابنتي؟ أتُقال بهذه البساطة؟


أكلمة واحدة كفيلة بمحو أعوام من الألم والعذاب والخذلان؟ أدارَت وجهها عنها في صمتٍ مُحطم، كل خلية في جسدها تصرخ، لكنها آثرت الصمت.

استدارت لتغادر، دون أن تنتبه لذلك القادم بخطى متسارعة، بملامح مشدودة كالوتر، يبحث بقلق عن عمته الغائبة بين الجموع والظلال.

اصطدمت به دون قصد، ورفعت عينيها إليه بضعفٍ ظاهر في نظراتها الشاردة، وكأنها تنظر من خلف غشاء ضبابي كثيف.

مدّ رافع يده إليها في رد فعلٍ غريزي، يُحيط كفّيها براحةٍ دافئة وقبضة خفيفة يسألها بدهشة لا يستطيع إخفاءها:

-أنتِ كويسة؟

نظرت إليه، لم تجب، بل انتزعت يدها من بين أصابعه برفق، ومضت متجاوزةً حشود العرض وضجيجه وضوئه، كأنها تهرب من شيءٍ أثقل من الهواء، أثقل من الذكرى.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن