الفصل الثامن عشر | حـيـن تـبـوحُ الـعـيـن |

29.2K 679 27
                                        

{ما أعظم رحمةَ الله حين يبتلينا ليطهّر قلوبنا، ويأخذ بأيدينا نحو الطريق الحقّ. فكلّ شقاءٍ يمسّنا، ما هو إلّا تذكيرٌ بأن الدنيا زائلة، وأنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى. وفي ظلمة الابتلاء، يظلّ باب السماء مفتوحًا، والدعاء هو النور الذي يقود أرواحنا نحو الرجاء.}

{إن مُحمَّدًا لهُ في القلبِ حُبًا، ‏فصلّوا عليه كي يزيد الحُبّ حبًا.}

____________

هناك لحظاتٌ يضيق فيها الكلام، فيتراجع اللسان عاجزًا عن وصف ما يموج في القلب من اضطراب، عندها تصبح العيون هي المرآة التي تفضح وتكشف.

حين تبوحُ الأعين، ينهار جدار الصمت، ويُفتح الباب أمام أسرارٍ لم تُحكَ، وأشواقٍ لم تُعترف، ودموعٍ كانت تأبى النزول. في النظرة وحدها قد يختبئ عتابٌ طويل، أو اعترافٌ خجول، أو حنينٌ يائس إلى ماضٍ لم يرحل بعد.

العين نافذةٌ إلى الروح، تُظهر ما خبّأته الأيام، وتُعلن ما عجزت الشفاه عن التصريح به.

في صمتها قسوةٌ لا تُحتمل، وفي بريقها دفءٌ يعجز عن إنكاره أعتى القلوب. وحين تبوحُ الأعين، لا مجال للهرب؛ فالنظرات صادقة حدّ الألم، ومكشوفة حدّ الوجع، حتى لو حاولنا إخفاءها.

إنه الوقت الذي تصطدم فيه المشاعر بالقدر، وتواجه فيه القلوب حقيقتها بلا أقنعة.

فكل بوحٍ في العينين هو وعدٌ أو تهديد، بدايةٌ أو نهاية، لكنه دومًا لحظة فارقة لا عودة بعدها.

سار رافع في أرجاء القصر بخطوات ثابتة، يحمل رِسال بين ذراعيه كما لو كانت أثمن ما يملك، كانت رأسها الصغيرة مستندة إلى كتفه ودموعها الجافة ما زالت تترك أثرها على وجنتيها، فقد غلبها البكاء حتى استسلمت للنوم بين ذراعيه.

بدا وكأنها طفلة هاربة من كوابيسها، وجدت أخيرًا ملاذها في حضنٍ يُشبه الوطن.

وصل إلى حجرتها، ففتح الباب برفق خشية أن يوقظها، ثم خطا بخفة حتى بلغ الفراش. أحنَى جسده يضعها فوقه بحرص، كأنها قطعة زجاج قد تنكسر من لمسة خاطئة.

نزع عن قدميها حذاءها، ثم جذب الغطاء ليُدثر جسدها النحيل بحنان، لكنه توقّف لحظة متردّدًا أمام حجابها. هل يتركه احترامًا، أم يخلعه خشية أن يؤذيها ضيقًا وهي نائمة؟

بعد صراعٍ قصير مع نفسه، مدّ يده ليفكّ دبوسًا صغيرًا من أطرافه، تاركًا الحجاب منسابًا برفق على كتفيها دون أن يثقل أنفاسها.

جلس بجوارها، يرمق ملامحها المُنهَكة بعينين غارقتين في بحر من الحب الخفي، يمرّر أنامله بحذر على وجهها يُزيح ما تبقّى من دموع، كأنه يُطبطب على قلبها قبل أن يطبطب على بشرتها. ظلّ هكذا لساعة كاملة تقريبًا، لا يشعر بمرور الوقت، بل كأن عقارب الساعة توقفت احترامًا لتلك اللحظة.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن