الفصل الرابع والثلاثون | غـيـاهـب الـرحـيـل |

26.6K 938 46
                                        

{في كل ابتلاء حكمة، وفي كل صبر أجر، وما من دمعةٍ خفية نزلت إلّا كتب الله بها فرجًا قريبًا. فالقلب الذي يتوكل على الله لا يخذله أبدًا.}

{إن مُحمَّدًا لهُ في القلبِ حُبًا، ‏فصلّوا عليه كي يزيد الحُبّ حبًا.}

                            _______________

حين يُقبل الرحيل لا يطرق الأبواب برفق، بل يقتحم القلوب في عتمةٍ مُباغتة، كأنّه ظِلّ ثقيل يُغطي الأنفاس ويُطفئ كل بارقة أمل.

في تلك اللحظة، يتبدّد الفرح أمام غياهب لا قرار لها، وتتحوّل الضحكات إلى صدى باهت يختنق بين الجدران.

قد يتهيّأ للمرء أنّ الحياة تمنحه فرصة جديدة، أن يبتسم القدر له ولو لمرةٍ واحدة.

لكن الحقيقة أنّ القدر ماكر، يُمهلنا ليُسقطنا في غياهب الرحيل فجأة، حيث تتداخل دموع الفقد مع صرخات الرجاء، وحيث يصير الأبيض مُلطّخًا بلونٍ آخر لا يزول.

هنا، عند حافة تلك الهاوية، يقف الإنسان بين أمنية البقاء وحتمية الغياب، يتشبّث بما تبقى له من نبضٍ، من يدٍ تُمسك به، من وعدٍ لا يريد أن يتبدّد.

لكن هل تستطيع الأيدي وحدها أن تنتصر على الرحيل؟ هل يلين القدر لحظة، أم يظل ماضيًا في قسوته بلا رجعة؟

في غياهب الرحيل، تختبر الأرواح أقسى امتحاناتها، ويُكتب على العيون أن ترى ما لم تحتمله القلوب. هناك حيث تتقاطع الطرق بين الحب والفقد، يُصبح الرجاء آخر ما يملكه العاشق، والصلاة آخر ما يملكه المنكسر.

وقفت رِسال أمام المرآة تُلقي آخر لمساتها على وجهها، تتأمل انعكاسها بعينين لامعتين، يشرق فيهما ضياء الفرح كأنها ترى للمرة الأولى ملامحها المزدانة بالطمأنينة. على مقربةٍ منها جلست رُهام، ترفع بيديها الرقيقتين حجابها الأبيض لتُحكم تثبيته على رأسها، بينما قلبها يضجّ ببهجة خالصة، بهجة أنعم الله بها عليها بعدما ظنّت طويلًا أن نصيبها من السعادة لن يأتي.

اليوم ليس كأي يوم. اليوم ستزفّان إلى مَن منحاهما الأمان دون أن يطلبا منهما سوى صِدق المشاعر ونقاء القلب. لم يكن العرس مبهرجًا ولا صاخبًا، بل كان بسيطًا دافئًا، يضم العائلة والأقربين فقط؛ أولئك الذين سيسعدون حقًا لأجلهم، لا رياءً ولا ادّعاء.

وما هي إلا لحظات حتى انفتحت أبواب الحجرة لتطلّ ميسون وغادة، بعينين مغرورقتين بالدموع، والابتسامة المرتعشة على وجهيهما تحكي أكثر مما تقول الكلمات. لقد أقسمتا أمام الله أن تكونا لهاتين الفتاتين أمّين صادقتين، تُعوّضان حرمانهما القديم من حضن الأم، وتُعيدان لهما ما سُلب من حنان منذ الصغر.

اقتربت ميسون بخطوات هادئة لتقف بجوار رُهام، تمسّد على كتفها بحنان الأم التي تبارك ابنتها في يوم زفافها، بينما غادة اتخذت مكانها بجوار رِسال، تلمس يدها برفق وكأنها تُخبرها أن ما مضى من تعبٍ وحزن انتهى، وأن الحياة ستفتح اليوم صفحة بيضاء جديدة. تبادلت الفتاتان معهما النظرات الممزوجة بالامتنان، وارتسمت على وجهيهما ابتسامة رقيقة، كزهرتين تفتّحتا بعد مطرٍ غزير.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن