الفصل الرابع عشر | وعـيـنيـكِ مـوطـنـي |

36.2K 1.2K 97
                                        

{أحيانًا، يبتلينا الله بالتيه، لا ليعذب قلوبنا، بل ليعلّمها أن طريق العودة لا يكون إلا به. قد نبحث في وجوه البشر عن ملاذ، وفي حضنهم عن أمان، لكننا لا نجد الوطن إلا حين نسجد ونبكي بين يديه. وحده القرب من الله يجعل القلب ثابتًا وسط الاضطراب، ويجعل الحب في حياتنا رحمةً لا فتنة.}

‏﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

____________

كانوا يقولون إن الوطن أرضٌ وبيت، وأنا كنت أظن ذلك... حتى التقيت بكِ.

اكتشفت أن الوطن قد يكون نظرة، وأن الأمان قد يسكن في اتساع عينيكِ، وأن كل الطرق التي تاهت بي، لم تكن إلا لتقودني إليكِ.

في كل فوضى العالم، كنتِ ترتبين قلبي، وفي كل عاصفة، كانت نظرتكِ تمنحني السكينة التي لا يعرفها إلا الغريق حين يلمس الشاطئ.

وعندما ضاقت بي المسافات، لم أعد أبحث عن مدينة أعود إليها... كنتُ أبحث عنكِ، لأنكِ وحدكِ صرتِ الأرض والسماء والبيت.

وعينيكِ... عينيكِ موطني، الذي لا أحتاج فيه لجواز سفر، ولا أخشى فيه منفى، ولا أخاف أن يضيع مني.

مرّ أسبوعان ثقيلان على القصر، وكأن الزمن فيهما كان يسير على مهلٍ، يتثاقل في خطواته وهو يجر وراءه رائحة الحزن. لم تتبدّل أشياء كثيرة، سوى أن عزاء جلال قد أُقيم، حيث اجتمع فيه الوجوه القريبة والبعيدة، وغابت عنه البهجة حتى من عيون الذين يحسنون التظاهر بالقوة.

كان رافع وعاصف هما من تحمّلا العبء الأكبر، يواجهان ترتيبات العزاء وأعباء الأيام التالية، يحاولان قدر ما يستطيعان أن يُخفيا عن النساء شعور الوحدة أو الضياع بعد الفقد، وكأنهما جداران صلبان يقفان في وجه الريح، يحجبان عنهن قسوة الواقع.

لكن بين كل ذلك، كانت هناك مسافة صامتة تكبر يومًا بعد يوم بين رِسال ورافع. كلما اقترب، وجدت طريقة للابتعاد؛ كلما حاول أن يفتح باب الحديث، أوحت أنها منشغلة أو مرهقة. لم يكن الأمر جفاءً صريحًا، بل تهرّبًا محسوبًا، وكأنها تخشى أن ترى في عينيه ما لا تستطيع مواجهته... أو ربما تخشى أن يقرأ في عينيها ما تحاول إخفاءه.

وهكذا، انقضت الأيام، ثابتة في ظاهرها، متحركة في باطنها، تهيئ الأرض لما لم يأتِ بعد.

خرجت رِسال من حجرتها على عجل، تحمل بعض الملفات وتضعها في حقيبتها وكأنها تهرب من شيء غير مرئي يطاردها. خطواتها كانت سريعة، عينيها تتابع الطريق أمامها بتركيز، حتى اصطدمت بذلك القادم نحوها. ارتفعت زُرقاواها نحوه بتوتر، نطقت باعتذار هادئ وهي تحاول أن تواصل طريقها، لكن قبضته على يدها أوقفتها، صوته جاء مشحونًا بضيقٍ واضح:

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن