الفصل الرابع والعشرون| تــبــدُّل الـأقـدار |

27.7K 1K 29
                                        

{قد يظنّ المرء أنّ ما يُؤخَّر عنه شرّ، وما يُمنع عنه ضُرّ، وما يُغيَّب عنه خُسارة… غير أنّ الله وحده يعلم أنّ في التأخير لطفًا، وفي المنع رحمة، وفي الغياب سترًا من بلاء لا يُدركه القلب ولا تُدركه العين.}

{إن مُحمَّدًا لهُ في القلبِ حُبًا، ‏فصلّوا عليه كي يزيد الحُبّ حبًا.}

                           ____________

هناك لحظات فاصلة، لا تُشبه ما قبلها ولا ما بعدها، لحظات يتوقف عندها الزمن وكأن العالم بأسره قد قرر أن يغيّر مساره.

لحظات تتكسّر فيها القلوب على وقع الفقد، وتُزهر في ذات الوقت براعم حياة جديدة لم يكن لأحد أن يتخيلها.

إنّ الأقدار لا تُستأذن، ولا تُمهل، تأتي كالعاصفة؛ تقتلع منّا ما نظنّه ثابتًا، وتُسقط أمام أعيننا كل يقين بنيناه، ثم تزرع في الأرض الموحلة حكاية أخرى، قدرًا آخر، حياة لا ندري أهي رحمة أم عقاب.

بين صرخة موتٍ مفاجئ، وصرخة حياةٍ تتفتح لأول مرة، تقف الأرواح حائرة؛ تتساءل: لِمَ الآن؟ لِمَ بهذا الشكل؟ ولكن لا جواب. فالقلم قد خُطَّ منذ الأزل، وما على البشر إلا أن يسيروا حيث يأخذهم المكتوب.

هُنا، ستتعانق الدمعة مع البسمة، سيتقابل الفقد بالميلاد، وتتصادم الحقيقة بالسرّ، وتُرسم بخطوط غامضة بداية حكاية جديدة… حكاية لا تشبه ما مضى، ولا ما سيأتي.

كان الليل يلفّ قصر آل الرمّاح بعباءته الثقيلة، والسكون يخيّم كأنه مقدمة لعاصفة قادمة. الأضواء خافتة في أرجاء الممرات، والهواء محمّل برائحة الدواء والدعاء المكتوم. خلف جدران الغرفة الكبرى، كانت فاطمة مستلقية على فراشها الأبيض، ملامحها باهتة كزهرة ذابلة بعد أن قاومت الريح طويلًا.

جلس مراد إلى جوارها، عيناه شاخصتان نحوها في ارتباكٍ يشبه ارتباك طفلٍ ضلَّ طريقه. يده القوية التي طالما قاومت شدائد الحياة، ترتعش الآن وهي تمسح على كفها الهزيل. بين لحظة وأخرى يرفع رأسه إلى السماء وكأنه يرجو معجزة تنقذها من قبضة القدر.

أصوات متقطعة كانت تتسلل من الخارج؛ همسات الخدم، أنين والدتها في ركن بعيد، وأنفاس وجيه وهو يذرع الممر جيئة وذهابًا بقلقٍ مكتوم. كل العيون تترقب، لكن في الداخل كانت اللحظة أبطأ من الزمن نفسه.

تنفّست فاطمة بعمق، كأنها تجمع أنفاسها الأخيرة في رئتيها، ثم التفتت بعينيها العسليتين نحو مراد. ابتسامة باهتة ارتسمت على ثغرها، كأنها تحاول أن تمنحه بعض الطمأنينة قبل الرحيل. همست بصوت متهدج، بالكاد يُسمع:

-مراد… يا حبيبي… متسيبش قلبك للوحدة. لو لقيت اللي يستاهلك… حبها… أنا مش هزعل.

انهارت دمعة حارقة على وجنته، انحنى يقبّل يدها بحرارة، يردف بصوتٍ منكسر:

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن