الفصل الخامس عشر | حـيـن يـلـيـن الجـلـيـد |

34.2K 1.1K 84
                                        

{وما من قلبٍ أودع أمره لله إلا أبدله الله سكينةً تُطفئ القلق، ويقينًا يُبدّد الخوف، ورزقًا يأتيه من حيث لا يحتسب… فثق بتدبير من إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون.}

‏﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

                             ___________

كان بينهما جدارٌ من صمتٍ ثقيل، صُنع من سنين طويلة من الكره والعناد، جدارٌ بارد كقطع الجليد، لا يكسره عتاب ولا تهزه الكلمات.

لكن الأقدار، بطريقتها الماكرة، كانت تحرّك الأحداث كما تحرّك الرياحُ الساكنَ في أعماق البحر، فتدفع القلوب دفعًا نحو ما كانت تنكره.

هي… كانت تظن أن مشاعرها قد تحجّرت منذ زمن، وأن أي دفءٍ يقترب منها سيلفظه قلبها بقسوة، كما تفعل الرياح العاتية مع نيرانٍ صغيرة.

وهو… كان يعتقد أن قلبه لن يعرف الحنان معها أبدًا، وأنها ستبقى تلك المعركة التي يخوضها كل يوم، ساحةً لا مكان فيها لهدنة.

لكن النظرات أحيانًا تخون أصحابها، تفضحهم دون أن يدروا، وتتحوّل إلى خيوط شمسٍ تتسلّل من بين الشقوق الضيّقة في جدار الجليد، لتذيب ما حسبوه ميتًا في صدورهم.

كان الأمر بطيئًا، كذوبان الثلج في صباح شتوي هادئ، لكنه حتمي… وفي كل مرة يلتقيان، كانت المسافة بينهما تصغر، والخطوط الفاصلة تتلاشى، حتى صار الدفء خطرًا، والخطر لذيذًا.

لم يدركا متى تحوّل الجفاء إلى فضول، والفضول إلى ألفة، والألفة إلى تلك الرجفة التي تسري في الجسد حين يمرّ الآخر بقربك…

لكن ما أدركاه حقًا، هو أن الجليد لا يذوب إلا إذا جاء من يملك الصبر على لمسه، والدفء على احتوائه.

كان الليل قد فرش عباءته السوداء المرصّعة بالنجوم، تتلألأ كحبات ماس متناثرة في فضاءٍ لا نهاية له.

وفي أعالي السماء، كان القمر يتوّج المشهد بضيائه الفضيّ، مستقرًا بهدوء وسط الهالة النورانية التي تحيطه، كعروسٍ في ليلة زفافها.

أنسام الليل الباردة كانت تمر برفق، تحمل معها عبق الأرض بعد استراحة النهار، وتداعب أغصان الأشجار التي تمايلت بخفة كراقصاتٍ في لحنٍ صامت.

كل شيء في تلك الليلة كان مهيأً لأن يروي قصة حب، حتى الصمت نفسه بدا وكأنه ينصت، مترقبًا ما ستبوح به القلوب التي طال صمتها.

ظلَّ رافع يتقلّب على فراشه كمن يبحث عن راحةٍ ضاعت منه، يضيق صدره مع كل دقيقة تمضي، حتى نهض أخيرًا وقد ارتسمت على وجهه ملامح ضجرٍ وأرق. دفع الغطاء عنه بحدة، واتجه نحو التقويم المعلّق على الحائط، يطالع صفحاته بعينين شاردتين، وكأنها تخبئ له إجابة لا يريد البوح بها لنفسه.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن